مرحباً بأصدقاء الأدب والكُتب, هنا ملتقى الأدباء ومجلة الكُتاب العظماء, هنا حيث ننثر من ربيع الكلمات مطراً .. أهلاً بكم
قراءة نقديّة لقصّة:
(سارق الأرغفة ) للأديبة /فاطمة الغامدي .
__________________
-النصّ
سارق الأرغفة :
سرت وأمي والجوعُ … أطفال جارتنا يتناتشون اللحم َالمقدد، رائحة الخبز الساخن في المطعم المجاور تستفزُّني ؛ نظرت أمي إلى وجهي الملتهب ؛وضعت فوق رأسي حملاًثقيلا ًكي أتناسى… نكزتني في ظهري كبهيم وقالت بلهجة حازمة :سر من هنا. !
أطفال أثرياء يتراشقون بالمثلجات، ريثما تساوم أمهاتهم أمي على ساعة عمل إضافية؛ ألقيت حملي الثقيل أرضاً ;ظنت أمي أنني ألتمس الراحة; منحتني ابتسامةًحزينة ،غافلتها وهرعت للمخبزالمجاور ،سرقتُ رغيفاً وفطيرتين. ؛جلدني المارَّة ، ورشقني الأطفال بالحجارة ‘ ووصموني بسارق الأرغفة ، وطردت النساء الموسرات أمي.!!
__________________
القراءة :-
القصة القصيرة جدّا هي اختصار شديد لرواية طويلة جدّا ..
لقد أبدعت الكاتبة في اختصار ما يمكن أن يكون رواية طويلة في عدد قليل من الأسطر المشعّة بنور الفكرة وقوة المضمون والرسالة الاجتماعيّة والإنسانيّة بأبعادها المتعددة ..
فالقصة وهي توثّق حالة من حالات البؤس والفقر والعوز ، توثّق – أيضاً – النقيض البذخي المضاد ، والظلم الاجتماعي المصاحب لها ، كما توثق الاستغلال المقيت من قبل البعض لمأساة وبؤس الآخرين ..
وهكذا يجد القارىء في هذه القصة عدداً من الرسائل المتسمة بالألم ، المثيرة للأسف والغضب في آن ، وبدرجة كافية من الإبانة والوضوح ، حاملةً في ثناياها صرخةً مدويّةً في ضمير المجتمع الغافل ..
من مزايا القصة القصيرة والقصيرة جداً إشراك خيال القارىء تحت وطأة كثافة الإحساس والشعور في استكمال الصورة المتخيلة للواقع الموضوعي العاقل الذي تعبر عنه القصّة، ومن هذا المنطلق أجادت الكاتبة استهلال قصتها بقولها على لسان طفلها البائس (سرت وأمي والجوع ..)
هذه الكلمات الثلاث ونقاط الاستمرارية الدالة على كل الكلام المحذوف كانت كاملة المبنى والمعنى وكافية لرسم مشهد مفزع واسع النطاق ، من الأطفال الفقراء السائرين مع أمهاتهم وجوعهم ، الشمامين لروائح الأكل المستفزّة لخيال الجائعين …
هذا المشهد يتجاوز الحيّز المكاني والزمني المحدود إلى فضاء مفتوح من الأزمنة والأماكن والشوارع والمدن والطرقات والقرى و أزقّة أحياء الخشب والصفيح على مدّ البسيطة ..
هذه الصورة ببعدها الإنسانيّ الكوكبي تتجاوز بسيرورتها الحدود الإدارية والسياسية والدينية والعرقيّة للمجتمعات .. ولهذا فإن اختيار لفظ (سرت ) كان اختياراً ذكيّاً وفطناً وموفقاً ..
(فسرت) المشتق من (سار ) لا يعني المشي فحسب، ولكن يعني أيضاً السيرورة بما فيها من دلالة زمنيّة حينيّة ،ودلالة حركيّة متتالية، وتراكميّة .
سارق الأرغفة :عنوان لافت لواقع خافت ينتشر في المجتمعات انتشار الوباء المعضل ، والعنوان بشقيه : سارق ، بدلالته الجرمية المثيرة للاستفهام والإنكار ،وأرغفة بدلالتها المثيرة للتعجب والاندهاش !
يمنحنا شكلاً من أشكال ( الكوميديا ) السوداء المفضية إلى الألم والضحك في آن …
فحينما كان يسير الطفل يتهادى بخواء بطنه بين الجموع يتشمم روائح الطعام ويراقب أقرانه يتناتشون اللحم ويتراشقون ببقايا المشروبات ، لم يكن له اسم يعرف به ولم يلقي له أحد بالاً كأنْ لم يكن له وجود بينهم ، وحينما سرق الرغيف أصبح له اسماً ووجوداً ككائن حيّ يجلده المارة ويرشقونه بالحجارة ، وكيف أن المجتمع يبالغ في وصف الواقعة وإطلاق التوصيفات السلبية جزافاً دون التبصر في حقائق الأمور ، تلك صورة مأساوية تبعث على الأسى حين تكون خياراتك في العيش محدودة بين أن تعيش تحت وطأة الجوع أو تعيش تحت وطأة الامتهان .!
لا شك أنّ الجوع ليس السبب الأقوى للسرقة أو الصورة الأكثر سوداويّة في المشهد ، فالإهمال والمنع وانعدام العطاء وجفاف الخيريّة هي الأكثر سواداً ، وقد أجادت الكاتبة في إظهار هذه الصورة ولو بشكل ضمني ..
ومما استوقفني جماليّاً استخدام الكاتبة للفظ ( يتناتشون اللحم ) لمنحنا تصوراً لمنظر حيوانيّ غابيّ متوحش … غير أن لفظ (المقدد ) أرى أنّه زائد عن الحاجة أو في غير محلّه ، كذلك قولها ( …حملاً ثقيلاً …) فليس ثمة رابط في السياق يمهد لاستخدام هذا اللفظ ويشكل تلك الصورة ..
ختاماً وضمن منطق مآلات النهاية المفتوحة للقصة يمكنني أن أضيف أيضاً : «و أصبح طريداً للعدالة» .. هكذا تصبح المأساة مكتملةً ببعدها الزمني السحيق؛من سارق الرغيف (جان فالجان ) في بؤساء فيكتور هوغو، إلى (سارق الأرغفة) الذي لا اسم له للكاتبة: فاطمة الغامدي ،وحتّى حين ….
قراءة نقدية لبرنامج ليلة أدب
تشرفت بالدعوة الكريمة من الأديب الأستاذ محمد المنصور الحازمي، للمشاركة مع لجنة التحكيم ،وتقديم ورقة نقديّة في مسابقة برنامج ليلة أدب، الذي ستقيمه ديوانية الأدب والثقافة بمنطقة جازان ، وكانت تجربة جديدة بالنسبة لي ،وددت لو أني أخرج منها كفافاً لا ليَ ولا عليَّ …
في عام 1396 هجرية عندما كنت في السنة الثانوية الأولى بالمعهد العلمي ،كتبت قصةً يتيمةً بعنوان ( أحمد وفاطمة ) تحت تأثير عبرات المنفلوطي، ومجدولين وتحت ظلال الزيزفون ، وتداعيات أوليفر تويست ، والبؤساء ، وبائعة الخبز ، وقصة مدينتين ..
وغيرها من روائع القصص العالميّة المنتشرة في ذلك الوقت ، هذه القصة لم ولن تشهد النور بعد أن فقدتها بعد ذلك ببضع سنين .
أتذكر أنِّي قدمتها لأحبِّ مشائخي إليّ وهو معلم اللغة العربية والأدب العربي الأستاذ محمد مصلح الشعبي رحمه الله الذي صححها وأعادها إليّ، مع قليل من عبارات الإعجاب ، لكني لم أعلم حينها أنني تجاوزت خطوطَ المعهد الفكريّة الحمراء ، فقد كنت أغني خارج سرب منهجيّة التعليم الديني ، هذا يعني أنني كنت متأثراً بالفكر المخالف الذي يتطلب المناصحة، وإعادة التوجيه ، وهكذا تم إطفاء تلك الشعلة الحالمة ..
في المعهد العلمي لم نكن نحمل همَّ المنهج الدراسي فحسب، ولكن أيضاً همَّ العالم الإسلامي في صراعه الوجودي، ضد الفكر التغريبي الرأسمالي من جهة، وضد الشيوعية العالمية الإلحادية من جهة أخرى ..
كانت الصحف الحائطية هي ساحة صراعنا المحتدمة تجاه العالم المعادي، وهكذا كان الحال ولكن بشكل أعمق وأوسع ،حين انتقلنا إلى مقاعد الدراسة الجامعية ..
هذا الهمُّ وهذا التوظيف الأيدولوجي لعقول الطلاب، كان هو نافذتي على عالم الفكر والأدب والفنون الجميلة ، وتلك كانت من المفارقات العحيبة،وبطبيعة الحال فإنه لا يمكنك أن تخوض غمار البحر، دون أن تخرج مبللاً بمائه ، وهذا البلل هو ما أدَّى بي اليوم إلى الموقف مقدِّماً لهذه الورقة النقديّة المتواضعة .
قد يظن أحدكم أنني إنما أتحدث عن نفسي هنا، وهذا قد يبدو صحيحاً ظاهريّاً ، لكني أرجو ممن تناهى إلى هذا الفهم أن يعيد النظر فيه ..
فمن خلال هذا التقديم الذي قد يبدو غريباً، أريد أن أمهد لذات السؤال الذي أطرحه دائما على نفسي ،وإجابته تتحكم في قراري الذي يلي ذلك ..
والسؤال هو لماذا أكتب ؟
ولمن أكتب … ؟
هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يطرحه الكاتب أيّا كان على نفسه ، هل يكتب قصته، أو قصيدته، أو روايته لنفسه ،
أو لتلك الفئة الخاصة التي ينتمي إليها، أو لمجتمعه الذي يعيش فيه، أم للعالم كلّه ؟
وعلى قدر إجابته ستكون قيمة ما ينتجه من نصوص ..
إن السؤال يطرح قضية الثقافة الفكريّة التي يعتنقها الكاتب ، ماهي ومن أين مصدرها ؟
ولماذا يعيد إنتاجها ككاتب، ومفكر، وقاص ،وشاعر، وأديب وعالم، وفيلسوف …الخ ..
وهنا أعود بكم إلى المثال الذي ذكرته ،وهو قصتي اليتيمة التي حُكم عليها بالموت في مهدها ، ففي الوقت الذي كنت أتلقى فيه تعليماً دينيّاً صارماً، وأعيش في بيئةٍ اجتماعية بدوية شديدة المحافظة، قمتُ بكتابة قصة حبٍّ ،لا تمتُّ للواقع الخارجي بصلة، مما جعل موتها حتميّاً .. فحتى على الرغم من قدرة الكاتب على استشراف المستقبل، لابدَّ له من الاتكاء بشكل أساسي، على متطلبات الواقع الموضوعي الذي يحيط به.
وهنا علينا أن نفرق بين الواقع الذاتي للكاتب، ونقصد به شكل العالم كما هو في ذهن الكاتب، وبين الواقع الموضوعي وهو عالم الاديب الخارجي ..
هذا التفريق سيحدد لنا كنه الإجابة عن السؤال الذي طرحناه آنفاً ،حول لماذا نكتب ولمن نكتب ؟
فعندما نكتب انطلاقاً من الواقع الذاتي، فإنما نكتب لأنفسنا، وربما لمن يشاركوننا هذا الواقع وهم الوسط النخبوي المحدود الذي ننتمي إليه ..
ومثل هذا الصدور تغلب عليه القيم والمبادئ المثالية بما فيها من خطابة، ومباشرة، وتقريريّة ، وهي نصوصٌ لا تتحمل النقد والتصويب، وقد يدافع عنها أصحابها لإثبات أنهم على صواب ،وهم مُحقُّون في ذلك ، ذلك لأنه لا يمكن وضعها على مشرحة النقد والتحليل الموضوعي وبأدوات نقد لا تنتمي لذات المنهج المثالي ، وهذا ما يقع فيه الكثيرُ من الشعراء والأدباء الشباب ، وأقصد بذلك الاعتماد على الواقع الذاتي للكاتب.
والمثالية مذهب فكري وجمالي ينشد الكمال، قد يناسب النص الشعري أكثر من سواه، بما فيه من جنوح إلى الخيال، والتحليق في رحاب رؤى الشاعر الذاتيّة،
في حين أنها في تقديري الشخصي لا تناسب النصوص القصصيّة بأنواعها التي تستمد مادتها وموضوعها ورؤاها من الواقع الموضوعي القائم على الجدليّة والصراع ، أي العالم الخارجي للكاتب كما هو على حقيقته ..
قد يقول البعض إنَّ عالم الشاعر والأديب الداخلي، إنَّما هو انعكاس لعالمه الخارجي، وتجاربه الحياتيّة وهذا كلام أتفق معه تماماً، وهو يؤكد أنَّ مادة الشعر والنثر إنما تُستمدُّ من الواقع الموضوعي بما فيه من ماديّة جدليّة وقيم مثالية، وليس من بنات أفكار الكاتب أو الشاعر ودماغه المفكر، على الرغم من أنها قد تبدو كذلك ، ولهذا لابد أن يكون إنتاجه الأدبي ملتصقاً بهذا الواقع، وخادماً له، وغير مفارق عنه، أو محلِّقاً في الهواء ،أو غارقاً في (الأنا ).. سواء كان هذا الالتصاق بالواقع قبولاً، أو رفضاً، أو توثيقاً ..
إنَّ العامل المشترك بين مختلف النصوص القصصية والشعرية التي قرأتها هنا هو تمحورها حول الذات والتجربة الشخصية وضمير المتكلم، ولهذا فقد أجملت تعليقي في هذه القراءة المختصرة في مسألة الدوافع الذاتية، والدوافع الموضوعية المنتجة لتلك النصوص ..
وقد نصحت بضرورة توخي الحيادية بالشكل الكافي، وتجاوز عتبة الذات، والانطلاق في عالم الإبداع الأوسع .. وفي المجمل: على الكاتب أن يعيد طرح ذات السؤال على نفسه : لماذا يكتب ولمن يكتب ؟
أحسب أن الذي سيكتب من أجل المجتمع والعالم الخارجي والمستقبل سيجد مكانه في هذا العالم وفي ذلك المستقبل .. والله أعلم.
من خلال قراءة انطباعية لنص الشاعر محمد النعمي ( العيد والغياب ) بقلم : يحي معيدي
العِيد والغِياب :
*كُـلُّ المَـوَاعيدِ خانَـتْـها المَواعيدُ
*سِيَّانَ إنْ غِبْتَ أو وَافَيْتَ ياعيدُ
*تَقَـطَّعَتْ بَينَنا الأَسْبابُ وافْتَرَقَتْ
*دُرُوبُـنا، وَاسْـتَـوَتْ أيَّـامُنا السُّودُ
*شَطَّتْ بِنا الدَّارُ، أَنْسَـتْنا ملامِحَنا
*حَتَّى اغْترَبْنا وأَدْمى خَطْونَا الْبِيدُ
*وَمَضَّـنا البُـعدُ وَجْـداً ما نُغَـالِـبُهُ
*زَفِـيْـرُهُ الآه تَـكْـوِي والتّـناهِـيْـدُ
*كيفَ افْترقْنا وَهَـمْسُ الحُبِّ يجمَعُنا
*ومـا التَـقَيْـنا، وحَـبْـلُ الـودِّ مَـمْـدُودُ
*ولَـوَّعَـتْـنا لَـيَـالٍ صَـفْـوُهـا كَـدَرٌ
*أَدنَى تَـبَارِيْـحِـها هَـمٌّ وَتَـسْـهِيْدُ
*تشِـيحُ عَـنَّا أمَـانِـيْ الحُـبِّ لَاهِـيَةً
*وتصْطَفِينا على البَلْوى المَوَاجِيدُ
*ياعِيدُ أيْـنَ التي كانَتْ إذا خَـطَـرَتْ
*يَخْـتَـالُ بَـدرٌ، وتَـنـسَـابُ المَـوَاعِـيْدُ*
*تِلْكَ التي تَمْـنَـحُ الأعـيادَ بَهْـجَـتَها
*أو رُبَّـمـا أَنَّـها كـانَـتْ هِـيَ الـعِـيْـدُ
*مَـا بَـالُـها نَسِـيْتْ لَمْ تُهْـدِنا قَـمَـراً
*في لَيْلَةِ العيدِ، هل يَحلُو لَنا عِيدُ
——-
أصالة الشعر تكون فيما يمتلكه الشاعر من ثقافة وموهبة وعاطفة جياشة ومدارك عميقة تجعله يبعث روح حرفه مكتمل البناء والصورة.
وحينما يأتي النص إلى القارئ من جميع جوانب الإدراك ، الحس ، السمع ، البصر ، الوجدان ، العاطفة ، فإنه نص مكتمل الجوانب حقا.
وهذا ما لمسته في نص أديبنا محمد النعمي.
ولست هنا في نطاق التصنيف أو الفلسفة الشعرية ، أو الإشارة إلى ملحمة الشعر وتقسيماته المبثوثة في كتب فلاسفة الشعر كأرسطو وغيره.
وإنما طاب لي رسم انطباعي حول مجريات هذا النص البديع الذي صدفني وصدفته فرأيت أن أجاذبه شعوري متذوقا جماله وتقسيمات هالاته البديعة.
والشعر كما عرفه البارودي :
( لغة خيالية يتألق وميضها في سماوة الفكر فتنبعث أشعتها إلى صحيفة القلب فيفيض بلألأتها نوراً يتصل خيطه بأسلة اللسان فينبعث بألوان من الحكمة ينبلج بها الحالك).
ولقد سقاني هذا النص تلك اللغة التي ذكرها البارودي ، وذلك الإلهام ؛ لأرسم انطباعي حوله.
عنوان النص :
جاء العنوان بمفردتين متعاطفتين
( العيد والغياب) وهو ما يُشعر بالاقتران الأيدلوجي النفسي لدى الشاعر مع الحدث الحاصل ، حيث رسم جوانب النص عبر بوابة المفردتين ، وهي إشارة تحتاج تأملا دقيقا حيث المعنى الذي جمع كائنا يبث السعادة وآخر ينبعث منه لهب الاحتراق وهو الغياب.
وبالنظر في كنه المفردتين نجدهما كائنين لهما انطباع طبعيٌ في روح البشر ، وانطباع عتيق جدا يرجع إلى عُرف المفردتين ومعرفتهما عبر الزمن.
اختار الشاعر البحر البسيط ، وقافية الدال
ولايخفى ما يحمله حرف الدال من صفة جَهْورية انفجارية ، ولعل الشاعر اختار ذلك ؛ ليعبّر عن انفجار الشعور الناتج لديه عن مضص الغربة والبعد !
وظهر التناص الوزني والقافوي والمعنوي -أيضا- بين نص النعمي ( العيد والغياب)
وبين قصيدة المتنبي التي مطلعها :
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ ؟
وجاء نسق النص منسجما في جميع قوالبه:
الصدر
والعجز
والعروض
والضرب
والحشو أيضا
وهو ما يدل على قوة وعمق شاعرية شاعرنا النعمي وجودة قبضته على ناصية النص.
ولعل القارئ يجد ذلك في أغلب النص.
ولنأخذ مثلا قوله :
تقطعت بيننا الأسباب وافترقت
دروبنا واستوت أيامنا السود
فالقارئ يلحظ التقسيم الفريد ، والانسجام اللفظي والمعنوي ، وكأن الشاعر يعزف على آلة التقسيم الصوتي والغنائي، وتلك مهارة لايجيدها إلا المهرة.
ويلحظ القارئ أيضا :
التاء في أواخر الكلمات :
تقطعت
افترقت
استوت.
وكذلك:
( نا) المتكلمين
في كلمتي ( بيننا ، دروبنا )
وهو ما أضفى جرسا موسيقيا رائعا.
وحينما نغوص في أعماق نص شاعرنا ، سواء الألفاظ أو المعاني والدلالات والصور فإننا نجد الشاعر قد أحكم سبك قوالبه فالألفاظ منتقاة ودلالية فصيحة وواضحة الدلالة.
وكذلك الأفكار كلها تنصب في فكرة العنوان وهي ( واقع الغياب والبعد).
تلك الفكرة المرتسمة على جوى الشاعر خصوصا مع إطلالة العيد الذي هو روح البسمة والسعادة وملتقى الأحبة.
فحينما يأتي العيد دون لقيا من نحب فإن ذلك – ولا شك- هو انفجار الشعور أسى وألما.
والشاعر هنا مرتهن في كهف ذلك الغياب المحرق ،وتلك الغربة المرهقة.
وعنده كل المواعيد خانتها مواعيدها سواء حل العيد أو غاب ، فهو محروم من لقيا أحبته واجتماعهم.
يُقّرر الشاعر تلك الدلالة ليرسمها وينقشها في ذهن القارئ أو السامع معبّرا بالجمل الخبرية كما في الأبيات :
الأول والثاني والثالث والرابع.
أو الإنشائية المتمثلة في النداء أو الاستفهام
كما في الأبيات :
الخامس
والثامن والعاشر.
استخدم الشاعر مفردة العيد خمس مرات مفردة ومجموعة ونكرة ومعرفة وهو ما يدل على أن فكرة العيد أساسية ومستلهمة من روح هاجسه الشعري الذي ألقى عليه تلك الفكرة بدءا.
واستخدم – كذلك- مفردات دلالية لتدل على ذلك الغياب ومنها :
تقطعت.
افترقت.
أيامنا السود.
شطّت بنا.
اغتربنا.
إلخ.
وكلها تصب في معنى الغربة والغياب عن الدار والأحبة خصوصا في ظل إطلالة العيد.
ووظّف الشاعر اللغة الحركية للمفردات ليدل على المفارقة مثل:
وأدمى خطونا البيد.
وكذلك :
ومضّنا البعد.
ومثله :
وما التقينا.
وكذلك :
تشيح عنا.
وغير ذلك مما ورد في النص.
ولإثبات تلك الدلالة الغيابية يستخدم الشاعر الاستفهام التعجبي وذلك في قوله :
مابالها نسيت لم تهدنا قمرا ؟!
وكأن حاله كحال المتنبي حينما قال:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب.
واستخدم الشاعر- أيضا-
التصوير البياني والبديعي والكناية فجاءت وشيا وعِقْدا بهيّا !
لنأخذ مثلا
الطباق في قوله :
غبت ، وافيت.
صفو ، وكدر
وغير ذلك.
وكذلك الجناس الناقص في قوله:
المواعيد
و
المواجيد
واستخدم أسلوب المقابلة أيضا :
تقطعت بنا الأسباب.
وافترقت دروبنا.
شطّت بنا الدار.
واستخدم -كذلك- التضاد :
افترقنا
و
التقينا.
وظهر في نص الشاعر التجسيد ؛ ليرسم أحداث ذلك الغياب الذي مَرّ بكل أحاسيسه لظى ولهيبا.
فهو يستذكر قمره الغائب عنه حيث كان معه فيما مضى من أعياد.
بل يجعل ذلك القمر عيدَه حيث يقول:
تلك التي تمنح الأعياد بهجتها.
وحينما يكون الغياب من بلسم العيد فلا إحساس للعيد !
جاءت عاطفة الشاعر جياشة في وهج واحتراق تبعث الروح الفنية لغة وشعرا، حيث التعابير الحزينة التي صبها الشاعر؛ ليصور ذلك الغياب الجاثم على روحه، فأيامه سوداء
يغالب فيها الزفير والآه والهم والتعب والتناهيد.
هكذا جسّد لنا الشاعر حدث تلك الغربة، ولوعة ذلك الغياب وهو متلبس بالأسى وحُمّى الشوق ، وكأني به يتمثل قول قيس بن ذريح إذ قال:
ودِدتُ من الشَوقِ الذي بِيَ أَنَّني
أُعارُ جَناحَي طائرٍ فَأَطيرُ.
قراءة نقدية لقصيدة:
( أبابيل )للشاعر:جبران قحل
بقلم الأستاذ/عبدالحميد عطيف
____________________
-نصّ القصيدة:
لم أكتملْ …
بعدُ …
ها شبَّتْ .. قناديلي
فلا تؤجلْ …
– وقد أوشكتُ –
تأويلي
بربِّ زيتك …
أوقدني …
وصُبَّ على جدبي …
اخضرارَك …
وانْشُزْ في مواويلِي
__________________
-القراءة:
*لقد ارتبطت حياة البشر مع الطيور منذ القدم وشكلت جزءاً من معتقداتهم وأساطيرهم وخرافاتهم وطقوسهم وعيشهم على مر التاريخ، ومن الحمامة إلى العنقاء هناك سلسلة طويلة من الطيور كانت لها رمزيتها ودلالاتها في الموروث الفكري والشعري والإنساني..
كل الطيور عاشت مع الإنسان على أرضه وفي أجوائه وكانت ملهمة له فازدانت بها آدابه وحلق معها عقله وخياله وصحبته في حلّه وترحاله ولذلك تعايشه معها من الأمور الطبيعية المألوفة ، لكن طائرا واحدا ليس من هذه الطبيعة وقد شكل بمفرده مساحة واسعة من ذاكرة وعقل العالم وهو (الطير الأبابيل) التي ظهرت من المجهول محلقة في أسراب ومجموعات في سماء مكة المكرمة وخاضت معركة إعجازيّة دامية ثم اختفت ، ولسنا هنا بصدد تتبع قصة الطير الأبابيل وإنما أوردنا هذه المقدمة لتتبع مقاصد الشاعر من عنوان النص (أبابيل) والكشف عما يتوارى خلف اللفظ من دلالات وأحجيات وما يحيلنا إليه من معانٍ ومستهدفات سابقة ولاحقة يمكن إدراكها من خلال التأمل واستدعاء ما في ذاكرة اللغة والعقل من حمولات معرفية ذات صلة بهذا الاسم ولما بين رمزيّة الطير عموما والطير الأبابيل خصوصا من تعالق ظاهر وتماس خفي مع النص الشعري، وإذْ لا يمكن أن نقرأ لفظ (أبابيل) دون أن يقترن ذلك في أذهاننا (بالطير الأبابيل) وبما ورد بسورة (الفيل).
قال تعالى(… ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيراً أبابيل * ترميهم بحجارة من سجّيل *..).
*( ومعنى أبابيل في معاجم اللغة (الفرَق) وهو جمع لا مفرد له وأكثر ما وصفت به أنها مجموعات، مجموعة مجموعة، وأسراب تأتي من كل اتجاه.. وربط بعضهم لفظ (أبابيل) بلفظ الإبل المؤبلة أي التي استغنت برطوبة العشب عن الماء، هذا له علاقة بما ذهب إليه بعض المفسرين من أنّ الطير الأبابيل تعيش بين السماء والأرض.. بمعنى أنّها (مؤبلة) لا تحتاج إلى ورود الماء على الأرض فلديها مصادر من الغذاء والماء في فضائها وذكر في وصفها أنها مختلفة الأنواع والألوان والأحجام والخصائص وأنها خرجت أو قدمت من الجهة الغربيه لمكة المكرمة وهي جهة البحر ..)
*حادثة الطير الأبابيل هي حادثة خارقة للمعقول البشري ولمعهود العلاقة بين الطير والإنسان وقد جاءت في سياق الإعجاز والتحدي، وبما أن أبابيل ليست نوعا من الطير وإنما تعني فرقاً ومجموعات وطالما أن الأمر كذلك فيصلح أن نقول (وحشا أبابيل ) لوصف مجموعات من الوحوش تأتي من كل اتجاه وكذلك خلقا أبابيل …. وقس على ذلك ما يمكن قياسه لكل ما قد يأتي كمجموعات مجموعات أو أسراباً أسراباً ومن جهات مختلفة من أمور حسية أو معنويّة وبالشكل الذي يشكل تحديّا خارقا للمألوف والمعهودومثلما أن هناك في الزمن الماضي طيرا أبابيل شكلت تحديا وأمراً خارقا للمألوف فهنا أيضا في الزمن الحاضر أبابيل أخرى تشكل تحديا وخرقا لما هو مألوف ومعهود ..
*هكذا يتضح لنا ما يكتنزه لفظ (أبابيل) من معاني عميقة ودلالات دقيقة وصور ملموسة ماضويّة الزمن مستديمة الفاعليّة استهدفها عنوان النص كعناصر تأسيسيّة وقواعد يقوم عليها البناء الهرمي للنص لتجسيد وإثراء وتقوية الفكرة العاكسة للحدث أو للقصة الأبابليّة الجديدة الخارقة للمعهود وذات الصلة بمستهدفات النص ومضامينه، ونلخص هذه العناصر في بعدها الماضوي فيما يلي:-
– معنى (أبابيل) كفرق ومجموعات
– النظام الحركي لهذه المجموعات المتدفقة من مختلف الاتجاهات
– التنوع الوصفي لأشكال وأنواع وأحجام هذه الأسراب على غرار تنوع الأوصاف التي ارتبطت بالطير الابابيل.
– البعد الغيبي والفضائي المتصل بظهور الطير الأبابيل.
– حقيقة التحدي واختراق المعهود والمألوف.
– ما يرمز إليه التأبيل من وجود مصادر للتغذية والارتواء تنهل منها تلك الأبابيل..
*(ومن هذا نستنتج وعلى نحو مبسّط وتقريبي جانبا من دلالة عنوان النص الهادفة إلى تحضير ذهن القارىء وخياله ليرى أنه أمام نص يجسد حادثة أو ظاهرة تتشكل من فرق ومجموعات وأسراب تترى ذات نظام حركي وأهداف مبرمجة وتنوع وتعدد تتغذى وتنهل من موارد فضائية تفد إليها من الجهة الغربية من الكون .. )
*… جاء العنوان هكذا (أبابيل) فإلى أي أبابيل يشير اللفظ وما هي مقاصد الشاعر من وراء ذلك … ؟ وإذا كانت الطير هي بطلة القصة الأولى فماهو أو من هي بطلة (أبابيل) الشاعر ؟.. وهنا أيضاً يعيدنا الاسم إلى استدعاء (الطير الأبابيل) مجددا، والطير في اللغة اسم جمع مؤنث ويطلق على الواحد ومفرده المذكر (طائر) ولا مفرد مؤنث له..
*إن اختيار العنوان بهذا الشكل ينم عن ذكاء مبدع فالشاعر يدرك بحصافته أن الربط بين أبابيل والطير متحقق ذهنيا لدى القارىء دون ذكرها ولو ذكرها لفسد الشكل والمضمون معا وبهذا فقد منح القارىء فضاء لإعمال الذهن والخيال لإيجاد مقاربة (ما) واكتشاف ما وراء اللفظ المغيّب من رموز ومعاني ودلالات لم تكن غائبة عن مراد الشاعر، ولسنا بحاجة إلى تتبع السياق لمعرفة مقاصد الشاعر الدفينة في عمق الفكرة إذا تتبعنا رمزيّة الطير في حياة الإنسان وتعلقه وإعجابه بها فلقد كان ولازال الطير رمزا للحريّة التي طالما رغب الإنسان أن يحوزها ليتمكن من التحرر من قيود الواقع للتحليق في آفاق الكون؛ تلك الرغبة لم تكن إلّا تمظهرا يتجدد لرغبة موغلة في القدم مخزونة في جين الإنسان الوراثي وهي رغبة الخلود والطيران كالملائكة التي من أجلها ارتكب الانسان الأول خطيئة العصيان حين كان ضعيفا أمام الأنثى وواقعا تحت تأثير غواية الشهوة.. وهنا يكمن جوهر فكرة النص … وإذاً فالأنثى الطامحة إلى التحليق المعنوي والتحرر من قيود الأسر الأرضي وإشباع رغباتها الطبيعية الكامنة لبلوغ الخلود المفقود هي بطلة الأحداث المتصلة بأبابيل الشاعر .. والنص في مجملة بتمظهره ( الجنساني ) ليس له علاقة بتجربة الشاعر أو رغباته العاطفيّة وإنما يمثل تجسيدا للغواية الأولى في حلّة حديثة ، وإذا كان الشيطان قد استغل شجرة الخلد بثمارها الجميلة لتلعب دور الإغراء ففي النص قامت الأنثى بدور الشجرة …، والأنثى هنا ليست صانعا أساسياً ولكنها أداة ووسيلة مستغلّة يخاض بها غمار هذه الاحداث ، وهكذا تتوالى دلالات (أبابيل ) وتتداعى إلى الذهن صورها ورموزها تباعا آخذاً بعضها برقاب بعض وكل دلالة تحيلنا إلى أخرى وصولا إلى الحقيقة الكبرى التي تجسد الصراع بين الخير والشر .
لقد ضعف آدم ذات يوم فكانت الخطيئة وانتصر الشر فهل سيضعف هذه المرة ؟
هذا ما سنعرفه من خلال قراءة النص وأرجو أن تتاح لي فسحة من الوقت وقدرا من العافية لقراءته وختاما أعتقد أن الشاعر في غنىً عن الثناء على جودة شعره وما بالنص من تمهير غاية في الجمال والإبداع … والسلام ..
3/ جمادى الأولى / 1443