قصيدة ( كفى الله دمياط الحوادث ) للبهاء زهير قراءة فنّية للدكتور / محمد بن علي بن درع
هو أبو الفضل زهير محمد بن علي بن يحيي المهلبي الأزدي , ولقبه : بهاء الدين , ولد في مكة خامس ذي الحجة سنة 581هــ , ونشأ وربى في قوص مدينة العلم في صعيد مصر .
كان على صلة بالملك العادل وابنه الملك الكامل الذي هزم الصليبين واستعاد منهم دمياط , كما كانت له صلة بالملك المسعود يوسف بن الملك الكامل , ثم كانت له أقوى الصلات بالملك الصالح نجم الدين أيوب .
// مناسبة القصيدة : كان انتصار الملك الكامل على الصليبين وانتزاع ثغر دمياط منهم عزة للإسلام والمسلمين وفخراً لهم أجمعين لا في مصر وحدها , ولكن في بغداد ودمشق ومكة وطيبة وغيرها , فكانت هذه القصيدة صدى لما تجيش به نفس البهاء زهير في هذه المناسبة العظيمة .
// الغرض الذي قيلت فيه هذه القصيدة : هذه القصيدة مدح للملك الكامل وإشادة ببطولته وانتصاره على الصليبيين أعداء الدين , وفيها فخر للمسلمين بهذا النصر العظيم , ولم يخلط الشاعر بين غرض المدح وبين شيء آخر كفخره بشعره على ما جرت به عادة الشعراء .
// الفكرة العامة في القصيدة : هي إشادة ببطولة الملك الكامل في هذا النصر العظيم , وإزجاء للبشري به للعالم الإسلامي كله , مع تصوير لبطولة الجيش المسلم وبيان لذل الصليبيين وخضوعهم وانهزامهم .
// الأفكار الجزئية الموضحة للفكرة العامة :
- مكانة النصر وأثره في المسلمين . الأبيات من ( 1- 5 ) .
- مدح الملك الكامل . الأبيات من ( 6 -12 )
- أثر هذا النصر في العالم الإسلامي . الأبيات من ( 13- 20 ) .
- تصوير للمعركة وما دار فيها من بطولات . الأبيات من ( 21- 31 )
- هزيمة الصليبيين وانكسارهم . البيتان من ( 32- 33 ) .
- كرم الملك الكامل في معاملة الأعداء ومنّه عليهم . الأبيات من ( 34- 36 ) .
- مكانة دمياط في العالم الإسلامي . البيتان من ( 37-38 )
- حديث عن هذا الفتح الكبير . الأبيات من ( 39- 50 ) .
// شرح القصيدة : القصيدة كلها تعبير عن البهجة والنصر , وأول ما تكشف عنه هذه القصيدة هو فهم الشاعر العميق لأبعاد المعركة فهي معركة بين الإسلام والكفر , وهذا هو البعد الذي صدر منه الشعراء في هذا العصر ؛ فالمعركة ذات هوية إسلامية واحدة .
*- كما تكشف هذه القصيدة أن هذا الفرح المحمود ليس لأمر شخصي , بل هو أمر عام , تخطى كل الحدود الوطنية والمحلية والإقليمية والقومية , إنه فرح محمود ونعمة كبرى تستحق الشكر والحمد .
*- كما كشفت القصيدة عظمة هذا النصر بعد طول الانتظار ؛ حتى إن الإنسان لو بذل نفسه فنقل البشرى إلى المسلمين في كل مكان بهذا النصر لكان قليلاً , وهذا النصر فتح أبواب القول على مصراعيها , وأذن للقائلين , فليقل ما شاء من هو قائل فهذا موضع النظم والنثر .
*- كما كشفت القصيدة عن تمجيد القائد والثناء على سخائه وكرمه وشجاعته وخضوع أعدائه لطاعته , ورفع مكانة الأمة الإسلامية بهذا النصر العظيم .
لك الله من مولى إذا جاد أو سطا فناهيك من عرف وناهيك من نكر .
وأقسم إن ذاقت بنو الأصفر الكرى فلا حلمت إلا بأعلامه الصفر
*- كما كشفت القصيدة عن قدرة الشاعر الفائقة في تصوير المعركة ورسم أحداثها وما دار فيها من بطولات وما لحق الصليبيين فيها من هزيمة منكرة , وما تميز به الملك الكامل من كرم المعاملة مع أعدائه ومنته عليهم .
*- وبيّن لنا أن النصر يقوم على دعامتين أساسيتين هما : الإيمان والقوة , وهذا ينم عن وعي عميق , لذلك قال : طهرها بالسيف , الذي هو رمز القوة المادية , وقال : والملة الطهر , الذي هو رمز الإيمان والتعبئة الروحية .
// ويظهر في القصيدة اهتمام البهاء بإبراز قيمة الصبر بوصفه قيمة إسلامية كبرى , وكرر الصبر في أكثر من موضع , فالصبر عنده له قيمة مطلقة لا تنتهي عند حد إلاّ حين يتحقق الهدف المنشود وهو دحر الصليبيين وطردهم عن بلادن المسلمين , وهذا التشبث بالصبر يوصل إلى أحسن النتائج وأحمد العواقب ويلح أيضاً على قيمة الجهاد وأخذ الأهبة والاستعداد للدفاع عن مقدساتنا وتراب أوطاننا , والصدق فيه والثبات عند لقاء الأعداء والخونة والمتآمرين .
*- كما كشفت عن مكانة هذا الحصن العظيم دمياط في قلب العالم الإسلامي وانتزاعه من براثن الصليبيين الحاقدين , والأخطار التي نجمت من احتلالهم لدمياط مدة ثلاث سنوات كانت تهدد المسلمين في شتى أقطارهم .
// القيم الشعورية في القصيدة : تكتظ القصيدة بقيم شعورية أهمها الشعور الديني الغامر , والذي منبعه انتصار الإسلام والمسلمين في هذا المعركة . وأن هذا الشعور الديني يستحق الامتنان والشكر لله تعالى , وأن هذا الشعور بالنصر الكبير يتضال تجاهه كل شيء سواء كان نثراً أو نظماً . وأن هذا الشعور تفاعل عارم وواسع غير منعزل أو محدد , بل يتفاعل فيه الشاعر مع أمته الإسلامية جمعاء . كما تألقت القصيدة بمشاعر الإعجاب والاعتزاز بهذا السلطان .
// وسائل التصوير والأداء الفني :
**- اعتمد الشاعر على التضاد أو الطباق ؛ في البيت الأول , فجمع بين ( الإسلام والكفر ) ليعطي للمعركة هويتها الحقيقية , وهي أنها معركة دينية بين فسطاطين : المسلمين والصليبيين
*- وكذلك عندما جمع في شخصيته بين : ( العرف والنكر ) ليبين أن للسلطان شخصية قوية متعددة المناقب . وكذلك الجمع بين ( الكره والرضى ) ليصل إلى أن ملوك الشرق والغرب في طوع أمر الملك الكامل . وكذلك الأمر والنهي . والسمر والبيض وأشبعت وطاوي . وكأني ذو وقر ولست بذي وقر ..
*- واستعان أيضاً بالمقابلة ,حيث جمع بين صورتين متضادتين هي : اهتزاز عِطف الدين ( فرحة العالم الإسلامي بالنصر ) يقابلها صورة الكفر وذلته واندحاره .
*- واعتمد على الترادف العام فجاء بالمعنى من خلال أكثر من لفظ ( حمد وشكر , يقل ويصغر , طرب فرح , مبلغ ينهي , تميس وترفل , حلل ومطارف ) لتقوية الفكرة وتمكينها, وأن هذه الألفاظ والكلمات والمعاني تصغر أمام هذا الانتصار .
*- واستخدم جناس الاشتقاق لإحداث نغمات إضافية راقصة مثل : ( ليقل – قائل – مقالة – قائلاً ) , وما تركيزه على القول إلا ليبين أهمية مواكبة الشعر للأحداث . ومنه أيضاً : ( الخُضر والخَضِر – وأفلاك وأملاك وأساطيل وأساطير وسابحة دهم - أي السفن السود – وسانحة غرّ – أي : خيل مباركة سريعة )
*- كما استعان بالتورية في قوله : ( بكل غراب أفتك من صقر ) , فالغراب هنا له معنيان : ظاهر ( الطائر المعروف ) وهو غير مراد , وخفي ( زورق حربي صغير ) وهو المراد .
وكذا في قوله :
وما طاب ماء النيل إلا لأنه يحل محل الريق من ذلك الثغر
وحسن التعليل كما في قوله :
ومن أجله أضحى المقطم شامخاً ينافس حتى طور سيناء في القدر
*- ولا يخفى عليك ما في أسلوب ردّ الإعجاز على الصدور في الأبيات ( 13- 19- 21- 25 – 27 ) الذي من شأنه أن يربط بين أجزاء الكلام , ويعين على تذكره وحفظه ويؤدي إلى تقريره وبيانه والتدليل فضلاً عما يحمله من إيقاع موسيقي يجذب إليه السامع .
*- ونجد التقديم في قوله : ( بك اهتز عطف الدين ) جاء لغرض التخصيص , ولبيان السبب الحقيقي لهذه البهجة . ومثله : ( ومن أجله أضحى المقطم شامخاً ) .
*- واستخدامه للجملة الاعتراضية في قوله : ( فقد أصبحت – والحمد لله – نعمة ) للتعبير عن استعجال نعمة الحمد , ولتشيع الألفاظ الدينية معبرة عن أن الجوّ كله ديني .
*- وقد راوح الشاعر بين الأساليب الإنشائية والخبرية , فقد استخدم الاستفهام ( فمن مبلغ ) , واستخدم أسلوب الأمر ( فقل لرسول الله ) , واستخدم التعجب والنداء ( فيا طرب الدنيا ويا فرح العصر ) واستخدم أسلوب القسم ( وأقسم لولا همة كاملية – واقسم إن ذاقت بنو الصفر ) .
وكذا الأساليب التعبيرية المختلفة مثل : الدعاء ( لك الله ) وناهيك , وليهنك ) .
واستخدم التكرار لغايات فنية ( فناهيك من عرف وناهيك من نكر ) ( وما فرحت مصر – لقد فرحت بغداد ) ( ويا طرب الدنيا ويا فرح العصر ) وهي ظاهر بارزة في القصيدة عامة , وهو نابع من إحساس الشاعر بتمكين الصفات في الممدوح , وإشاعة روح البهجة والسرور في النص .
التشخيص : تظهر مقدرة الشاعر على إبراز موصوفاته ومعانيه في صور شخوص آدمية تروح وتجيء على مسرح المعركة , ولا شك أن تشخيص الصورة الشعرية يكسب الفكرة أو المعنى تمكيناً في نفس المتلقي وحضوراً في ذهنه , كما يضفي على القصيدة طاقة حيوية , ويجعله أكثر قدرة على التأثير والإثارة وتحريك الوجدان , ومن ذلك قوله :
بك اهتز عطف الدين في حلل النصر وردت على أعقابها ملة الكفر .
صورة بصرية صور بها الشاعر ما هو معنوي وهو الدين في صورة مادية تدرك بالبصر وهي الاهتزاز من فرح وسرور .
وفي قوله : تميس به الأيام في حلل الصبا .
حيث جعل الأيام وهي شيء معنوي تميس أي : تتباهى وتتبختر في حلل الصبا , وهذا تجسيد للمعنويات وتشخيص للأيام , وهي صورة موحية بالقوة والبهجة والفتوة .
وفي قوله : وترفل منه في مطارفه الخضر . صورة مكررة حيث جعل الأيام ترفل أي تتبختر وتجر مطارفها المصنوعة من الخز والحرير , وهي صورة موفقة فيها راحة نفسية فضلاً عن اختياره للون الأخضر الذي يوحي بالخصب والخير والبهجة والسرور وراحة النفس واطمئنانها . ولعل الشاعر أراد أن يصور ما أحاط بالمسلمين من مشاعر عقب النصر فاختار هذا اللون .
وفي قوله : ومن أجله أضحى المقطم شامخاً ينافس حتى طور سيناءَ في القدر .
تشخيص المقطم في صورة رجل ترتفع قامته ينافس طور سيناء , ويخلع عليه صفات إنسانية ( شموخ ) ومن هذه الصور أنه شبه الملك الكامل بالأنبياء والأولياء في الصلاح والتقوى كما في قوله :
أياديه بيض في الورى موسوية ولكنها تسعى على قدم الخضر .
ومنها أيضاً فرحة مصر وبغداد بهذا النصر , وهي صورة رائعة تعبر عن شمول الفرح والابتهاج للقطرين الكبيرين أو قل لمشرق الأمة ومغربها . وفي قوله : وكم بات مشتاقاً إلى الشفع والوتر . تشخيص , حيث جعل من المحراب شخصاً آخر له شوق إلى أن تقام فيه الصلوات . وفي قوله : فيا طرب الدنيا ويا فرح العصر , صورة تنضح بمشاعر الفرح والبهجة والاعتزاز .
وفي قوله : وأشرق وجه الأرض جذلان بالنصر , صورة بصرية .
وفي قوله : فرويت منهم ظامئ البيض والقنا . صورة أخرى .
**- واستطاع البهاء أن يؤلف صورة خيالية رائعة , تذوق الأبيات ( 13- 17 ) - جمع أطرافها من فرحة مصر وبغداد ومكة ويثرب بهذا النصر العظيم الذي حمى بيضة الإسلام من عاديات الزمان
// المعجم الشعري :
= الروح الإسلامية في قصيدة البهاء : يدب في القصيدة روح إسلامي يظهر في كل جوانبها , وفي كل عناصرها , في الأفكار والعواطف والمشاعر والأحاسيس والصياغة . الأثر الإسلامي ذو مستويات ثلاثة :
*- على المستوى الفكري في كل أجزاء القصيدة نجد الشاعر يربط بين اجزاء العالم الإسلامي , وينبذ الإقليمية والحزبية والقومية , وعلى مستوى المشاعر نجد الشاعر في قصيدته شديد الارتباط بالإسلام والإيمان وإعجاب الشاعر ينبثق من النصر والاعتزاز بالإسلام عقيدة وأمة وحضارة .
وأما على مستوى الصياغة فقد بدا ذلك جلياً من خلال تأثره بالصياغة القرآنية ومن خلال كثرة الألفاظ والأماكن الإسلامية الموحية ذات الدلالات الدينية العميقة , من مثل : ( الدين – الحمد – الشكر – طور سيناء – الملائك – الملأ الأعلى - المقام – الحجر – مكة – يثرب - لرسول الله – صاحب القبر – بيضة الإسلام – الملة الطهر - المحراب – صلاته – الشفع والوتر – الصبر – النصر – تجاهد فيهم - ليلة النحر – ليلة القدر – جنود الله – أيد الله حزبه – قبلة الإسلام – دمياط - فلله يوم الفتح – حنين وبدر ..)
= ألفاظ البهجة والسرور : طغت مشاعر الفرح والطرب والسرور والبهجة على القصيدة وامتزجت بهذا الإنجاز العظيم , من مثل : ( اهتز عطف الدين – حلل النصر – نعمة – الحمد والشكر – بشارة – تميس به الأيام – حلل الصبا – وترفل – مطارفه الخضر – بيض – شامخاً – تدين له الملاك – تخدمه – ملكاً – رفعة – أطيب الذكر – ليهنئك ما أعطاك ربك – مواقف هن الغر – فرحت – الهناء – طرب الدنيا – فرح العصر – أشرق وجه الأرض- الأنجم الزهر ...)
= ألفاظ تصوير المعركة : أودع الشاعر صورا قوية الدلالة والإيحاء على ما يشعر به من طرب وزهو وافتخار عبر بها عن مشاعره ومشاعر أمته ,من خلال الألفاظ التالية : ( ثلاثة أعوام – تجاهد - ليلة غزو – كأنها بكثرة من أرديته ليلة النحر – ليلة شرف الله قدرها .. ليلة القدر – سددت سبيل البر – والبحر – سابحة دهم – سانحة غر – أساطيل – بكل غراب راح أفتك من صقر – جيش كمثل الليل – هولاً وهيبة – جواد – جنود الله – ضوامر – أيد الله حزبه – رويت منهم ظامئ البيض والقنا – أشبعت منهم طاوي الذئب والنسر – وجاء ملوك الروم نحوك خضعاً – تجر أذيال المهانة والصغر – فمننّ عليهم بالأمان تكرما – بيض الصوارم والسمر – كفى الله دمياط المكاره – يوم الفتح – حنين وبدر – الغنيمة والأجر ..)
= ألفاظ مدح القائد : أدار الشاعر ثناءه وتمجيده للشاعر حول مجموعة من القيم والمعاني , منها ما هو قديم ومنها ما هو مرتبط بعصره فجعله في الغاية القصوى من حيث الاتصاف بصفات فائقة المدح ووظف لهذا وسائل فنية كثيرة منها الضمائر من مثل : ( بك – دونك – وجدت – لك الله – فناهيك – به – منه – ومن أجله – تدين له – تخدمه – له – ليهننئك – أعطاك ربك – فلو لم يقم – سميه – هو – طهرها – ورد .. ) ومنها : النداء ( فيا ملكاً – يا طرب الدنيا – يا فرح العصر ) .
= ومنها ما جاء بصيغة الفعل مثل : ( جاد – سطا – فناهيك من عرف وناهيك من نكر - تدين له – تخدمه – سامى – ليهنئك – أعطاك – يقم – حمى – طهرها – ردّ – أقمت – تجاهد – صبرت – أحمدت – سددت – فرويت – منّ – فاق أيام الزمان ) .
ومنها ما جاء على صيغة الاسم مثل : ( أياديه بيض – موسوية – الخضر – بالكره والرضى – النهي والأمر – ملكاً – كاملية – سميّه – هو الكامل - ملك الغمر – جنود الله – ملكاً فوق السماك – جوده )
= ألفاظ تصور حال الصليبيين : ( ردت على أقابها ملة الكفر – يصغر - الذعر – الخوف – القهر – الأسر – العدى – خضعاً – تجر أذيال المهانة والصُّغر ) .
= الموسيقى الخارجية في القصيدة : نظم قصيدته على البحر الطويل , وهو من البحور التي يستحسنه الشعراء في الأغراض الجليلة الشأن ؛ لأنه أحفل البحور بالجلال والرصانة والعمق , ولأنه يعطي إمكانيات للسرد والبسط القصصي والعرض الدرامي , وفيه قوة وبهاء يناسبان الموضوعات الجادة , لأن التجارب الجادة لا تؤدى إلا بنفس طويل , ولا تتلاءم إلا مع الأعاريض الطويلة . وعلى كل حال فالشاعر قد أحسن اختيار الوزن وجاء ملائماً لتصوير الموقف والتعبير عنه .
وكذلك الشأن في القافية , فقد أجاد في اختيار حرف الراء الذي يجسد حالات الطرب والابتهاج والسرور التي عاشها الشاعر والأمة , والراء صوت مجهور لثوي متكرر , وكأن الشاعر قد اهتدى إلى هذا الحرف بإمكانياته الصوتية ليجهر من خلاله بفرحه وابتهاجه واعتزازه بهذا الإنجاز .
= الموسيقى الداخلية : حفلت القصيدة بالأنغام الداخلية والإيقاعات التي تحمل بين ثناياها شحنات الفرح والبهجة والطرب والسرور , وإذا بحثنا عن روافد ذلك التنغيم أو مصادر الإيقاع المؤثر وجدناها كثيرة ومتنوعة , ومن ذلك التصريع في البيت الأول , ولا يخفى على المتذوق والدارس ما يضفيه على القصيدة من طلاوة ولما له من موقع في النفس لأنها تحرك الإحساس بالقافية في نهاية البيت قبل الوصول إليها
كذلك تطالعنا الألفاظ المتشابهة والمتساوية في الوزن , من مثل : الكفر – الشكر – النصر – الصبر – النحر - النذر . عُذر – نُكر – خُضر – صُفر – الملاك والأفلاك ...
ولاشك أن ترديد ألفاظ ذات بنى صرفية متماثلة أو متشابهة أو متقاربة في إطار البيت الواحد أو الأبيات المتتالية أو المتقاربة ينتج إيقاعات وأنغاما داخلية تتضافر مع الأنغام والإيقاعات التي تنتجها روافد التنغيم الأخرى في التعبير عن التجربة . ومن ذلك حسن التقسيم والطباق والجناس كما في قوله :
سددت سبيل البر والبحر منهم بسابحة دهم وسانحة غر
= التجربة الشعرية : عاش الشاعر تلك الفترة العصيبة التي تحالفت فيها دول أوروبا على العالم الإسلامي في تلك الحملات الصليبية المسعورة التي استهدفت الشام كله وبيت المقدس بالذات ومصر , وأحس الشاعر بما تعانيه الأمة الإسلامية من ويلات هذه الحروب ورأى بعينه كيف استولى الصليبيون على ثغر دمياط وعلى غيره من المدن والحصون الإسلامية , فلما شاء الله للمسلمين على يد الملك الكامل أن يستعيدوا هذا الثغر الغالي من العداء رأى الشاعر في هذا الحدث فرحة كبرى للعالم الإسلامي كله فانطلق يشيد بهذا النصر العظيم وينادي بأن الملك الكامل قد حمى بذلك النصر بيضة الإسلام من نوب الدهر
فموضوع التجربة الشعرية هو هذا النصر العظيم وموقف الشاعر منها قد صاغه في هذه النفثة الإسلامية الحارة واختار لها أمثل الصور والوسائل الفنية .
العاطفة التي شاعت في القصيدة : لا نستطيع القول أن عاطفة الإعجاب بالملك الكامل هي التي أملت على الشاعر هذه القصيدة , وإنما نؤكد أن العاطفة الإسلامية الجياشة في نفسه والتي تمثلت في هذا الفرح الغامر بالنصر هي التي أملت على الشاعر قصيدته , وبثت في جوانبه هذه المشاعر الإسلامية النبيلة بترابط المسلمين واتحاد مصالحهم ووحدة ألامهم وأفراحهم .
= قضية الترابط في القصيدة : في هذه القصيدة بدت الأفكار واضحة عميقة مبتكرة إذ ربطها بتلك الحرب , وهي أفكار قادرة على التأثير على السامع , مترابطة متسلسلة متماسكة يفضي بعضها إلى بعض حيث استهل حديثه عن مكانة هذا النصر واثره في المسلمين , ثم عطف عليه الحديث عن هذا الملك الذي حققه , ثم توسع في الحديث عما أيقظه هذا النصر من معاني الأخوّة والوحدة والترابط في نفوس العالم الإسلامي كله , ثم كان لابد من تصوير المعركة التي حققت هذا النصر , عاطفاً على ذلك هزيمة العداء وذلّهم وانكسارهم , ثم عفو الملك عنهم , منهياً الحديث بكلمة عن مكانة دمياط من العالم الإسلامي , وعن مكانة هذا الفتح .
= صلة القصيدة بعصرها : القصيدة في الحقيقة بنت عصرها , وتحمل سمات وطوابع عصرها , ونستطيع أن ننسبها لعصر الحروب الصليبية أو الدول المتتابعة حتى وإن لم نعرف قائلها , وتظهر على أصعدة أربعة الصعيد الفني , والتاريخي , والفكري , والاجتماعي .
فعلى المستوى الفني وعلى الرغم من أننا نستطيع أن نقول إن القصيدة تتبع المذهب التقليدي مذهب الجزالة والفخامة إلا أن الشاعر لم يستطع أن يتجاهل ذوق عصره فحلّى قصيدة بألوان من البديع التي لم يثقل كاهل القصيدة بهذه الأنواع , بل جاءت حقيقة عفوية دون أن يتكلفها أو يتعمدها كالجناس والطباق والتصدير والتورية وحسن التعليل وغير ذلك .
وأما على المستوى التاريخي فقد سجلت القصيدة حادثة تاريخية حقيقية – حادثة انتزاع دمياط من براثن الصليبين - كان لها أهمية في عصرها , وحددت القصيدة مكانه هذه الحادثة وزمان الانتصار فيها , و وضعها في إطارها الواقعي وإكسابها صدقاً واقعياً .
وأما على المستوى الاجتماعي فقد صورت القصيدة بعض صور العصر كالاحتفالات بهذا النصر والمراسلات بعده , ورفع الرايات والأعلام في الاحتفالات , وتبادل التهاني ابتهاجاً بهذا النصر . ونستطيع أن نلمح في القصيدة صورة الكفر والكفرة وقد بدأوا يجرون أذيال المهانة والصغر .
وأما على المستوى الفكري فقد عكست القصيدة الروح الفكرية التي كانت تعم الأمة الإسلامية , روح تنفي التحزبية والقومية وتتخطى الحدودية والإقليمية , والقصيدة أيضاً تعكس روح الترابط والوحدة بين شعوب العالم الإسلامي , والقصيدة تعكس خطورة الغزو الصليبي لبلاد المسلمين ومقدساتهم .
= دلالة القصيدة على شخصية قائلها : القصيدة تنفي أن يكون شاعر إخوانيات وطرائف وحسب , بل إنه شاعر متعدد الجوانب فهو من جانبٍ جاد ملتزم يحمل هماَ جماعياً وليس ذاتياً شخصياً , إنه يضع فنه وموهبته في خدمة أمته ومجتمعه , ومن جانب آخر نلمح شخصيته القيادية قيادة الفكر والوجدان , فهو واعٍ ذو بصر وفكر عميق بأحداث عصره وبقضايا أمته ومصيرها ويظهر جان ثالث وهو طابعه الثقافي فالقصيدة تشتمل على عدد من الإشارات التاريخية والدينية ولها دلالاتها التي تنم عن ثقافة الشاعر وتعاطيه معها .
= القصيدة في ميزان النقد : تنتمي القصيدة لغرض الجهاد لا إلى غرض المدح , فتحررت من قيود المدح التقليدية , وخلت من أي إشارة للمنفعة المادية , وعبرت القصيدة عن شاعر أمة وتوجهات عصر كامل هي الأمة الإسلامية فجسدت أخطارها في مرحلة خطيرة لا يساميها إلا المرحلة الحالية التي يعيشها المسلمون اليوم .
= والقصيدة ناجحة من الناحية الفنية إلا أن هناك هنات نظراً للسرعة , لأن الموقف يتطلب منه ذلك , وعلى كل حال فإننا نلحظ ما يلي : عدم الترتيب في بناء الصور . المبالغة المفرطة . اعترتها النثرية والمباشرة كما في المقطع الأخير منها . غلبة الطابع الفكري والتقريري .
في 8/ 8 / 1435هـــــــــــــ