تأملاتٌ في قصيدة( قسمة ضيزى ) للشاعر جبران قحل.
بقلم :محمد سلطان الأمير
__________________________
*النصُّ( قسمة ضيزى )
تأتي ولا تأتي ...
تجيءُ ... ولا تجيءُ
وأفيءُ ... من لهفي
عليكَ ... ولا أفيءُ ...!!
في غفلة الصدفِ ...
ادخرتُكَ موسما ...
يقتدُّهُ من مقلتي...
قلقي النَّسيءُ ...!!
ونبوءةً ... لا وحيَ
يوحيها ... ولا
طُورا يُؤانسُ...
نارَهُ الوجلى ...
نبيءُ ...!!
أفشيتُ ما يتحاذَر ...
التاريخُ ...
كم ...في غيِّهِ ...
مُتَضَمِّرٌ ...
نَمِرٌ خبيءُ ...!!
أُلغي موازين ...
اللغاتِ ...
بقسمةٍ ضيزى ...
وبي ...ثقةُ الحروفِ ...
مضَتْ تبوءُ ...!!
متربِّصٌ بي الغيبُ ...
هاكَ يديَّ ... لا ...
بيضاءَ تخرجُ ... لا ...
ولا في الجيبِ ...
سوءُ ...!!
منذ اعتصرتُ ...
الشهقةَ الأولى ...
نَمَتْ غُصَصِي ...
أساطيرا ...
وماطَلَني المريءُ ...!!
وشطَرْتُ حُلْمِيَ ...
شمعتين ...
وكلما ...
أوقدتُها من ...
جمر روحيَ ...
لا تُضِيءُ ...!!
تنأى ولا تنأى ...
وتدنو ...
قاب أمنيتي ...
أشفَّ من الشذى ...
لكنْ تنوءُ ...!!
تَتَعَنَّتُ الرؤيا ...
يبعثرنا الصدى ...
ويخوننا المضمارُ ...
والفرسُ الجريءُ ...!!
تُهْنا ...
تَرَحَّلت ... الورودُ ...
تنشَّزَتْ فيها أغانينا ...
وجرَّحها اللجوءُ ...!!
تُهْنا ...
نؤذِّنُ في ... المدى ...
حيَّ على ...
الحبِّ النَّقيِّ ...
فما الصلاةُ ...؟!
وما الوضوءُ ...؟!
نأتي ... ولا نأتي ...
نجيءُ ... ولا نجيءُ ...
ونفيءُ ... من لَهَفِ ...
الغرامِ ...
ولا نفيءُ ...!!
_________________________
*التأملات
أي معزوفة جبرانية الوجه واليد واللسان؛ هذي التي وقف الفكر في ساحتها ذاهلاً يفتش عن نفسه بين الحدس؛والترقب ؛والدهشة ؛والاستيحاء؟!
وأي تركيبة سحرية أتيحت لشاعرها المارد ؟!
سلسلةٌ من المفارقات أشبه ماتكون بالموجات البحرية في حركة ثائرة متتالية ؛تبدو للناظر هادرة ؛ساخطة متبرمة ؛مشحونة بالتوتر ؛ثم تبدو مزوّدة؛ ذات حجج دامغة ؛وامضة برؤى حبيسة ؛طال عليها الأمد ؛حتى أتاها اليقين الوجودي ؛دافعاً بها إلى أتون المواجهة..
إن هذه التوليفة السيمفونية لم تكن تخطر على بال أحد ؛وتتآلف عناصرها في إطار تجربة موحدة الأجزاء؛محكمة البناء؛ تستحث الأسئلة من جذورها ؛لم تكن ستلقي مقاليدها -على هذه المثابة- إلالشاعر عميق الغور ؛ثري الذاكرة بالمواقف الساخنة؛والأخيلة ؛شاعر غواص أشرقت بين جنبيه الصور الفنية ؛ وقالت له الأخيلة البراقة هيت لك ..
فإلى أجوائها في هذه المقاربة :
من نافلة القول أن العمل الأدبي عبارة عن بناء مركَّب من عناصر متعددة ؛ينشأ بينها تفاعلٌ داخلي مبنيٌ على غير قواعد المنطق )؛على اعتبار أن المنطقية الصارمة من طبيعة العلم وحده ؛والخروج عليها محمود جداً في الأدب ؛وأجناسه المختلفة؛بل إنَّ أكثر النقاد ذهبوا إلى أنَّ المفارقة؛ والتناقض ؛والتوتر من علامات الشعر البارع ؛وقصيدة شاعرنا أتيحت لها هذه الخصائص من مطلعها ؛حتى منتهاها.
- العنوان وظلالاته:
______________
اقتطع الشاعر عبارة(قسمة ضيزى)
عنواناً لنصه من كتاب الله ؛وقد جاءت تلك الآية في سياق الآية السابقة ( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى * تلك إذن قسمة ضيزى )؛ولنستأنس بما قاله المفسرون تجاه هذه الآية ؛فهم يقولون :"إنَّ قسمة هؤلاء الكفرة الفجرة جائرة غير مستوية؛ ناقصةٌ غير تامة؛ لأنهم جعلوا لربهم من الولد ما يكرهون لأنفسهم؛ وآثروا أنفسهم
بما يرضونه لها "..
والعرب تقول: ضِزته حقه بكسر الضاد؛وضُزته بضمها ؛فأنا أضيزه وأضوزه؛وذلك إذا نقَّصته حقه ؛ومنعته
وأنشد الأخفش قول الشاعر:
فـإنْ تَنْـأَ عَنَّـا نَنْتَقصْـكَ وَإنْ تَغِـبْ
فَسَــهْمُكَ مَضْؤُوزٌ وأنْفُـك رَاغِـمُ
ومن العرب من يقول: ضأزى بالفتح والهمز؛ومنهم من يقول:
ضَيْزى بفتح الضاد؛ وترك الهمز فيها; ومنهم من يقول:ضُؤزى بالضمّ والهمز.
وقال الفرّاء: إنما قضيت على أوّلها بالضمّ, لأن النعوت للمؤنث تأتي إما بفتح؛وإما بضمّ; فالمفتوح: سكْرَى وعطشى; والمضموم: أُنثى وحُبلى; فإذا كان اسما ليس بنعت كسر أوّله, كقوله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) كُسر أوّلها, لأنها اسم ليس بنعت, وكذلك لفظة "الشِّعْرَى" كُسر أوّلها, لأنها اسم ليس بنعت.
نخلص من وراء العنوان إلى أن الشاعر بصدد واقع مختلّ ؛متذبذب؛لايستقر له قرار؛ واقع يفتقر إلى الاتزان ووضع الأمور في نِصابها ؛واقع أقصاه-وهو الجدير بالأضواء - في منطقة نائية معتمة؛أشبه ماتكون بصحراء قاحلة؛ وأفرد مساحات النعيم الأخرى؛ وبسطها بسطاً تاماً؛ لآخرين من فئة المتسلقين؛وأضرابهم .
كما أن إطلاق هذا اللفظ القرآني في ضوء العلاقة القائمة بين الوصف والموصوف؛قابلٌ للتجدد ؛ويُلحظ بكثرة في النزاعات ؛ والمعاملات الأسرية ؛والتجارية ؛وغير ذلك .
*جو النص:
من المطلع نلحظ لغة الخطاب؛
في الفعلين ( تأتي؛ولاتأتي) في دائرتي الإثيات والنفي ؛ ولولا وجود قرينة ستأتي لاحقا ؛لالتبسا بالتعبير عن
الغياب؛ كقولنا مثلاً" هي تأتي في موعدها"؛ أو لاتأتي.
استخدامهما إذن يشي بحالة من الحيرة النارية؛ حيرة مشوبة بقلق نفسي يصطرع في قلب الشاعر ؛وكذلك شأن الفعلين:( تجىء ولاتجيء)
؛وسرعان ماتجاوب معهما ؛ فعل "المتكلم" بما يشبه "ردة الفعل " إن صح التعبير في قوله التالي لهما :( أفىء) مثبتاً ؛(ولا أفيء) منفياً ؛
وفي ذلك تناغم مع ماقبله على حد سواء؛ إلاَّ أن اللهفة المصاحبة للفعل أفيء في (من لهفي) أكسبته قيمة وجدانية؛ خلافاً للفعلين المشار بهما إلى موقف المخاطَب.
مايلبث بعد تلك الانطلاقة الخَبَرية؛
أن يسود صوت الشاعر الأحادي تفاصيل النص؛ في شرح أبعاد المعاناة واستقصائها ؛منذأن عبرت به المصادفات" على حين غرة" ؛الصدفة الغفلى (غفلة الصدف) ؛وآية تلك السيادة الذاتية "الوجدانية" شيوع الأفعال :ادخرتُ ؛أفشيتُ؛اعتصرتُ ؛شَطرتُ ؛ والماضي: ماطلني؛ومعها كلمات أسماء لها نفس الرداء الذاتي :قلقي ؛مقلتي ؛غصصي؛روحي ؛ أمنيتي؛يديَّ؛حلمي؛ ؛؛ماطلني؛وحروف:بي..
والمتأمل في هذه الألفاظ في ارتباطها بضمير المتكلم ؛ وشحناتها التصويرية يلحظ أن هناك تضحية جسيمة بذلها الشاعر؛وإزاء ذلك جُملةٌ من الإخفاقات مُني بها أواصطدم بمعاولها؛في الأولى طموحات عارمة اصطخبت في أعماقة ومن أجلها نذر نفسه؛ واستنهض طاقاته الشعورية والفنية للظفر بها؛وفي الأخرى اغتالته أحداث الزمان ؛وسدَّت عليه مسالك الحياة ..
فالانتظارات البراقة ممثلة في الصدف النادرة المأمولة؛والرجاءات المعقودة في المعول عليه بقوله:(ادخرتكَ موسماً )زمناً زاهياً يعيدُ الأشياء إلى جذورها؛والمسميات إلى أصولها؛و"النقاط إلى حروفها"؛ومن ورائه "نبوءة" أرضية في المتناول؛ لاسماوية ؛نبوءة تحتشد في باطنها الآمال؛ والمطالب الداخلية لحيازتها؛وفي مضمار تلك التطلعات؛سبقتُ -وفقاً للشاعر -تاريخ الأزمنة؛ والتوقعات؛ والإشارات المتناثرة في صحف الأولين ؛وكشفتُ أسراره المضمرة عن الحقائق المغيبة؛وماطالها من اعتساف وتحريف؛على أيدي سلالة(نمر خبيء)؛دأبه خلخلة الموازين المتعلقة بكينونة اللغات؛ومصادرة أمجاد فرسانها؛ومن ثمَّ موالاة الانتهازيين وأشباههم ؛ومجاراتهم ؛الأمر الذي أفزع الشاعر؛ وأفقده الثقة في الحروف الوضاءة التي طالما شرب من حمياها؛وانصهر في رسم لوحاتها؛واستمات في ذود العاديات عنها؛والإغارات عن حياضها ؛غير هيَّاب ولاوجل؛ولاذائب في خضم المزايدات؛وأنهارها الآسنة..
إنَّ رهاناته هنا يعبر عنها بقوله (تبوء) بخسارة فادحة تجاه هذه المكاييل وأوزانها الخائنة الخائبة ؛البعيدة تماماً عن المصداقية؛والعدالة ؛والنزاهة؛ في إنزال فرسان الكلمة المونقة منازلهم ؛أو مراتبهم التي طالما حدَّثوا أنفسهم ببلوغها.
ويمضي الشاعر في تجسيد حالته النفسية؛باسطاً يديه ؛عنوان براءته ؛وبرهان نزاهته ؛فيما يشبه المحاكمة العلنية؛وما تقتضيه من عرض للأدلة والحجج الدامغة عن شاعريته الواقعية الملموسة؛ لاالغيبية الغامضة ؛ فهو-والحالة هذه- مازال يصارع البلاء من حوله؛ مهدداً تحت طائلة الأقاويل الوهمية؛والمماحكات الدائرة في فلك الانتقاص؛ أوالاسقاطات التي لاشأن له به؛وفي الإيماء إلى حادثة موسى عليه السلام بقوله :(... لا ...
بيضاءَ تخرجُ ... لا ...
ولا في الجيبِ ...
سوءُ )...!!
مايشي بتبرير ساحته من المغالاة ؛والرجم بالغيب؛ودحض المزاعم ؛التي نُسجت حوله ظلماً ؛وصلفاً ؛وافتئاتاً .
ويمضي بعد هذا الرصد العالي النبرة بالإحالة على زمن المخاضات الأولى بواسطة الأداة (منذ)؛في بسط الحديث عن ملامح تجربته الأولى ؛والاشعاعات المبكرة في إطار المكابدات والانفعالات الملحة في "اعتصار الشهقة الأولى"واقترانها بسطوة تنامي المواجع ؛التي استحالت _وفقاً لرؤيته_ كالأحاديث المبعثرة التي لانظام لها ؛وازدرائه لها على الرغم من تعهُّده الشديد لها؛ آنا بعد آن ؛شأن الطعام غير المستساغ الذي يلفظه المريء ؛يومذاك لم يكن متباهياً؛ أو مستعداً لخوض غمارالشهرة كيفما اتفق ؛والجري وراء بريقها الزائف أعزلاً بلا أسلحة ؛مالم تبلغ قناعاته حد الرضا؛وإلا فلا؛ هنالك قسَّم حلمه الملازم له ؛والمؤرق لعينيه ؛إلى شمعتين اثنتين ؛كلتاهما استمدت شُعلتها من وجيب قلبه ؛وخفقات روحه؛ورغم مداراته لهما ؛واتحاده معها ؛إلا أن الهاجس المحتدم في صدره أملى عليه بأنَّ ضوءهما لمَّا يبلغ بعد درجة الاكتمال المنشودة.
ومن الإغراق في النزيف الذاتي ؛فيما مر من أبيات ثورية؛نشهد تحولاً نوعياً يعيدنا إلى سلالم المنطلقات الأولى ؛اللبنات التي بُني عليها المطلع ؛فإذا بنا أمام مفارقات أخرى ؛تصبُّ في النهر ذاته؛ بين الإيجاب والسلب في تآزر ملحوظ (تنأى ولاتنأى؛ ) ؛وانضمام "تدنو"إليهما؛لدى أمنية قلبية فاقت عبير النسيم اللطيف رقةً ونضارة؛إنها أمنية غضةٌ؛ ماتزال في المهد؛وهو إذ يحاول القبض عليها ؛تفلت من بين يديه ؛هاربةً إلى حيث كان بزوغ شمسها ؛منطقة نأيها المهتزة.
وسط هذا الجو الصاخب المتكهرب؛وكنتيجة حتمية لمآلات التجارب الوضاءة ؛تتجهم -على نحوٍ ما- رؤيا الشاعرالحالية؛ و المستقبليه ؛في التعبير بالفعل المضارع المستمر ؛ونظراؤه معه في الخندق نفسه "من خلال بروز "نا" المتكلمين " ؛إذ تمتطي صهوة التعنت والمكابرة عن الاستجابة؛ويترتب على ذلك إحساسٌ مريرٌ بفقدان روح السباق ؛وطعم المنافسات ؛وتقهقر الخيول الجامحة؛وهي تتقاعس عن السير في خضمِّ هذا الوحل اللانهائي؛الذي لايليق بها؛ولابعزائم فرسانها ؛الرافضة فكرة الممارسات الباهتة القائمة على غير أساس.
ومن هذا الهمِّ العالق بالروح ؛والجرح الغائر ؛يومىء الشاعر مُتَّحداً مع الجماعة ؛إلى مرض "التيه "الذي أنشب مخالبَه في المسيرة الإبداعية ؛والمحيط الإنساني الحضاري بوجه عام ؛ مشيراً-في ظل نفاد الصبر- بالفعل المتداول"تُهنا" ؛مع أنَّ الأصوات الشعرية الطامحة ؛إنما كانت تسعى إلى إعلاء راية الحب؛ ومثله العليا ؛فيما هو فوق الشكليات؛وأبعد مرمى عن التركيز على المظاهر السطحية الموغلة في ضيق النظرة المنصرفة إلى التركيز على أبجديات العبادة الفارغة من محتواها الروحاني الصادق ؛بانكفائها فقط على الشكل الخارجي "القشور دون اللباب "؛وهو بهذه النظرة يتساوق مع المقولة المأثورة "من لم تُشغلْه العظائم شغلته الصغائر"..
وحين استيقن الشاعر من تنامي الأضاليل وتعدد مظاهر العقول الجوفاء؛ومشروعاتها "الضيقة العطن" ؛لم يجد بدَّا من العودة الكلية إلى الاستهلالات التي قرعت أجراس الخطر في افتتاحية النص ؛في إدانة واضحة لهذا التشرذم الذي عمَّ بلاؤه؛واستفحل خطره ؛وبات الخروج من دركاته السحيقة أشبه مايكون بلغزٍ صعب؛ بالغ التعقيد..
________________
- مسك الختام:
وبعد :إن هذا التشكيل اللغوي الذي حاولت السباحة في بحيرته الصافية العميقة جداً ؛لأحسبه من النصوص "ذات العيار الثقيل "؛ولايخفى على متأملٍ عناية الشاعر ؛وقدرته على استنباط المعاني المبتكرة؛ وتأنقه في اختيار الألفاظ الموحية ؛ مستخدما لغة التكثيف والإيحاء ؛على حد تعبير كوليردج :"القصيدة الجيدة ينبغي أن تحتوي في ذاتها على أسباب جودتها " ؛وهو نص مفتوح على العديد من التأويلات مما لم تخطر لي على بال؛
وقد رأينا في -هذا النص وغيره- خصوصيات شعرية امتاز بها شاعرنا ؛ أذكر منها؛على سبيل الإجمال:
تداخل الحسي والمجرد معاً ؛ظاهرة التشخيص؛ استلهام الموروث ؛العنصر الدرامي؛سخطه على الأدعياء .
كل ذلك جاء في إطار الفرادة والتميز؛وارتياد آفاق شعرية جديدة ..
تحياتي لصديقي الشاعر الفذَّ؛وأرجو أن أكون قد وفقت في إضاءة النص؛والحمد لله أولاً وأخيراً.