دراسة نقدية للومضات للكاتب والناقد اليمني علي أحمد عبده قاسم ( المنشورة في صحيفة الثورة اليمنية العدد 18768 )
القصة الومضة قراءة في دلالات اللغة والسرد
السرد في تطور مستمر خلاق فما بين مرحلة وأخرى يظهر فن جديد يتراكم ويتلاقح مع ما سبقه من إبداع فالقصة القصيرة بدأت وانتشرت في الوطن العربي وتلتها القصة القصيرة جدا قبل عقدين وجاءت مؤخرا القصة الومضة لتناسب الزمن والسرعة باختزالها وتكثيفها وكل مايميز القصة القصيرة إلا أنهما طرفان متناقضان يفيضان لصدمة في المتلقي وتأتيأ بمضامين متشعبة يمكن أن ترتكز عليها رواية فالومضة ليست خبرا مباشرا وليست مفارقة فقط وليست خاطرة بل هي كل لا تتجزأ بترابط في الخطاب وللمضمون والعنونة وهي براعة وتمكن لغوي عميق ينم عن اقتدار كتابي .
وإبراهيم مشلاء مبدع وكاتب مدهش يكتب ويلتقط الفكرة ويصوغها بشكل مثير وصادم وملفت يجعل المتلقي أمام لوحة مثيرة ونص يتشابك مع الفكر باختزال وتكثيف ينم عن مبدع محترف ففي ناحية المرأة يصفها ويرسمها ويقف مع همها بأروع الصور والتي تعكس دلالات متعددة .
وأد
" طلبت منهم لعبة ؛ زوجوها.
فإذا كان الوأد الدفن بالحياة تحت التراب فإنه هنا الدفن بالحياة تحت التعذيب وإذا كان الوأد الاثقال بالتراب حتى الموت فإنه الاثقال بحياة غير متناسبة تتئد من خلالها حياة البنت .
ويلحظ المتلقي أن النص لمح إلى صغر المتزوجة " طلبت " من الأدنى للاعلى وفيه بعث للشفقة والرحمة "منهم " كأن النص يشير إلى ظاهرة اجتماعية انتشرت في المجتمع ( زواج الصغيرات) ويلحظ المتلقي التسريع طلبت، زوجوها، ليكون النص صادما ويثير الرحمة من خلال الترميز باللعبة التي تشير للصغر ولعدم ادراك الحياة .
أم
" ذبلت ؛ أينعت ثمارها "
فالذبول الضمور والجفاف وهو ذهاب الخصوبة وانتهاء الاحتراق الروحي والعطاء الجسدي فكان خطاب اللغة ذا مضامين لينعكس التصادم ما بين انتهاء العطاء واستمراريته في آن واحد خاصة والايناع النضوج حيث يقال : "رمان يانع" أي شديد الحمرة لتكون اللغة ودلالات الخطاب فيها ادهاش دلالي قبل أن ترتد الدلالات السطحية ليكون المضمون استمرارية الخير والتدفق مما يعكس أن الشذرات في ثنايا النص توضع بعناية بالغة من الكاتب والعنوان " أم" لتختزل عطاءت تشبه النخلة التي تنبت فسائل وثمار بامتداد الزمن فالنص يرسخ خطاب استمرارية العطاء بتكثيف عال .
وقار
" زينها السكوت؛ استغنت عن الذهب. "
فالوقار: الهيبة والثقل بعظمة الشخصية الرزينة فيواءم العنوان مع خطاب النص " الزينة ، السكوت " فتحول السكوت غلى تجمل وتحل خلقي له عظيم التأثير في نفسية المتأمل في الشخصية وعلى الشخصية ذاتها .
مما أفضى إلى الاستغناء عما تتهافت عليه النساء وتحاول أن تخلق لأخلاقها شخصية و وقارا ، فالنص يعمق الجوهر الأخلاقي ويغفل عن المظهر الخارجي مما يعكس أن النص يعمق الكف عن الزيف ويلتفت إلى الجوهر العميق وهذا يرسم صورة للمرأة التي استغنت عن التزين الزائف بالجوهر الداخلي الذي يشبه المنحة الإلهية وكانت الالفاظ والتراكيب متناسبة مع الخطاب وسلسة سهلة .
" وقار ، زينها ، سكوت ، غنى ، ذهب " جمال لغوي مكثف يعيد صورة للأخلاق العميقة بوصف الومضة ابتكارا ابداعيا مدهشا ؛ اما إذا تأمل القارئ صراع الانسان مع الحياة سيجد أن النص استطاع أن يعالج قضايا الانسان الشخصية بصورة رمزية عميقة .
زاهد
" رمى الدنيا وراء ظهره؛ وجدها أمامه. "
فإذا كان الزهد الرغبة عن الشئ وهو قلة المال . فإن المتأمل في " رمى الدنيا وراء ظهره " هي كناية عن الزهد فالعنوان مختزل لخطاب النص فالرمي وراء الظهر كناية عن عدم التفكير في مادية الدنيا ؛ لتأتي المفاجأة " وجدها أمامه "والنص استحضار
للحديث النبوي ( من كانت الدنيا اكبر همه جعل الله فقره بين عينيه ومن كانت الآخرة جعل غناه في قلبه وأتته الدنيا راغمة ) فالومضة تختزل وتأتي بالتناص في عبارات موجزة وقدرات الكاتب متى تستطيع أن تبني خطابا مدهشا لوصف استخدام التناقص بشكل مثير " رمى ، وجد ، وراء ظهره ، أمامه " تشكيل متقن وقوي في تسريع مذهل وخطاب ديني أنيق وملفت . خاصة والنص في الومضة يستخدم الرمز بشكل عميق .
شكوى
" فتح جرحه؛ تكاثر الذباب. "
الشكوى: عميق الألم وهي ما يترتب عليها من ضيم وظلم . وهي محاولة التخفيف عن الذات ليخف الاحتراق النفسي " فتح جرحه " شكا ما به وما في اعماقه والجرح المفتوح رمز لأسرار وأوجاع الذات الداخلية والجرح المفتوح رمز لأسرار وأوجاع الذات الداخلية والنص يختزل قصة وحكاية مابين طرفين وأطراف على وجه الحقيقة والمجاز ولكن فتح لعديمي الثقة الذين يعيشون على آلام الخلق ويستحلون القاذورات فالذباب رمز لكل من يعيش ويتلذذ بآلام الآخرين فالنص رمزي عميق وفيه تهكم وسخرية وازدراء من شريحة مصاصي صديد الجراحات ومن ذلك فالنص في الومضة اجتماعي انساني ساخر متهكم موجع لا يختلف عن خطاب القصة القصيرة جدا والقصة إلا من حيث الشكل والايجاز والطول والقصر والزمن الطويل والحبكة فليس للومضة حبكة مبنية كالقصة القصيرة .
متردد
" أكثر من الالتفات؛ سبقه ظله. "
الاكثار من الالتفات ترميز لغوي للجبن والضعف والتردد والعجز ؛ يدرك المتلقي التلميح في النص والتحويم حول الدلالات فالإكثار من الالتفات أغنى عن المباشرة كقولنا جبان أو ضعيف أو عاجز " سبقه ظله " فالومضة وتلميح الخطاب غير مباشر يترابط فيه العنوان وخطاب النص كله ، ولأن النص في خطاب مشلاء منشغل بالإنسان وبالإبداع.
النص القصصي في الومضة ساخر لاذع عميق يرسم القضية بشكل مدهش وبصورة تثير الذهول بوصف الومضة ليست خبرا مباشرا
أو وصفا لحدث واقعي وليست مستهلكة بل هي نص عميق مثير مبتكر بإبداع ليس يضيف الجديد
ديموقراطية
" ترشح بمفرده؛ ترك لهم حرية الاختيار. "
فإذا كانت الديموقراطية تعني الثراء والتعدد والتنوع فإنها في هذا النص ديكتاتورية واستبداد من خلال " ترشح بمفرده" ليعكس دلالة الاستبداد فالتفرد استبداد وهو مخالف للترشح الذي يعني الانتقاء وكان الطرف الثاني من ساخر متهكم وموجع " ترك لهم حرية الاختيار " وهذا يدل على استمرارية للقهر فحرية الاختيار زائفة بلا حرية وبلا اختيار .
والنص الومضة غني بالمجاز والخيال يثير المخيلة ويبتعد عن التقريرية بوصف اللغة هي الأداة والوعاء الذي ومن خلاله يتمكن المبدع من توصيل رسالته ومضامينه ويخاطب شريحة الصفوة وغيرهم من المتلقين بوخز لاذع.
مقام
" التهم الكتب؛ زاد وزنه. "
الالتهام: يعني الابتلاع ويعني السرعة ويعني الغزارة فعكست الكلمة الابتلاع والذي يعني الفهم والهظم والسرعة بالفهم وغزارة الفهم لتكون النتيجة زيادة في الفهم الفكري العالي ومقام ومكانة للذات لتتحول زيادة الوزن من مرض صحي إلى تقدير وتبجيل فكري واجتماعي ، وبذلك فالنص السردي للومضة نص عميق متعدد التأويل وقد يتلاعب الكاتب بجناس الكلمات ولكن لا يضعف ذلك من دلالة النص العميقة والبعيدة التي تهز مخيلة وفكر فيتشابك مع النص .
جزاء
" سجن التفكير؛ أطلق التكفير."
ما بين التفكير والتكفير جناس وهو محسن بديعي قد يأتي متكلفا لكنه هنا سبب ونتيجة ، فترتب عن التكفير عدم الاعتراف بتعدد التفكير وهذه قضية القبول بالمخالف وقضية القبول بالرؤى وقضية التسامح والتعايش ومن ذلك فالومضة نص سردي يختزل قضايا كبرى بتكيثف عميق وباختزال أبلغ وبخطاب موجز يناسب العصر والزمن والسرعة .
اليمن
" محافظة أب "