شعر/إبراهيم مسير المباركي
________________________
-تقديم :
محمد الأمير
وكما تتدفق المياه الرقراقة؛وكما تتفتح الورود في خمائلها ،وبساتينها المونقة ؛يطلُّ علينا الشاعر القدير:إبراهيم مسير المباركي؛بمعزوفةٍ أطلق عليها (جدائل الصمت)؛وهو عنوان حيويٌّ برَّاق ؛استثمر فيه الشاعر فنّ الاستعارة استثماراً بارعاً؛وأفسح لخيالاتنا مجال الطلاقة الرحبة؛ في أن تتلمّس نوعية الصلة المعقودة بين (الجدائل والصمت).
هذه الجدائل المستقرّة في أصداف الصمت المطبق ؛المستغرقة في بحار الحيرة البركانية- إن صحَّ التعبير-سرعان ما تتفجر ينابيعها؛وتتشكل لبناتها في أُطر زاهية قائمة على تراكيب لغوية متينة؛ورؤى فنيّة مشعَّة؛تنطوي على غربة روحيةٍ قاتلة؛فرضتْ على الشاعر ضرورة الكشف عنها؛والمواجهة الباسلة؛وفقاً لمقتضيات الموقف الحاسم الذي هو بصدده؛وطبيعته الصاخبة.
إنّنا هنا-كما أسلفت- أمام غربةٍ روحية مؤججةٍ؛ تلفح نيرانها المستعرة كيان الشاعر؛وتستلب منه صفاء النفس وهدوءها المنشود وطمأنينتها المأمولة .
لاريب إذن أن تتمخض تلك النيران المندلعة عن سلسلة مؤاخذاتٍ لاتكتفي بمجرد الوقوف السلبي على الحِياد؛أو أن يضرب الشاعر عن وخز أشواكها الحادَّة صفحاً؛وإنَّما أملتْ عليه ذهنيته المتقدة؛ووعيه المتزن أن يعمد إلى تصحيح المسار ؛وتسوية وعثاء الطريق؛ما أمكن ذلك؟!
أبعد هذه الإخفاقات المشهودة ؛والانهيارات المتتالية؛يحسن بالشاعر السكوت؟!
إنَّ ما يشهده صُنَّاع الجمال؛وذوو النباهة في مآلات المشهد الشعري العام؛بل وفي ميادين التواصل الإنساني ؛من هبوطٍ واضح ملموس ؛في مستوياتٍ عدَّة لعلَّ أبرزها:اختلاط الأوراق ؛وغياب الأصوات الجادَّة؛واتساع مساحات الأوهام والآثام ؛وما إلى ذلك من خواءوإسفاف ملحوظين ؛لمما يستدعي التصدّي والمواجهة وإعادة المياه إلى مجاريها كمايقال..
وما الشأن إذن في لغة هزيلة؛وهياكل خاوية؛وأساليب فجَّة ملتوية؛تمطرنا ليل نهار بصنوفٍ لاآخر إليها من (الوهم والآلام والجدَل السفسطائي العقيم)؟!
-وماظنكم في من يخالف الفطرة الإلهية ؛ويشق "عصا الطاعة"؛أو"يقلب ظهر المجنّ" على النواميس الكونية؛والأعراف الذوقية ؟!
غيداء حسناء تستحيل -بين عشية وضحاها- رجلاً؛بل مسخاً شائهاً !!
مما حدا بالشاعر إلى أن يقول في نبرةٍ عالية:
(هذا الغثاءُ الَّذي يسْتَنْسِخُ البطلا)
إنَّ ملامح ذلك الغثاء لتتبدَّى في التكريس المحموم لتسمية الأشياء بغير أسمائها؛وإعلاء منازل الأقزام دون أدنى اكتراث!
ومع مايبدو من قتامةٍ سائدة؛ومشاهد مضطربة في إيماءات الشاعر؛ ومضامين قصيدته ؛إلا أنَّه لم يسقط في وهاد اليأس؛ودركات السأم ؛بل ظلَّ على العهد به؛متشبثاً بروح التفاؤل ؛قرين الحلم ؛ مشحوذ البصر والبصيرة ؛كما في هذا البوح الآسر:
آماليَ الخضرُ ما زالتْ هنا حلُماً
يُرتّبُ البيدَ والأمواجَ والسُّبُلا!
وختاماً أبادر إلى القول إنني لست
في مقام النقد أو التقويم القائم على استشفاف خلجات الشاعر؛ومحاولة تجليةِ أبعاد تجربته الفنية للعيان؛وإنما لذلك مجالٌ آخر؛وغاية ما كنت أسعى إليه هنا هو تقديم قصيدة شاعرٍ نابه ؛دقيق الشعور؛مرهف الإحساس؛غيور على لغة الضَّاد والقيم النبيلة؛يقظ الفكر؛وحسبه أنَّه استوعب رسالة الفنّ الأصيل؛وأدرك مهمة الشاعر الحقيقية؛وتقبلوا تحياتي🌷
_______________________
-القصيدة:
أستغفرُ اللهَ ، آفاقي هنا لغةٌ
تستمطرُ الوهمَ والآلامَ والجدَلا
ينأى بها الليلُ آثاماً وأضرحةً
والعاكفونَ كوجهِ التيهِ مُرْتَحَلا !
جدائلُ الصمتِ في أعناقهم عشقتْ
هُوجَ الرياحِ.. فصارتْ غِيدُهم رجلا
تجذَّرَ الخوفُ في أفواههم فَنَمَا
هذا الغثاءُ الَّذي يسْتَنْسِخُ البطلا
شمائلُ الرَّملِ لا..لا.. لم تعُدْ وطناً
يُحدِّثُ النّجمَ والأمجادَ والطّلَلا
ياغربةَ الرُّوحِ ... والظلماءُ موغلةٌ
تساقط النورُ من عينيكَ بلْ أفَلا !
أيرتديكَ الدُّجى والفجرُ مابَرِحتْ
أضواؤُهُ تبعثُ الآياتِ والأملا ؟
مضى بكَ الحبُّ ياقلبي أتحملهم ؟
يارحلةَ الصبرِ في أطيافِ مَن رحلا
آماليَ الخضرُ ما زالتْ هنا حلُماً
يُرتّبُ البيدَ والأمواجَ والسُّبُلا
آمنْتُ أنَّ بقائي لونُ قافيتي
والعاثرون همُ بَوحي الَّذي قُتِلا!