-النصّ :
( على هامش أنثى )
أريدُك أنثى
بي تؤثِّثُ
روحَها
وتبذُرُني
عطرا
يُزكِّي
سفوحَها
فتقطِفُ لي
من وردها
لأفوحَها
وتقرَؤُني
لغزا
يُثيرُ
طموحَها
ويُغري
على قوس
السؤالِ
وضوحَها
ليفضحَ
أسراري التي
لن تبوحَها
******
أريدُك أنثى
كي تشِيدَ
صروحَها ..
تُرَوِّضُ
في إيقاع
طيشي
جموحَها
وتغسلُ
في شريان
ضوئي
جروحَها
وتهجُرُها
نحوي
فتنسى
نزوحَها
__________________
-وقفة مع العنوان:-
لحرف الجر على عند علماء النحو معاني عديدة ؛أبرزها الاستعلاء: ويكون الاستعلاء حقيقياً نحو قوله تعالى : (وعليها وعلى الفُلكِ تُحملونَ)
أو معنوياً نحو قوله تعالى : ( الرجال قوَّامون على النساء )
وقد يكون الاستعلاء على ما يقرب من المجرور (أي ليس المجرور ذاته) ويقصد به المجازي، نحوقوله تعالى: (أو أجد على النار هدى).
ويلاحظ أن شاعرنا في عنوانه المختار هذا ؛عمد إلى الاستعلاء المعنوي ..
ولكن الذي يتبادر إلى الأذهان لماذا الحفاوة بلفظة (هامش) على وجه التحديد؟! أهي مجاراة -أسرَّها الشاعر -لكتاب (على هامش السيرة) الذائع لعميد الأدب العربي ؟! أيكون في الهوامش مالايكون في المُتون؟! ولماذا أضافها إلى كلمة (أنثى)؟!
هذه التساؤلات وما إليها واردة في ذهن المتلقي لامحالة؛وهو على أعتاب نصٍّ مكثف مغاير للأنماط الشعرية المألوفة؛ نصٍّ لغوي برز إلى حيِّز الوجود متشحاً رؤية الشاعر الأُحادية؛وتصوراته الكونية؛
والمراد بالْهَامِش في المعجم : ذلك الجزء الخالي من الكتابة حول النص في الكتاب المطبوع أو المخطوط
واللفظة عبارة عن اسم فاعل من همَشَ؛وإذا قالوا على هامش الأمر؛ أرادوا معنى خارجًا عنه أو بمعزل منه،
ومن ذلك قولهم فلانٌ يعيش على الهامش: أي أنه منفرد غير مندمج في المجتمع؛ومن ذلك قولهم :"عَلَى هَامِشِ الْأَخْبَارِ" ؛ بمعنى التَعْلِيق عَلَى مَا وَرَدَ فِيهَا.
فإذا تجاوزنا الحرف (على)؛ إلى التركيب الإضافي التالي له ؛وهو (هامش أنثى)؛وجدنا أنفسنا أمام لفظتين مفردتين جاءتا بصيغة التنكير ؛ومنهما انبثقت فائدتا "التعريف والتخصيص"؛ على حدِّ تصورات النحاة؛ وفي ضوئهما أشرقت شمس القصيدة ؛ وائتلقت أبعادها وعناصرها على ماسنرى في السطور التالية..
______________
-أجواء النص:-
ولما كانت لفظة (هامش) تعني حاشية الكتاب؛كما أسلفنا ؛فإنها في استخدام شاعرنا خرجت عن سياقها المتعارف عليه ؛وحملت إلينا إيحاءً فنيا مختلفاً مفاده أنَّ شاعرنا هنا ؛استعار لأنثاه صورة كتاب أثير لديه؛ ؛وعلى هامشها أي "في المساحة الممكنة للتحدث إليها"؛ قرر ترجمة مطالبه المحتدمة في أعماقه؛ كاشفاً لها عن الآلية التي تجذبه إليها؛وعن العديدمن ملامح الحسن المعنوي والحسي؛مما يقع تحت إرادة الأنثى وحدها..
وفي ثنايا هذا الكشف الجمالي تجلَّتْ رؤيته الكونية الإنسانية لطبيعة العلاقة الجوهرية التي تربطه بهذا العالم السحري ؛وذلك في ضوء المعطيات والإشارات التي ألمح إليها؛على ماسنرى في أبعاد النص وأسراره ..
استهلَّ شاعرنا نصَّه بقوله:
أريدُك أنثى
بي تؤثِّثُ
روحَها
وفي هذا الاستهلال القائم على لغة الخطاب؛ تبرز للمتلقي جوانب معينة؛ لعلَّ أبرزها أن الفعل المضارع المقرون بكاف الخطاب؛أكد لنا حيوية المشهد؛وحرارة اللقاء؛وكأنه بهذا البوح العقلاني ؛ بصدد إجابتها عن سؤالها المطروح عليه ضمنياً :كيف تريدني أن أكون؛ لأنال إعجابك؛ وأحتلَّ عرش فؤادك ؟!
ولم تكن إرادة الشاعرشهوانية حسية دونجوانية؛بل أسمى من ذلك وأبعد مرمى ؛فهو يريدها في مقام غير مبتذل بأي حال من الأحوال؛وذلك بأنْ تجعله لروحها أثاثاً حريرياً ناعماً؛ تحطُّ عليه ساكنة وادعة متى شاءت ؛وتستدفىء به من زمهرير الشتاء؛ وتحتمي به من قيظ النهارات وهجيرها؛ومن أعاصير الحياة؛ وتياراتها المختلفة.
ويمضي شاعرنا في شرح تفاصيل مشتهياته أو تطلعاته؛ عاطفاً مطلباً آخر على ماسبق ؛ وفيه تتجلى صورة عميقة الدلالة؛بقوله:-
وتبذُرُني
عطرا
يُزكِّي
سفوحَها
العطل يستحيلُ بذوراً ؛
ويلاحظ هنا أن َّالتركيب قام على ركيزتي التعبير بالفعل المضارع المستقبلي ؛بمثابة (الفعل والنتيجة) إن جاز التعبير :(وتبذُرُني
عطرا)؛والآخر(يُزكِّي
سفوحَها)؛
والمعنى الأوَّلي : يريد لها أن تجعل منه بذوراً ؛لاتكون نفحاتها إلا عطرية؛ لاتجيد غرسها في تربته الوجدانية إلاهي وحدها ؛ وسيتمخض عن ذلك الإجراء "تزكية السفوح "المتعلقة بها وحدها.
وللفظة سفوح عدَّة دلالات في اللغة ؛ من بينها "الصخور اللينة"؛والمناطق السفلى من الجبال؛التي تغلظ؛ فيسفَح فيه الماءُ؛جارياً هنا وهناك..
وغايةُ ما استطعتُ استشفافه -بملاحظة العلاقة بين التزكية والسفوح ؛وتوظيف الشاعر لهما؛ ومن خلال الاستئناس ببعض ما للتزكية من دلالات في اللغة؛
تبعاً لقولهم: زكِيَ الشَّيءُ :(إذانما وزاد)؛أوقولهم : زَكِيَتِ الأَرْضُ إذا خَصُبَتْ؛أو قولهم:"زَكِيَ الشَّبابُ" ؛إذا عاشَ في نَعيمٍ مقيم-
هو أنَّ وكْد الشاعر في بناء هذه العلاقة؛ يدور في فلك تنمية أسباب السعادة؛والرخاء؛ والصفاء؛ والبهجة في أعماقها ؛بحيثُ إنَّ سفوحها "مايصدر عنها من هفواتٍ ومآخذ"؛لاتكون عقبة كأداء في مسيرة الحياة المشتركة؛ولايكون التوقف عندها ؛مجالاً لتفاقم الخلافات الحادَّة؛ أو مدعاة للسجالات الهشَّة العقيمة..
على أنَّ ذلك العطر المبذور من جهتها هي بعناية واهتمام ؛من شأنه أن يبعث السعادة الغامرة لها في المقام الأول ؛ وسوف يساهم في تنمية أمانيها المنشودة؛ وتطلعاتها المستقبلية الكبرى؛ كرافدٍ هام لها في مسالك الحياة ومنعطفاتها الشائكة..
ومن التزكية المشار إليها ؛ستأتلق الخصوبةُ في أرقى معانيها؛ويخضرُّ كل شيءٍ تقع عليها العين ؛ومن ثمَّ يتسنى لها أن تقوم بمايلي:
فتقطِفُ لي
من وردها
لأفوحَها
ويتضح هنا أنَّ في قطفها لبعض ورودها وتقديمها له ؛ناتجاً معنوياً آخر؛إذ إنَّ ذلك القطْف لايعدُّ آلياًجامداً؛خالياً من المشاعر ؛بل يعني للشاعر نفسه أنْ يتنسَّم آيات الجمال المنبعث منها في كل آن؛ فهو إذن ممتزج بها؛وبورودها..
ويتابع شاعرنا رسم لوحة مشهد حيوي آخر؛متساوقٍ مع هواجسه ؛ومرئياته القريبة البعيدة؛مشهد يحضر فيه الفعل القرائي بقوله:-
وتقرَؤُني
لغزاً
يُثيرُ
طموحَها
قراءةٌ من جانبها/لغز كامن في المقروءات /إثارة مستنبطة/طموح
يمثل الشاعر هنا كسطور من كتاب ما؛ لهذه الأنثى الاستثنائية؛سطورٍ تبدو كلغزٍ مبهم عسير ؛ويريد لها أن تفكَّ طلاسم لغزه المتواري خلف تلك السطور؛لمافي ذلك من إثارة لطموحاتها ؛وتعزيز لهواجسها النفسية الطامحة؛ وثقتها بنفسها؛ أمام الغوامض من الأشياء والصعوبات التي ستواجهها.
ويمضي شاعرنا خاتماً مشاهد (الإرادة) التي انطلق منهافي النص ؛ومجسداً صورة اللغز المشار إليه آنفاً ؛بقوله:-
ويُغري
على قوس
السؤالِ
وضوحَها
ليفضحَ
أسراري التي
لن تبوحَها
وهنا يُلاحظ ملمح الإغراء المستمد من اللغز الذي شرَعت في قراءته آنفا وفقاً لتصور الشاعر ؛ إذ هو لغزٌ يتمظهر لها في تسنُّمه (قوس السؤال)؛ولديه مهمة استحثاثية تنأى به عن العبث والشكلانية ؛مهمة يمكن وصفها بدعوة إلى إعمال العقل؛ وإخضاع الأحداث للتفكير الهادىء المتزن ؛ومن شأن تحريض اللغز مناطق الوعي ؛ومراكز القوى الكامنة ؛أن يكون بمثابة الكاشف الأوحد أسرارالشاعر العميقة لها؛على نحو إنساني رقيق ؛بحيث تصبح هذه الأسرار بمنزلة أسرارها التي تضنُّ بها عن البوح للآخرين ممن لاتأمن مكائدهم ؛ولاتطمئن إلى مقاصدهم؛لامن قريب؛ولا من بعيد..
******
ويستأنف شاعرنا مقطعه الجديد المتصل بالفكرة الجوهرية الأولى ؛وذلك بتكرار المطلع نفسه:(أريدُك أنثى)على سبيل التأكيد ؛بيد أنه يمخر عباب اللغة غائصاً؛ومستقصياً؛وداعماً شرطه الأساسي ؛بوشائج أخرى من المعاني المستقبلية الموَّارة ؛فهو يقول:-
أريدُك أنثى
كي تشِيدَ
صروحَها ..
تُرَوِّضُ
في إيقاع
طيشي
جموحَها
وهنا نلاحظ كما أسلفت رؤى جديدة في مواصفات الأنثى التي يريدها؛ممثلةً في تشييد البنايات السامقة؛كمافي (تشيد صروحها ) ؛وذلك لايكون إلاَّ إذا أخلصت نيتها؛وأعملت تفكيرها ؛وأتقنت فنون العمران بمعناه الواسع المتعدد ؛عن علم ودراية ونباهة وحسن تدبير.
وهي في ضوء الانفتاح المترسخ في قرارة نفسها ؛لايحسن بها أن تضرب صفحاً عن ينابيع النهضة التي تحيط بها من كلِّ الجهات ؛ومسؤوليتها منوطةٌ بها تجاه ذاتها ؛وتجاه من يستنيرون رسالتها ؛وهي وشقيقها الرجل على حدٍ سواء في هذه المهمة النبيلة.
ومن المطالب المفترضة في أنثى شاعرنا ؛خاصية (الترويض) ؛فهو محتاج إليها أنْ تحتمل نزواته وصبواته أيَّا كانت؛وكما تقوم بتهذيب طباعها الجامحة مستنيرةً بمصباح حكمتها؛عليها إذن أن تفعل ذلك معه سواء بسواء؛ وذلك من أجل استمرار الحياة ..
ويختم شاعرنا نصه المكثف؛ بالعزف على وتر حميمي مرنان؛يتسم بالخصوصية المؤلفة بينهما ؛وذلك بقوله:-
وتغسلُ
في شريان
ضوئي
جروحَها
وتهجُرُها
نحوي
فتنسى
نزوحَها
فهو يريد لها أن تتجاوز آلامها؛وأسقامها وأتراحها جميعاً ؛وذلك بأن تغسلها كما ؛يُغسل الجسدُ الآدمي بالنهر الجاري؛ أوبالماء الصافي؛ أو كما تُغسل الثياب من الأدران:فتعود بيضاءَ ناصعةً؛كأنْ لم يمسسها غبار؛وذلك يتأتَّى لها بواسطة استلهام ضوئه القلبي الدائم الإشراق؛ومن هذا التمازج بين روحيهما على مسرح الحياة أتيحت لها منافذالإفصاح إليه بمكنوناتها الخفيَّة؛وأوجاعها المؤرقة؛وسينبثق من هذا التآزرالمطلق ما أطلق الشاعر عليه هجراناً إليه ؛استناداً إلى قوله: (وتهجرها
نحوي ).
وهو يضمن لها -في بثَّها هذا المعبِّر عنه بلفظة(جروحها) ؛وقد اتجهت إليه اتجاهاً كلياً في مقام الشكوى والمطارحات الودِّية؛ الخلاص التام ؛والتحرر من تلك القيود الوهمية ؛وأنها بالتأكيد ؛(ستنسى نزوحها)؛وذلك في المستقبل القريب لا البعيد..
ولعلَّ المراد بالنُزُوح هنا الاغتراب النفسي؛أو الشعور بالمعاداة المستفزَّة التي تشهدها هذه الأنثى؛أوتلك ؛فهي إذا همَّت بممارسة طقوسها المحببة إليها في وضح النهار ؛اصطدمت بالعديد من العراقيل المصطنعة؛ولامعدى من أن ينطوي النزوح أيضاً على سلسلةٍ من العواطف المتسلطة عليها نتيجة مايمرُّ بها من مواقف مثقلة بالانكسارات؛والإحساس بالاضطهاد؛والدونية ؛ والتهميش؛ وما إلى ذلك..
______________
-نهاية المطاف
هذه وقفة يسيرة حاولت فيها إماطة اللثام عن نص شاعرنا المختلف جبران الزمن الجميل" المطبوخ على نارٍ هادئة"-وفقاً للغة اليوم- ؛ومحاولة تقريبه إلى الذائقة المعاصرة ؛وهو نصٌّ عميق قام على الأسلوب الخبرى ؛ وتبلورت فيه سمات الفن الخالص ؛ وكان بودي أنْ أتعرض لبعض الظواهر الفنية التي حفل بها النص؛ لولاخشية الإطالة والإملال؛ولستُ أدري مع ذلك كله أأصبت الهدف؛أم جانبت الصواب؛ وعزائي أنها محاولة اجتهادية استكشافية في أول الأمر وآخره..
أشكر شاعرنا المرموق؛ والقرَّاء الكرام ؛مع الاعتذار عمَّا سيصادفه البعض من زلاَّت والتواءات ونتوءات زاغ عنها البصر؛لم أفطن إليها ؛وذلك جهدُ المقل؛والحمد لله من قبل ومن بعد..