لقد استوعبتُ الكثير من السلام واستعدّيتُ للكثير منه، إنه البقاء الأمثل للبشرية. فيه نخلع برودة وبُردة الشتاء، ونرتدي صلاة الخاشعين.
عشت أقل مما كنت أتخيّل، أو أحلم في موسم واحد. اشتريتُ من الأفراح المؤجّلة عنوانًا لا يعرفني. اكتسيتُ بالعراء في "عزّ البرد" وانحبس بجسدي ألف ألم. ورحتُ أبيع وأشتري بالحياة ثمنًا باهضًا لا يعرف التوكؤ على الصبر، ولكنه قرّر أن يحتمل لأجل أن يبدو أكثر أناقةً تجاه ما يبدو صالحاً له ولأيامه المقبلة.
صالحتُ الناس، واشتريتُ الأعداء بالعفو عنهم، وأحببتهم فأحبوني، وقلبي كأحد أدراج موظف متقاعد لا يحوي غير ذكريات العمل، ومعاملات لموتى لم ينته منها بعد! ودموع الأمس التي كانت تشعره بالنشاط، والسكينة.
إنّ النقاط التي لا تجيء على الكلمات لا تعبّر عن فهم معانيها. وأنا كنتُ كلمة كبرى أنزلها الله في غار أميّ، وسرقَ العابرون نقاطها. استمتعتُ بالتفاؤلات التي خنتها كثيراً فتمسكت بيّ أكثر. لم أسأم من حال التقلبات المعنوية التي انغرست كخناجر جارحة بصدري. رأيتُ أنّ الحياة كثوبٍ عليَّ أن أرتديه ثم أغسله متى اتسخ. وقلب أمي في غياب..غيابٌ يصنع اتساخ وجهي بألم الدموع كلما جاء موعدي للمنام.
كانت الحالة الدائمة لديّ هي الاغتراب عن كل وجهٍ لا أمسّه بفرح، وحين أعود إليه أجدني استنفذت معه كل ابتساماتي، وعليّ أن أرجع إلى سالف العهد إما صمتاً تجاهه، أو اقتراباً منه مجاملةً على صناعة معروف أسداه إليّ ذات احتياج.
أتذكّر: عندما كنتُ صغيراً بأحضان قريتي، أدوس بأفكاري الخطايا، وأضرِبُ الأوقات يبعضها، وأحسبُ الناتج الذي يجيء من أوهام طفل داخلي ينتظر الإفصاح عن شعوره لمن يكبره بألف حكمة.كنتُ أعتصر بالآلام وأنتقل إلى أطواري بحثاً عن خلودٍ في الطبيعة، أو نقش صخري يبقى متصلاً بالحب أكثر مما يكون متصلاً بتيّار الطفولة .. طفولتي التي لم تكن يوماً ما صالحة لشيء يذكر. طفولتي التي كانت وجهاً أفسده (النمش)، وعناء الأيام. وفي الشباب أرهقته حبوبه. وحين عرفت الله، ورأيت آياته في مناهج المدارس أعجبني كثيراً توحيد الألوهية. هناك فقط وعلى طاولتي الصغيرة عرفت أن الدروس العظمى تبدأ منذ الصغر. رأيتُ كيف يمكن للإنسان أن يعرف الله بفطرته، ويتأكد على وجوده بعقله. يتأكد من كل ذلك في فصل دراسي وفوق طاولةٍ لا تتسع إلا ليديه الصغيرتين.
كنت أفتش عن شيء يدفعني إلى فهم العبادات، وشيء آخر هو بمثابة البعد الخفي بداخلي .. شيء مختلف عن جميع أفكار الأطفال من حولي.
كنتُ أبحث عن الحروف الأولى للغتي، والكلمات الأولى للوجود فاخترتُ أن أصلح العطل البدائي في معرفتي القروية. شّحت الحياة بوجهي في جميع مواسمها، وفصولها، وبقيت الأماني تطاردني منذ أن كنتُ طالبًا لا يعرف كيف يأكل بيديه التي لا تملكُ (الريال) في زمنه. الريال لأكل بعض من (الدقيق الحافي) وعصير البرتقال الأول من نوعه في طفولتي.. نمى هذا المشهد في صدري حتى غدا فيما بعد صورة كربونية لأول حرمان أحصل عليه. الحرمان في الطفولة أكثر ثبات من أي حرمان آخر.
ومنذ أن أصبح (الريال) عملةً لنا وأنا أفتش في جيبي بحثًا عن ملامحه ولا أكاد أتمكن منها. طالب بالابتدائية لم يفطر جيدًا طيلة أيام دراسته.
كان على جميع زملائي أن يعتبروني أحيانًا متسولًا وإن رفضوا مصطلح التسوّل لقسوته، ربما قالوا في صدورهم: مسكين. وكان على جميع المعلمين أن يعتبروني صائمًا، وعلى أميّ أن تعتبرني مريضًا دوائي شبعٌ مفقود. كان كل شيء في التفاصيل الأولى مزعجًا، وأنا لا أعرف لماذا أصبحت ذلك الطفل الجائع؟
لماذا أصبحَ الأكل يتطلب مصدر رزق لأسرةٍ ميسورةٍ جعلني الله رأس حربةٍ في فريقها؟ لماذا لا يمكنني التهام وجبة الإفطار في المدرسة مثل زملائي؟، أكانَ عليّ أن أقطع مسافة نصف كيلو يوميًا لأصل إلى بيتنا فألتهم (دقيقًا جافًا) كانت تخلطه أمي على عجل بالماء الساخن واضعةً فوقه قليلاً من سكّرها المطحون؟ تراني كم مرة التهمتُ تلك الوجبة في طفولتي؟! ثم كم كان على أرز الغداء -حين أعود- أن يكون خاليًا من جميع المقبّلات ليكون أرزًا .. أرز -فقط- صالحاً لمعدتي مرةً ومُعكّرًا لها آلاف المرات؟ أكان عليّ أن أرفض تلك النِعم لأبقى طفلاً يقتله الجوع؟.
منذ عهدي القديم رأيت كيف أجوع، وكيف يجوع أطفال إفريقيا معي، وكيف وّحدنا الجوع رغم أننا بوطنين مختلفين. واستمرَ عهدي القديم حتى كبرتُ قليلاً ورأيتُ القمح في سنبّله، وصليَّت كثيرًا بأن أصبح عاملاً بإحدى المزارع ولكن الله لم يجب دعواتي.. فلم أجد أرضًا يملكها أبي .. لأغدو بعدها طفلاً أجيرًا .. مزرعة، فحصاد، فقمح، والضريبة (موقوف عن التعليم لمدة عام) والعودة للمدرسة تتطلب فيض من أمل. وعدت، عدتُ لأصبح في الصباح طالبًا، وبالعصر مزارعاً، وبالليل نائماً على فراش الجوع والبعوض، مبتسمًا للصباح الذي لم تصنع لي فيه فرشاة أسنان وإنما حل الطين المبلل المخلوط بالفحم محل معجوني، وأناملي عوضًا عن فرشاتي. وكانت أمي تؤكد عليّ بأنها خلطة طبيعية نافعة للفم ، وكان عليّ تصديقها ؛ لأنها أمي.
ثوبي المدرسي الوحيد لونه لون الأرض، وهمومي تكبر معي، تطول مع تقادم الأيام لتصبح مُسبِلة إزارها فتطرحني أرضًا ثم أقوم من جديد رافضًا أن يطول سقوطي، أو تعثري بسبب طول الأرض التي أرتديها. ثوبي الطيني -ذاك- والذي ما زلت أذكره .. وحده كان شامخًا على جسدي النحيل .. ولا ثوبَ سواه حتى تخرجت من الرابعة الابتدائي!.
وتمضي الأيام بحثًا عن مناسبة شريفة، فأكبر. أكبر وبداخلي ألف معجزة. والصلاة الأولى هي الإرادة.
كنتُ أعرف الله جيدًا؛ لأنه أمدّني بشعور الراحة والاطمئنان، ولأنه أمدني بالصبر والاحتمال لطفولتي وشبابي اللذان لولاهما لما أصبحت مهتمًا بنفسي، ولا بأمي، ولا بأحلامي التي ظلت تدفعني للغيب واحتمال كل أوجاعه، ومساوئه، والترحيب بكل أقداره، وفقدانه.
ورحت أكبر على أمل أن أصبح ذات يوم شيئًا، ولو صغيرًا أتفاخر به أمام أمٍ صنعتني من الدقيق الحافي وماتت قبل أن أعوضها عنه ، أو أنسيها إياه أو أثبت لها أنني نسيته حتى ولو كنت أذكره جيدًا...