بلا صوت، سحبت مريم يدها بخفة من قبضة والدها واتجهت نحو قطة صغيرة كانت تتسلى بمداعبة ذيلها وسط الزحام، جفلت منها القطة وابتعدت، لاحقتها مريم، وظلت تطاردها هنا وهناك. المكان يعج بالباعه المتجولين، موسم الحج فرصتهم الأخيرة لعرض بضاعتهم الكاسدة.
دخل الأب في جدال طويل مع أحدهم، ظل يساومه على ابتياع حذاء لصغيرته، انتهى مع البائع إلى شراء الحذاء بنصف المبلغ، وضعها تحت إبطه وعاد قافلا إلى المكان الذي ترك فيه زوجته.
على أطراف الزحام، كانت الأم تنتظر تحت الشمس اللاهبة عودة زوجها وابنتها الصغيرة. أقبل عليها الأب يحمل بعض مؤن السفر والهدايا وحذاء طفلته. شهقت الأم عند رؤيتها لزوجها يأتي وحيدا، صرخت؛ أين مريم؟! أين ابنتي؟!
سقطت الأشياء من يده وقال في جزع؛
ألم ترجع إليك؟!
في أثناء هروب القطة المستمر، اصطدمت مريم بأحد المارة، جذبها من ثوبها ورفعها إلى مستوى نظره، كان طويلا وقويا، حدق في عينيها، صرخت، أغلق فمها بيده الغليظة وسار بها إلى سيده الذي يجلس مسترخيا في ظل إحدى البنايات بعد فراغه من شراء عدة جوار دفعة واحدة.
أمضت قافلة سيد الجواري يومين وليلتين في المسير إلى سوق النخاسة القريب من ضواحي المدينة الكبيرة.. الصغيرة هادئة، لم تعد تستطع البكاء.
من بين حشود المتفرجين شعرت امرأة شابة بالأسى، انفطر قلبها حين رأت طفلة حافية وذابلة تعرض للبيع، سألت زوجها الواقف بجوارها؛
كيف يجرؤون على بيع مخلوقة بهذ الضعف، إنها صغيرة؟! ما الذي يفعلونه؟ هل خطفوها في غياب أهلها، أم ماذا؟
تقدم الرجل في غضب وصاح في وجه النخاس؛
من أين جئت بهذه الطفلة، وكيف حصلت عليها؟
تنحنح النخاس وقال؛
تقصد الجارية البيضاء مرزوقة؟ وأشار بيده إلى مريم! أكمل حديثه؛ أنا لست سوى وسيط، قُتِل والدها قبل ولادتها، وأمها المملوكة ماتت وعمرها ست سنوات، وآثر سيدها الشيخ الكبير، وقد أوصاني بها خيرا، ببيعها قبل أن يدنو منه الأجل إلى أحد القلوب الرقيقة، لعلها تجد عندهم العطف والرعاية، وتكون لهم بمثابة الابنة والجارية في نفس الوقت.
اقتربت المرأة من زوجها وقالت؛
أرجو أن تقايضها بهذا القلادة وتشتريها منه، خلعت قلادتها، وبدوره سلمها الرجل للبائع.
رزقت المرأة الرحيمة ثلاث بنات،كن رفيقات صالحات لجاريتهن الشابة، عاملتهن مرزوقة كالأخت الكبرى. اعتنت بهن ورافقتهن إلى أن أصبحن سيدات. كانت تسرد لهن قبل النوم حكايات عن قريتها البعيدة، عن أمها وصديقات الطفولة وتوقها إليهم، والقطة التي ما أن حاولت الإمساك بها حتى هربت منها من جديد وتركتها وحيدة بين يدي ذلك العملاق.
زوجوا مرزوقة من زيدان، صاحب الأنف العريض، أحد عبيد سيدها، وبرغم مضي أربعين عاما على زواجهما، إلا أنها لم تنجب، لقد حقق القدر أمنيتها، كانت ترجوه ألا تنجب أبدًا، لا تريد لأبنائها عذابا يأكل أرواحهم.
كان الوقت ظهرا عندما جاءتها البنت الوسطى وهي تبكي، تزف لها خبر تحرير العبيد في البلاد، بشّرتها بحريتها وانتهاء أيام العمل الدائم. حملتها إلى الأعلى موجة فرح عاتية ثم رمتها مرة أخرى على صخرة الخوف والقلق.
في طريق عودتها إلى منزلها الذي غادرته قبل ستين عاما في رحلة مع والداها إلى الحج. وقفت مريم وجهًا لوجه أمام بيوت القرية العتيقة، شرحت لزيدان، تفاصيل مداخلها وأزقتها الضيقة، وأهازيج حصاد القمح التي بقيت أصواتها محفورة في ذاكرتها طوال سنين العبودية.
اقتربت في وجل من باب بيتهم المتهالك، فتحته، حاولت أن تقول له شيئًا، لكن صريره هز قلبها، أوحى لها صوت أنينه بأنه ظل مهجورا منذ ذلك اليوم الذي رحلوا فيه وتركوه وحيدا.
قبل أن تغيب الشمس خلف الأفق المترامي، لمحت في الطرف البعيد غربة جديدة.. أمسكت في شيء من الانكسار بيد رفيقها الأخير، شدت قبضتها عليه، ومشيا.