✍️ استشرافُ آفاق قصيدة« لَحْظَةْ هَزِيمَةْ» للشاعرة:هند النزارية؛
يهبط الليل باسطاً سلطانه العظيم ؛على الكائنات؛ والساحات؛ والميادين الحيَّة في المدن والقرى؛والأبنية الآهلة والمهجورة :والأحياء الصامتة والصاخبة على حدٍّ سواء.!
لاتمييز في دستور الليل ،ولامحاباة عنده في قوانينه الصارمة؛ودقة مواعيده المتناهية.
هو كائنٌ حريريُّ الثياب من أواسط الشهر إلى منتصفه؛فيما بعد يرتدي ثوبه الحالك الداكن ؛متباهياً به أمام الخلائق أجمعين؛ إلى أنْ يبلغ بها ذروة ليالي المحاق.
ويظلّ كذلك هو والنهار في تعاقب مستمرّ .
أتيحت له من مظاهر العزَّة والسلطنة؛مالم تتح لقسيمه النهار.
تشق ظلمات سكونه؛أنَّاتُ الحيارى والمساكين؛ ومآسي الغرباء والمشرّدين ؛فيستوعبها ويعدُّ لها متاحف في حجراته ؛إلى أجلٍ غير مُسمَّى.!
كما أنَّه -وهو الغاسق الدامس -لا يعتدي ولا يتعدَّى عدد ساعاته المتوازية مع ساعات شقيقه النهار الواضح؛
ويظلُّ خلال ذلك يترقَّى في الدرجات الممنوحة له من لدن حكيم عليم.
وعلى الرغم من جبروته وعتاده الذي يفوق به جيش النهار كثيراً؛وباستطاعته إحراز النصر عليه؛لو همَّ باقتلاعه
أو الخسف به ؛فإنَّه بماعنده راضٍ؛لا يتجاوز حدود مسؤوليته المنوطة به.
لاالعِداء السافر؛ولا المطامع الرخيصة؛ ولا المزايدات والمهاترات؛والخيانات ؛مما يدور بين بني الإنسان؛تستطيع أن تطوّق عنقه؛أو تبتلّ بها سحنته.!
إنَّه آية كونية ؛سوادُها سرُّ جمالها ؛وضياؤها رمز جلالها؛ وهدأتها حلاوة الافتتان بها ؛فمابوسع هذه الآية الكونية؛اإلا تلبية نداء خالقها العظيم ؛والسير على مشيئته الحكيمة؛ونهجه الذي ارتضاه لها خاضعة لتعاليمه؛ومستسلمة لإرادته النافذة وحكمته البالغة؛تعالى الله؛و(إنَّ الله أولىَ بالجميل).
وأمَّا ندماؤه ومحبوه من الشعراء والشاعرات والفنانون والنَّاس عامَّة؛ فهم يستقبلون قدومه؛مبتهجين بحضوره؛ دَهِشين لهيمنته الواسعة؛ومستثمرين طقوسه ؛على تفاوتٍ في اهتماماتهم ؛ورغباتهم ؛وغاياتهم .
ومن إحدى نوافذ تلك الكوكبة الإنسانية؛تطلُّ على القرَّاء الشاعرة :هند النزارية ؛بقصيدتها الوجدانية؛التي بين أيدينا؛على نحو خاص ؛يتعلَّق بتجربة شعرية لها ؛ألمَّت بساحتها ؛والتمعتْ في سماء أفقها الشعري؛ في لحظةٍ من سحائب الليل البهيم؛لحظةٍ سمَّتها الشاعرة بوضوح وشفافية عالية :(لحظة هزيمة).!!
هذه (اللحظة) المنعوتة (بالهزيمة)؛مبعثُ شرارتها الأولى (أشواقٌ)وفدتْ إليها على متن سفينة ليلية الملامح والقسمات ؛وفي تضاعيف تلك التجربة ألوانٌ من الشجون العاصفة؛ والتساؤلات المترامية؛والانفعالات الملتظيَّة؛ أفصحتْ عنها تراكيب لغوية دراميَّة؛على ماسنرى في السطور التالية.
________________________
تستهلُّ الشاعرة لحظتها الراهنة معتمدة على أسلوب النداء (ياء)؛ بعد هبوط الأشواق عليها بغتةً ؛في هدأة الليل البهيم؛وينطوي هذا النداء على شيء من عدم الرِّضا الكامن في السؤال بمن الاستفهامية التابعة لها.
وكأنَّ الأداة (من) فتحت الباب على مصراعيه؛لتنضمّ إلى منظومتها (كيف)؛فالتساؤلات إذن؛ والأشواق الهابطة على قلب الشاعرة؛عادت إليها الحياة بغتةً؛مندسةً في ستار الليل الحالك.
عادت إليها على ظهر سفينةٍ صنعتْ عتادها من أشرعة وغيرها من نسيج الظلام المحلولك.
وظلَّت تجوب البحار والمحيطات؛ حتى إذا لاح لقبطانها ومن على ظهرها ميناء ذكريات الشاعرة؛ المسوَّر بغدائر الصمت النَّاطق؛ المغلق المحجوب فيما مضى عن الفضوليين ومن إليهم؛ قرروا الرسوّ في ساحته؛والإصغاء إلى حججها وأدلّتها وما عسى أن تقول!!
هنالك أطلقت الشاعرة أسئلتها الحائرة المغلّفة بالشجن وأمطرتهم بها؛إذ طفقت تقول:
ميناء ذكرياتي موصد فكيف احتلتِ أيتها السفينة؛ وكسرت أقفاله؟!
ولماذا قررت أن توقظي- ضمن الحركة الاهتزازية- في خاطري شتَّى الخيالات والرُّؤى التي نحّيتها عن طريقي؛وأسدلت عليها ستائر النسيان؟!
(بابي وشباكي)المحكمان؛ كيف استطعت التسلل إلى سرِّهما المغيَّبين إلاعنِّي؟!
كيف أخطأتِ التوقيتِ؛مستغلَّة (قوى الزيف )؛الذي أسلمته ذات يوم مقاليدي؛تلك التي خارت أمام دهشة عينيّ ؟!
أما كنتِ تبصرين أيتها السفينة؛هيكل النهار المسجون المنهك في أعماقي؟!
و(بَيْنَ حَرَارَةِ الْأَشْوَاقِ فِي رُوحِي
وَبَيْنَ بُرُودَةِ اللَّحَظَاتِ فِي زِنْزَانَةِ الصَّبْرِ) آثرت أيّها السفينة الرسوّ وطاب لك المستقر؛في شطآن وحدتي وزواياها!!
لتعلمي-علم اليقين- ياهذه الأشواق المتمرّدة؛المستترة بثياب الليل؛أنه
(قد طَالَ الهجوع)؛وتطايرت الآمال، ولست على استعدادٍ ؛لمواجهة إخفاقات(الْغَدِ الْآتِي)!
ولتعلمي أنني كنتُ قد (وَقَفْتُ بَيْنَ فَوَاصِلِ الْأَمْسِ الْمُقِيمِ
وَنُقْطَةٍ فِي الْحَاضِرِ الْمَغْدُورِ
قَدْ أَنْهَتْ حِوَارَاتِي)!
أمسٌ دابرٌ لاتبارحني أخيلةُ مراحله؛ولا أطيافها الشاحبة؛وحاضرٌ شاهدٌ امتدت إليه يد الغدر؛وكلا اثنيهما أحاطا بي؛يطلبانِ إليَّ ألَّا أُلقي للحوارات بالاً ؛وألَّا أفتح للمراوغات بابا!!
دعيني أيتها الأشواق في دهاليز وحدتي ؛أتجرّع كؤوس أسقامي وآلامي؛ وأشهد موت أيامي في (زنزانة صبري الطويل:( لِتَمُوتَ أَيَّامِي تِبَاعًا كُلَّمَا؛شَطَّتْ مَرَامِي الْوَقْتِ فِيَّ
وَكُلَّمَا جَفَلَتْ مِنَ الدَّقَاتِ سَاعَاتِي)!
ولتعلمي أيتها الأشواق المنهمرة أن وقْع ألمك المبرّح عليَّ الآن ليس بالأمر اليسير ( قَاسٍ) على مهجتى ؛ومستعرّ في مخيلتي؛ونوافذ روحي.!
لقد خابَ ظنِّي في رحلةِ أيامي السالفة؛ حين ساورني الظنُّ يومها؛ فمضيتُ في دنيا الحياة ؛والزهو يشيع في أقطار نفسي، وكنت واثقةً :(أَحْسَبُ أَنَّنِي أَشْبَعْتُ ذَاكَ الْحُبَّ نِسْيَانَا)!!
بيدَ أنني سرعان ماوجدتني في ذلك الدرب العسير :(مُدَرَّعَةً بِأَرْتَالٍ مِنَ الْخِذْلَانِ أَنْسَتْنِي بِدُونِ تَعَمُّدٍ
كُلَّ الَّذِي كَانَا)!
وماذ بعد أيتها الأشواق؛ وقد تبينت لك أسرار الخذلان واضحة للعيان؟!
ماذا تنتظرين من قرارات أُدلي بها في هذا الليل العاصف ؟!
هاكها قراراتي باختصار :
(فِي هَذِهِ اللَّحَظَاتِ بِالتَّحْدِيدِ
عُدْتُ لِنُقْطَةِ الْبَدْءِ الْبَعِيدَةِ)؛
أتريدين-أيتها الأشواق- تعليلاً :
لعودتي الحاسمة هذه؟!
- جوابي:
لأنَّ الأدلَّة والبراهين والوقائع؛(وُبِرُغْمَ أَنْفِ تَنَكُّرِي)تشهد لي وحدي بالإنسانية المحضة؛في حين أنَّها تشهد على الآخر بالظلم والجنف والتجرّد من أساورها وذهبيّاتها؛
واللهُ لي من قبل ومن بعد.
________________________
نصّ الشاعرة:
يَا هَذِهِ الْأَشْوَاقَ مَنْ فِي قَلْبِ هَذَا اللَّيْلِ أَحْيَاكِ؟!
كَيْفَ اتَّخَذتِ مِنَ الظَّلَامِ سَفينَةً
وَرَسَوْتِ فِي مِينَاءِ ذَكْرَى كُنْتُ قَدْ أَغْلَقْتُهُ وَهَزَزْتِ أَغْصَانَ الْخَيَالِ الصَّامِتِ الْحَاكِي؟!
كَيْفَ انْسَلَلْتِ إِلَى خُيُوطِ النَّبْضِ
فِي بَابِي وَشُبَّاكِي؟!
أَوَ بَعْدَ أَنْ خَارَتْ قُوَى الزِّيفِ الَّذِي وَلَّيْتُهُ أَمْرِي؟!
وَمَضَى النَّهَارُ الْمُنْهَكُ الْمَسْجُونُ فِي صَدْرِي!
تَتَقَدَّمِينَ إِلَى شَوَاطِئِ وِحْدَتِي
تَرْسِينَ بَيْنَ حَرَارَةِ الْأَشْوَاقِ فِي رُوحِي
وَبَيْنَ بُرُودَةِ اللَّحَظَاتِ فِي زِنْزَانَةِ الصَّبْرِ!
يا هذه الأشواق قد طَالَ الهجوع
وَلَمْ يَعُدْ عِنْدِي وَقُودٌ لِلْغَدِ الْآتِي!
فَوَقَفْتُ بَيْنَ فَوَاصِلِ الْأَمْسِ الْمُقِيمِ
وَنُقْطَةٍ فِي الْحَاضِرِ الْمَغْدُورِ
قَدْ أَنْهَتْ حِوَارَاتِي!
لِتَمُوتَ أَيَّامِي تِبَاعًا كُلَّمَا
شَطَّتْ مَرَامِي الْوَقْتِ فِيَّ
وَكُلَّمَا جَفَلَتْ مِنَ الدَّقَاتِ سَاعَاتِي!
يَا هَذِهِ الْأَشْوَاقَ قَاسٍ وَقْعُكِ الْآنَا
أَنَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّنِي أَشْبَعْتُ ذَاكَ الْحُبَّ نِسْيَانَا!
وَمَضَيْتُ فِي دَرْبِي مُدَرَّعَةً بِأَرْتَالٍ مِنَ الْخِذْلَانِ أَنْسَتْنِي بِدُونِ تَعَمُّدٍ
كُلَّ الَّذِي كَانَا!
لَكِنَّنِي
فِي هَذِهِ اللَّحَظَاتِ بِالتَّحْدِيدِ
عُدْتُ لِنُقْطَةِ الْبَدْءِ الْبَعِيدَةِ
إِذْ تَأَكَّدَ أَنِّنِي
وُبِرُغْمَ أَنْفِ تَنَكُّرِي
قَدْ كُنْتُ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ إِنْسَانا!
ونستطيع القول في نهاية إنَّ هذه القصيدة المتماوجة؛وأزمنتها اللغوية المكثفة في لحظة هزَّت كيان الشاعرة؛إلى جانب ما حملته من مواقف مشوبة ببعض ألوان الأسى ؛والصراعات الدرامية المتتابعة ؛وتأرجح أمانيها بين مثالية تاقت إليها ؛وواقع عاتٍ اصطدمتْ به ؛أسفرتْ عن رؤية بطولية تبلورت في التسلّح بمبادئها الإنسانية؛الصامدة في مواجهة المعارك الطاحنة؛والأحداث الصاخبة؛حاضراً ومستقبلاً؛ إلى جانب تناغمها مع أمير الشعراء في قوله:
إِنَّ الحَياةَ نَهارٌ أَو سَحابَتُهُ
فَعِش نَهارَكَ مِن دُنياكَ إِنسانا
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله.