مرحباً بأصدقاء الأدب والكُتب, هنا ملتقى الأدباء ومجلة الكُتاب العظماء, هنا حيث ننثر من ربيع الكلمات مطراً .. أهلاً بكم
يومٌ يشبهُ فصلَ الربيع، كنتُ في غايةِ السعادةِ لدرجةٍ نسيتُ معها أنني في فصلِ الصيف، جوُّ الغرفةِ كان باردًا؛ لكنَّ مشاعري كانت في قمةِ الدفء، اجتمعتْ فصولُ العامِ في مكانٍ واحد، لكنَّ فصلَ الخريفِ لم يحضر، بل جاء متأخرًا بعد أن غادرتِ الفصولُ الثلاثة، سعادةٌ غامرةٌ مشوبةٌ بالقلقِ تملكتني وأنا أودعها، لم أكن أعلم أنَّ هذا اليومَ جمعَ الفصولَ كي لا أراها ثانية، أو أسمعَ ضحكتَها التي تشكلتْ كألوان الربيع، انتظرتُ كثيرًا وأنا في قلق، حاولتُ استراقَ السمعِ لعلَّ الأصواتَ القريبةَ تنقلُ أخبارَ الموسمِ المختصرِ فلم أجد غيرَ كلامٍ باهتٍ مثلَ لونٍ رماديٍّ توالتْ عليه المتغيراتُ وألقى عليه غبارُ الزمنِ ويلاته، لم أكن أعلمُ أنَّ الخريفَ الذي رفضَ الحضورَ كان يُخبئ لي مفاجأة، وعلى حدِّ علمي بأن الخريفَ يُسقطُ الأوراقَ كي تتجردَ الأغصانُ من ثقلها ثم لا تلبث أن تعودَ في الفصولِ القادمةِ بكامل أناقتها، غير أنَّ الخريفَ ألقى بالأغصانِ كي تجاورَ الأوراقَ وتقضي على آمال الموسمِ المُزهرِ بربيعه ، بقيتُ مثلَ طائرٍ جريحٍ يلعقُ دمَه القليلَ الناتئ من بين جناحيه وهو ينظرُ إلى أعلى حيث تحلقُ الطيورُ تحت ظلالِ السحاب، لم أصدق أن أحدًا سيأتي ليعيد لي الربيعَ الذي عشتُه في الغرفةِ الأسطورية، انتظرتُ كثيرًا وكثيرًا، أردتُ أن أحلمَ بعودةٍ خضراء تنبتُ أمامي ولا فائدة، عرفتُ أنني عشتُ وهمًا حقيقيًّا، وأن الفصولَ التي اجتمعتْ في مكانٍ واحدٍ التقتْ بالخطأ في يومٍ واحدٍ وعندما اكتشفتْ ذلك عادتْ للتفرقِ من جديدٍ وعلى العصافيرِ الجريحةِ مثلي أن تظلَّ تلعقَ دمها القاني وتكتفي بالنظرِ إلى أعلى حتى تعود المواسمُ المتفرقةُ في مكان واحد، وضعتُ يدي على قلبي ثم أغمضتُ عيني تخيلتُ بين جفنيَّ الربيعَ الذي خلَّفتْه وراءها، والخريفُ يسقطُ أوراقي وأغصاني تباعًا.
الرحيل خلف الوهم مناورة عقيمة
لخيط دخان هارب في اللاشيء ،
والدوران داخل دوائر صماء بلا منافذ
لضوء المعرفة فكر ميت.
بين شروق وغروب تأتي حكايا ومواقف لا تنسى، وأحداث بعضها مضحك وبعضها مبكي، وأخرى انكسارات لها أثر.
لا تحب جدتي فلسفتي للتبرير والتوضيح وتعتبرها ثرثرة بلا فائدة، وتلوم والدي على مساحة الحرية التي يمنحها لي، وقيادتي للسيارة، وحتى دراستي للطب لم تحتفي بها، وكثيرًا ماتردد “ما من شطارة، لكن مع الخيل ياشقراء”.
لسعتني كلماتها منذ أن عرفت معناها، تلوكني من الداخل حتى أصبحت أعماقي محتدمة بردات فعل مكبوته، لم أكره جدتي، إلا أن قبلاتي لها خفت.
أمي تقف في المنتصف، هي لا ترى أنني من فصيلة “شقراء”، وتعرف أن كلمات جدتي تثقل عليَّ، وتحاول قيادتي بهدوء إلى ضفاف الرزانة أمامها لأكسب رضاها، تنجح لفترة قصيرة لكن “الطبع غلاب”
تحب أمي فوضاي، وزوابعي الصغيرة التي أحدثها، فالنتائج بعدها ترضيها، وتحدث حركة تغير رتابة الأيام،حتى عندما تداهمتني في المطبخ و أنا في حالة تجلي لإعداد طبق أفاجئها به، وما أن تقوم بعملية مسح للموقف بعينيها لأبواب الخزانات، وأرضية المطبخ التي ناوشها بعض الخليط حتى تمسك رأسها بكلتا يديها وهي تردد “ليتنا من حجنا سالمين”..
ونغرق في ضحكة طويلة.
هكذا أنا وأمي ومعاركنا الصغيرة التي تنتهي بضحكة منها وقبلة رأس مني.
في إحدى الأمسيات التي اجتمعت فيها صديقاتها، أخذت مني عهد وميثاق بالتزام الصمت كالعادة، وعدم مغادرة المكان لكي أقوم بواجب الضيافة فهي تشد أزرها بي في الأوقات الصعبة بحذر شديد.
بعض المواقف تستثيرني للمشاركة، أتذكر عهدي وأكبت رغبتي.
انتبه إلى إيماءات أمي بنظراتها كلما أرادت أن أفعل شيء، اتغلغل في هواجس النساء، ورتابة أيام بعضهن، وهن يندب حظوظهن، وجور العشير والزمن.
تضوع رائحة القهوة السعودية بالهيل في المكان تنعش الأحاديث، تعلو الأصوات، وهن يتبادلن أطباق الحلوى الشعبية وغيرها من الأكلات الشهية.
لا أدري كيف علقت عيناي على وجه أحداهن، في حالة تعجب مني على قدرتها على الحديث والأكل والشرب في آن، وبقايا طعام عالقة على أطراف شفتيها دون مبالاة منها، ربما شعرت بنظراتي نحوها، ارتبكت وراحت تعدل من جلستها وتتفقد حال فمها، ثم وجهت كلامها نحوي فجأة مخترقة موضع يدور حديثهن حوله.
من خلف ابتسامة ساخرة سألتني وهي تشير نحوي بيد متراخي للأسف:
في أي سنة تدرسين؟
توقف الحديث، اتجهت الأنظار نحوي. رغم مباغته السؤال ردت بسرعة:
المستوى الرابع طب.
هزتني ضحكتها المبتورة وهي تعلق وينك وين الطب؟ وإلا “مع الخيل يا شقرا”.
أحرقني ردها وكبلتني إيماءات حاجبي أمي -للحظة تذكرت وجبتي المفضلة- لم أرد، إلا أن نظراتهن نحوي وضحكهن بما فيهن جدتي، أعادتني للمربع الأول. التزمت الصمت، ولهيب داخلي لا يبرد، لأنني أعرف من هي -شقراء-التي شبهت بها.
استدار الحديث عن بنات الجيل الجديد وحبهن للتقليد ، وسخافة أفكارهن… أحكام أصدرت بلا إثبات. فكرت طويلا كيف أرد عليها بأدب إلا أن الموقف برد بالنسبة لهن وما زالت ساحة ملعبي ساخنة. إبتلعت هزيمتي وأنصرفت لمطالعة الجوال. فجأة سقط كأس، إمرأة متشنجة وقد انتفخت أوداجها، كاد نفسها أن ينقطع وسط حشرجة تبحث عن الحياة. فزعت نحوها على الفور، طلبت منهن مساعدتي لإسناد جسدها الثقيل، حاولت، وحاولت، خرجت قطعة فطيرة لم تمضغ من فمها، ارتدت أنفاسها، فتحت عينيها ووجهها مبلل بالعرق، وجهت نظرتها نحوي نحوي بأسف خرجت كلماتها متقطعة:
آسفة يا بنتي… حقرتك….
ابتسمت وأنا أربت على كتفها:
ولا يهمك يا خالة “اللي ما يعرف الصقر يشويه”.
وغادرت المكان دون أن التفت.
صَبِيْحَةَ كُلَّ يَوْمٍ تَبَرْعَمَتْ أَحْلاَمُهَا فِي هَذَا الْطَرِيْقِ.
دَفْتَرٌ صَغِيْرٌ مُزَرْكَشٌ تَحْرِصُ عَلَىٰ اصْطِحَابِهِ،وَتَضَعُهُ فِي مَكَانٍ يَسْتَطِيْعُ الْسَابِلَةُ أَنْ يَلْمَحُوْهُ مُتِوِّجَاً حَقِيْبَتَهَا .
تَتَوَازَىٰ مَعَ إِطَارَاتِ الْسَّيَارَاتِ، تَوَازِيَاً يُسْعِفُهَا مَرَتِيْنِ مِنْ،وَإِلى الْمَدْرَسَةِ.
حَفَظَتْ هَذا الْطَرِيْقُ بِأَحْجَارِهِ، وَغُبَارِهُ،وَمِسَاحَاتِ الْسَبْخِ الْتِي تَرْتَمِي عَلَىٰ جَانِبِيْهِ.
أَمَلٌ وَاحِدٌ تَسْتَشْرِفُهُ عَلَىٰ بُعْدِ أَرْبَعَةِ بِيُوْتِ مِنْ سُوْبَرِ مَارِكَاتِ الْحَيِّ.
أَمَلٌ يُخَفِفُ عَنْهَا وَطْأَةَ الْشُعُوْرِ بِالإِخْتِلاَفِ،لَكِنَّ الْوَقْتَ قَلًَ مَا يَجُوْدُ بِهِ.مَازَالَتْ تَسْتَشْعِرُ لَمْسَةَ يَدِهِ عِنْدَ أَوَّلِ عَثْرَةٍ:
“هَلْ سَأَكُوْنُ ضَيْفَةً عَلَىٰ خَيَالِهِ يَوْمَاً مَا؟
هَلْ أَخْبَرَتْهُ أُخْتُهُ بِسِرِّ الأَغَانِي الْتِي أَسْتَمِعُ إِلِيْهَا فِي خُلْوَّتِي”؟
تَنْتَبِهُ عَلَىٰ صَوْتِ أَبْوَاقِ سَيَّارَةٍ أَلْقَىٰ صَاحِبُهَا الْتَحِيَةَ عَلَىٰ أَخِيْهَا عَارِضَاً خِدْمَةً تُصِرُّ دَائِمَاً عَلَىْ رَفْضِهَا.
بَعْدَ عَوْدَتِهَا مِن الْمَدْرَسَةِ تَسَْتَسْلِمُ لِسَطْوَةِ غَفْوَةٍ تَنْتَشِلُهَا مِنْ وَخْزِ الْحِجَارَةِ،وَنُتُوْءَاتِ الْشَوَارِعِ،وَسِهَامِ الْعَطْفِ.
تَسْتِيْقُظُ،وَعَلَىٰ صَدْرِهَا كِتَابٌ فِي طَرِيْقِهِ الآنَ لإِنْهَاءِ تَثَاؤبِهِ.
تَضَعُ رِوَايَةَ ( نَادِيَةٌ ) لِيُوْسُفَ الْسُّبَاعِي،وَتَسْتَسْلِمُ لِغَفْوَةٍ.
فِي الْمَسَاءِ،وَفِي فَنَاءِ الْمَنْزِلِ الْصَغِيْرِ تُنَقِّـلُ بَصَرُهَا بَيْنَ ( الْرَدِيْمَةِ )،وَشَجَرَةِ الْجُوَافَةِ. الْكُّل فِي هَذَا الْبِيْتِ يَذْهَبُ حَيْثُمَا يَشَاءُ إِلاَّ هِيَ،لَكِنَّهَا تَذْهَبُ إِلَى مَكَانٍ لاَ يَصِلُ إِلِيْهِ أَحَدٌ،وَتَهِيْمُ أَكْثَرَ مِمَّا يَهِيْمُ غَيْرهَا،وَلَكِنْ فِي مِسَاحَةٍ لاَ تَتَجَاوَزُ ظِلَّ شَجَرَةِ الْجُوَافَةِ.
تَحْمِلُهَا الأَفْكَارُ إِلَى عَالَمٍ مَجْهُوْلٍ …
أَحْدَاثٌ لاَ تَسْتَقِرُ تَفاصِيْلُهَا عَلَىٰ الأَقَلِ فِي هَذِه الْمَحَطَةِ الْيَوْمِيْةِ.
أَزْعَجَهَا هَذَا الْكَمُّ الْهَائِلُ مِن أَصْوَاتِ الأَشْيَاءِ الْمُتَمَرِّدَةِ عَلَىٰ سُكُوْنِ الْدفَاتِرِ.
تُصِرُّ عَلَىٰ مُشَاكَسَةِ هَذَا الْتَمَرُّدِ بِشِيءٍ مِن الٔصَّخَبِ الْدَاخِلِي .
تَلْتَفِتُ نَاحِيَةَ صَوْتِ صَرِيْرِ عَرَبَةٍ تَتَحَرَكُ بِبُطءٍ .. تَتَأَمَلُ الْجَسَدَ الْمُسِّنَ الْمُتْعَبَ مُبْتَدِئَاً الْحُدَاءَ بَعْدَ أَنْ شَيَّعَهَا بِابْتْسَامَةٍ حَانِيْةٍ : بَلِيْلَة .. بَطَاط .. وخَلٌ ..
وَيَبْدَأُ الْصَّوْتُ عَدّهُ الْتَنَازُلِي . تَتَراءَ لَهَا الأَجْسَامَ،مُتَحَرِكَةً نَحْوَهَا بِقُوَةٍ،تَشُّدُهَا مِنْ نَاصِيَتِهَا .. تُوقِفُهَا،وَتَسِيْرُ بِهَا بِضْعَةَ .. أَوْهَام !
تُدَاهِمُهَا مَوْجَةٌ مِنْ ذُهُوْلٍ شَفِيْفٍ، وَهِي تَتَصَوَرُ هَذِه الْخُطُوَاتِ. أَرْصِدَةٌ مُجَمّدَةٌ مِنْ حِسَابِ الْزَمَنِ الْجَارِي،أَوْ أضٔرِحَةٌ تَحْوِي شَتَاتَ الأُمٔنِيَاتِ الْمُنْتَحِرَةِ.
تَنْسَحِبُ مِنْ دَهْشَتِهَا الْحَالِمَةِ كَغَيْمَةٍ هَارِبَةٍ مِنْ سَلَّةِ السَّمَاءِ.
قَلْبٌ مُفْعَمٌ،وَعَقْلٌ مُتَوِهِّجٌ، وَأَطْرَافٌ تُحَاوِلُ الْنُهُوْضَ مِنْ عَثْرَةِ الْسُّكُونِ.
لاَ تَجِدُ رَغْبَةً قَوِيَةً فِي إِكْمَالِ الْرِوَايَةِ.
تَلْتَقِطُ الْنَزِيْفَ الْعَذْبَ مِنْ جِدَارِ الأَمَلِ…
تَرْقِّصُ صَفَحَاتَهُ ذَاتَ الأَلْوَانِ الْثَلاَثَةِ عَلَىٰ شَكْلِ حُزمٍ.
تَقَعُ عَيْنَاهَا عَلَىٰ صَفْحَةٍ فَارِغَةٍ فِي الْمُنْتَصَفِ.
إِعْتَادَتْ أَنْ تَهْرَبَ مِنْ أَسْئِلَتَهِم بِأَجْوِبَةٍ غِيْرِ مُقْنِعِةٍ !…
تَنْتَقِلُ يَمْنَةً،وَيَسْرَةً.
مُعَلِمَةُ اللُّغَةِ الْعَرِبِيَةِ،وَقَدْ عَلَّقَتْ عَلَىٰ خَوَاطِرٍ كَتَبَتْهَا… صَدِيْقَاتِهَا الْمُقَرَّبَاتِ،وَقَدْ كَرَرَنَّ الْكِتَابَةَ لَهَا .. طَبِيْبَةُ الْوِحْدَةِ الْصِّحِيَّةِ…
خَالُهَا بِخَطـِّهِ الأَنِيْقِ حَرَصَ أَنْ يَكُوْنَ أَوَّلُ الْحَاضِرِيْنَ.
أَخُوْهَا الْذِّي اكْتَفَىٰ بِسْطْرٍ وَاحِدٍ …
قَرِيْبَاتُهَا الْمُتَزَوِجَاتُ اللآتِي لَمْ يَكْمِلٰنَّ تَعْلِيْمَهُنَّ،تَتَذَكَّرُ حَرَجَهُنّ مِنْ إِجَابَةِ طَلَبِهَا…
وَصَفْحَةٌ فَارِغَةِتَرَكَتْهَا،لأَنَامِلْ رُبَّمَا تُفَكِّرُ يَوْمَاً فِي زِيَارِةٍ خَاطِفَةٍ لِهَذَا الْقَلَقِ الْمُتَجَدِّدِ.
للمرة الثالثة أتأكد من الطقس ودرجة الحرارة، درجتان تحت الصفر، ولكنه لحسن الحظ يوم مشمس وإن كان جزئياً مع بعض الرياح الباردة. الحمد لله البرودة تُحتمل إذا ضحكت لنا الشمس قليلاً، ولكن هذه الرياح التي لا شك في انخفاض حرارتها الشديد -ولا أدري لماذا يزيد خبراء الطقس إحساسنا بقسوة الجو بتوكيد الصفة ونحن نقرأ تقاريرهم اليومية؟ إخلاصاً لدروس النحو أم ربما لأنهم يشعرون بقشعريرة أثناء إعداد النشرات الجوية ولابد من مشاركتنا الوجدانية معهم، وبرغم أنّا كنا نقترب من البداية الرسمية لفصل الربيع، 21 مارس لكني لطالما قلت لأصدقائي في هذه المدينة الجميلة “الربيع في مونتريال أو موغيال كما تدللونها، إشاعة يصعب تصديقها وسط البياض الكاسبيريّ!”
نظرت لساعتي بقلق وأنا بداخل المصعد، عليّ الإسراع قليلاً وإلا فاتنتي الحافلة وسأضطر للانتظار للموعد التالي، وهذا يعني الوقوف في مواجهة الرياح لأن موقف الحافلات يتربع على تقاطع شارعيّ شيربروك ودي كاري، حيث كان جبل ويست ماونت و نهر سان لوران يغدقان علينا من هوائهما البارد بجود وكرم كبيرين.
تباً لهواجسي التي شغلتني فلم أضغط على الدور الأرضي حيث مخرج العمارة الرئيسي والأسرع لي -نسبياً- للحاق بالحافلة لحضور المحاضرة العامة الأسبوعية في الكلية.
وجدت نفسي وقد وصلت لدور القبو حيث مواقف السيارات لسكان العمارة. ” لا مشكلة البتة”، هونتها على نفسي وخرجت مسرعة من هناك.
استقبلتني نسمة باردة، ولكنها لطيفة على القلب، منعشة، فلا أجمل من الهواء الطلق وبعض من شعاع الشمس نبدأ بها يوماً جديداً… ليت الشمس ودفئها الجميل كان يمكن تعبئته أو شحنه أثناء السفر، لحملت ما شئت معي من بلدي الحبيب حين قدومي لهذه البلاد.. أخذت نفساً عميقاً واستعديت للانعطاف يساراً وصعود الشارع المرتفع قليلاً.
” عذراً سيدتي”..
تناهت العبارة لمسمعي فتجاهلتها ظناً أني لست المقصودة، و لكنها تكررت بصوت أقوى .. بالتأكيد الصوت يخاطبني فلم يكن هناك أحد سواي .. لا سيد .. ولا سيدة ولا يحزنون، نظرت إلى الأعلى حيث مصدر الصوت الذي خيل لي أنه بدا مرتبكاً.
” صباح الخير سيدتي. هل تحملين هاتفاً جوالاً معك؟”
استغربت السؤال من الفتى الشاب الذي كان يحدثني من شرفة بالدور الثاني في العمارة، أجبته بنعم على عجل وهممت بالانصراف، فماذا عساه يبغي مني ومن جوالي؟ ولو لم يبد لي في سن إبني أو حتى أصغر منه لما رددت على سؤاله الغريب أصلاً.
“أرجوك ساعديني، خرجت لشرفتي حين رأيت الشمس ضيفتنا اليوم وتركت جوالي في الداخل، ولكن الهواء أغلق باب الشرفة ولا سبيل لفتحه من هنا!”
لا شعورياً نظرت لساعتي لأرى هل كان لدي وقت كافٍ لمساعدة هذا الشاب …؟ بماذا أصفه الأرعن، أم الطائش، أم المتهور، أم غيرها من قائمة الاتهامات والانتقادات الجاهزة لدينا معشر الأمهات والآباء والمعلمين وكثير من أفراد المجتمع الذين نزهو بأنفسنا وبأننا الوحيدون أهل الحكمة والخبرة.
“وكيف أساعدك؟ هل خبأت مفتاحاً عند مدخل الشقة من الخارج مثلاً؟”
” لا، للأسف.”
“حسناً. سأتصل بمسؤول الصيانة فلديه المفتاح السحري لكل المبنى”.
لم أنتظر موافقته لأقوم بذلك، ولكن الرد الذي حصلت عليه من الرجل كان محبطاً:
“أعتذر منكما سيدتي، أعيش على أطراف المدينة وأمامي على الأقل ساعة من الزمن لأصل إليكما”.
ما العمل إذن؟
الوقت يمضي سريعاً، حتى موعد الحافلة التالية سيفوتني، ويبدو أن المحاضرة المشوقة التي حجزت تذكرتها مبكراً قبل عدة أسابيع ستطير أيضاً..
لجزء من الثانية وسوس لي الشيطان بالمضي وترك الشاب وشأنه، ولكن حين رفعت رأسي لم تر عيني سوى صورة صغيري وقد غافلني وأغلق باب حجرة النوم عليه بالضغط بأصبعه الدقيق على زر مقبض الباب، وظل كلانا يبكي وينتحب وقد كنت أصبرّه بعد أن خرجت من حجرة المكتب إلى الشرفة المشتركة التي بالطبع لم تكن لتفتح من الخارج، وقد أججت رؤيته لي المشكلة فكيف لطفل لم يتم عامه الثاني أن يفهم لم لا أستجيب لندائه وآخذه بين ذراعيّ كعادتي ولما أتركه يبكي كل هذا البكاء الحار ويداه الصغيرتان تضربان على الزجاج بكل قوته الواهنة.
“عذراً سيدتي”…
انتشلني صوت الشاب من الذكريات البعيدة، متسائلاً:
” هل يمكنك فضلاً الاتصال بأمي، سأعطيك رقم هاتفها، هي الوحيدة التي لديها المفتاح الإضافي لشقتي.”