في قرية مرسى السنابيك، حيثُ جسْد سعيدالمغروس أمام منزل العُمدة، يُحارب أشعة الشمس مُنذ الصباح، مُنتظرًا إنصافه من التاجر عفيفي، الذي أغلقدُكانه عنوةً البارحة، ووضع ثلاثةَ من صبيته أمامه؛ كيلا يتمكَّن من الوصول إليه!
قال سعيد مُشاغلًا نفسه، وهو قائمٌ قبالة الباب، وللأمل ضجيج يتدَّلى تحت أنفاسه البيضاء:
- البضاعة التي يطلبها عفيفي، ما تزال في السفينة التي تخلَّفت عن موعدها، ولم يكن لي يدٌ البتّة في تأخرها! وليس لعفيفي الحقّ في اغتصاب دكاني! العمدة لن يرضى بفعله، ولا آمر الشرطة!
ظلّ دولاب الرجاء يشاغل سعيد، حتى أثخنت جسده أشعة الشمس الغرورة...
صاح حينها سعيد بباب العُمدة الحديدي، مُصدرًا صوتًا يُشبه استغاثة البحَّارة ساعة غرق سفينتهم في إعصارٍ خادع..
سمعت العصافير المُجتمعة على إحدى الأشجار المجاورة نداء سعيد المُلَّطخ بالفزع، فأخذت تلكزه بزقزقتها الطرَّية حتى ينطفئ مرجل الجمر الذي يملأ حنجرته!
ما كان للعُمدة أن يخرج ذلك اليوم، ولا لسعيد أن يُغادر المكان! بل ظلّ يحشو أذنه -التينبتَ فيها الشعر- بفمه مُرّددًا بعض الأغاني القديمة، وهو يخزر الدكاكين من حوله والتي تفوح منها رائحة اللوز، والبُن، والبخور، إلاَّ دكانه الذليلة، الذي وشم العارجبينه.
هناك وراء النافذة العالية يضحك العُمدة مرتين، مرة في وجه البحر الخؤون خلف الأبنية الطينية، وأخرى عندما يراقب سعيد يمتر الشارع المقابل مرتديًا ثوبًا أبيض مغسول طرفه بملح البحر، خوفًا من العين.
وقبل أن تلفظ الشمس صبغتها الصفراء، مُنتحرة في أعماق البحر الهادئ، خرج العُمدة ومعه ابنه الصغير، والذي اعتاد مرافقته أينما ذهب، مُتعلّمًا صنعة العاموديّة ليحذقها..
يهبّ سعيد الذي كان مستلقيًا تحت شجرة اللوز المجاورة - حيث استظلَّ بأوراقها الصغيرة - فتضجَّالعصافير فجأةً إلى السماء، بعد أن انتفض جسده النحيل..
أخذ بخبط ثوبه وكأنما يُعاقب حظّه العاثر، ثم تقدّم إلى العُمدة يحكي لهُ مُصيبته، ولصوته رعشة الطفل الخجول!
يطيل العُمدة النظر هناك، حيث يتثاءب آخر دكان في الشارع، ثُمَّ يحدج ابنه، وكأنَّه يوعز إليه؛ بأنَّه سوف يبدأ إحدى دروس العامودية..
العُمدة بصوت جهوري، وعينين جامدتين:
- لنذهب لمركز الشرطة يا سعيد، ونرفع شكوى فنعيد الحقُّ إليك، ويرجع لك دُكانك!
يعبث القلق في رأس ابن العُمدة بعد أن سمع حديث والده، وكأنَّما مشط حديد، يحفر دماغه الطرّية:
- لماذا، وكيف يا أبي!؟ وأنا الشاهد الوحيد على سخريتك من سعيد، لقد ظلّ لسانك ينحرهُ بكلماتٍ سوقية طوال اليوم، وكأنَّه خروف عيد ساذج!
يمضي العُمدة وبجانبه ابنه وخلفهما سعيد، الذي بدا لوهلة في عينيّ ابن العُمدة، وكأنَّه عروسٌ خشبية..
ذهب الثُلَّة إلى مركز الشرطة المجاور، مبنى الشرطة الذي فاز بالموقع الأوسط بين المباني، تحدّه مقبرة القرية من الجهة الشرقية، أما بقية الجهات فتحيطه ثلاثشوارع كبيرة، ترتسم عليها ملامح البؤس، لا يشعر الناس فيها بالارتياح عندما يعبرون منها..
يطلب العُمدة من سعيد المكوث مع ابنه بالخارج، بينما يدلف إلى مبنى الشرطة، ليعود بعد دقائق إلى سعيد والذي بدى معجونًا بالألم والخيبة.
يقترب العُمدة من سعيد فيلحظ غابة الشعر التي خرجت من أذنه، وبابتسامة بلا لون، وبصوت يشبه قُبلة الحياة، يفرغ بعض الكلمات الخشنة إليه، طالبًا منه مراجعة موظف الاستعلام ببريد الشرطة غدًا؛ ليتسلمخطابًا رسميًا يقضي بأحقيّته في مُلكيِّة الدُكّان.. ويُحذِّره من إعادة فتحه قبل أن يحوز على الورقة من الشرطة.
ثُمَّ يمضي بعدها العُمدة بمعيّة ابنه بعيدًا، فيخفق قلب سعيد من جديد وهو يتابع خطوهما.
وقبل أن يبلعهما شارع مجهول، يلمح كفّ العُمدة تضغط بشدة على كتف ابنه، في حين ظلاّهما يتأرجحان على الحائط الطيني، فيرتعد قلب سعيد، وكأنما منشار أصم مرّ عليه..
سعيد وقد بدت الدنيا مُشمئزِّة في عينيه لوهلةٍ هذا الصباح، يتذَّكر في تلك اللحظة والده عندما أوصاه بالدُكّان قبل أن يموت؛ ليشعر بِعظم المسؤوليّة في ضرورة استعادته مرةً أخرى..
أمام نافذة الأمل، جلس سعيد تلك الليلة وزوجتهصفيّة ترقبه بلهفةٍ، فلا تجد طريقة لفقأ بالون الشؤم الذي يتطاير من عينيه، غير نفخ كوب الشاي الساخن الذي بيدها؛ ليغزو بعض البخار الساخن وجه سعيد، حيث بدا لوهلة كشجرة تترنح في وجه الشتاء الذي هجم عليه فجأةً هذا الصباح، ينظر إلى صفيّة أخيرًا وبكلمات بلهاء، يلكزها:
- يرجع الدُكّان - إن شاء الله - لا تقلقي والبضاعة ستصل غدًا أو بعد غدٍ...
إلاَّ أنَّ صفيّة تلسعه ببعض الكلمات التي وجدت مُوطئًا في نفسه:
- لكن العُمدة كان على خلاف مع والدك...
سعيد وقد أحرقتهُ كلماتها الداكنة:
- ما دخل خلاف أبي مع العُمدة، الشرطة هي من ستُعيد حقي!
يطول صمت سعيد، يتذَّكر يدّ العُمدة وهي تعصر كتف ابنه هذا اليوم، قبل أن يبلعهما الشارع المجهول، فيرتخي جفنه مُتكدسًا فوق عينه اليُمنى.. يرفع رأسه يُحاول الصمود مُتأملًا الغيمة اليتيمة في السماء، فيُشاهد فيها العُمدة وقد أمسك بعُنق والده ذات زمن، والدم الحار يتدَّفق من والده، يخنقه، وصوت هاتفٍ من بعيد يُحرِّضه:
- اضربه يا جبان!
يصرخ والد سعيد في الأسفل:
- لستُ جبانًا.. لستُ ذليلًا.. فقط من في الأسفل يستطيع رؤية السماء!
عشرات الصور تتداعى في ذهن سعيد.. يكسرها بنظرة إلى عينيّ زوجته، التي بدت كغيمةٍ بيضاء تركض في سماء البراءة، أخذت الحُجرة لحظتها تتسع أمامه، حينها بدت الكلمات تندلق من لسانه وعليها عضَّات كلاب مسعورة، يدفعها إلى الفضاء سبعة شموس كانت مختفية في صدر سعيد المُتعب:
- غدًا يا صفيّة، غدًا أستلمُ الورقة من الشرطة، وأُعيد فتح الدُكّان.. ثُمَّ ترجع السفينة الملعونة، فهي لن تُخطئ مرسى السنابيك، تعود مُمزقة البحر تحت أقدامها، تعود مُحمَّلة ببضاعتي، التي سوف تتصدَّر السوق، فتكون لي الفجر الذي يقضي على خيبة الأيام...
سيظهر اسم دُكّاني في الصحيفة التي تأتي من بعيد، سأقف مُنتصرًا وأبنائي هنا وهناك.. خالد وسماء.. عندها لن أحتاج لرشّ الملح على ثوبي..
يقوم سعيد مُنتشيًا، مُطالعًا المصباح الباهت في الشارع، مُتحدِّثًا إليه كأنَّما يرسم لوحة بكلماته:
- سأخطم الأسماك الشرسة بسفني التي تجوب البحر، مشحونة ببضائعي.. وأسلخ الأحجار الصمَّاء صانعًا الحياة والخلود، ستبصرينني يا صفيّة وأنا أدمغ الفقر والهوان، حتى تُضيء حياتي كقوس قزح..
ظلَّت صفيّة هناك على المقعد الأبيض تنظر إلى شارب سعيد الملطخ بالبياض وهو يتقافز في عنفوان، وقلبها يحترقُ من الغد، خائفة على أحلام سعيد أن يُحطمُّها العُمدة، وصوت هاتف من بعيد يُؤرِّقُها لرُبَّما ينجح في تجارته فيتزوج امرأة أخرى! ولكن ما كان لسعيد أن يشفق على عينيها المُرهقة، وقد امتطى منبرًا هشًا، راقصًا على أرض من زجاج..
اضطجع أخيرًا سعيد إلى الفراش وفي فمه ألف حكاية للغد: الدُكّان.. الأرباح.. البيع.. الشُهرة، البحار...
عندما مزّق الصبح وجه الليل الهارب، كانت الغيوم مُكدَّسة في السماء، والمطر يهطل بغزارة كأسياخ الحديد على مرسى السنابيك، حاول سعيد على عجل إيقاظ صفية، وهو يرتدي ثوبه المغسول بالملح.. إلاَّ أنَّها ظلّت نائمة!
خَشِيَ أن يفوته الوقت، وبالهُ مشغولًا تمامًا، مُتلِّهفًا لاستلام الورقة التي قُبرت فيها كُلّ أحلامه، خرج من المنزل وكأنَّه شرب خمر الحياة، ركض سعيد بمحاذاةالجُدران الطينيّة، وشيءٌ مدفون في داخله يتفطّر:
أظنُّهم لن يُسلِّموني الورقة! رُبَّما يقولون لي عُد في الغد! أو تمَّ خِداعي من قِبل العُمدة! أو لعلّ التاجر عفيفي لديه معرفة في الشرطة فيُعرقل فتح دُكّاني...!
كان سعيد بالكاد يمشي فوق خناجر أفكاره، وثوبه الأبيض المُملّح، قد تبللَّ بالماء البُنيّ؛ بفعل الوحل، إلى أنْ وصل أخيرًا لباب مركز الشرطة، وقف هناك والصقيع قد جمَّد شعر أُذنيه، ينتظر، والسماء ما زالت تتفجّر بوميض دامي، في حين رائحة الموتى تفوح من المقبرة المجاورةلمركز الشرطة..
وقبل أن يحكي لآمر البريد مصيبته، ناوله الورقة مختومة باللون الأخضر، كان عنوان الخطاب كافيًا لأنْ ينفجر قلبه بالأمل:
"أمر إعادة فتح دُكّان"
تسلّم الورقة بلهفة الأطفال، ثم ركض في الطريق البعيدة نحو دُكّانه، طاويًا المسافة الخرساء كالريح، والطين يتطاير تحت قدميه..
في منتصف المسافة تذَّكر، المفاتيح.. مفاتيح دكانه، فهرول عائدًا للمنزل ليلتقطها مُتغافلًا عرق جبينه الذي امتزج بماء المطر، سريعًا دلف إلى حجرته في حين بدت صفيّة نائمة.. تناول المفاتيح.. صارخٍ بها وهو يلهث:
- لقد عاد الدُكَّان... عاد الحقُّ لأصحابه...
لم تُجب صفيّة.. رجع إليها، ثم ركع نحوها.. هزَّ جناحيها بكلتا يديه، وللمفاتيح صوت يُشبه ضحكالأطفال.. حاول أن يُوقظها..
تحدَّث إليها، ناداها، صرخ بها... صفعها.. شتمها:
- صفيّة، صفيّة استيقظي يا صفيّة، للتو ارتقيت الدرجة الأولى من سُلَّم أحلامي...
ما كان لصفيّة أنْ تستيقظ.. ووجهها قد غدا شاحبًا تمامًا.. وعيناها مُبيضّة!
للوهلة الأولى شعر سعيد بأنَّ شيئًا ما أنكسر، ولا يُمكن إصلاحه.. شيءٌ رهيب لم يفهمه، ولكنَّه كان مؤلمًا بشدِّة..
طفق ينظر إليها وورقة الدُكّان الصمَّاء تطالعه بشماته:
- لماذا اليوم؟! استيقظي.. لا ليس اليوم! صفيّة ليس اليوم! أنا فقط كنتُ مشغول بأبي، في الدُكَّان اللعين! فقط كنتِ أُريد حفظ وصيتهِ، نجاح تجارتي، بعدها سأتفرَّغ لكِ، ونعيشُ كما كنتُ أُريد.. صفيّة.. صفيّة..
في حين بدى صوت ابن العُمدة من أقصى الشارع هناك، يهتف بلكنة تشبهُ صراخ البحَّارة ساعة الغرق:
- عادتْ السفينة يا سعيد.. عادتْ السفينة يا سعيد..