قراءة نقدية لقصيدة:
( أبابيل )للشاعر:جبران قحل
بقلم الأستاذ/عبدالحميد عطيف
____________________
-نصّ القصيدة:
لم أكتملْ ...
بعدُ …
ها شبَّتْ .. قناديلي
فلا تؤجلْ …
- وقد أوشكتُ -
تأويلي
بربِّ زيتك ...
أوقدني ...
وصُبَّ على جدبي ...
اخضرارَك …
وانْشُزْ في مواويلِي
__________________
-القراءة:
*لقد ارتبطت حياة البشر مع الطيور منذ القدم وشكلت جزءاً من معتقداتهم وأساطيرهم وخرافاتهم وطقوسهم وعيشهم على مر التاريخ، ومن الحمامة إلى العنقاء هناك سلسلة طويلة من الطيور كانت لها رمزيتها ودلالاتها في الموروث الفكري والشعري والإنساني..
كل الطيور عاشت مع الإنسان على أرضه وفي أجوائه وكانت ملهمة له فازدانت بها آدابه وحلق معها عقله وخياله وصحبته في حلّه وترحاله ولذلك تعايشه معها من الأمور الطبيعية المألوفة ، لكن طائرا واحدا ليس من هذه الطبيعة وقد شكل بمفرده مساحة واسعة من ذاكرة وعقل العالم وهو (الطير الأبابيل) التي ظهرت من المجهول محلقة في أسراب ومجموعات في سماء مكة المكرمة وخاضت معركة إعجازيّة دامية ثم اختفت ، ولسنا هنا بصدد تتبع قصة الطير الأبابيل وإنما أوردنا هذه المقدمة لتتبع مقاصد الشاعر من عنوان النص (أبابيل) والكشف عما يتوارى خلف اللفظ من دلالات وأحجيات وما يحيلنا إليه من معانٍ ومستهدفات سابقة ولاحقة يمكن إدراكها من خلال التأمل واستدعاء ما في ذاكرة اللغة والعقل من حمولات معرفية ذات صلة بهذا الاسم ولما بين رمزيّة الطير عموما والطير الأبابيل خصوصا من تعالق ظاهر وتماس خفي مع النص الشعري، وإذْ لا يمكن أن نقرأ لفظ (أبابيل) دون أن يقترن ذلك في أذهاننا (بالطير الأبابيل) وبما ورد بسورة (الفيل).
قال تعالى(... ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيراً أبابيل * ترميهم بحجارة من سجّيل *..).
*( ومعنى أبابيل في معاجم اللغة (الفرَق) وهو جمع لا مفرد له وأكثر ما وصفت به أنها مجموعات، مجموعة مجموعة، وأسراب تأتي من كل اتجاه.. وربط بعضهم لفظ (أبابيل) بلفظ الإبل المؤبلة أي التي استغنت برطوبة العشب عن الماء، هذا له علاقة بما ذهب إليه بعض المفسرين من أنّ الطير الأبابيل تعيش بين السماء والأرض.. بمعنى أنّها (مؤبلة) لا تحتاج إلى ورود الماء على الأرض فلديها مصادر من الغذاء والماء في فضائها وذكر في وصفها أنها مختلفة الأنواع والألوان والأحجام والخصائص وأنها خرجت أو قدمت من الجهة الغربيه لمكة المكرمة وهي جهة البحر ..)
*حادثة الطير الأبابيل هي حادثة خارقة للمعقول البشري ولمعهود العلاقة بين الطير والإنسان وقد جاءت في سياق الإعجاز والتحدي، وبما أن أبابيل ليست نوعا من الطير وإنما تعني فرقاً ومجموعات وطالما أن الأمر كذلك فيصلح أن نقول (وحشا أبابيل ) لوصف مجموعات من الوحوش تأتي من كل اتجاه وكذلك خلقا أبابيل .... وقس على ذلك ما يمكن قياسه لكل ما قد يأتي كمجموعات مجموعات أو أسراباً أسراباً ومن جهات مختلفة من أمور حسية أو معنويّة وبالشكل الذي يشكل تحديّا خارقا للمألوف والمعهودومثلما أن هناك في الزمن الماضي طيرا أبابيل شكلت تحديا وأمراً خارقا للمألوف فهنا أيضا في الزمن الحاضر أبابيل أخرى تشكل تحديا وخرقا لما هو مألوف ومعهود ..
*هكذا يتضح لنا ما يكتنزه لفظ (أبابيل) من معاني عميقة ودلالات دقيقة وصور ملموسة ماضويّة الزمن مستديمة الفاعليّة استهدفها عنوان النص كعناصر تأسيسيّة وقواعد يقوم عليها البناء الهرمي للنص لتجسيد وإثراء وتقوية الفكرة العاكسة للحدث أو للقصة الأبابليّة الجديدة الخارقة للمعهود وذات الصلة بمستهدفات النص ومضامينه، ونلخص هذه العناصر في بعدها الماضوي فيما يلي:-
- معنى (أبابيل) كفرق ومجموعات
- النظام الحركي لهذه المجموعات المتدفقة من مختلف الاتجاهات
- التنوع الوصفي لأشكال وأنواع وأحجام هذه الأسراب على غرار تنوع الأوصاف التي ارتبطت بالطير الابابيل.
- البعد الغيبي والفضائي المتصل بظهور الطير الأبابيل.
- حقيقة التحدي واختراق المعهود والمألوف.
- ما يرمز إليه التأبيل من وجود مصادر للتغذية والارتواء تنهل منها تلك الأبابيل..
*(ومن هذا نستنتج وعلى نحو مبسّط وتقريبي جانبا من دلالة عنوان النص الهادفة إلى تحضير ذهن القارىء وخياله ليرى أنه أمام نص يجسد حادثة أو ظاهرة تتشكل من فرق ومجموعات وأسراب تترى ذات نظام حركي وأهداف مبرمجة وتنوع وتعدد تتغذى وتنهل من موارد فضائية تفد إليها من الجهة الغربية من الكون .. )
*... جاء العنوان هكذا (أبابيل) فإلى أي أبابيل يشير اللفظ وما هي مقاصد الشاعر من وراء ذلك ... ؟ وإذا كانت الطير هي بطلة القصة الأولى فماهو أو من هي بطلة (أبابيل) الشاعر ؟.. وهنا أيضاً يعيدنا الاسم إلى استدعاء (الطير الأبابيل) مجددا، والطير في اللغة اسم جمع مؤنث ويطلق على الواحد ومفرده المذكر (طائر) ولا مفرد مؤنث له..
*إن اختيار العنوان بهذا الشكل ينم عن ذكاء مبدع فالشاعر يدرك بحصافته أن الربط بين أبابيل والطير متحقق ذهنيا لدى القارىء دون ذكرها ولو ذكرها لفسد الشكل والمضمون معا وبهذا فقد منح القارىء فضاء لإعمال الذهن والخيال لإيجاد مقاربة (ما) واكتشاف ما وراء اللفظ المغيّب من رموز ومعاني ودلالات لم تكن غائبة عن مراد الشاعر، ولسنا بحاجة إلى تتبع السياق لمعرفة مقاصد الشاعر الدفينة في عمق الفكرة إذا تتبعنا رمزيّة الطير في حياة الإنسان وتعلقه وإعجابه بها فلقد كان ولازال الطير رمزا للحريّة التي طالما رغب الإنسان أن يحوزها ليتمكن من التحرر من قيود الواقع للتحليق في آفاق الكون؛ تلك الرغبة لم تكن إلّا تمظهرا يتجدد لرغبة موغلة في القدم مخزونة في جين الإنسان الوراثي وهي رغبة الخلود والطيران كالملائكة التي من أجلها ارتكب الانسان الأول خطيئة العصيان حين كان ضعيفا أمام الأنثى وواقعا تحت تأثير غواية الشهوة.. وهنا يكمن جوهر فكرة النص ... وإذاً فالأنثى الطامحة إلى التحليق المعنوي والتحرر من قيود الأسر الأرضي وإشباع رغباتها الطبيعية الكامنة لبلوغ الخلود المفقود هي بطلة الأحداث المتصلة بأبابيل الشاعر .. والنص في مجملة بتمظهره ( الجنساني ) ليس له علاقة بتجربة الشاعر أو رغباته العاطفيّة وإنما يمثل تجسيدا للغواية الأولى في حلّة حديثة ، وإذا كان الشيطان قد استغل شجرة الخلد بثمارها الجميلة لتلعب دور الإغراء ففي النص قامت الأنثى بدور الشجرة ...، والأنثى هنا ليست صانعا أساسياً ولكنها أداة ووسيلة مستغلّة يخاض بها غمار هذه الاحداث ، وهكذا تتوالى دلالات (أبابيل ) وتتداعى إلى الذهن صورها ورموزها تباعا آخذاً بعضها برقاب بعض وكل دلالة تحيلنا إلى أخرى وصولا إلى الحقيقة الكبرى التي تجسد الصراع بين الخير والشر .
لقد ضعف آدم ذات يوم فكانت الخطيئة وانتصر الشر فهل سيضعف هذه المرة ؟
هذا ما سنعرفه من خلال قراءة النص وأرجو أن تتاح لي فسحة من الوقت وقدرا من العافية لقراءته وختاما أعتقد أن الشاعر في غنىً عن الثناء على جودة شعره وما بالنص من تمهير غاية في الجمال والإبداع ... والسلام ..
3/ جمادى الأولى / 1443