للشاعر القدير: محمد السيد النعمي
استهلال:
يا أنتِ يا حُلُمَ الصِّبا
كُفي المدامعَ والبُكا
هيهات يَرْجعُ ما مضى
هيهات يَرتدُّ الصِّبا
ألْوتْ عليَّ الحَادِثا /
تُ فلمْ أعُدْ ذَاكّ الْفَتى
جفّتْ يَنابيعي وآ /
مَالي وخا نتْني الْمُنى
وتَسَاقَطتْ أوراقيَ الْ
خضْرا وعا جَلَني الْبِلى
لَكنّها. الأيّامُ والْ /
أيّامُ مَرْكبةُ الْفنا
أزْرتْ بما خَطَّ الشّبا /
بُ من الْمَحَاسِنِ والنّدى
وسَقتْكَ من غُصَصٍ وقدْ
كانتْ تُساقيكَ الهنا
- جوالنص:
تحت ظلال "حلم الصبا "الباكر،ذي الأغصان الميادة،التياهة، المونقة ،تلك المرحلة الذهبية المنسلخة من عمر الزمان ،وائتناسا بأنغام موسيقاه المترعة بالوثبات والانطلاقات الجامحة،واستحضارا لمرابع الطفولة ،ومدارجها الرحبة الناعمة ،وخيالاتها اللاهيةالزاهية ،وتحت وابل اضطرام العاطفة المشحونة بالوله والغرام، وتموجات الحنين في مساربها،وإحساس الشاعر اللماح بانقطاع جماليات ذلك الزمن الحالم، وانحصار عناصره وشياته ،وخفوت أضواء عزماته ،واستحالة استرجاع العصر الخالي إلى أرض الواقع ثانية،هنالك وقف شاعرنا النعمي وقفة يسربلها الحنين الموار،وتلفحها نيران اللوعة والذهول ،هاتفا ،متأملا عاتبا ،مستنطقا مآلات التحولات الزمنية المترامية في فلك حياة لايقر لها قرار،ولايهدأ لها إعصار،وأمام عينيه احتشدت آثارأزمنة البراءة ،وأطيافها الذهبية،وتكشفت له طعنات رماح الإخفاقات المصمية في المراحل الغابرة ،الغائرة..
في هذا الجو؛ المربد؛ العاصف أطلق معزوفته الوجدانية ،ساكبا ألوان شجونه المحتدمة في أعماقه ،مفصحا عن لواعج دفينة ،اقتضاها الموقف الراهن ،بعيدا عن الصخب؛ والافتعال أوأدنى ارتياب ،حيث النقاء ،والبراءة، وصفاء العالم ،عناصر مازالت ممتزجة بالدم النابض،وعالقة بأنسجة الروح،وعابقة بأشذاء الذكريات الحميمة ،حين تلمع في ذهنه صفحاتها ليل نهار،وفي صدارتها عنفوان الصبا الباكر ،وأخيلته البراقة وهي تمتطي متون السحاب شجاعة وإقداما..
ولأن استيعاب فداحة فقدان المباهج ذات الرواء مما ينوء بها كاهل العاشق المستهام ،وتضيق باحتمالها مالكة أسرار فؤاده ،المحتلة عرشه،وشريكته في الرحلة الطويلة، وقسيمته في ثنائيات الحياة؛ وتبايناتها القاسية، وقد أخذت على مرأى منه في سفح الدموع الغزار ؛عندها شحذ صوته المرنان وارتدى ثوب الزاجر الراحم؛ أو جلباب المستغاث به،مناديا، مستدركا سقوطها ،بالحرف (يا ) في رمزيته البعيدة القريبة ،متبوعا بضمير المخاطب (أنت)،في دلالته الأنثوية، واعتماد صيغة الأمر بعدهما بالفعل "كفي"،ساعيا من وراء ذلك إلى قطع دابر هذا النزيف البكائي ،وإخراجها من التردي في تراجيديا اليأس والارتكاس في فراغاتها العاتية،ومن ثم الانكفاء تحت وطأة هذه الحالة الممضة التي ستؤول إليها لامحالة..
،ثم يمضي شاعرنا -حاملا قيثارته معه-عبر مرايا مصقولة ،أومغبرة، أو منكسرة ،في موكب الحنين المستعر؛ابتداء من التقريرالمتضمن إسدال الستار تماماعلى ذلك الزمن المنصرم ،ومن ثم استرواح أنفاس الرجاء من حاضر قائم وفي تفاصيله قدر من العزاءات المتاحة ،إذاك ترددت لديه لفظة " هيهات"مرتين في اسميتها الفاعلية"الماضوية"
التي بمعنى "بعد "،عبر ،دلالتها القطعية المقرونة بها لغويا،
في قوله:
"هيهات يَرْجعُ ما مضى
هيهات يَرتدُّ الصِّبا
فالشطران يشتركان في المنطلق والفعل المضارع ،ويتسم الأول منهما بطابع الشمولية،بينما يستقل الآخر بطابع الخصوصية ،في الإحالة على زمن الصبا ،الفاني .
بعد ذلك التقديم انبري شاعرنا راصدا بعدسته اللاقطة ،ومستعينا بأفعال ماضية ،ذات إيحاءات لصيقة بطبيعة الأحداث المتعاقبة،التي شهدها ،وشرب من آنيتها ،مرارا وتكرارا، وهي(ألوت ،جفت ،تساقطت ،أزرت،
تساقطت)وكأنه باعتماد تاء التأنيث هنا ،يلفت نظر محبوبته إلى أن الأحداث الجسام التي اصطلى بها ذات عنصر أنثوي متناغم مع الطبيعة "النسوية" الحادة، في تلقي الأحداث والتعامل معها بطبيعة مماثلة،وفقا لحدتها وصرامتها ، الأمر الذي يزيد الحياة تعقيدا واضطرابا،ثم إن مجابهة الأحداث الجارية ثمنها باهظ جدا ..
مضى شاعرنا إذن من البيت الثالث إلى الثامن كاشفا الستار عن الأحداث العنيفة التي ألمت به ،وساهمت بدورها- مستعلية في غير هوادة -
في جفاف أنهار بشاشته المتدفقة، ومن ثم شكلت سياجا منيعا،أوقف مدد ذلك الاخضرار النامي الذي كانت تنعم به حدائق عمرهما،في الأمس القريب ،يوم كانت يفاعة الشباب ،وبلهنية الوصال في أشد حالات الرخاء ،وانفساح المجالات ..
كان عليه إذن أن يبرىء نفسه من أفعال "الرجم بالظنون" التي تحدق به ،وأن الأمر لو كان بيده ،لبقي كل شيء من أطايب العمر ،في إشراقه ونصاعته (ولكنها الأيام )في دورانها اللاهث ،وإلى استحواذ الليالي وطوارق الأيام وكرهما المحموم عزا مجمل تلك النتوءات التي طفت على سطح حياتهما ؛وكأن الليالي والأيام فارسان يمتطيان صهوة الفناء،يجوبان المدائن والأقاليم، ولاسبيل إلى الفرار من بطشهما؛ وفتكهما بأي حال، وهما إذ يقتلعان جماليات الأشياء من جذورها؛ ويطوحان بها في مهب الريح لايتركان "لكائن من كان" سوى الحسرات المتتابعة ،والذكريات الحاشدة ،والآلام السادرة في الغلواء..
كل ذلك الموران، ورغم هذا الجحيم الصاهر ؛ظل شاعرنا على خطاه الثابته صامدا ،وبعهوده الواثقة مستمسكا..
وظل كذلك متساميا على بلوائه..
كان لزاما عليه بعد هذا الرصد المزلزل ؛ أن يلتفت التفاتة حانية لتضميد جراحات محبوبته ،وكان قد شعر أنها استيقنت مما أصابه من بلاء،وفت في عضده من أسقام وويلات ،وعلمت علم اليقين، أن ما أخفاه عنها ،لم يكن سوى رأفة بها،ومحاولة حميمة لعدم إغراقها في أتون هذا الحريق ،واعتماده فكرة إبعادها؛والنأي بحسنها الوضاء عن مجريات طوفان الفناء الآخذ في الاستفحال ،وسيقتضي ذلك أن يأتي شدوه على هذا المنوال المترع بالفرح والوله والأريحية في الآتي من الأبيات :
يا أنتِ يذْوي الحُسنُ إلْ /
لا أنتِ حُسنُكِ ما ذّوى
لَمْ. تأخذِ الْأيامُ مِمْ /
ما فيكِ أو يخْبو السّنى
مَازلتِ ناعمةً كغُصـْ
نِ البانِ حاليةَ الْجَنى
يَرْوي مفاتَنكِ الدّلا /
لُ وفي تثنّيكِ الرّوى
ويَرفُّ سِحرُ القولِ عنْ
شَفَتيكِ معْسُولَ اللمى
هي إذن ماتزال في نظره كاللؤلؤ المكنون،حسنها الرباني كما كان معهودا في المراحل جميعها وأكثر،أذعنت لها الأيام ؛وانقادت لها الأحلام على يديه طوعا ،فلم تنل عوارض الأزمنة من ملاحتها ؛وطلاقتها،ولم تعكر صفاء جمالها ،وبريق ملامحها ،سناها الأخاذ ؛مازال ملء سمعه وبصره،وهي في عينيه كالشجرة الزاهية؛ بفعل نهر عطفه المتدفق،وتفانيه غير المحدود ،وهي أيضا يجري على لسانها عذب الكلام ولطائفه ،كما لو أنها شاعرة أوتيت سلامة المنطق،وفصاحة البيان ،وحلاوة المناجاة، ..
وهكذا يبسط الشاعر لها ميادين القول الرفيع المهذب في انسيابية هادئة،ومواجهة رفافة بحلاوة الروح ومضائها ،حتى جعلها كالكوكب الدري غير المتأثر بالأعاصير ولا التقلبات الجوية ،الأرضية ..
ويجنح الشاعر في جزء قصيدته الأخير ،مطلقا العنان لذخيرته القلبية ،ومستخدما حرف النداء ذاته عازفا، على مقام (الغزل) أنغامه الشجية الحالمة ،فيقول :
ياحلوةَ. العينين إنْ
أبْلى فما بليَ الهوى
أهْفو إلى لقْياك محـْ
موماً ويبْرحني الْجوى
وألوذُ بالذّكرى تُعلْ /
للني وفي الذّ كْرى عَزا
وأراكِ في صحْوي وفي
نومي وفي بدْرِ الدُّجى
ونلاحظ هنا أنه اختص العينين الناظرتين بوصف الحلاوة ،في مناداتها ، وهو إن كان يتساوق مع غالبية الشعراء في هذا الملمح التعبيري ،إلا أن له مغزى دقيقا يريد له أن يحتل بؤرة شعورها ،يتمثل في مطالبتها بالتبصر في أحوال "الفلك الدائر"،على أن المعنى هنا يؤكد المعنى السابق المحال هناك عليها هي ،في قوله:
"إلْا أنتِ حُسنُكِ ما ذّوى"
إذ نراه يحيله هنا على ذاته هو بقوله:
"إنْ أبْلى فما بليَ الهوى"
ويستمر في تجلية هذا المعنى العقلي رافضا هيمنة "البلى "على عطائه السابغ،وداحضا المزاعم والأوهام ، ومبرهنا على شواهد وجدانية يدل عليها وجيب قلبه ،المحب للقاءات ،المعتني بزخارف الأمنيات ،المحتفي بجواهر الذكريات أملا في إطفاء غلة الشوق عنده..
ويختم ذلك بالرؤية البصرية القلبية معا؛ وهي التي يصدر عنها في استحضار محبوبته الأزلية ضمن محيطه الذاتي،وهي التي تمثل فصل الخطاب في التقلبات الزمنية الغريبة المريبة، بقوله القائم على "فن المقابلة" :
وأراكِ في صحْوي وفي
نومي وفي بدْرِ الدُّجى..
- سمات النص الفنية.
- رؤية الشاعر :
بين شباب اعتصرته الأحداث وصقلته ؛ومشيب غامض يطرق الباب ،ويفرض سيطرته ،صاما أذنيه ،عن سماع الحجج ،أو الإذعان لأي مطلب ليس في مقدوره؛لامن قريب ؛ولامن بعيد .
- أسلوب الشاعر طيع لاوعورة فيه ولاخشونة.
- معجم الشاعر غزير.
- سيادة الأسلوب الخبري،باستثناء المطلع ،والتاسع والرابع عشر.
- محور القصيدة الأساسي التأملات في الماضي والحاضر،وأصدائها ..
- طفرات العاطفة الولهى تتخلل سائر أبيات القصيدة ..
- إيقاع القصيدة المجزوء من بحر الكامل وفي اعتماده مايشي بالحالة النفسية بين القلق والاتزان.
- تمتاز قافية الألف المقصورة بإيقاع هادئ؛ رشيق ؛مبعثه ألف "المد واللين"..
- الصور الفنية مستمد بعضها من التراث كلفظة "غصن البان".
- أتيح للقصيدة نصيب واف من الاستعارات كمافي قوله:"والأيام مركبة الفنا"، "خَطَّ الشّبابُ"، "يَرْوي مفاتَنكِ الدّلالُ".
- عبارة "ولكنها الأيام"وردت في سياق بيت لابن الرومي "ولكنها الأيام تبا لها تبا"،واستخدمها الشاعر من قبيل التضمين.
------------------------------
*نهاية المطاف
أخيرا أحب أن أشير من قبيل الاستئناس إلى أن حديث الشعراء عن "الشباب والشيب"،يتحد اتحادا تاما ؛وينسجم مع نزعة الحنين، في تشبثها بشغاف القلوب المرهفة،وهو من الموضوعات الإنسانية المترددة؛ عند الشعراء ؛قديما وحديثا ..
وقد جرى على ألسنة الناس ،منذ القديم؛ على سبيل المثال ،لاالحصر، قول "العتاهي":
ألا ليت الشباب يعود يوما
فأخبره بما فعل المشيب!
وعند ابن الجهم جرى ذلك في قوله:
لايَرُعكِ المَشيبُ يا اِبنَةَ عَبدِ اللَهِ
فَالشَيبُ هَيبَةٌ وَوَقارُ
إِنَّما تَحسُنُ الرِياضُ إِذا ما
ضَحِكَت في خِلالِها الأَنوارُ
وعند البحتري ؛كما في قوله:
رَأَت فَلَتاتِ الشَيبِ فَاِبتَسَمَت لَها
وَقالَت نُجومٌ لَو طَلَعنَ بِأَسعُدِ
أَعاتِكَ ما كانَ الشَبابُ مُقَرِّبي
إِلَيكِ فَأَلحى الشَيبَ إِذ كانَ مُبعَدي
تَزيدينَ هَجراً كُلَّما اِزدَدتُ لَوعَةٌ
طِلاباً لِأَن أَردى فَها أَنَذا رَدِ
مَتى أَلحَقِ العَيشَ الَّذي فاتَ آنِفاً
إِذا كانَ يَومي فيكِ أَحسَنَ مِن غَدي؟!
لَعَمرُ أَبي الأَيّامِ ما جارَ حُكمُها
عَلَيَّ وَلا أَعطَيتُها ثِنيَ مِقوَدي!
والقائمة طويلة ..
وأستخلص أخيرا أن شاعرنا القدير رغم الأعباء التي سردها متجشما عناء مواجهتها بشجاعة وبسالة؛ كان شفافا جدا ؛ ودقيقا في لغة التشخيص التي اعتمدها ؛وكان ؛ومازال ممتلئا ومأخوذا بفكرة الأمل ؛ومواجهة الترهلات ؛وسدود العجز المحيطة،
فضلا عن أن تجربته العاصفة ،العذبة كفجرالحب،والمرة كطعم الحنظل ،هي بالنسبة لقارئه أشبه ماتكون باكتشاف قارة مجهولة..
ولم يبق إلاأن أشكر شكرا جزيلا شاعرنا المبدع على هذه التحفة الفريدة راجيا أن أكون قد وفقت في معايشة"حلم صباه" كمايليق ؛ في هذه القراءة الاستطرادية،ومؤملا في ذات الوقت أن يستخلص القراء عامة شيئا من الفائدة إن وجدت،ويظل الشعر على طول الخط قابلا للتناولات المختلفة ،ومعرضا متاحا لاختلاف وجهات النظر ،والتأويلات..
مع أسمى التحايا لشداة الفن هنا،وهناك ،وفي كل مكان وزمان ..