أؤمن أن الحزن هو المعادل الموضوعيّ للإنسان، فالإنسان بلا أحزان كائن بلا حياة، وأؤمن أنّ الحزن أحياناً احتياج لأنفسنا كي نخلع آثامنا على عتبات الشّعور النبيل، وليس كلّ إنسان يستشعر تلك النّغزات الّتي يفعلها سنان الحزن في القلوب، فقط من له قلب حيّ يفعل.
طرق الخريف الباب وفي يده كتاب يصبغ الأوراق والحياة بلون أصفر قاتم، وربما حملنا لنا مع هبوب الرّياح ذرّات رماد تقذي العيون وتستسقي الدّموع.
في كثير من الأوقات أجد كلّ جزء في تكويني يبكي, وله لغة بكاء تختلف عن بكاء العيون. في بعض الأوقات أشعر أنّ خطوات قدمي فيها بكاء أثناء التصاقها بالأرض، ولا تريد الانتقال إلى ما بعدها، وربما حتَّى فكرتي تستعصي عليّ، وتخلق لنفسها زاويةً بعيد تنشّج فيها، وتحلّق في سماء من دموع..
لا أحد يحبّ قراءة الحزن، لكنّ الحزن ضرورة لنعيد ترتيب اهتماماتنا، ونستعيد تصنيف أنفسنا بعيداً عن المزيج أو بعيداً عن المحيط.
أو لنعرف لذّة الفرح، فكيف لنا أن نتذوّق الفرح ولم يسكن الحزن قلوبنا؟ فالضّد يظهر حسنه الضّد،كما قال دوقلة المنْبِجيّ في قصيدة (اليتيمة):ضدّان لما استجمعا حسناً ..
والضد يظهر حسنه الضد.
لن يكون للفرح بهجته وجماله إلا بعد حزمة من الحزن؛ تمد بها يد الأيَّام المتشقّقة الجافّة، ولابد لنا من تناول تلك الجرعة وابتلاعها حتَّى تستقر في أقاصي القلب، والعجيب أنّ شعور الحزن يمكث طويلاً، بل يتحول إلى خيوط تغلّف كلماتنا وتصبغ عباراتنا وترسم هلالاً على شفاهنا، فمهما حاولنا التّجلّد أمام الآخرين يبقى للحزن لمحة على المحيّا، وانطفاء على نبرات الصَّوت، ورسول على جناح النّظرات الهائمة في المدى.
قال الشّاعر أبو ذؤيب الهذلي:
وتجلّدي للشّامتين أريهمُ
أنّي لريب الدّهر لا أتضعضع
وإذا المنّية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع
وللحزن أنياب تنشب في شغاف القلب ويصعب أن تزول آثارها، ولابد من أجراس في منعطفات الأيَّام تهتزّ فتحرك الدّماء الكامنة في أقاصي القلب، والخوف أن يكون الحزن تعوّد يعتاد عليه الإنسان فلا يرغب في الابتعاد عن مساحته، ويكون قيد يلتفّ حول خطواته، وينغرس بوتد في عمق الأرض فيشيخ ذلك الإنسان وهو في مقتبل العمر.
قال المتنبّي:
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً
وحسب بالمنايا أن يكنُّ أمانيا.
ربما سيطر الحزن حتَّى أصبح الدّواء هو الموت, وأصبحت المنيّة أمنيةً.
وغالباً يرتبط الحزن الشفيف النبيل بالحب رغم أنه يفترض بالحب أن يكون حالة تغذية للمشاعر السامية والأحاسيس الرقيقة والفضائل النبيلة لكن الصحبة التي تربط الحب بالقلق والشوق والحنين والخشية على تقلص شعور الحب لدى أحد أطرافه تخلق حالة حزن ولذلك ترى النبلاء والمترفين عليهم مسحات الحزن ثم يخلق سؤال لدى الفقراء ؛ لماذا يحزن الأغنياء؟ وهذا لا يعني أن الفقراء لا يلامسهم الحب، أنتهت المقالة ولا زال السؤال الذي بلا إجابة لأن الإجابة نسبية .. إلام الأسر والدنيا لديَّ (الأطلال /إبراهيم ناجي)