شربتُ فنجانَ القهوةِ العاشر، أكلتُ الكثيرَ من حباتِ التمر، رميتُ النوى في كلِّ مكان، تشكَّلَ عليه جيشٌ من النمل، تنبهتُ إلى ذلك الحدثِ قبل أن يرتفعَ صوتُ أمي بالصراخ، توجهتُ إلى غرفةِ النومِ التي تنعمُ بالفوضى، حملتُ الكاميرا على عجل، عدتُ أدراجي مسرعاً، أخذتُ ألتقطُ عدةَ صورٍ لذلك السربِ من النملِ الذي تجمَّعَ على نتفِ من التمرِ العالقةِ بالنوى.
كنتُ أحبُّ أن آخذَ الصورةَ من عدِّةِ زوايا، نصبتُ الكاميرا فوق الدرجِ القديمِ الذي يقبعُ في وسطهِ التلفازُ و عن يمينه الراديو و عن يساره المدفأةُ و يوجدُ في الأسفلِ الكثيرُ من أشرطةِ الفيديو و الكاسيت و فوقه الكثيرُ من المزهرياتِ البلاستيكيةِ التي كانت أمي تعملُ على تلميعِها بقطعةٍ من القماشِ في كلِّ مناسبة.
كنتُ أقول لها إنَّ تلك الأشياءَ يُقالُ عليها تحفٌ من زمنِ العصرِ الحجري، لم أكن أحسُّ أني بفعلتي تلك سأهدمُ ما بداخلها من أحلامٍ كانت تتناولها كالدواءِ حتى تعيش في سكينةٍ من مرضِ السكرِ و الضغطِ و القلب.
تناولتُ الكاميرا التي شرعتُ على تنظيفِها, خرجتُ قاصداً بيتَ ذلك المسنِّ الذي تزوجَ عشرين مرةً وله من الأولادِ و البناتِ خمسون و الأحفادُ لا أعلم, غلبَ عليه مرضُ الزهايمر قبل أن يقولَ عددَهم, و لكنهُ تذكر أن يقول ما شاء الله.
قادني حفيدُه إلى مبنى صُنعَ من الطين قابعٍ خلفَ مجموعةٍ من المباني الفخمة، سرَتِ السعادةُ إلى قلبي عندما رأيتُ تلك المزرعةَ الغناءَ ذات المساحةِ الكبيرة، كان العمَّالُ منتشرين في كلِّ مكانٍ من المزرعةِ فمنهم مَن كان يجمع ( الطماطم, الخيار, الخس, الكوسة , البامية) و هناك مَن يعملُ على جمعِ الحطبِ وجَنْيِ التمرِ و هناك مَن يعملُ في كُرومِ العنبِ ومَن يضعُ الكثيرَ من الكراتينِ الممتلئةِ بالخيراتِ في الحافلاتِ الواقفةِ حتى تقلَّها إلى السوق.
دخلتُ إلى المجلسِ الذي يجلسُ بداخله ذلك المسنُّ الذي اقترب عمره من مئةِ عام، كان يجلسُ
وسطَ المكانِ مائلًا بجسمه النحيلِ على الوسادةِ التي كانت على يمينه يتمنطقُ خاصرتَه حزامٌ أسود من الجلدِ و يوجدُ على رأسهِ "شماغ" أحمر أسفله طاقيةٌ؛ ما إن سمعَ الصوتَ حتى اعتدلَ في جلستهِ ثم رحَّبَ بنا بطريقتهِ الخاصة.
كان لا زال يمتلكُ صوتًا جهوريًّا يسمعه مَن كان خلفَ البابِ أو متقرفصًا بجلستهِ داخلَ المزرعة، قدَّمَ لي الشابُ الذي حضرَ معي فنجانًا من القهوة، شكرتهُ على ذلك، بادرني الرجلُ المسنُّ و هو يفرُكُ لحيتَه بالسؤالِ قائلاً: مَن أنت؟ أخبرتُه أني مصوِّرٌ قادمٌ من مدينةِ الرياضِ أريدُ أن ألتقطَ له و للبيتِ والمزرعةِ مجموعةً من الصورِ التاريخية.
ظهرتْ على محيَّاه ابتسامةٌ أراحتْني من عناءِ الكلام، أخذتُ له العشراتِ من الصورِ داخلَ ذلك المجلسِ المفروشِ بالسجادِ الأحمرِ والمساندِ الحُمرِ الضخمةِ التي بينها مجموعةٌ من المراكي ذاتِ الصناعةِ التركيةِ وفي الوسطِ "مجمرٌ" كبيرٌ يوجدُ عليه العديدُ من دلالِ القهوةِ وأباريقَ الشاي.
تجولتُ معه في أرجاءِ المزرعة، أخذتُ لهُ صورًا و هو يتوسطُ الأغنامَ وصورًا وهو ممسكٌ بالجملِ و أخرى وهو يمتطي صهوةَ الحصانِ كما التقطتُ له صورًا وهو يتناولُ ثمارَ التينِ الشهيةِ وأخرى وهو يشربُ من ماءِ البئرِ، كان يتظاهرُ أنه لا زالُ يمتلكُ القدرةَ على أن يسابقَ أحفادَ أبنائه وعندما يتحدثُ إلى العمالِ، كانت كاميرتي مبتهجةً بذلك الجمالِ الذي ألقمته لها من الصباحِ حتى خيَّمَ الليلُ علينا.
عدتُ إلى بيتِ أمي القديم، جمعتُ أمتعتي، أَغلقتُ البابَ على ذكرياتٍ داخلَ ذلك البيت ثم وضعتُ نسخةً من المفاتيحِ أمانةً عند جارنا "أبو مسعود" كي يسقيَ الزرعَ و ينظفَ البيتَ الذي عملتُ على ترميمِه منذُ خمسِ سنوات.
وقفتُ بجوارِ الباب، شاهدتُ سِربًا من الحمامِ المعانقِ للغيوم، التقطُتُ الصورةَ الأخيرةَ ورحلتُ .