رأيته يسير حاملاً بعض أمتعنه الثقيلة ، بينما تصفع الشمس جبينه فيتصبب عرقه سكيباً ، فيحتمي بكفه من صفعات الشمس ويمسح عرقه كلما امتلأت منه محاحره .
صففت مركبتي قريباً منه وأومأت إليه بالصعود معي لأوصله إلى منزله ، وحينما صعد إلى المركبة أطلق تنهيدة عميقة كمن وهبت له الحياة من جديد فقد كاد أن ينقطع نفسه من الإعياء والتعب وطول الطريق .
ماهي إلا دقائق حتى وصلنا إلى منزله الوقع خلف ضجيج المدينة ،وخلف مبانيها الشاهقة وبيوتها الفاخرة ، حيث يقطن ذلك الرجل الذي وخطه الشيب وعاثت بجسده السنين في زمن غير زمن المدينة وفي ظروفٍ لا تمت لكل هذه الحضارة المعاصرة التي نعيشها بصلة ، فالطريق إلى منزله المتهالك والقريب جداً من العمران المعاصر، طريق يصعب السير فيه ، فالرمال تتكدس فيه والحجارة مغروسة في زواياه ، ولم تجد من يزيلها من طريقه وطريق العابرين من جيرانه الذين يعانون معاناته اليومية ، أما البيوت فيكسوها الفقر والحاجة وتتلبسها ملامح زمن الصخور وعصر الحجارة.
فلا كهرباء ولا تكييف ولا فرش ولا غطاء.
علامات التعب والارهاق تحكيها عروق جبينه البادية للعيان وأوردة أذرعته التي تحكي قسوة الزمان .
كوم الحطب الذي بجوار منزله يسطر قصص البحث اليومي عن لقمة عيش تسد فاقة الصغار .
الهيئة المتواضعة التي تبدوا عليها امرأته خلف الجدار وهي تراقب هذا الغريب الذي جاء من عالمه المجاور مسافة ، البعيد زماناً ، وذلك حين رأتني أقترب من منزلهم برفقة زوجها ، تختصر صورة البؤس في نظرات حائرة ومتسائلة عن كنه هذه الزيارة الصباحية .
الصغير الذي يقف متأملاً في ملامحي يراقب حديثي الباسم مع والده، فتنشأ على محياه الصغير بتلات فرح لا يكاد يخفيها.
كل شيء هنا يوحي بحالة من العزلة الحقيقية عن الضجيج والأبواق ، عن الصخب والأضواء ، عن كل حواراتنا ونقاشاتنا نحن المعاصرون ذوو الثقافة والتمدن ، عن نظرياتنا حول التطور الانساني والعمراني وترفنا الفكري والثقافي ، عن جدلنا العقيم ، عن عيشنا في بروج عاجية لا تتواضع لترى كيف يطحن هؤلاء تحت طاحونة الفقر ، بينما يتشدق آخرون بما بلغوه من حياة رغيدة وعيش كريم.
عدت إلى مركبتي عجباً لأنعم بمكيف الهواء البارد ، فلم استطع مقاومة حرارة الطقس ولم استسغ تبلل ملابسي بالعرق ، فعدت أدراجي نحو عالمي ومدينتي بينما بقي الفقير وأسرته خلف ضجيج المدينة يقاسي مرارة عيشه إلى أن يكتب الله له الفرج ويرزقه من حيث لا يحتسب فلن تغنه حفنة مال قليل إن دسستها في جيبه أو كلمات بسبطة واسيت بها قلبه الحزين ، فمنحته دعوة دعوت له بها أن يفرج الله كربته وأنا خجل لعدم توفر ما يكفي في يدي لانقاذه وأسرته .