قراءة نقدية في نص الشاعر حسين صميلي
————————————
على هامش الأربعين ..!
تُراودُنا رغبةٌ في الضُّلوعِ
تُحدِّقُ من أفقِها الضَّيِّقِ
تُحوِّمُ صوبَ مَغانٍ تضوعُ
لتقطفَ من وردِها المُعبِقِ
ففي الوقتِ ما يستحقُّ الشروعَ
فما ضاعَ أكثرُ ممَّا بقي
فيصرخُ من عمقِنا ناصحٌ :
تشيَّخَ في الروحِ ممَّا لقي !
كبُرنا على لحظةٍ من هُيامٍ
تعلِّقنا في جوى مُطبِقِ
على مَوعدٍ للغرامِ تدانى
فيلهو بنا الظنُّ ..
هلْ نلتقي ؟
على كلِّ ما يستفزُّ الجمالَ
بأرواحِنا عَلَّها ترتقي
وعن دهشةٍ لم تعدْ طائراً
يرفرفُ في عمرِنا المُرهَقِ
كبُرنا ولا زالتِ الأمنياتُ
تتوقُ لأنسِ المدى المُشرِقِ
يُغلِّفنا وجَعٌ لا يَجفُّ
تجذَّرَ فينا إلى المَفرِقِ !
أحقَّاً كبُرنا ؟
وما عادَ شيءٌ
يوشوشُنا للهوى الشَّيِّقِ ؟!
تُطوِّقُنا عُقدةُ الأربعينَ
وتسحبُنا للشَّجا المُحرِقِ
تُحنِّطُنا في الصَّقيعِ اتِّقاءً
ونجهلُ أسبابَ ما نتَّقي !
وندري بأنَّا على رُغمِنا
كبُرنا على خوفِنا المُحدِقِ
وما زالَ في وسعِنا أن نُحبَّ
الحياةَ افتتانا ولم نُسرقِ
وما العيشُ يا سيَّدَ الأربعينَ
إذا أنتَ لم تصبُ أو تَعشقِ ؟!
وأجملُ ما في الحياةِ شعورٌ
بأنَّكَ والبدرَ في خندقِ !
حسين صميلي
كالحقيقة وككل شيء تألفه في الحياة وأنت تعبر أيامك في رحلتك العمرية المجهولة المصير جاء العنوان ( على هامش الأربعين ) مألوفا ووادعا وأنيقا وبسيطا خال من التكلّف فلا تشعر أنك أمام نص شعري بل أمام عنوان رواية أو كتاب من كتب الأدب والذكريات والسير لا يجعلك تتوقف عنده كثيرا لسرعة نفاذه إلى الذاكرة والوجدان وكلوحة مرور إجباريةالإتجاه يحيلك إلى نصٍّ بدا جدولا رقراقا شفافا نقيّا تتدفق فيه الألفاظ والمعاني تدفقا إبداعيا بلاغة وإبانة تتأكد من خلالها وحدة القصيدة من حيث الرؤية والصور والتراكيب والتصاعد الدرامي ومن حيث الغايات والمقاصد والرسالة مما جعل منها درة ماسيّة لا يمكن تجزئتها ومن أي جانب نظرت إليها تشعرك بالجودة والجمال والإتقان ..، .. نص يمنحك ذاك الشعور المفعم بالسكينة ويثير في خاطرك تلك الأسئلة التي لطالما كانت أسئلة بلا نهايات ولا إجابات شافية، أسئلة عطشى تتوالد ذاتيا في منطقة الحيرة وعلي أفق المجهول وخط انعدام اليقين .. ، وحين تبلغ نهاية الطريق مع النص لا تدري ما إذا كنت قد غصت في أعماقه ام غاص في أعماقك ولا تدري ما إذا كنت تقرؤه أم هو من يقرؤك إذْ يدفعك جاهدا لاكتشاف الذات ولكي تتحلى بالشجاعة لخوض صراعاتها وقلقها وهي تتربع على هامش الأربعين وما بعدها .. .. لقد أعجبني كلاما للكاتبة الأمريكية (إيدا لوشان ) تقول فيه ( في مرحلة الأربعين يعرف الإنسان عن نفسه وعما يريده في الحياة أكثر مما عرفه طوال حياته ، وفي أشد لحظات الإحساس بالحزن والهزيمة يدرك أن ما يمر به ليس الا مزيدا من الوعي ومزيدا من اكتشاف معنى أن تكون إنسانا وتلك هي روعة أزمة منتصف العمر .) وفي ذات السياق يرى علماء النفس أن أزمة منتصف العمر ترتبط بتقييم متناقض للإنجازات السابقة والإخفاقات والصراع من أجل أهداف شخصية جديدة ، وتتميز بالاستبطان وتقدير الذات والوعي بمرور الوقت والاعتبارات المتعلقة بضياع العمر أو ضياع الفرض ..
لقد اختصر (النص )صفحات من علم نفس النمو في نصف ورقة وكأي حقيقة مدهشة فرض (النص )نفسه تاركا الباب مفتوحا على مصراعيه للدخول في عالمه ودروبه حيث تتساوى هوامش الماضي وتتراءى للذهن صور تلك الفراغات البيضاء على حواف المخطوطات ، فراغات مذعنة مملوءة بالتعليقات والاستدراكات والإيضاحات والتفسيرات وأحيانا بلاشيء وبرسوم وشخاميط وأزاهير وعيون دامعة وقلوب دامية تخترقها السهام ، وحين ترنو إلى المستقبل والمجهول يبدو لك هامشه فراغا يحيط بالفراغ فلا تدري بماذا يمكن أن تملأ كلا الفراغين ، فالبعد المستقبلي لهامش الأربعين يجعل اللحظة الآنيّة كنقطة تأمل حذرة في منتصف الطريق يضعنا إزاءها الشاعر ويشركنا معه في حقائقها حين يقول :
تراودنا رغبة في الضلوع
تحدق من أفقها الضيّق
تحوم صوب مغان تضوع
لتقطف من وردها المعبق
فمن خلال اللفظ (تراودنا ) يتجاوز الشاعر عتبة الذات الشخصية إلى الذات العامّة ويفتح آفاق النص الداخلية على العالم الخارجي حيث تكون تلك الرغبات الدفينة والأمنيات المكبوتة وبواكير الحلم والعشق الموؤود في الصدور حقيقة إنسانية وحالة وجدانية يتشاركها الجميع ..كما أن انبعاثها المتجدد وتداعياتها الجدلية في الذات في مرحلة الأربعين حقيقة أخرى تشكل ما يوصف (بأزمة منتصف العمر ) والمشترك فيها هو عودة الصراع والتساؤلات وما إذا كان هناك فرصة فيما تبقى من العمر لإطلاق سراح تلك الرغبات الحبيسة ومنحها حرية الظهور في عالم الشهادة والواقع ..؟
ففي الوقت ما يستحق الشروع
فما ضاع أكثر مما بقي .
فالاستئفاف هنا يمنحها بداية جديدة وقد جاء متتاليا إمعانا في التأكيد وكنتيجة لقوة الجدل المحتدم في الذات بين الممكن وغير الممكن ويتجلى هذا الجدل حين يقول الشاعر :
فيصرخ من عمقنا ناصح
تشيخ في الروح مما لقي
حيث يطل علينا الماضي بخبراته وتجاربه وقيوده ومعتقداته يتخفى بين ثناياها شبح السجّان وسياط القمع وبلسان الحكمة والمنطق يتحدث :
كبرنا على لحظة من هيام
تعلقنا في جوي مطبق
( كبرنا )
على موعد للغرام تدانى
فيلهو بنا الظن هل نلتقي
( كبرنا)
على كل ما يستفز الجمال
بأرواحنا علها ترقي
وعن دهشة لم تعد طائرا
يرفرف في عمرها المرهق
تأكيدات متتالية في عرض جميل ورائع يكشف عن عدم الاستقرار في الذات الأربعينية ويدفع برغباتها نحو الخضوع والرضى بالقيود وبالموجود فيكون جوابها لا واعيا ومع غصة من حزن وألم ( نعم ) ..
كبرنا ولازالت الأمنيات
تتوق لأنس المدى المشرق
يغلفنا وجع لا يجف
تجذر فينا إلى المفرق .
هكذا قرر العقل السجان ومع ذلك لقد كان هذا الإقرار يخفي جدلية حدثت مبكرًا في الوجدان تمثلت في تلك التساؤلات المكبوتة فكل قرار قيل يتضمن صيغة استفهام تأتي تداعيًا ذِهْنِيًّا يكاد القارئ أن يراها بأم عينيه فحين يكون القرار ( كبرنا على لحظة من هيام ) فذلك ليس إلا من قبيل التفكير بصوت مسموع رَدًّا على تفكيرٍ صامت يتساءل :
( أكبرنا عن لحظة من هيام ، وعلي موعد للغرام ، وعلي كل ما يستفز الجمال ...؟ )
أحقا كبرنا ؟ وما عاد شيء
يوشوشنا للهوى الشيّق .
وهكذا يتبدّى كيف تحمل الكلمات في باطنها النفي والإثبات والسؤال والجواب ليس على نحو متناقض وإلغائي بل في حال بديع من الانسجام والترابط ، وحين تمكن الشاعر من المواءمة بين العقل السجان والروح القلقة والوجدان الثائر وجه الجدل نحو أرضية مشتركة وجمعهم في تساؤل مشترك يمثل الحقيقة المتفق عليها حين يقول :
وندري بِأنا على رغمنا
كبرنا على خوفنا المحدق
وما زال في وسعنا أن نحب
الحياة افتتانًا ولم نسرق
وما العيش يا سيّد الأربعين
إذا أنت لم تَصْبُو أو تعشق.
بعد ذلك تتوحد عوالم الشاعر ( العقل والروح والوجدان والمادة ) فيفتح باب الأمل على مصراعيه على أجمل ما في الحياة.
وأجمل ما في الحياة شعورٌ
بأنك والبدر في خندق.
لم يكن الشاعر مبدعًا في العرض البلاغي شكلا ومضمونا فقط بل وكانت هواجسه الداخلية اللاواعية تتسم بالإبداع والتسامي والجودة مما تولد عنه هذا النص الرائع الجدير بالخلود .عبدالحميد عطيف