مرحباً بأصدقاء الأدب والكُتب, هنا ملتقى الأدباء ومجلة الكُتاب العظماء, هنا حيث ننثر من ربيع الكلمات مطراً .. أهلاً بكم
لقد رأيته كما الصورة التي رسمتها ذات يوم؛ بنفس الطول مائة وخمسة وستينسنتيمترًا، رأس شبه مستدير، شعر مموج، عينين واسعتين، بِنيَةٍ رياضية. لكنّهلم يلتفت إليك، لم تكوني في مجال رؤيته رغم قربك منه. كان يجري وراءرغباته، في طموح خفيّ.
وفجأة دخل في إطار صورة معلّقة في وسط الصّالة. كانت هي بجانبه فيالفستان الأبيض، وهو ممسك بيدها، ويشعّ من عينيها بريق آسر. كنت ترينهبريق الغواية والخيانة ويراه غيرك بريق الحبّ.
كأنه ومضة ثم انطفأت. ثم ركضت صورة من بعيد حتى تجمّدت على بعد ثلاثةأمتار، مشهد للفارس الآخر؛ ذلك الذي انتزعت صورته من تلك المجلة ثملصقتيها على تلك الصورة المرسومة، كان أكثر وسامة من الأول. عندما ظهرفوق جواده كان يردفها خلفه وكانت في لباس من الكتّان السماويّ يليقبفارسة!
وأنت تنظرين ملء البصر وقلبك يصطخب كالأمواج وتكاد عظام صدرك تتكسّر. يومها رغبت في فقئ عينيها الشيطانيتين اللتين رمتاك بشرر. وفي اللحظةالتي تناولت فيها القوس وأنت تشكّين النبلة؛ لم تري إلا الغبار يملأ المكان.
وعادت صورة أخرى لرجل آخر، هاهي تطفو أمامك، يسبح فوق مياه لازورديّة وأنت فوق رمال الشاطئ الذهبيّة تتملّين فيه، بقيت مترددة وأنت في مكانكوبعد زمن كاد يكون طويلا قفزت إلى الماء وفي تلك اللحظة أخرجت رأسك منه،فصدمتك رؤيتها؛ كانت تعانقه، بدت كحوريّة!
تمنيت لو تصبحين تسونامي فيزمجر عاصفًا بهما، شعرت حينها بالبحرينفلق لهما وهما يهربان ثم أغرقك الطوفان.
-صباح الخير مامي!
لم تسمع..
فألقت نفسها عليك وطوّقت عنقك بيديها الصغيرتين، ارتعش جسدك، فركتعينيك لتخرجي دفعة واحدة من ذلك الكابوس، ضممتها إليك بقوة وكأنكتتأكّدين من وجودها ووجودك:
-حبيبة ماما.
احتواها حضنك الحائر
، حملتيها فوق كتفيك وأنت تخرجين من الغرفة. وجدت نفسك في مرسمكوكانت اللوحات الثلاث هناك، واحدة معلّقة على الجدار بجانب النافذة وفيهاعناقهما في لجّة البحر وفي الجدار المقابل تتدلّى صورة الفارس فوق جوادهوهي تطوّق بطنه.
وفوق الحامل الخشبيّ ذي الثلاثة أرجل، صورة في الإطار الذهبيّ وهي معهترفل في الأبيض!
تنفّست الصعداء..
لقد سئمت اللوحات وحدتها فأبت إلا التسلّل إلى نومك؛ هناك حيث تحلمين بهفي عدة أطوار، ولكنه بذر في رحمك “أحلام” ثم تلاشى كدخان. ربما ترك لكالذكرى ليوم يرجع فيه من موانئ الشتات، حينها ستلتقيه ومعك أحلام عمرهالضائع في المرفأ الأخير.
ليلة شديدة البرودة، عواصف رعدية هوجاء، وهطول مطر غزير، غط أهل القرية في نوم عميق تحت الْلحف، فجأة شق السكون، نباح كلب متواصل، اعتلى تله أوصلت صوته لكل بيت. استيقظ الجميع.
.تعوذ بعضهم من الشيطان وواصل نومه، والبعض انتصب على فراشه يردد “اللهم اجعله خيرا”،
فيما شرعت عجوزهم في إعداد حنوط الموتى، فنباح الكلب في منتصف الليل علامة شؤم ورثتها.
صوت الرعد يقصف القلوب، تترك بعض الأسر منازلها خوف من سقوطها تحت زخات المطر العنيفة، يلجؤون للجيران أو الأقارب الأحسن حال، ملابس مبللة، نظرات فزعة، ومساكن تركت أبوابها مشرعة، أفواه تلهج بالدعاء، ونباح الكلب يشتد.
الحرامي “ساطي” ينتقل بين المنازل الخالية، يستولي على ما خف حمله وله ثمن، يختفي خلف ستار الظلام الدامس لا يعيش لحظة الخوف ويسخر من خرافات ارتبطت بالنباح.
تطل العجوز برأسها من باب سقيفتها على ناصية الشارع والتي بدأت جدرانها بالتسلخ، تبحث عن ملجأ آخر، يمر من أمامها ساطي مسرعا يحمل على ظهره كيس يصدر منه جلبة، يختفي وسط العتمة والعباب. تعود أدراجها داخل سقيفتها وهي تتمتم ” لن يرغب أحد في وجودي بينهم” تسمع همهمة رجلان ربما ثلاثة يمران بسرعه في الشارع، ابتعدوا كثيرا قبل أن تدركهم.
قبل أن يلفظ الليل أنفاسه الأخيرة ثلاثة رجال يطاردون رابع، ذهب كل واحد في اتجاه، التقوا على التَّلة خارج القرية، أمسك أبو محمد بالرجل رغم ملابسه المبللة..
“ساطي يا الخسيس كيف تسرق أهل ديرتك وتستغل ظروفهم الصعبة؟”
لم يرى أحد منهم ابتسامة ساطي وسط الظلماء..
القى بالحمل عن ظهره ” وماذا عنكم وأنتم تسرقون الناس في وضح النهار، أنت يابو محمد كل يوم مخطط أرض باسمك لأنك رئيس البلدية، وانت يا محجن كل البضائع عندك وتتحكم بالأسعار على كيفك، أما انت يا مزهر تذل الناس على كيلو لحم نصفه عظام وتحاسبوني، أنا ما سرقت إلا من بيوتكم”.
خفت نباح الكلب، داهمتهم سيول جارفة، حفرت تحتهم بسرعة كبيرة، أفاقت القرية على أربع جثث يدور حولها كلب مبلل.
إلى الصديق الشامي:أحمد سليمان
ذكرى أوقاتٍ عابقةٍ بالمودة والصفاء.
محلٌّ صغيرٌ؛في زاويةٍ مهملة ؛لايوحي بأنَّه مطعم متخصص في وجبة الفول ذات الشهرة الواسعة..
ستزدريه العيون لامحالة ؛ولن يحفل بمرآه العابرون؛أمَّا أصحاب الأمزجة الرقيقة؛والخيالات الفسيحة الطليقة ؛فهم لن يعيروه أدنى التفاتة!
بسط ذلك المطعم الحقير- في نظر الطبقة البورجوازية من قُرَناء المرحلة-مزاولاً نشاطَه في حي سكني؛يخطو خطواته الأولى على خارطة النهضة العمرانية؛بشمال مدينة جدة
ومن ذلك الحي تتفرّع سلسلة من المنعطفات النافذة إلى الشارع الأساسي..
اتخذ صاحبه الفوال الخمسيني موقعه الاستراتيجي ؛عاصباً عمامته حول رأسه؛ومشمَّراً عن ساعديه ؛وشرع في إدارة محله هذا -بمفرده -متوسَّداً جرَّته الفضية الضخمة ؛حانياً عليها؛«حنوَّ المرضعات على
الفطيم»؛ومكياله المعدُّ لمهمة الاغتراف على أُهبة الاستعداد..
في جلسته هذه ؛كانت نظرات عينيه تمتدُّباتجاه الشارع ؛ فلايرى غيرَ عدد قليلٍ من المارَّة استيقظوا باكراً مثلنا ..
لعلَّه بنظراته المتفحصة تلك كان يستجلب عشاق الفول المدمَّس؛مصدر رزقه..
تلك الشريحة المولعة بوجبة الفول -من جيلنا -بالتأكيد لاتعنيها المظاهر الخارجية البرَّاقة المتعلقة بالديكور؛ولاأصباغ الحيطان؛
ولا أشكال الأواني والأطباق؛وبالمختصر المفيد لاسلطانَ للشكليات عليهم لامن قريب ؛ولامن بعيد..
كانت رائحة الفول المنبعثة في الأرجاء تنشر نكهتها المميزة ؛وكأنَّنا أول مرة نشتمُّ فيها تلك الرائحةالنفَّاذة؛ونستشعر تأثيرها المتسلل إلى أعصابنا؛ ولعلَّها هي التي وجهت أنظارنا
إليه؛ومن ثمَّ ولَّدت لدينا الشهيَّة لاعتمادهاوجبةهذا الصباح؛على غيرالمعتاد..
كان صديقي الأستاذ الشامي هو المرافق لي في تلك الجولة الصباحية؛حيث إننا نعمل معاً في مدرسة قريبة من هذا المحل الأنيس..
وصادف أننا جئنا هذا الصباح إلى المدرسة قبل صِياح الدِّيَكة؛
ومازال أمامنا وقتٌ غير قصير ؛للاستمتاع بنسمات الصباح العليل.
وفي جوكهذا يحلو المشي على الأقدام ؛وذلك ماكان من أمرنا..
كان صاحبي (الشامي ) مبتهجاً جداً برؤية ذلك المكان البسيط؛وكان أكثر مني عشقاً وتلهُّفاً لوجبة الفول المدمس..
وعندما أصبحنا على مقربة من ذلك المحل؛ونحن في غِمار الأحاديث؛ وقع نظر الفوال على شخصين عليهما سمات الوقار
؛ووقر في نفسه أننا قادمون إلى محلّه لامحالة؛فما كان إلا أن نهض من مكانه ؛وطفق يزفُّ التحايا والتراحيب الحارَّة ؛كما لو أن بيننا وبينه مودة قديمة ؛أو روابط نسبٍ عريقة.
وسرعان ما أفسح لنا طاولة وحيدة؛وكرسيين متهالكين ؛لاتكاد قوائمهما تثبتان على الأرض ؛طالباً إلينا الجلوس قليلاً؛على أنغام تحاياه؛وبشاشة مُحيَّاه؛
على الرغم من ضيق مساحة المحل !
وعلى جناح السرعة أترع صحني الفول؛وسكب عليهما من سمن قارورة كانت ممتلئةً بجواره؛-ولم يُغفل البهارات اللازمة- ؛وعاد بهما إلينا ضاحكاً يتراقص في مشيته ؛وأشار إلى جاره الخباز أنْ يجود علينا بأرغفة التميس ؛
من التنُّور الساخن ؛دون إبطاء ..
مؤكداً على القرمشة.
وامتدت الأيدي إلى تلك الوجبة الدسمة كما لو كنَّا صائمين خلال نهارٍ طويل؛حتى آخر بذرة فول في الصحنين؛ والحمد لله.
في هذه الأثناء بدأ محبو الفول من أمثالنا يتقاطرون على هذا المحل المتواضع ..
فرغنا وعلينا الآن أن نتوجَّه لدفع الحساب؛لحضرة الفوال؛ونمضي؛إلى قاعات الدرس.
ومن قبل أن نسألَه عن السعر ؛تلقَّانا بعبارات القسَم؛أنه لن يتقاضى فلساً واحداً؛وأننا حللنا بمثابة ضيوفه هذه المرَّة؛وأنَّ أخلاق العربي الأصيل تحتِّم عليه فعل هذا الصنيع من المعروف.!
انصرفنا ونحن في غاية الدهشة والغبطة من حسن معاملته تلك؛وحلاوة روحه..
ثمَّ إنَّ حفاوته الشديدة باستقبالنا ؛والتحايا التي أغدقها علينا ؛فرضت علينا واجبَ أن نبحث عن مكافأة ما ؛قاصدين أن ندخل عليه قدْراً من السرور ؛ردَّاً على ذلك الاستقبال اللطيف الذي أحاطنا به..
أخذَنَا التفكير فيما يمكن فعله من جزاء !!
اقترحنا في البداية أن نقدم له زجاجتي عطر ؛كهدية متواضعة؛فأرجأنا ذلك.
ولأننا وقتها مسكونان بحبّ الشعر ؛استقرَّ بنا الرأي على فكرة تدبيج قصيدة مشتركة ؛تتضمن الإشادة بكرمه الحاتمي الذي غمرنا به..
وعلينا إذا أنجزنا مشروعها ؛أنْ نتحيَّن صباحاً آخر ؛أو مساءً معينا ؛نتوجه إليه لإنشادها في حضرته..
بعد مرور شهرين من ذلك اللقاء ؛عاودنا الحنين إلى وجبة الفول المميزة ..
وانطلقنا ذات مساء ؛يملأُ جوانحنا فرحٌ غامر ؛بانتهائنا من مشروع القصيدة “المناسباتية ” المخصصة لتحيته ؛والتنويه بفضله ؛ولكي تحظى بقدْرٍ من التأثير؛ اتفقنا على التناوب في إلقاء أبياتها على مسمعَيْه ؛لتكون أكثر طرافة ؛ولذلك عمدنا إلى تقسيم الأبيات بالتساوي فيما بيننا؛ابتداءً من المطلع ..
ولما وصلنا إلى المحل وجدناه فارغاً من الزبائن.
ألقينا السلام عليه؛فتذكر زيارتنا الأولى؛وعلى الفور طلبنا إليه أنْ يصغي إلينا…
أخرج كل منا ورقته من جيبه ؛وطفقنا ننشد:
أبتدأ صاحبي الشامي إنشاد المطلع ؛فقال:
أنعمْ به أكرمْ به الفوَّال
هذا الكريمُ ..وماعليه جدالُ !
جئناك قبل الشمس تسطعُ في الدُّنى
بقصيدةٍ كعروسة تختال..
بقصيدةٍ منظومةٍ بعنايةٍ
مامن كلامٍ بعدها سيقال!
إنَّا كتبناها بحبر قلوبنا
وتأجَّلتْ من أجلها الأشغال
لامانسينا الفول وهو مدمس
لما هتفتَ بنا و قلت تعالوا
والسمن بريٌّ وفيهِ أصالةٌ
وكمثله في كفِّك المكيال
طعمُ القرنفل في الأنوفِ مداومٌ
حيثُ المحلّ معبّرٌ والحالُ
أكرمتنا إكرام شهمٍ نادرٍ
من غيرِ أنْ يطغى عليك المالُ
وكحاتم الطائي نارك شعشعتْ
حتى إليها يهتدي الرُّحَّال!
والله نسأل أن يديم قدورَكم
في أذن جائعةٍ لها صلصال!
ثم إننا كتبناها له بخط عريض أنيق ؛ وقصدناه هذه المرة منشدين لاآكلين..
ولما سمعها طرب أيَّما طرب؛واخضلت ملامحه يومذاك بشراً وسعادة؛وظلَّ يمطرنا بالدعاء الخالص إلى أن ودعناه!!
غبنا طويلاً هذه المرة عن ركنه المنزوي؛وذات ليلة جنحتْ بنا الشهية إلى فوله المميَّز؛فانطلقنا إليه ..
ولما بصر بنا ؛أقبل إلينا طائراً على أجنحة الفرح؛وابتدأنا قائلاً:ها أنا قد رددت على قصيدتكم العصماء؛ولكن بطريقتي ؛ووفقاً لمقدرتي ؛فاستمعوا؛وتجاوزوا عن أغلاطي .
قلنا :لاعليك؛أتْحفْنا..
فانطلق ينشد:
ويا أهلي وياربعي وناسي
لشوفتكم تمادى بي حماسي!
محلي ملككم في أي وقتٍ
وبابي فاتحٌ حتى الأماسي
وفولي وجبةٌ من صنع يدّي
أراه دائماً شُغلي الأساسي
منى عيني أحطكم بعيني
ولكن للأسف مافي كراسي !
طربنا لإنشاده؛وأخذتنا الأحاديث معه
في بعض همومه الحاليَّة ؛وتطلعاته المستقبلية..
فما لمسنا سوى آيات الرضا تلتمع في كلِّ شأن من شؤونه..
لقد أوحى إلينا أنَّه(مليونير )بما تعنيه الكلمة؛ولكن (بالروح )؛وكفى بذلك كنزاً ثميناً ؛أودعه الله بين جنبيه..
ودعناه عاقدين العزم على معاودته في طقس مشابه لهذا الطقس ..
وحين عدنا بعد قرابة الشهرين من الغياب ؛لم نجد له أثراً ؛ولم يسعفنا أحدٌ من أصحاب المحلات المجاورة له بخبر عنه..
احتبست الكلمات في أفواهنا ؛أسفاً عليه؛وبقي اللقاء الشعري العابر به رهين الذاكرة ؛والإحساس الزاخر بالحياة..
إيضاح:
-(الشامي) لقب للزميل الأستاذ:أحمد سليمان -من أدباء فلسطين🌷
حين أعود بذاكرتي إلى صفحات الماضي أتمنى مراجعة أوراقي.. .. وأمزق أوراقََا زلزلت كياني.. وأصحح كل خطأ فيها.. وأمزق كل الأوراق الذابلة الصفراء.. وألملم ما تبقى من كرامتي المهدرة.
الآن أشعر أن دنياي أجمل.. وبالصمت أرتقي.. وحدثت نفسي : ليتني بقيت حلمََا صعب الوصول إليه.
سلامََا على زمن مضى يضم تحت رفاته جميل الذكريات.. الآن أسهر ألملم بعثرات الخطى في عمق ذاتي.. فالكتمان يحفظ كبريائي.
قد أنسى الآهات.. أتغاضى عن كل مسببات التوجع.. ولكن حتمََا يبقى الأثر عالقََا في كياني
سأعود نفسي على اقتناء الفرحة.. وأشعرها بأن للأمل حياة.. وللتفاؤل إرتياح..
ثقتي بالله عظيمة..
ويقيني أن حب عمري يحتويني بين خلجاته لآخر لحظاتي.
في بسمة شفتيه عشقت استنهاض الفرحة في أعماقي
عشقت فيه كل ماضي طفولتي وصباي.. خلدته على جبين عمري.. يكفي أنني رسمته على صفحات ذاكرتي.. واحتويته في سويداء قلبي.. فلن اقلق إن خلت الأماكن من وجوده..
فإني أراه في كل مكان..
وإن كان الحديث معه ارتواء.. فكيف يكون معه اللقاء..؟