_______________________
_القصيدة:
عَلَى حُرَقٍ
أَهُدُّ رَصِيْفَ إِحْسَاسِيْ
وَأَحْرُثُ نَارَ أَنْفَاسِيْ
وَأَخْرُجُ مِنْ دَهَالِيْزِيْ
إِلَى المَسْدُوْدِ فِيْ الآتِيْ
أُنَاوِرُ طَارِقَ الأَبْوَابِ بِالمِزْلَاجِ
يَدْفَعُنِيْ إِلَى عُمْقِيْ
يَمُدُّ لِسَانَهُ المَفْتُوْقَ
نَحْوَ قَصِيْدَةٍ عَذْرَاءَ
يَلْعَقُ مُرَّ أَوْجَاعِيْ المُقِيْمَةِ
فِيْ وَرِيْدِيْ
يُفَكِّرُ خَارِجَ الصَّنْدُوْقِ
يَحْبِكُ خُدْعَةً
يَطْغَى
يَكِيدُ
يُجَاوِزُ المَعْقُوْلَ
لَا يَخْشَى وَلَا يَأْسَى
بِخَيْطِ الشَّمْسِ لَا يُكْسَى
يُرَتِّلُ مِلَّةَ الشَّيْطَانِ
فِيْ سُوْقِ الفَسَادِ
وَإِنْ يَزِدْ يَنْقُصْ
عَلَى قَدْرِيْ المَجِيْدِ
أُلَمْلِمُ مَا تَشَظَّى بَيْنَ خَيْبَاتِيْ
وَأَرْحَلُ فِي احْتِمَالَاتِيْ
أَصَدُّ عَنِ المُصِيْبَةِ فِي العَقِيْدَةِ
لَسْتُ أَدْرِيْ
كَمْ سَأَحْمِلُ مِنْ خَسَارَاتِيْ؟!
أَتَحْمِلُنِيْ ابْتِهَالَاتِيْ؟!
مَتَى سَأَعُوْدُ مِنْ ذَاتِيْ؟
إِلَى أَيِّ المَدَى تَجْرِيْ انْطِفَاءَاتِيْ؟!
وَلَكِنِّيْ الأَعَزُّ عَلَى الحَقِيْقَةِ
حِيْنَ كَانَتْ مِنْ عَبَاءَاتِيْ
فَكَيْفَ إِذًا سَيَكْسِرُنِيٍ
خَذُوْلٌ مِنْ بَعِيْدِ؟!
_______________________
-التأملات:
وقفةٌ مع عنوان القصيدة:
الملّة كما في القاموس:
الشريعةُ أو الدِّينُ، كمِلَّةِ الإِسلام والنصرانية، وهي اسمٌ لما شَرَعَ اللهُ لعباده بوساطة أَنبيائه ليتوصلوا به إِلى السعادة في الدنيا والاَخرة.
فإذا كانت ملة الدين الحنيف بهذه النزاهة؛فإنّ (ملّة الشيطان)تؤول بمن ينضوي تحت لوائها إلى الخُسران المُبين..
لابدّ إذن-والحالة هذه- أن ينشأ صراع دام ؛تتسع فيه الهوَّة ؛بين الإنسان (ذو الفطرة الصالحة النقيَّة)؛والشيطان (ذو الطرائق الاحتيالية الماكرة).
وهذا ما ستعرض له القصيدة في معانيها المتتابعة ؛وأفكارها المحتدمة المنصبَّة على أنَّ الشاعر الإنسان ؛عندما يتسلح بالمعرفة الواعية؛ والبصيرة النافذة ؛ستكون له الغلبة على نزوات الشيطان وألاعيبه؛وحبائله ..
ولست أعدو الحقيقة إذا قلت إننا هنا أمام قصيدةٍ عذراء المعاني والمباني؛قصيدة تتجلّى فيها أوجاعُ شاعرها وهي مقيمةٌ في وريده النابض بالحياة؛ووجدانه المزدحم بالأسئلة الشائكة...
قصيدةٌ ائتلق فيها صوت الشاعر ؛وهو يخوض معركة الوجود ؛غير هيَّاب ولاوجلٍ من المخاطر المحتملة ؛فرأيناه يعدُّ العُدَّة لافتضاض(المسدود في الآتي)؛ وذلك بواسطة إمعانه الفكري في الزمن القادم المتسربل بأردية الغيب.
ولمسنا -عبر تراكيب لغته- (مناورة الآخر الشبيهة بالمكابدة الجسيمة-إذ تتمثل في (طارق الأبواب )؛وهو(يمدّ لسانه المفتوق)؛فلا يخرج الشاعر من وراء ذلك بطائلٍ يذكر في المواجهة الأولى.
وعلى الرغم من تفكير ذلك الطارق (خارج الصندوق)؛ وهو تفكير يشي أو يوحي بمعنى أدق بالاستنارة والوعي والحصافة ؛إلاّ أنه يتمخض عن كائن طاغٍ مريد مستبدّ ؛آل به جبروته؛فارتكس به في (تراتيل شيطانية)؛ينشدها في(سوق الفساد).
_______________________
-الإطار العام للنص؛وبعض أدواته:
-بُني النص-فيما أرى- على ثلاثة مقاطع وجدانية الطابع ؛تآزرتْ جميعها في تشكيل التجربة الشعرية؛ورسم ملامحها..
-يستخدم الشاعر لغة التلميح المكثّف-وهو يرصد شظايا الخيباتِ المتتالية ؛ورحيله في الاحتمالات المستقبلية المُبهمة ذات الصلة بمطامحه ؛وبطولاته .
هذه المحاور وما إليها ؛تقف إزاءها سلسلة من الأسئلة الوجودية المضطرمة في أعماق الشاعر؛تتصدرها رغبةٌ عارمة؛ تتساءل عن زمن العودة من الذات ؛"متى سأعود من ذاتي"؟!
-يستشفُّ من هذا النصّ العميق؛مضامين أخرى؛لعلَّ أبرزها:
-أنَّ الخساراتِ من أجل العقيدة شرفٌ الإنسان المؤمن ؛ولله الشاعر القائل:
إِذا أَبقَتِ الدُنيا عَلى المَرءِ دينَهُ
فَمافاتَهُ مِنها فَلَيسَ بِضائِرِ!
-وأنَّ الشيطانَ المريد بما عُرف عنه من مكر وخداع وضلال مبين ؛شأنه شأن الساحر (ولايفلح السَّاحر حيث أتى).
وهناك المزيد من الرؤى والأفكار مما لايتسع المجال لتناولها في هذه العجالة..
___________
-بعض ظواهر النص الفنية:
-جانب اليقظة عند الشاعر واضحٌ وضوحَ الشمس؛في تراكيب النص إجمالاً؛وأعني باليقظة :المزج بين النظرة العقلانية والعاطفية؛بمقادير متساوية..
-يحشد الشاعر عدة كلمات مضافة إلى (ياء المتكلم)؛من مثل:
إِحْسَاسِيْ/أَنْفَاسِيْ
دَهَالِيْزِيْ/عُمْقِيْ/أَوْجَاعِيْ/وَرِيْدِيْ/ قَدْرِيْ/خَيْبَاتِيْ/احْتِمَالَاتِيْ/خَسَارَاتِيْ/ابْتِهَالَاتِيْ/ذَاتِيْ/انْطِفَاءَاتِيْ/عَبَاءَاتِيْ
وذلك يؤكد سيطرة القلق على الشاعر من ناحية؛وطموح الشاعر المتقد في أعماقه من ناحية أُخرى؛إلى دحض الأباطيل والسخافات وقمعها ؛وهو في ذلك كله يستمد طاقات المواجهة من الذات الواعية؛عاقداً العزم على تجاوز الخيبات ما أمكن ذلك.
-اتكاء الشاعر على الفعل المضارع على نسقين اثنين:المتكلم؛وضمير الغائب؛كما في هذه الكلمات:
أَهُدُّ /أَحْرُثُ/أَخْرُجُ/أُنَاوِرُ/يَدْفَعُنِيْ/يَمُدُّ/
يَلْعَقُ /يُفَكِّرُ/يَحْبِكُ/يَطْغَى/يَكِيدُ/يُجَاوِزُ..الخ؛وذلك أكسب التجربة حضورها الزمني ؛وواقعيتها؛وحدَّتها.
-تتراوح تعبيرات النص في استخدام الأسلوبين :الخبري والإنشائي ؛بما يشي بحالة الشاعر النفسية ؛وتطلعاته البعيدة..
وهناك المزيد من الرؤى والأفكار مما لايتسع المجال لتناولها في هذه القراءة العجلى..وفي الختام:
أحيي شاعرنا القدير على هذه السبيكة؛ وأحيي إنجازاته الإبداعية عموماً ذات المذاق الخاص..
_______________________