مرحباً بأصدقاء الأدب والكُتب, هنا ملتقى الأدباء ومجلة الكُتاب العظماء, هنا حيث ننثر من ربيع الكلمات مطراً .. أهلاً بكم
✍️ استشرافُ آفاق قصيدة« لَحْظَةْ هَزِيمَةْ» للشاعرة:هند النزارية؛
يهبط الليل باسطاً سلطانه العظيم ؛على الكائنات؛ والساحات؛ والميادين الحيَّة في المدن والقرى؛والأبنية الآهلة والمهجورة :والأحياء الصامتة والصاخبة على حدٍّ سواء.!
لاتمييز في دستور الليل ،ولامحاباة عنده في قوانينه الصارمة؛ودقة مواعيده المتناهية.
هو كائنٌ حريريُّ الثياب من أواسط الشهر إلى منتصفه؛فيما بعد يرتدي ثوبه الحالك الداكن ؛متباهياً به أمام الخلائق أجمعين؛ إلى أنْ يبلغ بها ذروة ليالي المحاق.
ويظلّ كذلك هو والنهار في تعاقب مستمرّ .
أتيحت له من مظاهر العزَّة والسلطنة؛مالم تتح لقسيمه النهار.
تشق ظلمات سكونه؛أنَّاتُ الحيارى والمساكين؛ ومآسي الغرباء والمشرّدين ؛فيستوعبها ويعدُّ لها متاحف في حجراته ؛إلى أجلٍ غير مُسمَّى.!
كما أنَّه -وهو الغاسق الدامس -لا يعتدي ولا يتعدَّى عدد ساعاته المتوازية مع ساعات شقيقه النهار الواضح؛
ويظلُّ خلال ذلك يترقَّى في الدرجات الممنوحة له من لدن حكيم عليم.
وعلى الرغم من جبروته وعتاده الذي يفوق به جيش النهار كثيراً؛وباستطاعته إحراز النصر عليه؛لو همَّ باقتلاعه
أو الخسف به ؛فإنَّه بماعنده راضٍ؛لا يتجاوز حدود مسؤوليته المنوطة به.
لاالعِداء السافر؛ولا المطامع الرخيصة؛ ولا المزايدات والمهاترات؛والخيانات ؛مما يدور بين بني الإنسان؛تستطيع أن تطوّق عنقه؛أو تبتلّ بها سحنته.!
إنَّه آية كونية ؛سوادُها سرُّ جمالها ؛وضياؤها رمز جلالها؛ وهدأتها حلاوة الافتتان بها ؛فمابوسع هذه الآية الكونية؛اإلا تلبية نداء خالقها العظيم ؛والسير على مشيئته الحكيمة؛ونهجه الذي ارتضاه لها خاضعة لتعاليمه؛ومستسلمة لإرادته النافذة وحكمته البالغة؛تعالى الله؛و(إنَّ الله أولىَ بالجميل).
وأمَّا ندماؤه ومحبوه من الشعراء والشاعرات والفنانون والنَّاس عامَّة؛ فهم يستقبلون قدومه؛مبتهجين بحضوره؛ دَهِشين لهيمنته الواسعة؛ومستثمرين طقوسه ؛على تفاوتٍ في اهتماماتهم ؛ورغباتهم ؛وغاياتهم .
ومن إحدى نوافذ تلك الكوكبة الإنسانية؛تطلُّ على القرَّاء الشاعرة :هند النزارية ؛بقصيدتها الوجدانية؛التي بين أيدينا؛على نحو خاص ؛يتعلَّق بتجربة شعرية لها ؛ألمَّت بساحتها ؛والتمعتْ في سماء أفقها الشعري؛ في لحظةٍ من سحائب الليل البهيم؛لحظةٍ سمَّتها الشاعرة بوضوح وشفافية عالية :(لحظة هزيمة).!!
هذه (اللحظة) المنعوتة (بالهزيمة)؛مبعثُ شرارتها الأولى (أشواقٌ)وفدتْ إليها على متن سفينة ليلية الملامح والقسمات ؛وفي تضاعيف تلك التجربة ألوانٌ من الشجون العاصفة؛ والتساؤلات المترامية؛والانفعالات الملتظيَّة؛ أفصحتْ عنها تراكيب لغوية دراميَّة؛على ماسنرى في السطور التالية.
________________________
تستهلُّ الشاعرة لحظتها الراهنة معتمدة على أسلوب النداء (ياء)؛ بعد هبوط الأشواق عليها بغتةً ؛في هدأة الليل البهيم؛وينطوي هذا النداء على شيء من عدم الرِّضا الكامن في السؤال بمن الاستفهامية التابعة لها.
وكأنَّ الأداة (من) فتحت الباب على مصراعيه؛لتنضمّ إلى منظومتها (كيف)؛فالتساؤلات إذن؛ والأشواق الهابطة على قلب الشاعرة؛عادت إليها الحياة بغتةً؛مندسةً في ستار الليل الحالك.
عادت إليها على ظهر سفينةٍ صنعتْ عتادها من أشرعة وغيرها من نسيج الظلام المحلولك.
وظلَّت تجوب البحار والمحيطات؛ حتى إذا لاح لقبطانها ومن على ظهرها ميناء ذكريات الشاعرة؛ المسوَّر بغدائر الصمت النَّاطق؛ المغلق المحجوب فيما مضى عن الفضوليين ومن إليهم؛ قرروا الرسوّ في ساحته؛والإصغاء إلى حججها وأدلّتها وما عسى أن تقول!!
هنالك أطلقت الشاعرة أسئلتها الحائرة المغلّفة بالشجن وأمطرتهم بها؛إذ طفقت تقول:
ميناء ذكرياتي موصد فكيف احتلتِ أيتها السفينة؛ وكسرت أقفاله؟!
ولماذا قررت أن توقظي- ضمن الحركة الاهتزازية- في خاطري شتَّى الخيالات والرُّؤى التي نحّيتها عن طريقي؛وأسدلت عليها ستائر النسيان؟!
(بابي وشباكي)المحكمان؛ كيف استطعت التسلل إلى سرِّهما المغيَّبين إلاعنِّي؟!
كيف أخطأتِ التوقيتِ؛مستغلَّة (قوى الزيف )؛الذي أسلمته ذات يوم مقاليدي؛تلك التي خارت أمام دهشة عينيّ ؟!
أما كنتِ تبصرين أيتها السفينة؛هيكل النهار المسجون المنهك في أعماقي؟!
و(بَيْنَ حَرَارَةِ الْأَشْوَاقِ فِي رُوحِي
وَبَيْنَ بُرُودَةِ اللَّحَظَاتِ فِي زِنْزَانَةِ الصَّبْرِ) آثرت أيّها السفينة الرسوّ وطاب لك المستقر؛في شطآن وحدتي وزواياها!!
لتعلمي-علم اليقين- ياهذه الأشواق المتمرّدة؛المستترة بثياب الليل؛أنه
(قد طَالَ الهجوع)؛وتطايرت الآمال، ولست على استعدادٍ ؛لمواجهة إخفاقات(الْغَدِ الْآتِي)!
ولتعلمي أنني كنتُ قد (وَقَفْتُ بَيْنَ فَوَاصِلِ الْأَمْسِ الْمُقِيمِ
وَنُقْطَةٍ فِي الْحَاضِرِ الْمَغْدُورِ
قَدْ أَنْهَتْ حِوَارَاتِي)!
أمسٌ دابرٌ لاتبارحني أخيلةُ مراحله؛ولا أطيافها الشاحبة؛وحاضرٌ شاهدٌ امتدت إليه يد الغدر؛وكلا اثنيهما أحاطا بي؛يطلبانِ إليَّ ألَّا أُلقي للحوارات بالاً ؛وألَّا أفتح للمراوغات بابا!!
دعيني أيتها الأشواق في دهاليز وحدتي ؛أتجرّع كؤوس أسقامي وآلامي؛ وأشهد موت أيامي في (زنزانة صبري الطويل:( لِتَمُوتَ أَيَّامِي تِبَاعًا كُلَّمَا؛شَطَّتْ مَرَامِي الْوَقْتِ فِيَّ
وَكُلَّمَا جَفَلَتْ مِنَ الدَّقَاتِ سَاعَاتِي)!
ولتعلمي أيتها الأشواق المنهمرة أن وقْع ألمك المبرّح عليَّ الآن ليس بالأمر اليسير ( قَاسٍ) على مهجتى ؛ومستعرّ في مخيلتي؛ونوافذ روحي.!
لقد خابَ ظنِّي في رحلةِ أيامي السالفة؛ حين ساورني الظنُّ يومها؛ فمضيتُ في دنيا الحياة ؛والزهو يشيع في أقطار نفسي، وكنت واثقةً :(أَحْسَبُ أَنَّنِي أَشْبَعْتُ ذَاكَ الْحُبَّ نِسْيَانَا)!!
بيدَ أنني سرعان ماوجدتني في ذلك الدرب العسير :(مُدَرَّعَةً بِأَرْتَالٍ مِنَ الْخِذْلَانِ أَنْسَتْنِي بِدُونِ تَعَمُّدٍ
كُلَّ الَّذِي كَانَا)!
وماذ بعد أيتها الأشواق؛ وقد تبينت لك أسرار الخذلان واضحة للعيان؟!
ماذا تنتظرين من قرارات أُدلي بها في هذا الليل العاصف ؟!
هاكها قراراتي باختصار :
(فِي هَذِهِ اللَّحَظَاتِ بِالتَّحْدِيدِ
عُدْتُ لِنُقْطَةِ الْبَدْءِ الْبَعِيدَةِ)؛
أتريدين-أيتها الأشواق- تعليلاً :
لعودتي الحاسمة هذه؟!
– جوابي:
لأنَّ الأدلَّة والبراهين والوقائع؛(وُبِرُغْمَ أَنْفِ تَنَكُّرِي)تشهد لي وحدي بالإنسانية المحضة؛في حين أنَّها تشهد على الآخر بالظلم والجنف والتجرّد من أساورها وذهبيّاتها؛
واللهُ لي من قبل ومن بعد.
________________________
نصّ الشاعرة:
يَا هَذِهِ الْأَشْوَاقَ مَنْ فِي قَلْبِ هَذَا اللَّيْلِ أَحْيَاكِ؟!
كَيْفَ اتَّخَذتِ مِنَ الظَّلَامِ سَفينَةً
وَرَسَوْتِ فِي مِينَاءِ ذَكْرَى كُنْتُ قَدْ أَغْلَقْتُهُ وَهَزَزْتِ أَغْصَانَ الْخَيَالِ الصَّامِتِ الْحَاكِي؟!
كَيْفَ انْسَلَلْتِ إِلَى خُيُوطِ النَّبْضِ
فِي بَابِي وَشُبَّاكِي؟!
أَوَ بَعْدَ أَنْ خَارَتْ قُوَى الزِّيفِ الَّذِي وَلَّيْتُهُ أَمْرِي؟!
وَمَضَى النَّهَارُ الْمُنْهَكُ الْمَسْجُونُ فِي صَدْرِي!
تَتَقَدَّمِينَ إِلَى شَوَاطِئِ وِحْدَتِي
تَرْسِينَ بَيْنَ حَرَارَةِ الْأَشْوَاقِ فِي رُوحِي
وَبَيْنَ بُرُودَةِ اللَّحَظَاتِ فِي زِنْزَانَةِ الصَّبْرِ!
يا هذه الأشواق قد طَالَ الهجوع
وَلَمْ يَعُدْ عِنْدِي وَقُودٌ لِلْغَدِ الْآتِي!
فَوَقَفْتُ بَيْنَ فَوَاصِلِ الْأَمْسِ الْمُقِيمِ
وَنُقْطَةٍ فِي الْحَاضِرِ الْمَغْدُورِ
قَدْ أَنْهَتْ حِوَارَاتِي!
لِتَمُوتَ أَيَّامِي تِبَاعًا كُلَّمَا
شَطَّتْ مَرَامِي الْوَقْتِ فِيَّ
وَكُلَّمَا جَفَلَتْ مِنَ الدَّقَاتِ سَاعَاتِي!
يَا هَذِهِ الْأَشْوَاقَ قَاسٍ وَقْعُكِ الْآنَا
أَنَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّنِي أَشْبَعْتُ ذَاكَ الْحُبَّ نِسْيَانَا!
وَمَضَيْتُ فِي دَرْبِي مُدَرَّعَةً بِأَرْتَالٍ مِنَ الْخِذْلَانِ أَنْسَتْنِي بِدُونِ تَعَمُّدٍ
كُلَّ الَّذِي كَانَا!
لَكِنَّنِي
فِي هَذِهِ اللَّحَظَاتِ بِالتَّحْدِيدِ
عُدْتُ لِنُقْطَةِ الْبَدْءِ الْبَعِيدَةِ
إِذْ تَأَكَّدَ أَنِّنِي
وُبِرُغْمَ أَنْفِ تَنَكُّرِي
قَدْ كُنْتُ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ إِنْسَانا!
ونستطيع القول في نهاية إنَّ هذه القصيدة المتماوجة؛وأزمنتها اللغوية المكثفة في لحظة هزَّت كيان الشاعرة؛إلى جانب ما حملته من مواقف مشوبة ببعض ألوان الأسى ؛والصراعات الدرامية المتتابعة ؛وتأرجح أمانيها بين مثالية تاقت إليها ؛وواقع عاتٍ اصطدمتْ به ؛أسفرتْ عن رؤية بطولية تبلورت في التسلّح بمبادئها الإنسانية؛الصامدة في مواجهة المعارك الطاحنة؛والأحداث الصاخبة؛حاضراً ومستقبلاً؛ إلى جانب تناغمها مع أمير الشعراء في قوله:
إِنَّ الحَياةَ نَهارٌ أَو سَحابَتُهُ
فَعِش نَهارَكَ مِن دُنياكَ إِنسانا
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله.
_______________________
_القصيدة:
عَلَى حُرَقٍ
أَهُدُّ رَصِيْفَ إِحْسَاسِيْ
وَأَحْرُثُ نَارَ أَنْفَاسِيْ
وَأَخْرُجُ مِنْ دَهَالِيْزِيْ
إِلَى المَسْدُوْدِ فِيْ الآتِيْ
أُنَاوِرُ طَارِقَ الأَبْوَابِ بِالمِزْلَاجِ
يَدْفَعُنِيْ إِلَى عُمْقِيْ
يَمُدُّ لِسَانَهُ المَفْتُوْقَ
نَحْوَ قَصِيْدَةٍ عَذْرَاءَ
يَلْعَقُ مُرَّ أَوْجَاعِيْ المُقِيْمَةِ
فِيْ وَرِيْدِيْ
يُفَكِّرُ خَارِجَ الصَّنْدُوْقِ
يَحْبِكُ خُدْعَةً
يَطْغَى
يَكِيدُ
يُجَاوِزُ المَعْقُوْلَ
لَا يَخْشَى وَلَا يَأْسَى
بِخَيْطِ الشَّمْسِ لَا يُكْسَى
يُرَتِّلُ مِلَّةَ الشَّيْطَانِ
فِيْ سُوْقِ الفَسَادِ
وَإِنْ يَزِدْ يَنْقُصْ
عَلَى قَدْرِيْ المَجِيْدِ
أُلَمْلِمُ مَا تَشَظَّى بَيْنَ خَيْبَاتِيْ
وَأَرْحَلُ فِي احْتِمَالَاتِيْ
أَصَدُّ عَنِ المُصِيْبَةِ فِي العَقِيْدَةِ
لَسْتُ أَدْرِيْ
كَمْ سَأَحْمِلُ مِنْ خَسَارَاتِيْ؟!
أَتَحْمِلُنِيْ ابْتِهَالَاتِيْ؟!
مَتَى سَأَعُوْدُ مِنْ ذَاتِيْ؟
إِلَى أَيِّ المَدَى تَجْرِيْ انْطِفَاءَاتِيْ؟!
وَلَكِنِّيْ الأَعَزُّ عَلَى الحَقِيْقَةِ
حِيْنَ كَانَتْ مِنْ عَبَاءَاتِيْ
فَكَيْفَ إِذًا سَيَكْسِرُنِيٍ
خَذُوْلٌ مِنْ بَعِيْدِ؟!
_______________________
-التأملات:
وقفةٌ مع عنوان القصيدة:
الملّة كما في القاموس:
الشريعةُ أو الدِّينُ، كمِلَّةِ الإِسلام والنصرانية، وهي اسمٌ لما شَرَعَ اللهُ لعباده بوساطة أَنبيائه ليتوصلوا به إِلى السعادة في الدنيا والاَخرة.
فإذا كانت ملة الدين الحنيف بهذه النزاهة؛فإنّ (ملّة الشيطان)تؤول بمن ينضوي تحت لوائها إلى الخُسران المُبين..
لابدّ إذن-والحالة هذه- أن ينشأ صراع دام ؛تتسع فيه الهوَّة ؛بين الإنسان (ذو الفطرة الصالحة النقيَّة)؛والشيطان (ذو الطرائق الاحتيالية الماكرة).
وهذا ما ستعرض له القصيدة في معانيها المتتابعة ؛وأفكارها المحتدمة المنصبَّة على أنَّ الشاعر الإنسان ؛عندما يتسلح بالمعرفة الواعية؛ والبصيرة النافذة ؛ستكون له الغلبة على نزوات الشيطان وألاعيبه؛وحبائله ..
ولست أعدو الحقيقة إذا قلت إننا هنا أمام قصيدةٍ عذراء المعاني والمباني؛قصيدة تتجلّى فيها أوجاعُ شاعرها وهي مقيمةٌ في وريده النابض بالحياة؛ووجدانه المزدحم بالأسئلة الشائكة…
قصيدةٌ ائتلق فيها صوت الشاعر ؛وهو يخوض معركة الوجود ؛غير هيَّاب ولاوجلٍ من المخاطر المحتملة ؛فرأيناه يعدُّ العُدَّة لافتضاض(المسدود في الآتي)؛ وذلك بواسطة إمعانه الفكري في الزمن القادم المتسربل بأردية الغيب.
ولمسنا -عبر تراكيب لغته- (مناورة الآخر الشبيهة بالمكابدة الجسيمة-إذ تتمثل في (طارق الأبواب )؛وهو(يمدّ لسانه المفتوق)؛فلا يخرج الشاعر من وراء ذلك بطائلٍ يذكر في المواجهة الأولى.
وعلى الرغم من تفكير ذلك الطارق (خارج الصندوق)؛ وهو تفكير يشي أو يوحي بمعنى أدق بالاستنارة والوعي والحصافة ؛إلاّ أنه يتمخض عن كائن طاغٍ مريد مستبدّ ؛آل به جبروته؛فارتكس به في (تراتيل شيطانية)؛ينشدها في(سوق الفساد).
_______________________
-الإطار العام للنص؛وبعض أدواته:
-بُني النص-فيما أرى- على ثلاثة مقاطع وجدانية الطابع ؛تآزرتْ جميعها في تشكيل التجربة الشعرية؛ورسم ملامحها..
-يستخدم الشاعر لغة التلميح المكثّف-وهو يرصد شظايا الخيباتِ المتتالية ؛ورحيله في الاحتمالات المستقبلية المُبهمة ذات الصلة بمطامحه ؛وبطولاته .
هذه المحاور وما إليها ؛تقف إزاءها سلسلة من الأسئلة الوجودية المضطرمة في أعماق الشاعر؛تتصدرها رغبةٌ عارمة؛ تتساءل عن زمن العودة من الذات ؛”متى سأعود من ذاتي”؟!
-يستشفُّ من هذا النصّ العميق؛مضامين أخرى؛لعلَّ أبرزها:
-أنَّ الخساراتِ من أجل العقيدة شرفٌ الإنسان المؤمن ؛ولله الشاعر القائل:
إِذا أَبقَتِ الدُنيا عَلى المَرءِ دينَهُ
فَمافاتَهُ مِنها فَلَيسَ بِضائِرِ!
-وأنَّ الشيطانَ المريد بما عُرف عنه من مكر وخداع وضلال مبين ؛شأنه شأن الساحر (ولايفلح السَّاحر حيث أتى).
وهناك المزيد من الرؤى والأفكار مما لايتسع المجال لتناولها في هذه العجالة..
___________
-بعض ظواهر النص الفنية:
-جانب اليقظة عند الشاعر واضحٌ وضوحَ الشمس؛في تراكيب النص إجمالاً؛وأعني باليقظة :المزج بين النظرة العقلانية والعاطفية؛بمقادير متساوية..
-يحشد الشاعر عدة كلمات مضافة إلى (ياء المتكلم)؛من مثل:
إِحْسَاسِيْ/أَنْفَاسِيْ
دَهَالِيْزِيْ/عُمْقِيْ/أَوْجَاعِيْ/وَرِيْدِيْ/ قَدْرِيْ/خَيْبَاتِيْ/احْتِمَالَاتِيْ/خَسَارَاتِيْ/ابْتِهَالَاتِيْ/ذَاتِيْ/انْطِفَاءَاتِيْ/عَبَاءَاتِيْ
وذلك يؤكد سيطرة القلق على الشاعر من ناحية؛وطموح الشاعر المتقد في أعماقه من ناحية أُخرى؛إلى دحض الأباطيل والسخافات وقمعها ؛وهو في ذلك كله يستمد طاقات المواجهة من الذات الواعية؛عاقداً العزم على تجاوز الخيبات ما أمكن ذلك.
-اتكاء الشاعر على الفعل المضارع على نسقين اثنين:المتكلم؛وضمير الغائب؛كما في هذه الكلمات:
أَهُدُّ /أَحْرُثُ/أَخْرُجُ/أُنَاوِرُ/يَدْفَعُنِيْ/يَمُدُّ/
يَلْعَقُ /يُفَكِّرُ/يَحْبِكُ/يَطْغَى/يَكِيدُ/يُجَاوِزُ..الخ؛وذلك أكسب التجربة حضورها الزمني ؛وواقعيتها؛وحدَّتها.
-تتراوح تعبيرات النص في استخدام الأسلوبين :الخبري والإنشائي ؛بما يشي بحالة الشاعر النفسية ؛وتطلعاته البعيدة..
وهناك المزيد من الرؤى والأفكار مما لايتسع المجال لتناولها في هذه القراءة العجلى..وفي الختام:
أحيي شاعرنا القدير على هذه السبيكة؛ وأحيي إنجازاته الإبداعية عموماً ذات المذاق الخاص..
_______________________
شعر/إبراهيم مسير المباركي
________________________
-تقديم :
محمد الأمير
وكما تتدفق المياه الرقراقة؛وكما تتفتح الورود في خمائلها ،وبساتينها المونقة ؛يطلُّ علينا الشاعر القدير:إبراهيم مسير المباركي؛بمعزوفةٍ أطلق عليها (جدائل الصمت)؛وهو عنوان حيويٌّ برَّاق ؛استثمر فيه الشاعر فنّ الاستعارة استثماراً بارعاً؛وأفسح لخيالاتنا مجال الطلاقة الرحبة؛ في أن تتلمّس نوعية الصلة المعقودة بين (الجدائل والصمت).
هذه الجدائل المستقرّة في أصداف الصمت المطبق ؛المستغرقة في بحار الحيرة البركانية- إن صحَّ التعبير-سرعان ما تتفجر ينابيعها؛وتتشكل لبناتها في أُطر زاهية قائمة على تراكيب لغوية متينة؛ورؤى فنيّة مشعَّة؛تنطوي على غربة روحيةٍ قاتلة؛فرضتْ على الشاعر ضرورة الكشف عنها؛والمواجهة الباسلة؛وفقاً لمقتضيات الموقف الحاسم الذي هو بصدده؛وطبيعته الصاخبة.
إنّنا هنا-كما أسلفت- أمام غربةٍ روحية مؤججةٍ؛ تلفح نيرانها المستعرة كيان الشاعر؛وتستلب منه صفاء النفس وهدوءها المنشود وطمأنينتها المأمولة .
لاريب إذن أن تتمخض تلك النيران المندلعة عن سلسلة مؤاخذاتٍ لاتكتفي بمجرد الوقوف السلبي على الحِياد؛أو أن يضرب الشاعر عن وخز أشواكها الحادَّة صفحاً؛وإنَّما أملتْ عليه ذهنيته المتقدة؛ووعيه المتزن أن يعمد إلى تصحيح المسار ؛وتسوية وعثاء الطريق؛ما أمكن ذلك؟!
أبعد هذه الإخفاقات المشهودة ؛والانهيارات المتتالية؛يحسن بالشاعر السكوت؟!
إنَّ ما يشهده صُنَّاع الجمال؛وذوو النباهة في مآلات المشهد الشعري العام؛بل وفي ميادين التواصل الإنساني ؛من هبوطٍ واضح ملموس ؛في مستوياتٍ عدَّة لعلَّ أبرزها:اختلاط الأوراق ؛وغياب الأصوات الجادَّة؛واتساع مساحات الأوهام والآثام ؛وما إلى ذلك من خواءوإسفاف ملحوظين ؛لمما يستدعي التصدّي والمواجهة وإعادة المياه إلى مجاريها كمايقال..
وما الشأن إذن في لغة هزيلة؛وهياكل خاوية؛وأساليب فجَّة ملتوية؛تمطرنا ليل نهار بصنوفٍ لاآخر إليها من (الوهم والآلام والجدَل السفسطائي العقيم)؟!
-وماظنكم في من يخالف الفطرة الإلهية ؛ويشق “عصا الطاعة”؛أو”يقلب ظهر المجنّ” على النواميس الكونية؛والأعراف الذوقية ؟!
غيداء حسناء تستحيل -بين عشية وضحاها- رجلاً؛بل مسخاً شائهاً !!
مما حدا بالشاعر إلى أن يقول في نبرةٍ عالية:
(هذا الغثاءُ الَّذي يسْتَنْسِخُ البطلا)
إنَّ ملامح ذلك الغثاء لتتبدَّى في التكريس المحموم لتسمية الأشياء بغير أسمائها؛وإعلاء منازل الأقزام دون أدنى اكتراث!
ومع مايبدو من قتامةٍ سائدة؛ومشاهد مضطربة في إيماءات الشاعر؛ ومضامين قصيدته ؛إلا أنَّه لم يسقط في وهاد اليأس؛ودركات السأم ؛بل ظلَّ على العهد به؛متشبثاً بروح التفاؤل ؛قرين الحلم ؛ مشحوذ البصر والبصيرة ؛كما في هذا البوح الآسر:
آماليَ الخضرُ ما زالتْ هنا حلُماً
يُرتّبُ البيدَ والأمواجَ والسُّبُلا!
وختاماً أبادر إلى القول إنني لست
في مقام النقد أو التقويم القائم على استشفاف خلجات الشاعر؛ومحاولة تجليةِ أبعاد تجربته الفنية للعيان؛وإنما لذلك مجالٌ آخر؛وغاية ما كنت أسعى إليه هنا هو تقديم قصيدة شاعرٍ نابه ؛دقيق الشعور؛مرهف الإحساس؛غيور على لغة الضَّاد والقيم النبيلة؛يقظ الفكر؛وحسبه أنَّه استوعب رسالة الفنّ الأصيل؛وأدرك مهمة الشاعر الحقيقية؛وتقبلوا تحياتي🌷
_______________________
-القصيدة:
أستغفرُ اللهَ ، آفاقي هنا لغةٌ
تستمطرُ الوهمَ والآلامَ والجدَلا
ينأى بها الليلُ آثاماً وأضرحةً
والعاكفونَ كوجهِ التيهِ مُرْتَحَلا !
جدائلُ الصمتِ في أعناقهم عشقتْ
هُوجَ الرياحِ.. فصارتْ غِيدُهم رجلا
تجذَّرَ الخوفُ في أفواههم فَنَمَا
هذا الغثاءُ الَّذي يسْتَنْسِخُ البطلا
شمائلُ الرَّملِ لا..لا.. لم تعُدْ وطناً
يُحدِّثُ النّجمَ والأمجادَ والطّلَلا
ياغربةَ الرُّوحِ … والظلماءُ موغلةٌ
تساقط النورُ من عينيكَ بلْ أفَلا !
أيرتديكَ الدُّجى والفجرُ مابَرِحتْ
أضواؤُهُ تبعثُ الآياتِ والأملا ؟
مضى بكَ الحبُّ ياقلبي أتحملهم ؟
يارحلةَ الصبرِ في أطيافِ مَن رحلا
آماليَ الخضرُ ما زالتْ هنا حلُماً
يُرتّبُ البيدَ والأمواجَ والسُّبُلا
آمنْتُ أنَّ بقائي لونُ قافيتي
والعاثرون همُ بَوحي الَّذي قُتِلا!
على عادة بعض قُرّاء الكتب تعجبني خُلاصاتٌ، في الروايات خاصةً، يستوفيها كُتَّابُها بحصافةٍ ورهافة، ويلقاها قارئُها كامنةً متأهِّبةً مُسدَّدةً، فتكون بلحظةٍ كمثل يدٍ ابتهلَ إليها آرتور رامبو في فصل في الجحيم؛ «وماذا أقولُ عن اليد الصديقة!»
تراكُم المعارف والخبرات شرطٌ لنشوء الحضارة ودوام ازدهارها، ولَطالما لاحقَ مُعلِّمون تلاميذَهم بمقولةٍ لاعِنة؛ «عَلِّم في المتْبلِّم يصبح ناسي» تعبيراً عن خيبة أملهم وجهودهم المهدورة في تعليم مَن هم غير مستجيبين للتعلُّم ومراكمة المعارف. وما ابتعد نجيب محفوظ عن هذا المحتوى، في أولاد حارتنا، لـمّا كتبَ عبارةً صارت مُقتطفاً شهيراً؛ «ولولا أنّ آفة حارتنا النسيان ؛ما انتكسَ بها مثالٌ طيب. لكن آفة حارتنا النسيان»!
وأتت فيها لكنْ الاستدراكيةهذه حادةً جارِحةً تُغلِّظ معنى خيبة الأمل الأكيدة.
ويكتبُ عبد الفتّاح كيليطو في والله إنّ هذه الحكاية لَحكايتي؛ «في الحب، ومثل ذلك في الأدب، يجب ألّا تعرفَ الكثيرَ؛ ذلك أنّ كل حُب وكل كتاب هو تجميعٌ لِقطعٍ انتُقيَت اعتباطياً»، وكان قد كتب قبل ذلك في أنبئوني بالرؤيا؛ «حتى في قضايا الحب؛ التزكيّة ضرورية!» وهذا الأخير هو قولٌ مثيرٌ جارِحٌ أيضاً؛ فلا قِبل للنفوس الحالمة بفظاظة التزكيّة التي تُصادِم الرومانسيةَ وتكايد تيّاراتِها التحتيّة الماورائية الحلوة، إلا أن هذه التزكية تُستساغ وتُعاش بواقعيتها في سياق الحوادث المرويّة بالكتاب، ومن أصل الحادثة التي خَلَّقت هذا المقتطف يمكن إلحاق اشتراطات لإجازته على وجه العموم؛ إذْ يتوجّب، مثلاً، أن تكون مثل هذه التزكيّة مُخبّأةً في سياقٍ موازٍ، مُستشَفَّةً وكأنها رميةٌ عفوية شاردة في ذاتها، ويكون الشعورُ بصدقها أكيدا.
تحظى أعمالُ نجيب محفوظ بانتقاءاتٍ عديدة تُؤخذ كمقتطفات أو خُلاصات، يعملُ بعضُها عملَ وسائل التنمية البشرية، من بينها هذا المقتطف الشاعري، الذائع، الذي اختتم به الكاتب رواية الحرافيش؛ «فقال له قلبُه: لا تجزع فقد ينفتح البابُ ذات يوم تحيةً لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة».
أحسبُ عبارةَ “براءة الأطفال”، بهذا المقتطف المواسي، شائعةً إلى حدٍ يسمح، لدواعٍ إبداعية، باستحسان الحرص على اجتناب استعمالها، بل قد يلزم أيضاً الاحتراسُ، هوناً ما، إزاء التعميم المطلق لمفهوم “براءة الأطفال” والتسليم به جزافا.
ولعل أكثرية الذين قرأوا هذه العبارة الختامية للحرافيش قد فهموها على الوجه الذي كان قد انتواه لها مؤلِّفُها، ويبدو لي أن المعنى الذي قصده هو أن الباب الموصَد قد ينفتح، على غير انتظار، تحيةً وتقديراً وإحساناً ومكافأةً لطائفةٍ من البشر، حدَّدها هو بقوله: “الذين يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة”.
ولعلنا جميعاً قادرون على فهم معنى براءة الأطفال، لكن ما معنى طموح الملائكة!
لو أنّ الملائكة قد استحقوا ملائكيتَهم ومقامَهم السامي الفريد لأسبابٍ فإنّ أولها هو خلوُّهم من الطموح؛فليس هنالك، في رأيي، ما يمكن أن يُسمى بـ”طموح الملائكة” إلا إذا كان طموحهم المقصود هو تفانيهم الكامل في تأدية وظائفهم الملائكية من استقامةٍ وتلبيةٍ وما إلى ذلك.
لكن قد يكون المعنى الذي أراد الكاتب التعبيرَ عنه هو، ببساطة: “الطموح الفردي -لأشخاص هذه الطائفة- إلى إدراك وبلوغ المستوى الأعلى من النقاء والطُّهر والسَّويَّة بحسب المعيار المتجذِّر في الوجدان العام لمفهوم الملائكية”، لكن ما أوسع الفارق بين معنى طموح شخصٍ يرغب في الوصول إلى الملائكية ومعنى طموح الملائكة!!
ويبدو لي أن نجيب محفوظ كان قد أراد، على الأغلب، لمسةً شعرية لخاتمة الحرافيش. وفي أعراف هذه الشعرية؛ حين تتوسَّط “واو العطف” عبارتيْن متماثلتيْن في التركيب تتهيّأ لهذه الواو حقوقٌ وسُلطةٌ مُستمدَّة من العبارة التي تأتي قبلها تُبْسطها على العبارة التي تأتي بعدها، بُغية إرساء توازنٍ وانسجامٍ هما المؤهِّليْن إلى تحقيق مثل هذه اللمسة الشعرية، ومثال ذلك “واو العطف” الكائنة بين عبارتيْ “براءة الأطفال” و”طموح الملائكة”، المتماثلتين في كونهما كليهما “مضاف ومضاف إليه”، وهذا يعني أن أُسسَ تأويل عبارة “براءة الأطفال” تحكم، بالضرورة، تأويلَ عبارة “طموح الملائكة”.
وفي هذا المقتطف يتحقّق التوازنُ الموسيقي اللغوي بين “براءة الأطفال” و”طموح الملائكة”، بينما لا يقابله ولا يسانده توازنٌ في ناتج المعنى على يمين وعلى يسار واو العطف.
التوازن المقصود بين المعطوف والمعطوف عليه يستلزم أن تكون التخريجات اللغوية والتأويلات الممكنة متماثلة على الناحيتين، فإذا قِيل إن الشخص الذي سوف يُفتح له الباب يتسم بـ”براءة الأطفال” أي بالبراءة التي يتميّز بها شخوص الأطفال، فينبغي تطبيق القياس نفسه بخصوص “طموح الملائكة”، فيُقالُ إن الباب سوف يُفتح للشخص الذي يتسم بالطموح الذي يتميّز به شخوص الملائكة، وهذا معنى منعدم؛ حيث لا طموح للملائكة، وما من فرصةٍ، في ظنّي، لتأويلٍ آخر لعبارة “طموح الملائكة” ذلك أنّ ما يحكم الأمرَ هنا هو التأويل الأول والوحيد والمباشر لعبارة “براءة الأطفال”.
قد يشي شيوعُ هذا المقتطف، شيوعاً مقترناً بفهمِه على وجهه المراد له، بوجود مؤلفاتٍ يسندها حظُّ طيب، وما من فضلٍ عليها لأحد، إذْ يتوفّق قراؤها في الوصول إلى لُب المقصود منها دونما استرابة مهما ابتعد الكاتبُ عن التعبير الدقيق المراد لفكرته، ولَربما يحدث العكسُ أيضاً لمؤلفاتٍ أخرى، ولا حيلة لأحدٍ في ذلك. وعلى أية حال تستحقُ العباراتُ التي تصير مقتطفاتٍ أن تتملّك كلٌّ منها فرادتَها التامة التي تصونها من الاجتراء عليها وتهشّ عنها التزيُّد وتستبعدها من التنميط. فإذا افتُقِدت منها الفرادةُ، بحتميتها وحرفيَّتِها ودِقتها، أمكنَ المماحَكة عليها واقتراح البدائل لها، ولا يعود ثمة ما يحميها من إسداء تبديلاتٍ وتعديلات، ولربما استُمِيل القارئُ أكثر لو أن خاتمةَ هذا المقتطف كانت قد جاءته على تحريفٍ مثل: «بصبر المكروبين؛وتواضُع الأنبياء» أو «بأُثرة الأمهات ؛ودماثة القانعين»،،، إلخ.
على أية حال فالمسألة في مقتطف نجيب محفوظ تتعلّق ببابٍ ينفتح فجأة من تلقائه، كُرمى للمصطفين المقترنين بأسمى الشمائل، وهو في هذا يختلف عن أبوابٍ مُغلقة ينبشها ويطرق عليها عبد الفتّاح كيليطو، وهي أبواب عُرِفت بوجوب الامتناع عن فتْحِها، غير أن مفاتيحها -على الرغم من بقائها مطوَّلاً بأيادي الآخرين العاديين- تقع في أيدي الفضوليين، غير المتحوِّطين ولا المكترثين بالتحذير، ممن لديهم اجتراء ويحفِّزهم شغفٌ ويستجيبون لإغواء المجهول ويتمادون حتى ليختلط عليهم الشوفُ والعماء؛ مثل حسن البصري في ألف ليلة وليلة.
والبابُ إنْ ينفتح فليس يُعرَف أهو خيرٌ أم شرٌ ذاك الذي يتأتّى منه، ذلك أنّ الخير والشر متضافران متداخلان متفاعلان، وليسا على طرفيْن، فما يجيء من الباب، الذي انفتح بعد طول إغلاقٍ، هو عقابٌ مثلما هو مكافأة. ثم إنه مكافأة مثلما هو عقاب. ولَئن استظهرَ نجيب محفوظ في رواية الحرافيش خبايا حرافيشَ ودراويش وتكايا وأناشيد وفتوات وعركاتٍ حسمتها النبابيتُ في الحواري والساحات، فقد دأبَ كيليطو على استكناه أسرار حرافيشِه وفتواتِه ودراويشِه من كُتّابٍ وصعاليك ودارسين وشعراء، عبر الزمان، في روايتيْ أنبئوني بالرؤيا ؛ثم في والله إنّ هذه الحكاية لَحكايتي، وكان عنده خبر عركاتِهم التي لا زالت أصداءٌ منها قيْدَ السجالات؛ وقد لا يكون ثمة انقطاعٌ بين قصص شهريار؛ وابن خَلِّكان والجاحظ ؛وابن رُشد؛ والتوحيدي والمعرّي؛ وقصص عاشور الناجي؛ وفرج الجبالي؛ وجُعلص؛ وحسونة؛ والحاجري ؛والقُللي؛وليس من غضاضةٍ في أن يتناظرَ عراكُ حارات الحسينية والعطوف وبولاق مع سوابقِه في ألف ليلة وليلة والإمتاع والمؤانسة ومثالب الوزيريْن وكليلة ودمنة ومقامات الحريري وكُتبٍ غيرها منحولة وكُتبٍ ملعونة ومشؤومة.
ومن كيليطو أُرفِقُ مقتطفاً صِيغ مرتيْن هو؛ «لا يجوز الحديثُ عن كتابٍ إلَّا لِمَن يستطيع كتابتَه»، وقد كتبَ كيليطو هذه العبارة، باللغة العربية مباشرةً، في روايته والله إنّ هذه الحكاية لَحكايتي، وسبقَ له أنْ كتبَ مثيلتَها، بالفرنسية، في روايته أنبئوني بالرؤيا، وتُرجِمت العبارة إلى العربية على هذا النحو: «ليس جديراً بتأويل عملٍ أدبيّ؛ إلا القادرُ على كتابته».
في روايته أنبئوني بالرؤيا، استخلص كيليطو فكرةً جوهرية من حكاية عطّاف، الواردة في بعض طبعات ألف ليلة وليلة، ويُحكى فيها أن الخليفة هارون الرشيد قام من نومه في إحدى الليالي منقبضاً ،فأمر باستدعاء جعفر، الوزير، الذي جاءه مسرعاً واقترحَ عليه، لمداواة الحال، مطالعةَ كتابٍ، فجيء له بكُتبٍ، تناول منها واحداً عتيقاً، وفتحه عشوائياً على صفحةٍ وراح يقرأ بعينيه، وسرعان ما انتابه الضحكُ حتى انفلت الكتابُ من يده، ثم عاد فأمسكه وقرأَ في صفحةٍ أخرى فاغتمَّ وجهُه وغلبه البكاء. !
كان جعفر يشهد، مُتعجِّباً، تحوُّلَ الخليفة من الضحك إلى البكاء، حتى إنه، لإشباع فضوله، اجترأ على الاستفسار من أميره؛ إلام كان الضحك؟ ومِم كان البكاء؟ لم يستسغ هارونُ خلوَ الاستفهام من الوجاهة ومن المبرِّر، فصدمَ وزيرَه بغضبٍ مفاجئٍ محتدم، وأجابه مُهدِّداً وآمراً إياه أن يجلب له مَنْ لديه القُدرة على استشفاف سبب ضحكه وسبب بكائه، ويستطيع، من تلقائه، أن يعرف الكتابَ من أوله إلى آخره، وإلا ضربَ عُنقَه!
هل كانت حكاية عطّاف، في ألف ليلة وليلة، هي منشأ هذه الفكرة التي بالمقتطف؟
يومئ كيليطو، في أنبئوني بالرؤيا، إلى مصدرٍ أقدم هو سِفْر دانيال بكتاب التوراة، ويُحكى فيه أن الملك البابليّ “نبوخذنصّر”، الذي عاش قبل ميلاد المسيح بستة قرون، حَلمَ أحلاماً أزعجته وطيّرت عنه نومَه، فأمرَ باستدعاء المجوس والسحرة والعرّافين والكلدانيين، فجيء له بهم، فقال لهم: «قَدْ حَلَمْتُ حُلْمًا وَانْزَعَجَتْ رُوحِي لِمَعْرِفَةِ الْحُلْمِ»، فأجابوه: «أَخْبِرْ عَبِيدَكَ بِالْحُلْمِ فَنُبَيِّنَ تَعْبِيرَهُ»، فأجابهم: «قَدْ خَرَجَ مِنِّي الْقَوْلُ: إِنْ لَمْ تُنْبِئُونِي بِالْحُلْمِ وَبِتَعْبِيرِهِ، تُصَيَّرُونَ إِرْبًا إِرْبًا وَتُجْعَلُ بُيُوتُكُمْ مَزْبَلَةً. وَإِنْ بَيَّنْتُمُ الْحُلْمَ وَتَعْبِيرَهُ، تَنَالُونَ مِنْ قِبَلِي هَدَايَا وَحَلاَوِينَ وَإِكْرَامًا عَظِيمًا. فَبَيِّنُوا لِي الْحُلْمَ وَتَعْبِيرَهُ»، وبعد جدالٍ أجابوه: «الأَمْرُ الَّذِي يَطْلُبُهُ الْمَلِكُ عَسِرٌ، وَلَيْسَ آخَرُ يُبَيِّنُهُ قُدَّامَ الْمَلِكِ غَيْرَ الآلِهَةِ الَّذِينَ لَيْسَتْ سُكْنَاهُمْ مَعَ الْبَشَرِ»، فلم يتقبّل منهم قوْلهَم؛ «لأَجْلِ ذلِكَ غَضِبَ الْمَلِكُ وَاغْتَاظَ جِدًّا».
وبحسب رواية الحكواتي الشامي، المسمّى “نهَى” في رواية أنبئوني بالرؤيا، الخبير بحكايات ألف ليلة وليلة، فإن الملك شهريار، بعد أن أتمّت شهرزادُ الألفَ ليلة وليلة في حكْي الحكايات له، استدعى كُتَّابَ مملكته وطلبَ منهم كتابةَ كل تلك الحكايات، بحذافيرها، التي حكتها شهرزاد له وحده، في تمام غيابهم! وكاد شهريار أن ينكِّل بهم، على صِراط نبوخذنصّر وهارون الرشيد، لولا أن شهرزاد تدخّلت وأحضرت الألفَ كتاب التي هي المصادر الأصلية لحكاياتها الليلية، ويومئ كيليطو؛ «الكتابُ المطلوبُ كتابتَه كان مكتوباً سلفاً». إنّ نبوخذنصَّر، ومن بعده هارون الرشيد، ومعهما شهريار، استحقوا أن يغتاظوا، ويغضبوا، بيقينٍ وبداهةٍ، على العرّافين الذين طلبوا التبيينَ وتسوَّلوا إمدادَهم بمعرفةٍ كان من المتوجِّب عليهم، بمقتضى قُدراتهم في المعرفة، أن يلتقطوها بأنفسهم ويحوزوها.
ولأن نبوخذنصّر كان مقتنعاً بعدالة مطلبه، فقد بدأ رجالُه في تقتيل المغضوب عليهم، إلى أن جاءه واحدٌ منهم هو دانيال فأخبره بكل تفاصيل الحلم، ومن ثَم بتأويله!
إنّ ما أتاه دانيالُ لَمُبهر، وعلى الرغم من إعلانه بأنّ معونةً إلهية قد آزرته في مسعاه فلقد برهنَ على أن نبوخذنصّر لم يكن مُشتطّا؛بل كان المطلبُ العسير امتحاناً نزيهاً عُقِد للعرّافين فيتسنّى للجدير منهم أن يُبرِز صَكَ جدارته.
وكان نبوخذنصّر وهارون الرشيد يتحرّيان مَنْ ذا الذي بمقدوره أن يعطيهما التأويلَ الصادق الصائب، لأنهما كانا يبتغيان ضمان قوْل الحقيقة ووصولَ الرسالة الصحيحة الآتية إليهما من غَيْبٍ، يريدان اجتناب الخديعة، يخشيان التضليلَ ويتحسّبان من الكذب والغش والتدليس وأساليب المواءمة والتزييف والتنميق وتلفيق التفاسير وتدبيج التأويلات المتلاعَب بها من قِبل أولئك العرّافين الأسلاف الذين أُنيط بهم ولادة القارئِ الناقِد الشاعر الرائي البصير العارِف الملعون الموصوف من لدن آرتور رامبو.
وما الكتابُ، واقعياً، إلا ما قرأه فيه قارئُه؛ يخُطُّ الكاتبُ فإذا المكاتيبُ بلا وجودٍ إلى أن يقرأها قارئٌ، وإذا هي بلا وجودٍ على النحو الذي أراده لها كاتبُها إلا أنْ يقرأها قارئٌ حقيقيٌّ، من طِينة دانيال هذا الذي أبانَ أنّ مَطلبَ نبوخذنصّر وهارون الرشيد لم يكن متعسِّفاً، وأن يقينَ غضبِهما كان مُبرَّراً، وبداهةَ سخطِهما كانت سديدة. لقد تبوأَ دانيالُ مهمتَه قارئاً وكان ذا عبءٍ جسيم. وإذا كانت مثل تلك الأعباء هي من أنصبة القارئ؛ فما بالنا إذاً بعِبء الكاتب، وما العبءُ في غاية الأمر إلا صنوٌ للطموح في أفضل معانيه. !
ولئنْ سعى دانيالُ، بطموح الملائكيين، وراء معرفته واستشفّها، فلا عزاء ولا مناص لـمَن لا يرومُ معرفةً ولا يطلبها ولا يريدها، لكنما تدخله هي من حيث لا يدري، وتسكُنه إلى الأبد بسطوتِها الغامضة، فحين اقتيدت آنتيجوني، في مسرحية سوفوكليس، إلى القبر الصخري لِتُدفَن فيه وهي حيّة تنفيذاً لعقوبتها، قالت إنها لا بد أن تموت شابةً، وإنها قد عرفت بذلك في كل عمرها، وإنها لم يكن لها أن تمنع نفسَها عن هذه المعرفة. ومسألة آنتيجوني هي مسألة معرفة، لا هاجس ولا إحساس. وكذلك كان رامبو قد كتبَ في رسالة إلى أهله، حين كان في عدن؛ «عرفتُ منذ زمنٍ بعيد أني لن أعيش حياةً أشقى من حياتي هذه».!
ولَكأن كتاب كليلة ودِمنة كان على تجاوبٍ مع مسألة ضرورة الاستيثاق من نزاهة التأويل، ففي باب (إيلاذ وبلاذ وإيراخت) يأتي هذا الكتابُ بمثالٍ صريح عن التلاعب في التأويل حين يحكي حكاية الملك “بلاذ” الذي نام ذات ليلة «فرأى في منامه ثمانيةَ أحلامٍ أفزعته، فاستيقظَ مرعوباً، فدعا البراهمة، وهُم النسّاك، ليعبِّروا رؤياه، فلما حضروا بين يديه قصَّ عليهم ما رأى، فقالوا بأجمعهم لقد رأى الملكُ عجباً فإنْ أمهلَنا سبعةَ أيام جئنا بتأويله. قال الملكُ قد أمهلتُكم!فخرجوا من عنده ثم اجتمعوا في منزل أحدهم وائتمروا بينهم». لم يتحرّز الملكُ فأنبأَ العرّافين البراهمة برؤياه وأطلعهم على سريرته، وبدافع الرغبة في الثأر والانتقام اتفقَ أولئك البراهمةُ على اصطناع تأويلٍ موافقٍ لهواهم ومصالحهم وتقديمه إلى الملك من أجل حَضِّه على أن يقتل زوجتَه المحبوبة الملكة “إيراخت” وابنَه الأثير لديه “جوير” ووزيرَه الوفي الحكيم “إيلاذ” وسائر أحبائه وخُلصائه، قاصدين إهلاكَ الملك ومُلكه ومملكته بمقتضى تأويلهم الزائف الذي أوعزوا به، لولا أن الملكَ تدراكَ الأمرَ فاستجاب إلى التأنّي ولم يمتثل إلى وسْوسة أولئك المؤوِّلين مُرتاباً في مزاعمهم، ثم أسندَ التأويلَ إلى الحكيم “كباريون” فوافاه بما هو حق وصِدق.
كان كيليطو قد ابتدأ خطّاً، في روايتيْه، بإعلانه؛ «ليس جديراً بتأويل الرؤى إلا القادر على الإنباء بها»، ثم «ليس جديراً بتأويل عملٍ أدبيّ إلا القادر على كتابته»، ثم «لا يجوز الحديثُ عن كتابٍ إلَّا لِمَن يستطيع كتابتَه». أفلا يُوجد فارقٌ، إذاً، بين “مَن يجوز له الحديث عن كتاب” و”مَن له جدارة القيام بتأويل كتاب”، بصرف النظر عن أنهما كليهما غير مرخّص لهما بالتصدّي للكتاب -محل الحديث أو التأويل- إلا إذا أثبتَا قدرةً على إنشائه من العدم، شأنهما في ذلك شأن مؤلِّف الكتاب؟ وهل من المستقَر عليه أن يُحسَب الحديث، عن كتابٍ، في مستوى أقل من مستوى تأويله؟ الإجابة التي قصدها كيليطو غير مفضوضة، غير أن المتحدِّثَ عن كتابٍ، المستحِق لحيازة هذه الصفة، لا يرضى -قطعيّاً- بأي حديثٍ، لنفسه ولسامعيه، إلا بعد أن يكون قد تمَّم تأويلاتِه وتنقيباتِه وتقليباتِه في الكتاب المعنيِّ وأعاد إنشاءَه، والمذهل هو أنه لا يحتاجُ إلى النظر في الكتاب من الأصل؛ فالمقولة مُثبَتة: «يكفي تصوُّر كتابٍ لكي يُوجَد»، بحسب ما جاء في أنبئوني بالرؤيا.
المتكتِّمون الغاضبون، من أمثال هارون الرشيد ونبوخذنصّر وشهريار، الذين أصرّوا على عدم إباحة النَّص، أبانوا عن أنّهم موكولون للذوْد عن المكاتيب بكل صنوفها، وصيانتها من عبث الحائمين ممن لم تُختبَر أمانتُهم في حذْق المكتوب ولم تُوُثَق بعدُ بجدارتهم في إدراكه، وكان دانيال هو أصلُ القارئ المشتهَى لكل كاتب، والمستعمِلُ الأمثل للكتاب، والدليلُ على أن القارئ ذا الجدارة ليس غير موجود، وعلى الرغم من نُدرة هذا القارئ فقد أُرسِيَ مبدأٌ مَحسومٌ للتعامل معه به، لا تَلطُّف فيه ولا تملُّق، بل صرامة تُحاذي العدائية. وبعدُ؛ فإن الذي يحتويه كلُّ كتابٍ هو، بعد كل تريُّثٍ، ضحكٌ وبكاء، على شاكلة المكتوب العتيق الذي تَداوى به هارون الرشيد ليلةَ أرقِه، وأمّا القارئ، سليل دانيال، فعساه يفتح بابَ الضفّة الأخرى، ويتقبّل بوداعةٍ أن يُسأل سؤالُها: اقرأ لي ما لم يُكتب؛ فما أنتَ بقارئٍ يا ذا الطموح الملائكي!