مرحباً بأصدقاء الأدب والكُتب, هنا ملتقى الأدباء ومجلة الكُتاب العظماء, هنا حيث ننثر من ربيع الكلمات مطراً .. أهلاً بكم
قصيدة ( كفى الله دمياط الحوادث ) للبهاء زهير قراءة فنّية للدكتور / محمد بن علي بن درع
هو أبو الفضل زهير محمد بن علي بن يحيي المهلبي الأزدي , ولقبه : بهاء الدين , ولد في مكة خامس ذي الحجة سنة 581هــ , ونشأ وربى في قوص مدينة العلم في صعيد مصر .
كان على صلة بالملك العادل وابنه الملك الكامل الذي هزم الصليبين واستعاد منهم دمياط , كما كانت له صلة بالملك المسعود يوسف بن الملك الكامل , ثم كانت له أقوى الصلات بالملك الصالح نجم الدين أيوب .
// مناسبة القصيدة : كان انتصار الملك الكامل على الصليبين وانتزاع ثغر دمياط منهم عزة للإسلام والمسلمين وفخراً لهم أجمعين لا في مصر وحدها , ولكن في بغداد ودمشق ومكة وطيبة وغيرها , فكانت هذه القصيدة صدى لما تجيش به نفس البهاء زهير في هذه المناسبة العظيمة .
// الغرض الذي قيلت فيه هذه القصيدة : هذه القصيدة مدح للملك الكامل وإشادة ببطولته وانتصاره على الصليبيين أعداء الدين , وفيها فخر للمسلمين بهذا النصر العظيم , ولم يخلط الشاعر بين غرض المدح وبين شيء آخر كفخره بشعره على ما جرت به عادة الشعراء .
// الفكرة العامة في القصيدة : هي إشادة ببطولة الملك الكامل في هذا النصر العظيم , وإزجاء للبشري به للعالم الإسلامي كله , مع تصوير لبطولة الجيش المسلم وبيان لذل الصليبيين وخضوعهم وانهزامهم .
// الأفكار الجزئية الموضحة للفكرة العامة :
// شرح القصيدة : القصيدة كلها تعبير عن البهجة والنصر , وأول ما تكشف عنه هذه القصيدة هو فهم الشاعر العميق لأبعاد المعركة فهي معركة بين الإسلام والكفر , وهذا هو البعد الذي صدر منه الشعراء في هذا العصر ؛ فالمعركة ذات هوية إسلامية واحدة .
*- كما تكشف هذه القصيدة أن هذا الفرح المحمود ليس لأمر شخصي , بل هو أمر عام , تخطى كل الحدود الوطنية والمحلية والإقليمية والقومية , إنه فرح محمود ونعمة كبرى تستحق الشكر والحمد .
*- كما كشفت القصيدة عظمة هذا النصر بعد طول الانتظار ؛ حتى إن الإنسان لو بذل نفسه فنقل البشرى إلى المسلمين في كل مكان بهذا النصر لكان قليلاً , وهذا النصر فتح أبواب القول على مصراعيها , وأذن للقائلين , فليقل ما شاء من هو قائل فهذا موضع النظم والنثر .
*- كما كشفت القصيدة عن تمجيد القائد والثناء على سخائه وكرمه وشجاعته وخضوع أعدائه لطاعته , ورفع مكانة الأمة الإسلامية بهذا النصر العظيم .
لك الله من مولى إذا جاد أو سطا فناهيك من عرف وناهيك من نكر .
وأقسم إن ذاقت بنو الأصفر الكرى فلا حلمت إلا بأعلامه الصفر
*- كما كشفت القصيدة عن قدرة الشاعر الفائقة في تصوير المعركة ورسم أحداثها وما دار فيها من بطولات وما لحق الصليبيين فيها من هزيمة منكرة , وما تميز به الملك الكامل من كرم المعاملة مع أعدائه ومنته عليهم .
*- وبيّن لنا أن النصر يقوم على دعامتين أساسيتين هما : الإيمان والقوة , وهذا ينم عن وعي عميق , لذلك قال : طهرها بالسيف , الذي هو رمز القوة المادية , وقال : والملة الطهر , الذي هو رمز الإيمان والتعبئة الروحية .
// ويظهر في القصيدة اهتمام البهاء بإبراز قيمة الصبر بوصفه قيمة إسلامية كبرى , وكرر الصبر في أكثر من موضع , فالصبر عنده له قيمة مطلقة لا تنتهي عند حد إلاّ حين يتحقق الهدف المنشود وهو دحر الصليبيين وطردهم عن بلادن المسلمين , وهذا التشبث بالصبر يوصل إلى أحسن النتائج وأحمد العواقب ويلح أيضاً على قيمة الجهاد وأخذ الأهبة والاستعداد للدفاع عن مقدساتنا وتراب أوطاننا , والصدق فيه والثبات عند لقاء الأعداء والخونة والمتآمرين .
*- كما كشفت عن مكانة هذا الحصن العظيم دمياط في قلب العالم الإسلامي وانتزاعه من براثن الصليبيين الحاقدين , والأخطار التي نجمت من احتلالهم لدمياط مدة ثلاث سنوات كانت تهدد المسلمين في شتى أقطارهم .
// القيم الشعورية في القصيدة : تكتظ القصيدة بقيم شعورية أهمها الشعور الديني الغامر , والذي منبعه انتصار الإسلام والمسلمين في هذا المعركة . وأن هذا الشعور الديني يستحق الامتنان والشكر لله تعالى , وأن هذا الشعور بالنصر الكبير يتضال تجاهه كل شيء سواء كان نثراً أو نظماً . وأن هذا الشعور تفاعل عارم وواسع غير منعزل أو محدد , بل يتفاعل فيه الشاعر مع أمته الإسلامية جمعاء . كما تألقت القصيدة بمشاعر الإعجاب والاعتزاز بهذا السلطان .
// وسائل التصوير والأداء الفني :
**- اعتمد الشاعر على التضاد أو الطباق ؛ في البيت الأول , فجمع بين ( الإسلام والكفر ) ليعطي للمعركة هويتها الحقيقية , وهي أنها معركة دينية بين فسطاطين : المسلمين والصليبيين
*- وكذلك عندما جمع في شخصيته بين : ( العرف والنكر ) ليبين أن للسلطان شخصية قوية متعددة المناقب . وكذلك الجمع بين ( الكره والرضى ) ليصل إلى أن ملوك الشرق والغرب في طوع أمر الملك الكامل . وكذلك الأمر والنهي . والسمر والبيض وأشبعت وطاوي . وكأني ذو وقر ولست بذي وقر ..
*- واستعان أيضاً بالمقابلة ,حيث جمع بين صورتين متضادتين هي : اهتزاز عِطف الدين ( فرحة العالم الإسلامي بالنصر ) يقابلها صورة الكفر وذلته واندحاره .
*- واعتمد على الترادف العام فجاء بالمعنى من خلال أكثر من لفظ ( حمد وشكر , يقل ويصغر , طرب فرح , مبلغ ينهي , تميس وترفل , حلل ومطارف ) لتقوية الفكرة وتمكينها, وأن هذه الألفاظ والكلمات والمعاني تصغر أمام هذا الانتصار .
*- واستخدم جناس الاشتقاق لإحداث نغمات إضافية راقصة مثل : ( ليقل – قائل – مقالة – قائلاً ) , وما تركيزه على القول إلا ليبين أهمية مواكبة الشعر للأحداث . ومنه أيضاً : ( الخُضر والخَضِر – وأفلاك وأملاك وأساطيل وأساطير وسابحة دهم – أي السفن السود – وسانحة غرّ – أي : خيل مباركة سريعة )
*- كما استعان بالتورية في قوله : ( بكل غراب أفتك من صقر ) , فالغراب هنا له معنيان : ظاهر ( الطائر المعروف ) وهو غير مراد , وخفي ( زورق حربي صغير ) وهو المراد .
وكذا في قوله :
وما طاب ماء النيل إلا لأنه يحل محل الريق من ذلك الثغر
وحسن التعليل كما في قوله :
ومن أجله أضحى المقطم شامخاً ينافس حتى طور سيناء في القدر
*- ولا يخفى عليك ما في أسلوب ردّ الإعجاز على الصدور في الأبيات ( 13- 19- 21- 25 – 27 ) الذي من شأنه أن يربط بين أجزاء الكلام , ويعين على تذكره وحفظه ويؤدي إلى تقريره وبيانه والتدليل فضلاً عما يحمله من إيقاع موسيقي يجذب إليه السامع .
*- ونجد التقديم في قوله : ( بك اهتز عطف الدين ) جاء لغرض التخصيص , ولبيان السبب الحقيقي لهذه البهجة . ومثله : ( ومن أجله أضحى المقطم شامخاً ) .
*- واستخدامه للجملة الاعتراضية في قوله : ( فقد أصبحت – والحمد لله – نعمة ) للتعبير عن استعجال نعمة الحمد , ولتشيع الألفاظ الدينية معبرة عن أن الجوّ كله ديني .
*- وقد راوح الشاعر بين الأساليب الإنشائية والخبرية , فقد استخدم الاستفهام ( فمن مبلغ ) , واستخدم أسلوب الأمر ( فقل لرسول الله ) , واستخدم التعجب والنداء ( فيا طرب الدنيا ويا فرح العصر ) واستخدم أسلوب القسم ( وأقسم لولا همة كاملية – واقسم إن ذاقت بنو الصفر ) .
وكذا الأساليب التعبيرية المختلفة مثل : الدعاء ( لك الله ) وناهيك , وليهنك ) .
واستخدم التكرار لغايات فنية ( فناهيك من عرف وناهيك من نكر ) ( وما فرحت مصر – لقد فرحت بغداد ) ( ويا طرب الدنيا ويا فرح العصر ) وهي ظاهر بارزة في القصيدة عامة , وهو نابع من إحساس الشاعر بتمكين الصفات في الممدوح , وإشاعة روح البهجة والسرور في النص .
التشخيص : تظهر مقدرة الشاعر على إبراز موصوفاته ومعانيه في صور شخوص آدمية تروح وتجيء على مسرح المعركة , ولا شك أن تشخيص الصورة الشعرية يكسب الفكرة أو المعنى تمكيناً في نفس المتلقي وحضوراً في ذهنه , كما يضفي على القصيدة طاقة حيوية , ويجعله أكثر قدرة على التأثير والإثارة وتحريك الوجدان , ومن ذلك قوله :
بك اهتز عطف الدين في حلل النصر وردت على أعقابها ملة الكفر .
صورة بصرية صور بها الشاعر ما هو معنوي وهو الدين في صورة مادية تدرك بالبصر وهي الاهتزاز من فرح وسرور .
وفي قوله : تميس به الأيام في حلل الصبا .
حيث جعل الأيام وهي شيء معنوي تميس أي : تتباهى وتتبختر في حلل الصبا , وهذا تجسيد للمعنويات وتشخيص للأيام , وهي صورة موحية بالقوة والبهجة والفتوة .
وفي قوله : وترفل منه في مطارفه الخضر . صورة مكررة حيث جعل الأيام ترفل أي تتبختر وتجر مطارفها المصنوعة من الخز والحرير , وهي صورة موفقة فيها راحة نفسية فضلاً عن اختياره للون الأخضر الذي يوحي بالخصب والخير والبهجة والسرور وراحة النفس واطمئنانها . ولعل الشاعر أراد أن يصور ما أحاط بالمسلمين من مشاعر عقب النصر فاختار هذا اللون .
وفي قوله : ومن أجله أضحى المقطم شامخاً ينافس حتى طور سيناءَ في القدر .
تشخيص المقطم في صورة رجل ترتفع قامته ينافس طور سيناء , ويخلع عليه صفات إنسانية ( شموخ ) ومن هذه الصور أنه شبه الملك الكامل بالأنبياء والأولياء في الصلاح والتقوى كما في قوله :
أياديه بيض في الورى موسوية ولكنها تسعى على قدم الخضر .
ومنها أيضاً فرحة مصر وبغداد بهذا النصر , وهي صورة رائعة تعبر عن شمول الفرح والابتهاج للقطرين الكبيرين أو قل لمشرق الأمة ومغربها . وفي قوله : وكم بات مشتاقاً إلى الشفع والوتر . تشخيص , حيث جعل من المحراب شخصاً آخر له شوق إلى أن تقام فيه الصلوات . وفي قوله : فيا طرب الدنيا ويا فرح العصر , صورة تنضح بمشاعر الفرح والبهجة والاعتزاز .
وفي قوله : وأشرق وجه الأرض جذلان بالنصر , صورة بصرية .
وفي قوله : فرويت منهم ظامئ البيض والقنا . صورة أخرى .
**- واستطاع البهاء أن يؤلف صورة خيالية رائعة , تذوق الأبيات ( 13- 17 ) – جمع أطرافها من فرحة مصر وبغداد ومكة ويثرب بهذا النصر العظيم الذي حمى بيضة الإسلام من عاديات الزمان
// المعجم الشعري :
= الروح الإسلامية في قصيدة البهاء : يدب في القصيدة روح إسلامي يظهر في كل جوانبها , وفي كل عناصرها , في الأفكار والعواطف والمشاعر والأحاسيس والصياغة . الأثر الإسلامي ذو مستويات ثلاثة :
*- على المستوى الفكري في كل أجزاء القصيدة نجد الشاعر يربط بين اجزاء العالم الإسلامي , وينبذ الإقليمية والحزبية والقومية , وعلى مستوى المشاعر نجد الشاعر في قصيدته شديد الارتباط بالإسلام والإيمان وإعجاب الشاعر ينبثق من النصر والاعتزاز بالإسلام عقيدة وأمة وحضارة .
وأما على مستوى الصياغة فقد بدا ذلك جلياً من خلال تأثره بالصياغة القرآنية ومن خلال كثرة الألفاظ والأماكن الإسلامية الموحية ذات الدلالات الدينية العميقة , من مثل : ( الدين – الحمد – الشكر – طور سيناء – الملائك – الملأ الأعلى – المقام – الحجر – مكة – يثرب – لرسول الله – صاحب القبر – بيضة الإسلام – الملة الطهر – المحراب – صلاته – الشفع والوتر – الصبر – النصر – تجاهد فيهم – ليلة النحر – ليلة القدر – جنود الله – أيد الله حزبه – قبلة الإسلام – دمياط – فلله يوم الفتح – حنين وبدر ..)
= ألفاظ البهجة والسرور : طغت مشاعر الفرح والطرب والسرور والبهجة على القصيدة وامتزجت بهذا الإنجاز العظيم , من مثل : ( اهتز عطف الدين – حلل النصر – نعمة – الحمد والشكر – بشارة – تميس به الأيام – حلل الصبا – وترفل – مطارفه الخضر – بيض – شامخاً – تدين له الملاك – تخدمه – ملكاً – رفعة – أطيب الذكر – ليهنئك ما أعطاك ربك – مواقف هن الغر – فرحت – الهناء – طرب الدنيا – فرح العصر – أشرق وجه الأرض- الأنجم الزهر …)
= ألفاظ تصوير المعركة : أودع الشاعر صورا قوية الدلالة والإيحاء على ما يشعر به من طرب وزهو وافتخار عبر بها عن مشاعره ومشاعر أمته ,من خلال الألفاظ التالية : ( ثلاثة أعوام – تجاهد – ليلة غزو – كأنها بكثرة من أرديته ليلة النحر – ليلة شرف الله قدرها .. ليلة القدر – سددت سبيل البر – والبحر – سابحة دهم – سانحة غر – أساطيل – بكل غراب راح أفتك من صقر – جيش كمثل الليل – هولاً وهيبة – جواد – جنود الله – ضوامر – أيد الله حزبه – رويت منهم ظامئ البيض والقنا – أشبعت منهم طاوي الذئب والنسر – وجاء ملوك الروم نحوك خضعاً – تجر أذيال المهانة والصغر – فمننّ عليهم بالأمان تكرما – بيض الصوارم والسمر – كفى الله دمياط المكاره – يوم الفتح – حنين وبدر – الغنيمة والأجر ..)
= ألفاظ مدح القائد : أدار الشاعر ثناءه وتمجيده للشاعر حول مجموعة من القيم والمعاني , منها ما هو قديم ومنها ما هو مرتبط بعصره فجعله في الغاية القصوى من حيث الاتصاف بصفات فائقة المدح ووظف لهذا وسائل فنية كثيرة منها الضمائر من مثل : ( بك – دونك – وجدت – لك الله – فناهيك – به – منه – ومن أجله – تدين له – تخدمه – له – ليهننئك – أعطاك ربك – فلو لم يقم – سميه – هو – طهرها – ورد .. ) ومنها : النداء ( فيا ملكاً – يا طرب الدنيا – يا فرح العصر ) .
= ومنها ما جاء بصيغة الفعل مثل : ( جاد – سطا – فناهيك من عرف وناهيك من نكر – تدين له – تخدمه – سامى – ليهنئك – أعطاك – يقم – حمى – طهرها – ردّ – أقمت – تجاهد – صبرت – أحمدت – سددت – فرويت – منّ – فاق أيام الزمان ) .
ومنها ما جاء على صيغة الاسم مثل : ( أياديه بيض – موسوية – الخضر – بالكره والرضى – النهي والأمر – ملكاً – كاملية – سميّه – هو الكامل – ملك الغمر – جنود الله – ملكاً فوق السماك – جوده )
= ألفاظ تصور حال الصليبيين : ( ردت على أقابها ملة الكفر – يصغر – الذعر – الخوف – القهر – الأسر – العدى – خضعاً – تجر أذيال المهانة والصُّغر ) .
= الموسيقى الخارجية في القصيدة : نظم قصيدته على البحر الطويل , وهو من البحور التي يستحسنه الشعراء في الأغراض الجليلة الشأن ؛ لأنه أحفل البحور بالجلال والرصانة والعمق , ولأنه يعطي إمكانيات للسرد والبسط القصصي والعرض الدرامي , وفيه قوة وبهاء يناسبان الموضوعات الجادة , لأن التجارب الجادة لا تؤدى إلا بنفس طويل , ولا تتلاءم إلا مع الأعاريض الطويلة . وعلى كل حال فالشاعر قد أحسن اختيار الوزن وجاء ملائماً لتصوير الموقف والتعبير عنه .
وكذلك الشأن في القافية , فقد أجاد في اختيار حرف الراء الذي يجسد حالات الطرب والابتهاج والسرور التي عاشها الشاعر والأمة , والراء صوت مجهور لثوي متكرر , وكأن الشاعر قد اهتدى إلى هذا الحرف بإمكانياته الصوتية ليجهر من خلاله بفرحه وابتهاجه واعتزازه بهذا الإنجاز .
= الموسيقى الداخلية : حفلت القصيدة بالأنغام الداخلية والإيقاعات التي تحمل بين ثناياها شحنات الفرح والبهجة والطرب والسرور , وإذا بحثنا عن روافد ذلك التنغيم أو مصادر الإيقاع المؤثر وجدناها كثيرة ومتنوعة , ومن ذلك التصريع في البيت الأول , ولا يخفى على المتذوق والدارس ما يضفيه على القصيدة من طلاوة ولما له من موقع في النفس لأنها تحرك الإحساس بالقافية في نهاية البيت قبل الوصول إليها
كذلك تطالعنا الألفاظ المتشابهة والمتساوية في الوزن , من مثل : الكفر – الشكر – النصر – الصبر – النحر – النذر . عُذر – نُكر – خُضر – صُفر – الملاك والأفلاك …
ولاشك أن ترديد ألفاظ ذات بنى صرفية متماثلة أو متشابهة أو متقاربة في إطار البيت الواحد أو الأبيات المتتالية أو المتقاربة ينتج إيقاعات وأنغاما داخلية تتضافر مع الأنغام والإيقاعات التي تنتجها روافد التنغيم الأخرى في التعبير عن التجربة . ومن ذلك حسن التقسيم والطباق والجناس كما في قوله :
سددت سبيل البر والبحر منهم بسابحة دهم وسانحة غر
= التجربة الشعرية : عاش الشاعر تلك الفترة العصيبة التي تحالفت فيها دول أوروبا على العالم الإسلامي في تلك الحملات الصليبية المسعورة التي استهدفت الشام كله وبيت المقدس بالذات ومصر , وأحس الشاعر بما تعانيه الأمة الإسلامية من ويلات هذه الحروب ورأى بعينه كيف استولى الصليبيون على ثغر دمياط وعلى غيره من المدن والحصون الإسلامية , فلما شاء الله للمسلمين على يد الملك الكامل أن يستعيدوا هذا الثغر الغالي من العداء رأى الشاعر في هذا الحدث فرحة كبرى للعالم الإسلامي كله فانطلق يشيد بهذا النصر العظيم وينادي بأن الملك الكامل قد حمى بذلك النصر بيضة الإسلام من نوب الدهر
فموضوع التجربة الشعرية هو هذا النصر العظيم وموقف الشاعر منها قد صاغه في هذه النفثة الإسلامية الحارة واختار لها أمثل الصور والوسائل الفنية .
العاطفة التي شاعت في القصيدة : لا نستطيع القول أن عاطفة الإعجاب بالملك الكامل هي التي أملت على الشاعر هذه القصيدة , وإنما نؤكد أن العاطفة الإسلامية الجياشة في نفسه والتي تمثلت في هذا الفرح الغامر بالنصر هي التي أملت على الشاعر قصيدته , وبثت في جوانبه هذه المشاعر الإسلامية النبيلة بترابط المسلمين واتحاد مصالحهم ووحدة ألامهم وأفراحهم .
= قضية الترابط في القصيدة : في هذه القصيدة بدت الأفكار واضحة عميقة مبتكرة إذ ربطها بتلك الحرب , وهي أفكار قادرة على التأثير على السامع , مترابطة متسلسلة متماسكة يفضي بعضها إلى بعض حيث استهل حديثه عن مكانة هذا النصر واثره في المسلمين , ثم عطف عليه الحديث عن هذا الملك الذي حققه , ثم توسع في الحديث عما أيقظه هذا النصر من معاني الأخوّة والوحدة والترابط في نفوس العالم الإسلامي كله , ثم كان لابد من تصوير المعركة التي حققت هذا النصر , عاطفاً على ذلك هزيمة العداء وذلّهم وانكسارهم , ثم عفو الملك عنهم , منهياً الحديث بكلمة عن مكانة دمياط من العالم الإسلامي , وعن مكانة هذا الفتح .
= صلة القصيدة بعصرها : القصيدة في الحقيقة بنت عصرها , وتحمل سمات وطوابع عصرها , ونستطيع أن ننسبها لعصر الحروب الصليبية أو الدول المتتابعة حتى وإن لم نعرف قائلها , وتظهر على أصعدة أربعة الصعيد الفني , والتاريخي , والفكري , والاجتماعي .
فعلى المستوى الفني وعلى الرغم من أننا نستطيع أن نقول إن القصيدة تتبع المذهب التقليدي مذهب الجزالة والفخامة إلا أن الشاعر لم يستطع أن يتجاهل ذوق عصره فحلّى قصيدة بألوان من البديع التي لم يثقل كاهل القصيدة بهذه الأنواع , بل جاءت حقيقة عفوية دون أن يتكلفها أو يتعمدها كالجناس والطباق والتصدير والتورية وحسن التعليل وغير ذلك .
وأما على المستوى التاريخي فقد سجلت القصيدة حادثة تاريخية حقيقية – حادثة انتزاع دمياط من براثن الصليبين – كان لها أهمية في عصرها , وحددت القصيدة مكانه هذه الحادثة وزمان الانتصار فيها , و وضعها في إطارها الواقعي وإكسابها صدقاً واقعياً .
وأما على المستوى الاجتماعي فقد صورت القصيدة بعض صور العصر كالاحتفالات بهذا النصر والمراسلات بعده , ورفع الرايات والأعلام في الاحتفالات , وتبادل التهاني ابتهاجاً بهذا النصر . ونستطيع أن نلمح في القصيدة صورة الكفر والكفرة وقد بدأوا يجرون أذيال المهانة والصغر .
وأما على المستوى الفكري فقد عكست القصيدة الروح الفكرية التي كانت تعم الأمة الإسلامية , روح تنفي التحزبية والقومية وتتخطى الحدودية والإقليمية , والقصيدة أيضاً تعكس روح الترابط والوحدة بين شعوب العالم الإسلامي , والقصيدة تعكس خطورة الغزو الصليبي لبلاد المسلمين ومقدساتهم .
= دلالة القصيدة على شخصية قائلها : القصيدة تنفي أن يكون شاعر إخوانيات وطرائف وحسب , بل إنه شاعر متعدد الجوانب فهو من جانبٍ جاد ملتزم يحمل هماَ جماعياً وليس ذاتياً شخصياً , إنه يضع فنه وموهبته في خدمة أمته ومجتمعه , ومن جانب آخر نلمح شخصيته القيادية قيادة الفكر والوجدان , فهو واعٍ ذو بصر وفكر عميق بأحداث عصره وبقضايا أمته ومصيرها ويظهر جان ثالث وهو طابعه الثقافي فالقصيدة تشتمل على عدد من الإشارات التاريخية والدينية ولها دلالاتها التي تنم عن ثقافة الشاعر وتعاطيه معها .
= القصيدة في ميزان النقد : تنتمي القصيدة لغرض الجهاد لا إلى غرض المدح , فتحررت من قيود المدح التقليدية , وخلت من أي إشارة للمنفعة المادية , وعبرت القصيدة عن شاعر أمة وتوجهات عصر كامل هي الأمة الإسلامية فجسدت أخطارها في مرحلة خطيرة لا يساميها إلا المرحلة الحالية التي يعيشها المسلمون اليوم .
= والقصيدة ناجحة من الناحية الفنية إلا أن هناك هنات نظراً للسرعة , لأن الموقف يتطلب منه ذلك , وعلى كل حال فإننا نلحظ ما يلي : عدم الترتيب في بناء الصور . المبالغة المفرطة . اعترتها النثرية والمباشرة كما في المقطع الأخير منها . غلبة الطابع الفكري والتقريري .
في 8/ 8 / 1435هـــــــــــــ
في سياق وجداني صرف ؛يوميء فيه المتنبي إلى انصهاره ومحبوبته معاً
في بوتقة البعد العاصف ؛وعذابات البين ؛تتقاذفهما من كل جانب ؛فهي تطغى عليهما مؤرقة بذلك أجفانهما ؛وتصطنع حولهما سياجاً شائكاً يحجب عنهما نفحات وعود التلاقي ؛فيما لو أذن الزمان بالوصال المرتقب ؛ولانت قناته لهذا الغرام المضطرم ؛في هذا الجو الآسر تقرع أسماعنا كلمة (الضب)؛
وذلك في قوله:
لقد لعب البين المشت بها
و بي
و زودني في السير ما زود الضبَّا!
سأعترف لكم أيها القرَّاء أنني اهتززتُ وانتابني شعورٌ غريب ؛عليه مسحة من امتعاض واسترابة ؛بيد أنني سرعان ما أخضعت ذلك الشعور الطارئ لصوت العقلانية؛وعملت على تنحيته جانباً من أن يجثم على صفحة الفكر ؛سيَّما وأنني في حضرة (مالئ الدنيا شعراً؛ وشاغل الناس على مرِّ العصور)..
فنحن نستكثر على عبقرية المتنبي؛أن يقع -وهو الشاعر الغواص على المعاني ؛المدرك دقائقها وأسرارها – في مأزق “لفظة نابية مستكرهة”؛وعنده في اللغة ما لايحصى من النظائر الموحية ؛ولاننفي -مع ذلك الاعتداد بمكانته- صحة المآخذ المتعلقة بورود بعض الألفاظ الغريبة في شعره ؛مما لايتسع المجال للوقوف عندها في هذه المقالة ..
ويحسن بنا قبل الخوض في ملابسات (الضب) ؛أن نذكر موقع ذلك البيت من القصيدة..
وهي قصيدة بدأها المتنبي جريا على عادة الأقدمين ؛في التغني بالطلول البالية؛ومناجاتها ؛واستثمار فن الغزل ؛ في ساحاتها الباكية الصمَّاء؛على هذا النحو:
فَدَيناكَ مِن رَبعٍ وَإِن زِدتَنا كَربا
فَإِنَّكَ كُنتَ الشَرقَ لِلشَمسِ وَالغَربا!
وَكَيفَ عَرَفنا رَسمَ مَن لَم يَدَع لَنا
فُؤاداً لِعِرفانِ الرُسومِ وَلا لُبّا؟!
نَزَلنا عَنِ الأَكوارِ نَمشي كَرامَةً
لِمَن بانَ عَنهُ أَن نُلِمَّ بِهِ رَكبا!
نَذُمُّ السَحابَ الغُرَّ في فِعلِها بِهِ
وَنُعرِضُ عَنها كُلَّما طَلَعَت عَتبا!
وَمَن صَحِبَ الدُنيا طَويلاً تَقَلَّبَت
عَلى عَينِهِ حَتّى يَرى صِدقَها كِذبا!
إذن لم يتحرَّج أبو الطيب من استخدام كلمة (الضب ) في قصيدته هذه ؛ولم يكن مضطراً إلى اللفظة كقافية يسدُّ بها عجُز بيته كما قد تُظنُّ به الظنون ؛كما أنه لم تغب عن بصيرته المتقدة ؛ولاعن ذائقته المصقولة ؛مسألة وقع الكلمة؛وصورتها في أذهان أهل عصره؛والعصور السابقة؛وإنما قصد إلى هذا الكائن قصداً في غير مواربة؛ولامخافة من ألسن المنتقدين؛ولامن هم على شاكلتهم من خصومه الألداء؛الذين ناصبوه العداء لالشيء إلا لمكانته المرموقة في عالم الشعر ..
ولنستأنس هنا بمحاولة تحليل أبي العلاء المعرِّي لذلك البيت؛وتعليله اللماح ؛في (لامعه الغريزي)؛ إذ يقول:« أشبه ما يقال في هذا البيت أنهم يزعمون أن الضب إذا خرج من بيته فبعد لم يهتد للرجوع ؛فيقال: «هو أحير من ضب» , «وأبله من ضب»؛ ويمضي قائلاً :«ويجوز أنه يعني أنه لم يزود شيئًا ؛كما أن الضب لا يزود؛وخص الضب؛ لأنه لا يحتاج إلى الماء»
ونقف مع الأستاذ عبدالرحمن البرقوقي في شرحه للبيت ؛ على هذا النحو :«الضب: حيوان من الزحافات معروف يضرب به المثل في الحيرة، يقال: أحير من ضب؛ لأنه إذا خرج من جحره لا يهتدي إليه عند أوبته..
يقول: لعب الفراق بشملنا وزودني الضلال والحيرة فلا أهتدي إلى وجه، وليس إلى لقاء الحبيب من سبيل، وقيل: إن المراد كما أن الضب لا يتزود في المفازة؛ لأنه لا يحتاج إلى الماء أبدًا فكذا لم يزودني الفراق شيئًا؛ أي إنه لم يودع حبيبته وفارقها من غير وداع ولا التقاء فيكون التوديع زادًا كما قال بعضهم: زَوَّدَ الْأَحْبَابُ لِلْأَحـْـبَابِ ضَمًّا وَالْتِزَامَا!
وَسُلَيْمَى زَوَّدَتْنِي يَوْمَ تَوْدِيعِي السِّقَامَا!
وقال ابن فورجة :«أي زودني الضلال عن وطني الذي خرجت منه ؛فما أوفق للعودة إليه والاجتماع مع الحبيب ؛والضب يوصف بالضلال ؛وقلة الاهتداء إلى جحره.
وعبارة الواحدي يجوز أن يكون المعنى أن الضب مكانه المفازة ؛فلا يتزود إذا انتقل منها؛يقول: أنا في البين مقيم إقامة الضب في المفازة، وليس من عادة المقيم أن يتزود فالسير والبين كأنهما منزل».
وعندي إلى -جانب ماذكر الأوائل من قبلي- أنَّ المتنبي ذكر ذلك تهويلاً لوطأة (البين المشت ) وتعظيماً لشأنه؛وتقريباً لصورته ..
بمعنى آخر لما كان الشتات الذي تجشمه ؛واصطلى بنيرانه؛حصيلة ما لاقاه في رحلته المضنية تلك ؛اقتضى ذلك أن يصور المعنى الذي يحتدم في نفسه تصويراًمستبشعاً ؛باستدعاء صورة الضب غير المستحسنة عند الكثير من الناس من حيث المظهر والشكل الخارجي..
وفي هذا الصدد نتذكر هنا قصة الرسول – عليه الصلاة والسلام – عندما قُدم له الضب مشويًّا فلم يأكل منه بحضور خالد بن الوليد -رضي الله عنه- فقال أهو حرام يا رسول الله؟
فقال: “إنه ليس بأرض قومي؛ونفسي تعافه”.
فقال خالد بن الوليد: فأكلته؛ومصصتُ عظامه.
إذن لفظة (تعافه) في حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام مما يكتنف النفس الإنسانية ويعلق بها تجاه بعض الكائنات الأخرى ؛وما إليها من مشاهد ؛ من شأنها أن تصيب الإنسان بالفزع ؛أو عدم الارتياح؛مع الأخذ في الاعتبار أنها خلْقٌ من (خلق الله) له أسراره وميدانه الذي يتحرَّك فيه؛وتبارك الله أحسن الخالقين ..
————————
عودةٌ لأبي الطيب؛وطائفة من الشعراء:-
وليس المتنبي أول من تعرض لذكر الضب في شعره؛ فقد سبقه شعراء آخرون ؛تناوله بعضهم في معرض الهجاء على ماسنرى في النماذج التالية مما بسطها الجاحظ في كتابه (الحيوان)؛وغيره من المصنفين :-
قال امرؤ القيس يصف ديمة هطلت:
دِيمَةٌ هَطْلاءُ فِيها وَطَفٌ
طَبَقُ الأَرْضِ تَحَرَّى وَتَدُرّْ
تُخْرِجُ الوَدَّ إذا ما أَشْجَذَتْ
وَتُوارِيهِ إذا ما تَشْتَكِرْ
وَتَرَى الضَّبَّ خَفِيفًا ماهِرًا
ثانِيًا بُرْثُنَهُ ما يَنْعَفِرْ
وَتَرى الشَّجْراءَ في رَيِّقِهِ
كَرُؤُوسٍ قُطِّعَتْ فِيها الخُمُر
قال التميمي:
لكسرى كان أعقل من تميم
ليالي فرّ من أرض الضّباب !
فأنزل أهله ببلاد ريف
وأشجار وأنهار عذاب !
وصار بنو بنيه بها ملوكاً
وصرنا نحن أمثال الكلاب !
فلا رحم الإله صدى تميم
فقد أزرى بنا في كلّ باب !
وللحارث الكندي:
لعمرك ما إلى حسن أنخنا
ولا جئنا حسينا يابن أنس !
ولكنّ ضبّ جندلة أتينا
مضبّا في مضابئها يفسّي!
فلمّا أن أتيناه وقلنا
بحاجتنا تلوّن لون ورس !
وآض بكفّه يحتكّ ضرسا
يرينا أنّه وجع بضرس !
فقلت لصاحبي أبه كزاز
وقلت أسرّه أتراه يمسي ؟!
وقمنا هاربين معا جميعا
نحاذر أن نزنّ بقتل نفس!!
وللنواسي :
إذا ما تميميٌّ أتاك مفاخرا
فقل عدّ عن ذا كيف أكلك للضّبّ ؟!
تفاخر أبناء الملوك سفاهةً
وبولك يجري فوق ساقك والكعب !
ولآخر:
إن يأكلوا الضّبّ باتوا مخصبين به
وزادها الجوع إن باتت ولم تصد !
لو أنّ سعدا لها ريف لقد دفعت
عنه كما دفعت عن صالح البلد!
من ذا يقارع سعدا عن مفازتها
ومن ينافسها في عيشها النّكد؟!
وللدكتور مرزوق بن تنباك مقالة عنوانها؛ (حديث الضب) وفيها يشير لمكانة الضب عند العرب بقوله:«وللضب عند النحويين وجماع اللغة حين يسمعون الكلام ؛ويميزون بين الفصيح ؛والأفصح حتى يعتمدوه شاهدا على سلامة اللغة وصحة العربية؛ويكفي في عرفهم أن يكون المتكلم من حرشة الضِّباب ؛وأكلة اليرابيع ؛ليصح كلامه ويتميز على غيره من عباد الله سكان الجزيرة العربية».
————————
من أمثال العرب في (الضب):
ذكر الدميري عن ابن خالويه أن الضب «لا يشرب الماء ؛ويعيش سبعمئة سنة فصاعدا؛ ويقال إنه يبول في كل أربعين يوم قطرة ، ولا تسقط له سن ؛ويقال إنَّ أسنانه قطعة واحدة ليست متفرقة»
وفيما يلي طائفة من أمثال العرب:
-” أضل من ضب ” و ” أعق من ضب ” ، ” أحيا من ضب ” أي أطول عمرا ، ” أجبن من ضب ” ؛” أبله من ضب ” و:أخدع من ضب ” ؛” أعقد من ذنب الضب “؛و ” أروى من ضب”.
و يقولون في الشيء الممتنع :
“لا يكون كذا حتى يرد الضب”؛و
“لا أفعل ذلك حتى يحن الضب في أثر الإبل الصادرة”..
-«خبّ ضبّ»؛و:«أخبّ من ضبّ» ؛
و «أخدع من ضبّ»؛و«كلّ ضبّ عند مرداته»
————————
الضبُّ وبعض خصائصه في ضوء الدراسات المعاصرة:
ويمكن إجمالها على النحو التالي:
1-أظهرت الدراسات العلمية التي أجريت على لحم الضب أنه يفوق كافة أنواع اللحوم في نسبة الكوليسترول ؛وأن درجة الحرارة الملائمة لمزاولة نشاطه تتراوح بين 34 و38 درجة مئوية.
2-يعيش الضب في البيئات المفتوحة المستوية تقريباً حيث يقوم الضب بحفر جحره بنفسه ويبلغ طول الجحر حوالي من 1 ـ 2 متر وفي بعض الأحيان يصل طول الجحر حوالي 4 أمتار.
3-عندما يقرر الضب الخروج للبحث عن غذائه في الصباح عند الساعة السابعة والنصف تقريباً وتكون درجة الحرارة حوالي 29 درجة مئوية ؛فإنه يُخرج رأسه مرفوعاً في البداية من فتحة الجحر ؛ويعرضه لأشعة الشمس
ليسمح بتعريض أكبر جزء من منطقة الصدر لأشعة الشمس حتى تصل الحرارة إلى 31 درجة مئوية ؛وهذه العملية تستغرق قرابة نصف ساعة ؛ثم يبدأ بعدها الخروج تدريجياً من الجحر..
4-للضب قدرة فسيولوجية وسلوكية تساعدة على التحكم في درجة حرارة جسمه.
5-في فصل الشتاء يخلد الضب ويبقى في بيات شتوي في جحره دون نشاط ملحوظ حتى يفوح دفء الربيع ليخرج من جديد؛وقد يخرج مضطراً من جحره عند سقوط الأمطار خوفاً من الغرق.
———————–
نهايةُ الرحلة:
لقد استبدَّ بي العجب أثناء مطالعاتي بعض كتب الأقدمين ككتاب الحيوان للجاحظ وعيون الأخبار؛وغيرهما؛ تجاه هذا الكائن الأعجوبة ؛إذ استفاضوا في ذكر الشواهد المتعلقة به في نصوص الشعراء ؛والأسرار العجيبة التي أُنيطت به؛إلى درجة أن حيكت حوله الأساطير -كما يخيل لي ذلك-؛كإشارتهم -على سبيل المثال -إلى تلك الصداقة المتينة التي تربطه بالعقرب؛من بين الكائنات الأخرى!
ولعل الجاحظ أكثر الذين أيدوا ذلك -في معرض كلامه المستفيض عنه- إذ يشير إلى تلك العلاقة بقوله:
« إنَّ الضب يحتمي بالعقرب خشية أن يأتيه من يصطاده، إذ تتولى العقرب في هذه الحالة الدفاع عنه بلسع مهاجمه».
والحمد لله من قبل ومن بعد..
يقول جاك ديريدا: «العنوان هو الثريا المعلقة في سماء النص»؛ إشارة إلى الاكتناز الدلالي الذي يتضمنه العنوان باعتباره العتبة الأولى في مسار القارئ نحو عوالم النص ومكنوناته، وبحسب الغذامي، فإن العنوان يكون :«خلاصة دلالية لما يظن الشاعر أنه فحوى قصيدته، أو أنه الهاجس الذي تحوم حوله، فهو ــ إذاً ــ يمثل تفسير الشاعر لنصه من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن العنوان هو إعلان النص وإشهار له».
من هذا المنطلق يمكن القول إن جملة (بوابة الريح)/ العنوان المعلق في فضاء قصيدة الشاعر محمد الثبيتي المنشورة ضمن أعماله الكاملة، تلك العبارة/ العنوان، تجسد اختزالا دلالياً بالغ التوتر والتكثيف لنص يمكن أن يصنف هو الآخر عنوانا شعريا لكامل تجربة الثبيتي الشعرية، وبوابة تعبر بنا إلى تفاصيل العلاقة القلقة بين النص والمبدع.. بين الشراع ومشيئة الريح.. بين العتمة المتربصة وأحلام المصابيح المسهدة في أحداق الليل.. بين الفاتنة ونزق المفتون وتجلياته.
وإذا جاز لنا أن نستعير من قاموس الألسنية مصطلح (الصوتيم)، ثم تجوزنا في استخدامه قليلا، كان بوسعنا إثر ذلك أن نعتبر هذا النص هو (صوتيم) التجربة الإبداعية للشاعر، ولب الممارسة الشعرية، وذلك لما انطوى بداخله من سيرة تستثمر المجاز الشعري لتوجز تفاصيل وإشارات شتى تمتد مدلولاتها إلى أقصى تخوم التجربة مراوحة بين الأضداد والثنائيات المتقابلة التي تشكل في مجموعها سيرة القصيدة/ الحياة أو الحياة/ القصيدة.
والإحالة إلى مفهوم القصيدة ؛وقلق الشعر ؛ومكابدات التجربة ؛باعتبارها قيمة ذات موضوعية ؛وصدقية عالية؛ تفضي إليها الممارسة التأويلية السابرة لغور النص، الرامية إلى استكناه مضامينه وتبديد كثافة الرمز، كل ذلك ــ بطبيعة الحال ــ لا يدخل في دائرة الإسقاط المباشر على النص من خارج أسواره، مثلما أنه لا يصنف باعتباره قيمة مسبقة تستبطنها القراءة، ويصطحبها التأويل دون مساءلة ؛ليحشد لها المؤكدات ؛ويجمع الشواهد ؛انتصارا لصدقية مفترضة قد لا يكون لها من الصدق نصيب؛
إنما يتأتى لهذه القراءة ادعاء ذلك الفهم، والخلوص إلى تلك القيمة عبر مسارين اثنين:
مسار النص الذي هو محور هذه القراءة وموضوعها.
ومسار التجربة الشعرية لمحمد الثبيتي في الجزء المتعلق منه بسيميائية الريح التي تواتر هبوبها في غير موضع من نصوص الشاعر وعلى امتداد مراحل تجربته؛الأمر الذي يكون معه لزاما لمن يتوخى مقاربة مفهوم الريح في موضع ما من مواضع التجربة أن يعرج على سائر دروب تلك الريح، ومواضع عصفها وسكونها، ليستبين دلالاتها وما تسوقه من الأنواء أو تثيره من غبار.
والولوج عبر بوابة الريح يستلزم دون شك أن نستدعي جزءا ليس باليسير من سيرة الريح لدى الشاعر، لعلنا بمعية تلك السيرة أن نفلح في فض مغاليق تلك البوابة، ونحيط بأسرار العبور، إلى ما أحكمت عليه أقفال مجازاتها.!
وبمراجعة المنجز الشعري للثبيتي وفق أعماله الكاملة، نجد أن مفردة (الريح ) قد وردت في اثني عشر موضعا ؛موزعة على عدة نصوص «سألقاك يوما، مساء وعشق وقناديل، ليلة الحلم وتفاصيل العنقاء، صفحة من أوراق بدوي، أغانٍ قديمة لمسافر عربي، أسميك فاتحة الغيث أم هاجس الصحو، بوابة الريح».
وإذا كانت هذه القراءة ستستدعي في مفاصل بعينها تلك الشذرات من النصوص التي تشكل الريح جزءا من تكوينها، وسيبدو ذلك منسجما مع ما تترامى إليه هذه القراءة من مقاربة دلالات الريح في النص، وربط الثريا المعلقة في سمائه إلى أفق آخر وسماء مغايرة حين نستهل مقاربة النص انطلاقاً من نص آخر ونقرع «بوابة الريح»بأنامل «البابلي» والبابلي هو عنوان نص للشاعر سابق على هذا النص، منشور ضمن مجموعة (التضاريس).
ويسوغ ابتداءنا به أن جملة (بوابة الريح) التي هي عنوان هذا النص قد وردت ضمن أحد مقاطعه مكررة أربع مرات كما في المقطع:
«تدلى من الشجر المر.. ثم استوى
عن بوابة الريح
أجهش
بوابة الريح
بوابة الريح
بوابة الريح
فانبثق الماء من تحته غدقا»!
ومن هنا يلتحم هذا المقطع من نص البابلي بنص بوابة الريح ؛ويغدو جسرا يؤكد عمق التجربة وامتدادها وتدفقها إلى الأمام، خصوصا ونحن نستحضر أسبقية نص البابلي بسنوات طويلة على نص بوابة الريح وفق السياق الزمني، وليس ذلك لمجرد (التناص) الظاهر بين النصين، أو ما يمكن تسميته بالنصية التحتية، والتي هي بحسب جيرار جينيت:«العلاقة بين نص ونص تحتي سابق يستند إليه فيحوله أو يغيره أو يطوره أو يوسعه»؛وإنما لأن هذا المقطع من نص البابلي هو المهاد الموضوعي لبوابة الريح، التي لا تغدو في المقطع السابق مجرد (بوابة ريح) إنما هي أيضا بوابة الماء الغدق الذي تفجر ؛وكأنه :«نهر من الريح عذري الحكايات» ؛وظل صاخبا حتى لحظة مُضي الشراع، تلك اللحظة المفصلية في عمر التجربة، حين خالف الشراع مشيئة الريح، وانطوى في ترحاله الفجر المنتظر:
«مضى شراعي بما لا تشتهي ريحي
وفاتني الفجر إذ طالت تراويحي»!
وقد كانت الريح نافذة المشيئة من قبل، وكانت سيدة المشهد كله، فقبل أن يعلن الشراع عصيانه كانت الريح تدير نجوم المجرة:
«وريح محملة بالضجيج
تدير نجوم المجرة حول
ضفاف الخليج
وتعبث بالصوت والماء والأمتعة»
وأيضا ثمة ما يؤشر إلى هيمنة الريح على البحر ومراكبه:
«زورق يأتي من الصحراء ممشوقاً كمارد
كشهاب فصلته الريح من قلب عطارد»
وحين نأخذ الريح في بعدها الرمزي، ونربطها بالقصيدة باعتبارها المعادل لذلك الرمز، فلن نعدم من سيميائيات الريح ما يوثق منطقية ذلك الربط، ففي نص :(أسميك فاتحة الغيث ؛أم هاجس الصحو)؟! يقول الشاعر:
للريح :
«قلت
تعالي أمارس فيك شعائر حزني
وحزن القصيدة».
حيث تغدو الريح فضاءً لحزن القصيدة، وهي ذاتها الريح التي تحتوي قلق الروح:
«أثير وراء الغيوم غباري
وأبعث معْ كل ريح بقاياي
همي، وخوفي
لألقاك عشقاً يجسد عمق
انتمائي»..
ولم يكن الشاعر ليودع بقاياه ريحا سوى ريح القصيدة التي تنازعه دمه:
«يأبى دمي أن يستريح
تشده امرأة وريح»
تلك الريح التي تنازع المرأة جنون الدم وقلقه ؛تعود قيدا يكبل تلك المرأة:
«يحتد صوت المغني
يكبل في قامة الريح امرأة»
وذلك لأن القصيدة / الريح هي المصيدة
«والقصائد في يديك مصائد
والليل بحر للهواجس والنهار قصيدة
لا تنتمي إلا لباريها وباري الناي»
وحتما فلن يمنح الشاعر عينيه وباسقات النخل فيهما إلا لعيون القصائد:
«كانت عيناي مزارع نخل
ألقيت بها للريح
فضاع اليوم وضاع الأمس»
وحين تكون القصيدة كل ذلك، حين تحقق هذا الحضور الطاغي، تكون كل خفقة شراع في مسيرة العمر لا تنبض فيها ريح مدعاة ألم، وكل اشتغال فيما عدا القصيدة ــ وفق رؤية النص ــ نافلة إذا ما استطال وقتها ألهت عن الفرض مثلما أن التراويح حين تطول مدعاة إلى فوات الفجر.!
وحين يستهل الشاعر البيت التالي بالفعل (أبحرت) فهو ضمنا يستدعي حضور الريح، فبغير الريح لا يتحقق الإبحار :(إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره)؛فإذا ما تحقق الإبحار عادت الريح قافية تهوي إلى مكان سحيق من الروح :
«تهوي إلى الأعماق قافيتي»..
ثم تمتد حبالا من التسابيح، وحللا من النور تزمل رحلة المنتبذ تلقاء مكة.!
ومفردة (مزمل) يمكن أن تحيل إلى النص القرآني في سورة (المزمل)؛
قال تعالى: (يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا)، ثم نربط مدلول الآية الكريمة التي تدعو إلى استبقاء شيء من الليل بعد طول القيام بقول الشاعر :
«وفاتني الفجر إذ طالت تراويحي»..
مستذكرين أن التراويح هي ضرب من قيام الليل، لنا أن نقول بعد ذلك إن النص يستبطن دلالة الآية الكريمة؛ثم يعمد إلى توظيفها بطريقة مختلفة وربما معاكسة في سياقين يبدوان على قدر من التنافر كما قال الشاعر في نص آخر:
«وكتبت نافرة الحروف ببطن مكة
والأهلة حول وجهك مستهلة
والقصائد في يديك مصائد»
فالقصائد مصائد الحروف النافرة والمختلفة والمغايرة، مثلما هي أيضا مصائد للنساء التي تكبل قاماتهن في الريح.
وربما أوحى بزوغ الحيز المكاني في النص المتمثل في (مكة) بإشراقة روحانية قياسا إلى العمق الروحي الذي يستحضره المكان، وتبوح لأجله الروح بآياتها، غير أن هذا الفهم الذي يطفو على السطح ابتداء ؛لا ينفذ إلى حقيقة الحضور المعمق الذي يمثله عامل المكان في بناء النص.
إن حضور (مكة) هنا وقبل أن يكون وثيق العلاقة بالروح هو حضور وثيق العلاقة بالريح ذاتها، يقول صاحب كتاب عبقرية العربية: «والرياح الأربع وهي الدبور والقبول والجنوب والشمال مناطها مكانان وهما مكة والحجر، فالدبور تأتي من دبر الكعبة والقبول من تلقائها وهي الصبا، والشمال تأتي من قبل الحجر، والجنوب من تلقائها».
ويقول صاحب كتاب الأزمنة والأمكنة: «وما جاء من وراء البيت فهو دبور، وما جاء قبالة ذلك فهو صباء والصباء القبول».
ومكة إذاً هي موئل الريح، وهي التي تمنح الريح هويتها وحقيقة وجودها، حين تكون تسمية الريح وفقا لجهة هبوبها على مكة، إذ التسمية هي حقيقة الوجود ؛ولا وجود للأشياء خارج حدود مسمياتها؛فإذا ما تماهى مفهوم الريح في النص بمفهوم القصيدة، أمكن القول حينها إن مكة هي الحاضنة المكانية والروحية والوجودية للقصيدة، ففي رحمها تتخلق الحروف.
«وكتبت نافرة الحروف ببطن مكة
والأهلة حول وجهك مستهلة»..
والأهلة مطالع النور وإشراقات النور الأولى التي تتزملها الروح وتتلو القصائد
«مزمل في ثياب النور منتبذ
تلقاء مكة أتلو آية الروح».
ولعل عمق دلالة المكان هنا تحيل بدورها إلى دلالات أكثر عمقا وأبعد غورا لباقي الدوال التي لا تنفك مرتبطة بأجواء المكان وما تؤشر إليه، فحين نقرن دلالة (مزمل) ؛إلى دلالة (النور) ضمن الإطار المكاني المحدد في مكة، يتجلى لنا ملمح من ملامح (التناص) الذي يستبطن عميقا الحكاية التاريخية لبعثة النبي ــ عليه الصلاة والسلام ــ حين نزل عليه جبريل في غار حراء الكائن بجبل النور وما تلا ذلك من عودته ــ عليه الصلاة السلام ــ إلى بيته قائلا: “زملوني، زملوني”، إلى نزول سورة المزمل، تلك اللحظة المفصلية في عمر التاريخ كله، والتي جسدت أول انبعاث للنور إزاء الظلام المهيمن، هي ذاتها التي يستثمر النص أصداءها، ويعكس تفاصيلها في مرايا رؤاه، ليضع الظلام على الضفة المقابلة للنور مندهشا ومستريبا إزاء الانبعاث المفاجئ للنور:
«والليل يعجب مني ثم يسألني
بوابة الريح ما بوابة الريح؟!»..
ولعل ذلك قريب الشبه جدا بالمشهد المكي لحظة إطلالة النور المستجد بعد تلك الحادثة، وما آل إليه الأمر من خلخلة السائد والدهشة التي تفشت إبان تلك اللحظة التاريخية
وأعمق من ذلك ؛وأبعد غورا ما يمكن أن تحمل عليه مفردتا (منتبذ) و(الروح) من رمزية الدلالة إلى ارتباط القصيدة بالإلهام الرباني المتجسد في (الروح)، والذي يستلزم بلوغه حالة من الصفاء الروحي ؛والخلوص عن كل شاغل ؛وانتباذ كل شيء في خلوة القصيدة المؤطرة في فضاء النور، وإحالاته شديدة التكثيف والعمق.
وربما لا يتسق ومنهج القراءة أن نشير إلى إقامة الشاعر بمكة في جبل النور تحديدا، ولكنها إضافة تدعم ما ذهبنا إليه من دلالات الرموز فيما سبق.
والمقطع السابق يرصد صيرورة القصيدة لحظة أن تهوي إلى الأعماق إلهاما ينسكب من ميزاب السماء، أو ترتقي حبالاً من التسابيح الممتدة نحو السماء، فهي تعتلج أبدا بين السماء والأرض وكأنها الريح في دائب حركتها، وكأن تلك الحركة الآخذة في العلو حينا والانخفاض حينا، صورة تتسق ومشهدية الإبحار في لجج الماء حين لا يستقر المركب على حال من العلو أو الانخفاض.
وإذ ترصد الأبيات صيرورة القصيدة فهي لا تتوقف عند ذلك، بل تعمد إلى اقتناص هوية القصيدة في لحظة صيرورتها تلك وتلاحقها في صور متعددة، فتكون بوابة الريح حينا، وآية الروح حينا آخر، والريح تستدعي حقلا من دلالات القلق والحركة وما تنطوي عليه الذاكرة من نذر العذاب كل ذلك مقابل علوية الريح وسكونها وما تستدعيه من دلالات ضاربة في عمق العاطفة الإنسانية المتسامية أبدا نحو السماء.
ثم تتخلى الريح عن مجازية دلالتها في المقطع التالي من النص، لتعود ريحا تعصف بالعلائق الواهية مع الليل فتعود قبضا من الريح، ثم يرصد توالي أفعال المضارعة «يعجب، يسأل، يرقب»؛في الأبيات
«والليل يعجب مني ثم يسألني
بوابة الريح ما بوابة الريح؟!
فقلت والسائل الليلي يرقبني
والود ما بيننا قبضٌ من الريح!
يرصد توالي أفعال المضارعة السابقة هواجس الليل المتنامية إزاء تجليات النور المحدق به، والليل قيمة رمزية لا تفهم إلا في سياق ما سلف من فلسفة القصيدة التي تنبعث في لحظة كثيفة النور، تلتقي فيها الأرض بالسماء، وتشرق القصيدة فجرا جديدا يتسامى ليصبح نهارا ساطعا :
«والنهار قصيدة لا تنتمي إلا لباريها وباري الناي»
بينما :«الليل بحر للهواجس والهموم»..
ومن هنا فالليل إحالة عميقة إلى ظرف تاريخي لم يكن ليتطامن إلى تلك القصيدة التي تتخلق في النور في بطن مكة في حالة مخاض فريدة، إذ الرحم رحم من نور ينفي ما يتكاثف حول الأرحام من الظلمات الثلاث.
ولأن القصيدة هي ارتياد المجهول أبدا، والشاعر يهجس باختراق الآفاق دائما، وقد جاءت الجمل التي تؤكد ذلك متطابقة من حيث سماتها الأسلوبية، فعليه تحيل إلى المتكلم:
«فما تيممت شمسا غير صافية
وما طرقت سماء غير مفتوح»!
وهذا الذي يصعد في السماء هو ذاته الذي استهل من قبل مبحرا :
«أبحرت تهوي إلى الأعماق قافيتي»
وإن كانت الرحلة هنا موزعة بين ثبج البحر ؛وآفاق السماء؛فإن شرفة النور في بطن مكة كانت فاتحة الحكاية ومبتدأ الرحلة، والزورق الذي:
«امتطى غلس التيه»
حين كانت :«الرياح مواتية للسفر»
إنما استهل رحلته من الصحراء
«زورق يأتي من الصحراء ممشوقا كمارد
فصلته الريح من قلب عطارد»
فيما ربانه يردد:
«أتيت أركض والصحراء تتبعني
وأحرف الرمل تجري بين خطواتي»
«أتيت أنتعل الآفاق أمنحها
جرحي وأبحث فيها عن بداياتي».
ثم يعود النص مفصحا عن كنه ذلك الابتلاء الذي يمهد لوحي الشعر، متمثلا في ذلك القلق الذي يعتري الشاعر نذيرا بين يدي القصيدة في لحظة خارج أطر الزمان والمكان، حيث لا زمن إلا مواقيت ذلك القلق، ولا مكان سوى البقعة من الروح التي تدار فيها مفاتيح الوحي في أقفال القصائد، فتنفرج بوابة الريح عن ريح عاتية من الشعر تلوي أعناق النخيل وتعصف بالشيح لأجل الفاتنة التي تبتلي والتي توحي، وهناك في دوامات الريح تلك يروق لذلك المسكون بالقلق أن يبتني منزله مقيما : «على شغف الزوبعة» تاركا لدمه الذي تضمنته مقلتا فاتنته أن يظل موزعا بين :«امرأة وريح»..
وإذ يتآخى النخل والشيح في ختام النص ويقتسمان الأحلى من القول، فليس ذلك أول التآخي بينهما، فقد تآخيا من قبل في مقطع مكتنز الدلالات من نص: «موقف الرمال»:
«للنخل )للكثبان ؛للشيح الشمالي
وللنفحات من ريح الصبا؛
للطير في خضر الربى؛
للشمس
للجبل الحجازي؛
وللبحر التهامي»
والمقطع يرسم خارطة للجهات بين شيح الشمال، وصبا الجنوب، وبحر تهامة، وجبال الحجاز، وربى نجد، ثم يوسع في مدى الصورة لتبلغ أفق الشمس التي تستحيل بدورها جهة يتيممها الشعر في معراجه جهة السماء:
«وما تيممت شمسا غير ساطعة
ولا طرقت سماء غير مفتوح»
وعليه، فالشيح يؤشر إلى الشمال، والشمال الجهة الوحيدة التي تعتنقها البوصلة أبدا، والبوصلة أول عدة البحار، والنص استهل رحلته مبحرا، والشمال كذلك أعلى جهات الخارطة، وكأن بوصلة القصيدة إذ تشير على الشمال تستكنه ذلك العلو المتسق مع الارتقاء في حبال الريح، ولحظة الإلهام في أعلى ذرى النور حين :
«تسري الدماء من العروق إلى العذوق/ فتنتشي لغة البروق»؛ولغة البروق تلك هي التي أحكمت أبيات نص مثل (بوابة الريح) .
ناضلت هذه القراءة كثيرا لتشرع مغاليق تلك البوابة ؛ولتجيب عن سؤال مفاده.. ما بوابة الريح ؟!
قراءة تأملية في نص “توق” للأستاذة صفاء الأحمد
ـــــــــــــــــــــــ
النص:
تعال..
لنتحدّث كما كنّا نفعل من قبل..
سأبدأ من مضغة خبيثة
تضخُّ سمًّا في عروقي
كما لو أنها لفظتك..
لنتحدّث عن
عريشتنا التي
كنا نشيّدها معًا
بينما تجمع لنا العصافير
القش والقصب..
طفلتنا الأولى التي
تقيأها جسدي
بعد أن غصّ بشظية..
حلمنا الذي
بصقته غيمة
فسالَ مع الجداول
شربنه الحسناوات
فنبتت على أجسادهن الزهور
وماتت على جسدي القُبل..
عن أبيك الذي
شرَدَ بين الحقول
ينام في الخنادق،
يعاشر البندقية
ويخرج من ظهره الرصاص..
عن نساء البلدة اللاتي
يشعلن نارًا
لإعداد قوت أشداق
مفتوحة للهواء..
عن أقدام أطفال عارية
تلاحق كرة
مصنوعة من بقايا أقمشة..
عن الشهاب الذي
لمع في أعيننا بريقه وغاب..
الأغاني التي
ذابت في حناجرنا..
أحاديثي السخيفة..
ووجعي الثائر..
عن صفحة البحيرة التي
لم تعد تعكس وجهك..
عن الشمس الباردة..
الربيع الأصفر..
الرياح التي
تحمل ملامحك
وتصفع بها كل الوجوه..
عني..
وأنا أنتظرك
على ناصية شارع
يكلأ أسرار بيوت تهدمت
ويحتسي ماء العيون..
دعني أتحدث
كما لو أنك هنا..
كما لو أنه لم يحتضنك تابوت..
ـــــــــــــــــــــ
القراءة:
نص “توق” للأستاذة صفاء الأحمد نموذج للنص الذي تستعصي على المتلقي الإحاطة بجميع تفاصيله؛ لأنه نص منفتح على جميع المآلات.
نص عميق المعنى، مسبوك المبنى، مكتنز بالمفردات الموحية ذات الظلال التي ترمي بعيدا؛ بحيث يعجز عن رؤيتها القارئ غير المتأمل.
يتأرجح النص بين الانتظار- وهو انتظار ما لا يجيء، كما في “انتظار جودو” لصمويل بيكيت – وبين توق وشوق لغائب لن يعود؛ فالشوق إلى الأموات قاتل.
نص يُعَد مرثية لميت، اشتاقَ له الأحياء، ولكن هيهات أن يرووا شوقهم وتوقهم، فرمزية النص عميقة وغموضه متأكِّد، لكن من حصافة الكاتبة أنها منحت القارئ مفتاحا لفك شفرة الرمز وتجلية الغموض؛ ليتبيَّن غرض النص، وذلك في المقطع الأخير:
دعني أتحدث
كما لو أنك هنا
كما لو أنه لم يحتضنك تابوت.
يبدأ النص بالنداء ” تعال” وبالغرض من النداء: “نتحدث” ويتبعه بالوصف، أي بيان نوع التحدث، وهو “كما كنا نفعل ” ، وتحديد الموضوعات التي يتحدثان عنها ، وهي عريشتهم وعشهم، وأبيه ، ونساء البلدة، وطفلتهما وحلمهما ، عن أقدام أطفال يلعبون بكرة قماشية، عن الشهاب…
النص يتَّسم بالوحدة العضوية؛ فقد أحكمت الكاتبة البناء الفني لنصها، فلم يترهل منها، فكانت كل جزئية تُسلِم لما بعدها في بناء متكامل متماسك.
وبسبب استفحال التوق وتعاظم الشوق، فقد وظفت الكاتبة كل أدواتها الفنية ببراعة؛ تحقيقا لعنوان النص.
أتوقف عند ملمح عميق في النص، وهو الاتحاد بين الإنسان والطبيعة، الذي برز في مفردات مثل :
العصافير، القش، القصب، الجداول، الزهور، الحقول …
وتجلَّى في صور بديعة تجسِّد ذلك الاتحاد، مثل هذا المقطع:
لنتحدّث عن
عريشتنا التي
كنا نشيّدها معًا
بينما تجمع لنا العصافير
القش والقصب..
تميزت الكاتبة بقدرتها على التناول غير النمطي لصور مطروقة، أتت بها في ثوب مختلف، بعد أن خلعت عنها ثوبها الخَلِق البالي ؛ فلنتأمل هذه الصورة الممتدة:
حلمنا الذي
بصقته غيمة
فسالَ مع الجداول
ثم تمتد صورة ذلك الحلم:
شربنه الحسناوات
فنبتت على أجسادهن الزهور
وماتت على جسدي القُبل..
ويبرز مشهد الجندي المحارب – في تناول غير نمطي تماما -الذي :
ينام في الخنادق
يعاشر البندقية
ويخرج من ظهره الرصاص..
عند النظرة الأولية للنص تبرز للقارئ أغراض، يظن أن النص تناولها، لكن عند سبر أغوار النص العميق يتضح لنا قضية أعم وغرضا أشمل تناولته الأستاذة صفاء، فيمتد التناول إلى قضايا تمس هَمَّ الوطن؛ فتنفتح التأويلات للمتلقي، وهذه هي أهم ميزة يمكن أن يتميز بها نص باذخ، أن يكون نصا احتماليا يستعصي على أحادية التأويل .
ثم نلمح أن النص يُعد نصا قصصيا، وعند مزيد من التأمل نجد أن الكاتبة إحدى شخصياته بل بطلة من أبطال قصته.
يعج النص بكلمات توحي بالاشمئزاز، وتُشعر بالضجر، ومنها : بصقته… تتقيأ …خبيثة… لفظتك… سم …
وفي النص تخالف الأشياء طبيعتها، فلا البحيرة تعكس وجه مَن ينظر إليها، ولا الشمس تنشر الدفء والحرارة:
عن صفحة البحيرة التي
لم تعد تعكس وجهك..
عن الشمس الباردة..
وتنقلنا أستاذة صفاء بعدستها التصويرية البارعة إلى تشخيص بديع جدا؛ حينما جعلت الشارع حارسا للبيوت، حافظا أسرارها ، رغم أنها -أي البيوت- صارت أطلالا مهدمة:
وأنا أنتظرك
على ناصية شارع
يكلأ أسرار بيوت تهدمت
ثم تبرز مفارقة تصويرية عجيبة ، فالمؤثر واحد، ولكن تباين الأثر، ما بين إنبات وذبول، وحياة وموت:
فنبتت على أجسادهن الزهور
وماتت على جسدي القُبل..
تتنوع الجمل في النص ما بين اسمية وفعلية، ولكن يغلب على النص الجمل الفعلية – ففي النص ما يزيد عن الثلاثين فعلا -التي توحي بالحركة والحدوث والتجدد؛ مما ضخَّ الحياة في نص يتحدث عن ميت، وذلك قمة الإبداع.
كما طغى استخدام الأسلوب الخبري على الإنشائي، وذلك يناسب طابع النص القصصي، وجاء الإنشاء قليلا، مثل الأمر:
دعني أتحدث
كما لو أنك هنا
يزخر النص بالصور الجمالية، ومنها الاستعارات مثل:
الأغاني التي
ذابت في حناجرنا
والطباق بين “لمع وغاب”؛ مما يؤدي إلى توضيح المعنى.
والجناس بين “كما، كنا”؛ مما يؤدي إلى جرس موسيقيٍّ تستلذ به الأذن.
تكرار بعض الحروف بكثرة، وبتبادل محكم، مثل “الشين والسين” في جميع النص؛ مما خلق تناغما صوتيا ممتعا، أدّى إلى رفع قيمة المستوى الصوتي في النص.
أخيرا أتوقف عند تعبيرها في قولها:
شربنه الحسناوات
وهذه من لغة أكلوني البراغيث، وكان الأفضل أن تقول:
شربتْه الحسناوات.
ولكن تلك اللغة -رغم غرابتها – ورد بها بعض التفاسير في القرآن الكريم عن قوله تعالى: (وأسروا النجوى الذين ظلموا)، وكذلك في شروحات الحديث النبوي الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم : ( يتعاقبون فيكم ملائكة…)
أقول مرة أخرى إنه نص عميق، غني بالدلالات، مكتنز بالتأويلات، منفتح على كل القراءات؛ فالأديب يبدع نصه، ويخرجه للمتلقي، وللمتلقي -سواء أكان ناقدا أو قارئا -الحرية في فهم تأويلات النص، دون تقيد برؤية الأديب، ودون الالتزام بمراميه.