١-
أقامر الآن بفرصتي الأخيرة في الحياة، و بالوسيلة الوحيدة التي كنت أظن أني أعرفها، الوسيلة الوحيدة والعاجزة والتي لم تعد تفي " الكتابة " . وأصبحت أراوح بين الضلال وشبه اليقين ، مفرغا مساحات أبدية وشاسعة تجرفني للتيه الذي جئت منه، والذي حتما إليه سأعود. وكل ما أفعله الآن هو محاولة خدش هذه المفازة بهذه الكتابة، وبما أستطيع من الصمت والصراخ معا ، غير أنه لا يقين سوى اليقين بأنه لا يقين ..لا الموت لا الميلاد لا الكتابة ولا حتى الألم الذي ظل يذكرني على الدوام بكينونة هذا الجسد ثم إنه أنا ؟
٢-
لن أدعي أن أحدا لم يفهمني، وهذا العالم ليس ملزما بذلك ، ثم إنه من أنا لألقي على الكون تهمة ظالمة كهذه؟ وحتى اللسان الذي وهبتني الحياة ظل وحيدا يحاول قول كل شىء ولا يقول شيئا ويخطىء أكثر مما يصيب ، ويقطع أكثر مما يصل ، ويزّور الأمنيات والأسئلة وحتى اللغة التي حاولت امتلاكها , ولقد خانها كثيرا ( اللسان) وخاتلها أكثر، ثم إنه ما من فائض في قواميس الكلام لأغترف منها كيف أشاء، ومتى أشاء وكأن الحياة عرس لن يتبدد ، ولقد خانتني حتما كل أعراس الحياة ..
٣ -
هل لي أن أقول أنني لم أعد أفهمني أنا ؟ نعم وأعترف بذلك ، بقيت أتشكل وأعاود التشكل كل يوم; محاولا تكوين هذا النهج المقنع لي ، ثم أني لم أتفق مع الحياة على هذه المسرحية الهزلية ..وقد كان شرطي أن أكون كائنا بشريا أحمل قدري وأذهب به نحو النهايات غير أن هذا لم يحدث، ولقد خدعت، نعم خُدعت .
٤ -
وكل شىء يغادرني الآن ولم يعد هناك ما أصغي له سوى صوت الروح , الروح التي لم تخذلني حتى الآن ولن تفعل . وأستيقظ كل ليلة وحيدا أحتسي كأس الظلمة وأصغي لصوت الزمن العابر وأسمع من خلاله كل أصوات الحياة . هذا الصوت الذي يسكن الظلمة والذي ينتفي من خلاله الأعلى والأسفل والقادم والراحل , والراحلون يحضرون والأرواح التي لا تعترف بالعدم ولا بتراتب الأزمنة تحضر ، وتتلاشى معاني المؤنث والمذكر ، و تعود كل الأرواح ارواح .
٥ -
ثم نلتقي بهم أولئك الذين اشتاقت أرواحنا لأرواحهم ونلتقي ونأتلف ، ونتقاسم الحب الذي بيننا والغني والفقر الذي لنا ، ونمحو ما نستطيع من الحنين والغياب ثم نأخذ عهدا ألّا نموت ولن نموت .
٦ -
وهم من فعل بنا كل هذا ، أولئك الذين كنا نظن أنهم يشبهوننا والذين من أجلهم قبلنا الحضور اللامشروط لهذا العالم، والإيمان بما لم نؤمن وبالرضى والصمت عن كل غصات الحياة. كنا نظن أنهم رفقتنا وسيمضون معنا ، ومعا كنا سنكسر قوس الوحدة ، ثم نعلن قيامتنا عندما نتحد وندخل جنتنا متى شئنا والتي حتما لن تكون أنهارا من العسل واللبن والملذات .
٧ -
وهم لم يأتوا والعتاب ليس سوى سجود سهو لصلاة ضلت طريقها للسماء ، فهل خذلونا أم أنهم أيضا خذلتهم أقدارهم والطرقات التي تجىء بهم والأقدام التي تستدل علينا؟ ومهما يكن فقد غفرنا، ليس لأننا الأنقياء ولكن لأنه ما من عوض لنا سوى الغفران
٨ -
ولكن لا يقولنّ لي أحد أني كنت وجودا في هذا العالم ،وأني كنت هنا , هذا لم يحدث ، نعم عبرت من هنا ،وعرفت مفردات كالشمس والهواء والتراب والغيم والوعد والمطر وحتى مفردة الحب سمعت بها ، غير أني لم ألتقِ بأي منها ، لا الشمس لا الغيم لا الحب ولا حرية أن أكون أنا ، و أن أزهر كشجرة . نعم عبرت هذا العالم ولكن كسؤال كبير وموجع ودون إجابات ولم أعرف من أنا ومن يقول لي من أنا.؟
٩ -
ولنفترض أني كنت هنا أفلا يحق لي استعادة التجربة التي لم تكن ناجحة ولا سعيدة بأي حال؟ . وسأقبل تكرارها حتى على هيئة عصفور أو شجرة أو حتى كائنا بشريا شريطة أن يكون معي الصفحة الأولى من كتاب الحياة; ولأعرف كيف هي الأبجديه وما من متسع للتعلم من جديد. وعدا ذلك سأحتجّ وأعرف ألّا أحد سيسمعني غير أن الصراخ في وحشة الأبدية هو كل ما أستطيع فعله الآن .