في سياق وجداني صرف ؛يوميء فيه المتنبي إلى انصهاره ومحبوبته معاً
في بوتقة البعد العاصف ؛وعذابات البين ؛تتقاذفهما من كل جانب ؛فهي تطغى عليهما مؤرقة بذلك أجفانهما ؛وتصطنع حولهما سياجاً شائكاً يحجب عنهما نفحات وعود التلاقي ؛فيما لو أذن الزمان بالوصال المرتقب ؛ولانت قناته لهذا الغرام المضطرم ؛في هذا الجو الآسر تقرع أسماعنا كلمة (الضب)؛
وذلك في قوله:
لقد لعب البين المشت بها
و بي
و زودني في السير ما زود الضبَّا!
سأعترف لكم أيها القرَّاء أنني اهتززتُ وانتابني شعورٌ غريب ؛عليه مسحة من امتعاض واسترابة ؛بيد أنني سرعان ما أخضعت ذلك الشعور الطارئ لصوت العقلانية؛وعملت على تنحيته جانباً من أن يجثم على صفحة الفكر ؛سيَّما وأنني في حضرة (مالئ الدنيا شعراً؛ وشاغل الناس على مرِّ العصور)..
فنحن نستكثر على عبقرية المتنبي؛أن يقع -وهو الشاعر الغواص على المعاني ؛المدرك دقائقها وأسرارها - في مأزق "لفظة نابية مستكرهة"؛وعنده في اللغة ما لايحصى من النظائر الموحية ؛ولاننفي -مع ذلك الاعتداد بمكانته- صحة المآخذ المتعلقة بورود بعض الألفاظ الغريبة في شعره ؛مما لايتسع المجال للوقوف عندها في هذه المقالة ..
ويحسن بنا قبل الخوض في ملابسات (الضب) ؛أن نذكر موقع ذلك البيت من القصيدة..
وهي قصيدة بدأها المتنبي جريا على عادة الأقدمين ؛في التغني بالطلول البالية؛ومناجاتها ؛واستثمار فن الغزل ؛ في ساحاتها الباكية الصمَّاء؛على هذا النحو:
فَدَيناكَ مِن رَبعٍ وَإِن زِدتَنا كَربا
فَإِنَّكَ كُنتَ الشَرقَ لِلشَمسِ وَالغَربا!
وَكَيفَ عَرَفنا رَسمَ مَن لَم يَدَع لَنا
فُؤاداً لِعِرفانِ الرُسومِ وَلا لُبّا؟!
نَزَلنا عَنِ الأَكوارِ نَمشي كَرامَةً
لِمَن بانَ عَنهُ أَن نُلِمَّ بِهِ رَكبا!
نَذُمُّ السَحابَ الغُرَّ في فِعلِها بِهِ
وَنُعرِضُ عَنها كُلَّما طَلَعَت عَتبا!
وَمَن صَحِبَ الدُنيا طَويلاً تَقَلَّبَت
عَلى عَينِهِ حَتّى يَرى صِدقَها كِذبا!
إذن لم يتحرَّج أبو الطيب من استخدام كلمة (الضب ) في قصيدته هذه ؛ولم يكن مضطراً إلى اللفظة كقافية يسدُّ بها عجُز بيته كما قد تُظنُّ به الظنون ؛كما أنه لم تغب عن بصيرته المتقدة ؛ولاعن ذائقته المصقولة ؛مسألة وقع الكلمة؛وصورتها في أذهان أهل عصره؛والعصور السابقة؛وإنما قصد إلى هذا الكائن قصداً في غير مواربة؛ولامخافة من ألسن المنتقدين؛ولامن هم على شاكلتهم من خصومه الألداء؛الذين ناصبوه العداء لالشيء إلا لمكانته المرموقة في عالم الشعر ..
ولنستأنس هنا بمحاولة تحليل أبي العلاء المعرِّي لذلك البيت؛وتعليله اللماح ؛في (لامعه الغريزي)؛ إذ يقول:« أشبه ما يقال في هذا البيت أنهم يزعمون أن الضب إذا خرج من بيته فبعد لم يهتد للرجوع ؛فيقال: «هو أحير من ضب» , «وأبله من ضب»؛ ويمضي قائلاً :«ويجوز أنه يعني أنه لم يزود شيئًا ؛كما أن الضب لا يزود؛وخص الضب؛ لأنه لا يحتاج إلى الماء»
ونقف مع الأستاذ عبدالرحمن البرقوقي في شرحه للبيت ؛ على هذا النحو :«الضب: حيوان من الزحافات معروف يضرب به المثل في الحيرة، يقال: أحير من ضب؛ لأنه إذا خرج من جحره لا يهتدي إليه عند أوبته..
يقول: لعب الفراق بشملنا وزودني الضلال والحيرة فلا أهتدي إلى وجه، وليس إلى لقاء الحبيب من سبيل، وقيل: إن المراد كما أن الضب لا يتزود في المفازة؛ لأنه لا يحتاج إلى الماء أبدًا فكذا لم يزودني الفراق شيئًا؛ أي إنه لم يودع حبيبته وفارقها من غير وداع ولا التقاء فيكون التوديع زادًا كما قال بعضهم: زَوَّدَ الْأَحْبَابُ لِلْأَحـْـبَابِ ضَمًّا وَالْتِزَامَا!
وَسُلَيْمَى زَوَّدَتْنِي يَوْمَ تَوْدِيعِي السِّقَامَا!
وقال ابن فورجة :«أي زودني الضلال عن وطني الذي خرجت منه ؛فما أوفق للعودة إليه والاجتماع مع الحبيب ؛والضب يوصف بالضلال ؛وقلة الاهتداء إلى جحره.
وعبارة الواحدي يجوز أن يكون المعنى أن الضب مكانه المفازة ؛فلا يتزود إذا انتقل منها؛يقول: أنا في البين مقيم إقامة الضب في المفازة، وليس من عادة المقيم أن يتزود فالسير والبين كأنهما منزل».
وعندي إلى -جانب ماذكر الأوائل من قبلي- أنَّ المتنبي ذكر ذلك تهويلاً لوطأة (البين المشت ) وتعظيماً لشأنه؛وتقريباً لصورته ..
بمعنى آخر لما كان الشتات الذي تجشمه ؛واصطلى بنيرانه؛حصيلة ما لاقاه في رحلته المضنية تلك ؛اقتضى ذلك أن يصور المعنى الذي يحتدم في نفسه تصويراًمستبشعاً ؛باستدعاء صورة الضب غير المستحسنة عند الكثير من الناس من حيث المظهر والشكل الخارجي..
وفي هذا الصدد نتذكر هنا قصة الرسول - عليه الصلاة والسلام - عندما قُدم له الضب مشويًّا فلم يأكل منه بحضور خالد بن الوليد -رضي الله عنه- فقال أهو حرام يا رسول الله؟
فقال: "إنه ليس بأرض قومي؛ونفسي تعافه".
فقال خالد بن الوليد: فأكلته؛ومصصتُ عظامه.
إذن لفظة (تعافه) في حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام مما يكتنف النفس الإنسانية ويعلق بها تجاه بعض الكائنات الأخرى ؛وما إليها من مشاهد ؛ من شأنها أن تصيب الإنسان بالفزع ؛أو عدم الارتياح؛مع الأخذ في الاعتبار أنها خلْقٌ من (خلق الله) له أسراره وميدانه الذي يتحرَّك فيه؛وتبارك الله أحسن الخالقين ..
------------------------
عودةٌ لأبي الطيب؛وطائفة من الشعراء:-
وليس المتنبي أول من تعرض لذكر الضب في شعره؛ فقد سبقه شعراء آخرون ؛تناوله بعضهم في معرض الهجاء على ماسنرى في النماذج التالية مما بسطها الجاحظ في كتابه (الحيوان)؛وغيره من المصنفين :-
قال امرؤ القيس يصف ديمة هطلت:
دِيمَةٌ هَطْلاءُ فِيها وَطَفٌ
طَبَقُ الأَرْضِ تَحَرَّى وَتَدُرّْ
تُخْرِجُ الوَدَّ إذا ما أَشْجَذَتْ
وَتُوارِيهِ إذا ما تَشْتَكِرْ
وَتَرَى الضَّبَّ خَفِيفًا ماهِرًا
ثانِيًا بُرْثُنَهُ ما يَنْعَفِرْ
وَتَرى الشَّجْراءَ في رَيِّقِهِ
كَرُؤُوسٍ قُطِّعَتْ فِيها الخُمُر
قال التميمي:
لكسرى كان أعقل من تميم
ليالي فرّ من أرض الضّباب !
فأنزل أهله ببلاد ريف
وأشجار وأنهار عذاب !
وصار بنو بنيه بها ملوكاً
وصرنا نحن أمثال الكلاب !
فلا رحم الإله صدى تميم
فقد أزرى بنا في كلّ باب !
وللحارث الكندي:
لعمرك ما إلى حسن أنخنا
ولا جئنا حسينا يابن أنس !
ولكنّ ضبّ جندلة أتينا
مضبّا في مضابئها يفسّي!
فلمّا أن أتيناه وقلنا
بحاجتنا تلوّن لون ورس !
وآض بكفّه يحتكّ ضرسا
يرينا أنّه وجع بضرس !
فقلت لصاحبي أبه كزاز
وقلت أسرّه أتراه يمسي ؟!
وقمنا هاربين معا جميعا
نحاذر أن نزنّ بقتل نفس!!
وللنواسي :
إذا ما تميميٌّ أتاك مفاخرا
فقل عدّ عن ذا كيف أكلك للضّبّ ؟!
تفاخر أبناء الملوك سفاهةً
وبولك يجري فوق ساقك والكعب !
ولآخر:
إن يأكلوا الضّبّ باتوا مخصبين به
وزادها الجوع إن باتت ولم تصد !
لو أنّ سعدا لها ريف لقد دفعت
عنه كما دفعت عن صالح البلد!
من ذا يقارع سعدا عن مفازتها
ومن ينافسها في عيشها النّكد؟!
وللدكتور مرزوق بن تنباك مقالة عنوانها؛ (حديث الضب) وفيها يشير لمكانة الضب عند العرب بقوله:«وللضب عند النحويين وجماع اللغة حين يسمعون الكلام ؛ويميزون بين الفصيح ؛والأفصح حتى يعتمدوه شاهدا على سلامة اللغة وصحة العربية؛ويكفي في عرفهم أن يكون المتكلم من حرشة الضِّباب ؛وأكلة اليرابيع ؛ليصح كلامه ويتميز على غيره من عباد الله سكان الجزيرة العربية».
------------------------
من أمثال العرب في (الضب):
ذكر الدميري عن ابن خالويه أن الضب «لا يشرب الماء ؛ويعيش سبعمئة سنة فصاعدا؛ ويقال إنه يبول في كل أربعين يوم قطرة ، ولا تسقط له سن ؛ويقال إنَّ أسنانه قطعة واحدة ليست متفرقة»
وفيما يلي طائفة من أمثال العرب:
-" أضل من ضب " و " أعق من ضب " ، " أحيا من ضب " أي أطول عمرا ، " أجبن من ضب " ؛" أبله من ضب " و:أخدع من ضب " ؛" أعقد من ذنب الضب "؛و " أروى من ضب".
و يقولون في الشيء الممتنع :
"لا يكون كذا حتى يرد الضب"؛و
"لا أفعل ذلك حتى يحن الضب في أثر الإبل الصادرة"..
-«خبّ ضبّ»؛و:«أخبّ من ضبّ» ؛
و «أخدع من ضبّ»؛و«كلّ ضبّ عند مرداته»
------------------------
الضبُّ وبعض خصائصه في ضوء الدراسات المعاصرة:
ويمكن إجمالها على النحو التالي:
1-أظهرت الدراسات العلمية التي أجريت على لحم الضب أنه يفوق كافة أنواع اللحوم في نسبة الكوليسترول ؛وأن درجة الحرارة الملائمة لمزاولة نشاطه تتراوح بين 34 و38 درجة مئوية.
2-يعيش الضب في البيئات المفتوحة المستوية تقريباً حيث يقوم الضب بحفر جحره بنفسه ويبلغ طول الجحر حوالي من 1 ـ 2 متر وفي بعض الأحيان يصل طول الجحر حوالي 4 أمتار.
3-عندما يقرر الضب الخروج للبحث عن غذائه في الصباح عند الساعة السابعة والنصف تقريباً وتكون درجة الحرارة حوالي 29 درجة مئوية ؛فإنه يُخرج رأسه مرفوعاً في البداية من فتحة الجحر ؛ويعرضه لأشعة الشمس
ليسمح بتعريض أكبر جزء من منطقة الصدر لأشعة الشمس حتى تصل الحرارة إلى 31 درجة مئوية ؛وهذه العملية تستغرق قرابة نصف ساعة ؛ثم يبدأ بعدها الخروج تدريجياً من الجحر..
4-للضب قدرة فسيولوجية وسلوكية تساعدة على التحكم في درجة حرارة جسمه.
5-في فصل الشتاء يخلد الضب ويبقى في بيات شتوي في جحره دون نشاط ملحوظ حتى يفوح دفء الربيع ليخرج من جديد؛وقد يخرج مضطراً من جحره عند سقوط الأمطار خوفاً من الغرق.
-----------------------
نهايةُ الرحلة:
لقد استبدَّ بي العجب أثناء مطالعاتي بعض كتب الأقدمين ككتاب الحيوان للجاحظ وعيون الأخبار؛وغيرهما؛ تجاه هذا الكائن الأعجوبة ؛إذ استفاضوا في ذكر الشواهد المتعلقة به في نصوص الشعراء ؛والأسرار العجيبة التي أُنيطت به؛إلى درجة أن حيكت حوله الأساطير -كما يخيل لي ذلك-؛كإشارتهم -على سبيل المثال -إلى تلك الصداقة المتينة التي تربطه بالعقرب؛من بين الكائنات الأخرى!
ولعل الجاحظ أكثر الذين أيدوا ذلك -في معرض كلامه المستفيض عنه- إذ يشير إلى تلك العلاقة بقوله:
« إنَّ الضب يحتمي بالعقرب خشية أن يأتيه من يصطاده، إذ تتولى العقرب في هذه الحالة الدفاع عنه بلسع مهاجمه».
والحمد لله من قبل ومن بعد..