قراءة نقدية لبرنامج ليلة أدب
تشرفت بالدعوة الكريمة من الأديب الأستاذ محمد المنصور الحازمي، للمشاركة مع لجنة التحكيم ،وتقديم ورقة نقديّة في مسابقة برنامج ليلة أدب، الذي ستقيمه ديوانية الأدب والثقافة بمنطقة جازان ، وكانت تجربة جديدة بالنسبة لي ،وددت لو أني أخرج منها كفافاً لا ليَ ولا عليَّ …
في عام 1396 هجرية عندما كنت في السنة الثانوية الأولى بالمعهد العلمي ،كتبت قصةً يتيمةً بعنوان ( أحمد وفاطمة ) تحت تأثير عبرات المنفلوطي، ومجدولين وتحت ظلال الزيزفون ، وتداعيات أوليفر تويست ، والبؤساء ، وبائعة الخبز ، وقصة مدينتين ..
وغيرها من روائع القصص العالميّة المنتشرة في ذلك الوقت ، هذه القصة لم ولن تشهد النور بعد أن فقدتها بعد ذلك ببضع سنين .
أتذكر أنِّي قدمتها لأحبِّ مشائخي إليّ وهو معلم اللغة العربية والأدب العربي الأستاذ محمد مصلح الشعبي رحمه الله الذي صححها وأعادها إليّ، مع قليل من عبارات الإعجاب ، لكني لم أعلم حينها أنني تجاوزت خطوطَ المعهد الفكريّة الحمراء ، فقد كنت أغني خارج سرب منهجيّة التعليم الديني ، هذا يعني أنني كنت متأثراً بالفكر المخالف الذي يتطلب المناصحة، وإعادة التوجيه ، وهكذا تم إطفاء تلك الشعلة الحالمة ..
في المعهد العلمي لم نكن نحمل همَّ المنهج الدراسي فحسب، ولكن أيضاً همَّ العالم الإسلامي في صراعه الوجودي، ضد الفكر التغريبي الرأسمالي من جهة، وضد الشيوعية العالمية الإلحادية من جهة أخرى ..
كانت الصحف الحائطية هي ساحة صراعنا المحتدمة تجاه العالم المعادي، وهكذا كان الحال ولكن بشكل أعمق وأوسع ،حين انتقلنا إلى مقاعد الدراسة الجامعية ..
هذا الهمُّ وهذا التوظيف الأيدولوجي لعقول الطلاب، كان هو نافذتي على عالم الفكر والأدب والفنون الجميلة ، وتلك كانت من المفارقات العحيبة،وبطبيعة الحال فإنه لا يمكنك أن تخوض غمار البحر، دون أن تخرج مبللاً بمائه ، وهذا البلل هو ما أدَّى بي اليوم إلى الموقف مقدِّماً لهذه الورقة النقديّة المتواضعة .
قد يظن أحدكم أنني إنما أتحدث عن نفسي هنا، وهذا قد يبدو صحيحاً ظاهريّاً ، لكني أرجو ممن تناهى إلى هذا الفهم أن يعيد النظر فيه ..
فمن خلال هذا التقديم الذي قد يبدو غريباً، أريد أن أمهد لذات السؤال الذي أطرحه دائما على نفسي ،وإجابته تتحكم في قراري الذي يلي ذلك ..
والسؤال هو لماذا أكتب ؟
ولمن أكتب … ؟
هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يطرحه الكاتب أيّا كان على نفسه ، هل يكتب قصته، أو قصيدته، أو روايته لنفسه ،
أو لتلك الفئة الخاصة التي ينتمي إليها، أو لمجتمعه الذي يعيش فيه، أم للعالم كلّه ؟
وعلى قدر إجابته ستكون قيمة ما ينتجه من نصوص ..
إن السؤال يطرح قضية الثقافة الفكريّة التي يعتنقها الكاتب ، ماهي ومن أين مصدرها ؟
ولماذا يعيد إنتاجها ككاتب، ومفكر، وقاص ،وشاعر، وأديب وعالم، وفيلسوف …الخ ..
وهنا أعود بكم إلى المثال الذي ذكرته ،وهو قصتي اليتيمة التي حُكم عليها بالموت في مهدها ، ففي الوقت الذي كنت أتلقى فيه تعليماً دينيّاً صارماً، وأعيش في بيئةٍ اجتماعية بدوية شديدة المحافظة، قمتُ بكتابة قصة حبٍّ ،لا تمتُّ للواقع الخارجي بصلة، مما جعل موتها حتميّاً .. فحتى على الرغم من قدرة الكاتب على استشراف المستقبل، لابدَّ له من الاتكاء بشكل أساسي، على متطلبات الواقع الموضوعي الذي يحيط به.
وهنا علينا أن نفرق بين الواقع الذاتي للكاتب، ونقصد به شكل العالم كما هو في ذهن الكاتب، وبين الواقع الموضوعي وهو عالم الاديب الخارجي ..
هذا التفريق سيحدد لنا كنه الإجابة عن السؤال الذي طرحناه آنفاً ،حول لماذا نكتب ولمن نكتب ؟
فعندما نكتب انطلاقاً من الواقع الذاتي، فإنما نكتب لأنفسنا، وربما لمن يشاركوننا هذا الواقع وهم الوسط النخبوي المحدود الذي ننتمي إليه ..
ومثل هذا الصدور تغلب عليه القيم والمبادئ المثالية بما فيها من خطابة، ومباشرة، وتقريريّة ، وهي نصوصٌ لا تتحمل النقد والتصويب، وقد يدافع عنها أصحابها لإثبات أنهم على صواب ،وهم مُحقُّون في ذلك ، ذلك لأنه لا يمكن وضعها على مشرحة النقد والتحليل الموضوعي وبأدوات نقد لا تنتمي لذات المنهج المثالي ، وهذا ما يقع فيه الكثيرُ من الشعراء والأدباء الشباب ، وأقصد بذلك الاعتماد على الواقع الذاتي للكاتب.
والمثالية مذهب فكري وجمالي ينشد الكمال، قد يناسب النص الشعري أكثر من سواه، بما فيه من جنوح إلى الخيال، والتحليق في رحاب رؤى الشاعر الذاتيّة،
في حين أنها في تقديري الشخصي لا تناسب النصوص القصصيّة بأنواعها التي تستمد مادتها وموضوعها ورؤاها من الواقع الموضوعي القائم على الجدليّة والصراع ، أي العالم الخارجي للكاتب كما هو على حقيقته ..
قد يقول البعض إنَّ عالم الشاعر والأديب الداخلي، إنَّما هو انعكاس لعالمه الخارجي، وتجاربه الحياتيّة وهذا كلام أتفق معه تماماً، وهو يؤكد أنَّ مادة الشعر والنثر إنما تُستمدُّ من الواقع الموضوعي بما فيه من ماديّة جدليّة وقيم مثالية، وليس من بنات أفكار الكاتب أو الشاعر ودماغه المفكر، على الرغم من أنها قد تبدو كذلك ، ولهذا لابد أن يكون إنتاجه الأدبي ملتصقاً بهذا الواقع، وخادماً له، وغير مفارق عنه، أو محلِّقاً في الهواء ،أو غارقاً في (الأنا ).. سواء كان هذا الالتصاق بالواقع قبولاً، أو رفضاً، أو توثيقاً ..
إنَّ العامل المشترك بين مختلف النصوص القصصية والشعرية التي قرأتها هنا هو تمحورها حول الذات والتجربة الشخصية وضمير المتكلم، ولهذا فقد أجملت تعليقي في هذه القراءة المختصرة في مسألة الدوافع الذاتية، والدوافع الموضوعية المنتجة لتلك النصوص ..
وقد نصحت بضرورة توخي الحيادية بالشكل الكافي، وتجاوز عتبة الذات، والانطلاق في عالم الإبداع الأوسع .. وفي المجمل: على الكاتب أن يعيد طرح ذات السؤال على نفسه : لماذا يكتب ولمن يكتب ؟
أحسب أن الذي سيكتب من أجل المجتمع والعالم الخارجي والمستقبل سيجد مكانه في هذا العالم وفي ذلك المستقبل .. والله أعلم.