مرحباً بأصدقاء الأدب والكُتب, هنا ملتقى الأدباء ومجلة الكُتاب العظماء, هنا حيث ننثر من ربيع الكلمات مطراً .. أهلاً بكم
صديقي الأب الخمسيني مثلي دعني أحكي لك ولي حكاية نقطع بها مفازات السّمر، والليل، والشتاء الذي لاأظنه سينتهي قريبًا . كنا أطفالا نلهو من البيت إلى المِسْراااب …للجَلّة ..! شبّ فينا ذلك الصغير سرقه الزمن ليجد نفسه شابا وصوته أضحى حادا كبر قليلا فكان الشاب أبًا .. رويدا رويدا ينغمس في انشغالات الحياة يحارب من أجل لقمة عيش أبنائه الذين يكبرون أمام عينيه.. هو منشغل جدا ببنائهم بينما هم يهدمون ركنا منه ..! يبني هذا ويبني هناك دون أن يشعر هو بتقدم سنه ..! ولاهم يشعرون ..! فجأة يبدأ العدد في ذلك البيت بالتناقص وتبدأ الأرواح الصغيرة في ربط حقائب الوداع ..! مابين ولد كبر وقرر الاستقرار بعيدا وبنت تزوجت ولم تعد تأتي إلا في المناسبات. يعم الصمت اللعين ذلك البيت الكبير..! ذلك الصدر الكبير في دفئه يتحول إلى صمت كئيب يذبحه برد قارس. وتنتهي رحلة طفل .. عجوز , وتبدأ رحلة أخرى لجيل آخر.. نأتي ونغادر من جلباب الحياة..! نفيق ..نغفو ..ننام .. نرحل ..!
وتستمر الحياة ياصديقي الطفل / الشاب / الرجل / العجوز
أخذ نور الشمس المتصاعد يبدد رويدا رويدا زرقة فجر الحديقة الخلفية للفندق الريفي العتيق.
وضع النادل قطعة كروسان وكوب شاي على الطاولة التي أمام نزيل الفندق الوحيد الجالس في هذه الساعة المبكرة، في حديقة الفندق ، صفّ ثلاث وردات صفراء داخل مزهرية الخزف، وقال له بنبرة ودودة: أرجو أن تكون بخير. في الأثناء، كانت رائحة بقايا عطر هاربة تقترب منهما، ارتبك الرجل حين رأى امرأة تسير بخطى متعجلة باتجاههما، ألقت بجسدها على الكرسي المقابل، كاد كوب الشاي أن يسقط عندما اصطدمت قدمها الحافية بالطاولة، احتضنت أطراف عباءتها بأصابع مرتجفة ثم أسندت مرفقيها على حافة الطاولة، وضعت رأسها بين يديها.. من تحت شالها الأسود؛ انسدل شعرها الفضي على جبينها بلا انتظام.
همس في داخله، لعلها أخطأت العنوان!
:مرحبا يبدو أنني لست الوحيد الذي يصحو مبكرا! هل تبحثين عن شخص ما؟ قال لها مبتسما.
لم تجب!!
دفع بقطعة الكروسان أمامها، رشف الشاي ببطء وهو يتأمل وجهها، كانت ملامحها جميلة، لكنها شاحبة، بدت له أنها في الخمسين من عمرها.
أراد استفزاز قلبها، قال ملاطفا:
لا تهتمي يا عزيزتي بتقدم السن، العمر مجرد أرقام، أنا أيضا تجاوزت الخمسين، عفوا، أقصد الستين، لا، لا، ربما أكثر! أوه، يا إلهي، لقد نسيت! اللعنة على الذاكرة، أصبحَت كثيرا ما تخونني!
ملَّ صمتها الغريب، ركز اهتمامه على إزالة بقايا الأعشاب الصغيرة العالقة في ثوبه.
اقترب النادل من المرأة وقال لها بصوت خفيض: لقد وجدته نائما على العشب يا سيدتي. انتابه القلق عند سماع الكلمة، حاول أن ينهي كوب الشاي ويغادر المكان، لكن لم يعد يدري إلى أين يتجه!
تناولت يديه برفق وهي تنظر إلى عينيه، لم يتبين طبيعة نظرتها جيدا، لأنها كانت غائمة!
إلى الإسفلت الكهل، والشارع المسكون بأحذية المتعبين والمتعثرين ، هناك نافذة تفتح ورجل يمسد وجه المساءات ويسرح شعر الليل الطويل هناك صوت ينام قليلا متوسدا القلق والأمنيات … هناك لعثمة وكلمات مجروحة تصطدم بطيوف عابرة ،،وتنكسر أمام ضحكة سافرة وظلال غامضة تنعكس على نافذة ، تلعب أعمدتها بالريح الجائعة ، هناك طفل يحبو، وأحلام تفتح ممراتها لطوابير الانتظار .
نظرت إليّ شاكية باكية، ودمعها ينهمر على خديها كأمطار شهر كانون البارد إلا أنها تشتعل من الغضب -رغم الشحوب الظاهر في عينيها الغائرتين – فالسواد الفاحم حول العيون المكحولة يشبه الحجر الأسود من شدة البكاء . جلست بعيدة عني، مسحت فمها قبل أن تبدأ بقضم أظافرها، وهي تهتز وترتعش من شدة الحزن والتوتر وصوتها يئن، وكأنها تحاول كتم أنفاسها لتهدأ. بدأت الدهشة تفتلني من سلوكها المفاجىء هذا، فأصابعها تكاد لا تهدأ من الدخول والخروج إلى فمها، وكأن قضم الأظافر فطورها الصباحي المعتادة عليه. وقفتُ أمامها وأمسكتُ أناملها، فوقفت وارتمت على صدري، وهي تجهش بالبكاء. نظرت إلى المحارم الورقية البيضاء التي تكومت على الكنبة، وقد اختلط سواد الكحل مع البياض النقي، فضحكت لا شعوريا إلا أنها ابتعدت عني بنفور وغضب وقالت: – هل تسخرين مني؟.. – لم أفهم ولماذا أسخر منكِ ، إنما أضحكتني ألوان الماسكارا المتفحمة على المحارم الورقية، وعلى جفنيك يا بنت. – تنفست وتراخت بعد أن جلست مجددا على الكنبة، وأمسكت بسلسلة أخرجتها من جيب قميصها الكتان، وأجهشت بالبكاء من جديد – ما بكِ يا بنت؟! – ما عاد يقبلني كما كان يفعل كل يوم. أفتقد لدغدغة خدودي، ومداعبة أصابع قدمي ليلا وعند الصباح. نظرت إليها نظرة ثابتة بعد أن توسعت حدقات العيون من الدهشة، لم أتمالك نفسي من رسم معالمها على وجهي، وانفجرت ضاحكة وهي تنظر إلي، وكأنني سأقدم لها حبل النجاة. – أتبكين من أجل هذا في صباح مشرق! ونحن في رحلة استمتاع وراحة ، وعزلة أيضا بعيدا عن الضوضاء، لكن نحن وحدنا في البيت منذ أيام، فكيف سيقبلك كل يوم ؟. ومن هو؟..من يكون؟.هل هو نجم الدين ذاك الرجل صاحب قطيع الأغنام؟. استدارت بسرعة ونظرت من النافذة إلى البستان، وكأنها تبحث عن شىء ما!. بدا على وجهها الخجل رغم احمراره، كما بدأ التورم والانتفاخ على عينيها، لكنها نظرت إلى السلسلة ،ويدها ترجف حتى أحسست كأنها سيغمى عليها، وساد الصمت، كما ازداد استغرابي لسلوكها المفاجى إلا أنني لم أستطع الكلام، وحافظت على الاتزان قدر المستطاع. – اشتريت له هذا السلسلة لأنني في البداية لم أحبه. أما الآن فهو حياتي التي يشاركني فيها ، بل هو توأم روحي، وأعتبره فرحي وكل ما تبقى لي في هذه الحياة ، لكن ماذا أفعل الآن؟.. وقد بدأت تغيراته العاطفية نحوي تنكمش يوما بعد يوم؟.. ظننت أنه مريض; أخذته للطبيب ولم يجد علة به، بل قال لي إنه بصحة ممتازة، لكنه يثير جنوني بأفعاله هذه. حقيقة شعرت بالحزن لحالها، فالحب في الحياة لا بد من تغيرات تطرأ عليه مع مر الزمن، فهو كالموج تارة يعلو وتارة ينخفض، لكن تساءلت بيني وبين نفسي ما الذي يذكرها به في هذا الصباح؟. أيعقل الأشتياق؟. أم الإحساس بفقدانها له؟.. – استمرت بقضم أظافرها، والصمت لا يخلو من أصوات زقزقة العصافير في الخارج، وحفيف أوراق الشجر كأنه همس أو وشوشة رومانسية في أذن الطبيعة الريفية. – أحسست بالتوتر الشديد يتملكني، فوضعت حبة شوكولا مر في فمي، وبدأت أتذوقها بصبر وأناة ، وأنا أنظر إليها والابتسامة لا تفارقني، فربما تساعدها ابتسامتي على البوح أكثر. حملت البونبونبير الكريستال ووضعتها أمامها ، فربما تهدأ لو تناولت قطعة من الشوكولا المر. لكنها عادت للبكاء بشكل هستيري. – أخبريني ماذا أفعل ؟ كيف يمكن أن أعيده كسابق عهده معي؟ – يبدو أنك مهملة له، وأنانية في تصرفاتك معه هل تداعبينه كل يوم كما يفعل؟. ملأتها الدهشة والاستغرب وفتحت فمها، وكأن الكلام وقف في حنجرتها ورفض الخروج. إلا أنها قالت بسرعة
: – هل يعقل يا صديقتي أن أفعل هذا معه كل يوم؟
– نعم، وماذا قي هذا ألا تحبينه؟
– نعم أحبه، هو رفيقي الوحيد في الحياة ومؤنس وحدتي لكن هو لا يفارقني إلا مسه ، أداعبه، أحنّ عليه ، أطعمة، أضعه بين أحضاني دائما، أتنزه معه ألا ينفع كل هذا يا ضحى؟ – في الحقيقة نعم نافع جدا, لكن ربما! هو مغرم ببنت أخرى. فتحت فمها أكثر ،وكأن ما أقوله غير مفهوم، أو يحتاج لترجمة.. أكملت كلامي معها عن الحب والقدرة على التناغم فيه مع الآخر إلا أن الاستغراب لم يفارق معالمها، فسألتها: – من يكون هذا الذي أبكى صديقتي في يوم جميل كهذا.. – إنه توكي يا ضحى لا أدري حقيقة ما الذي أحسست به، إلا أنني مسحت أنحاء الغرفة بنظراتي بحثا عن توكي هذا، لأرميه في الخارج، قبل أن أسمع نباحه المزعج في هذا الصباح الذي لا يُنسى …