نص عصام( تناص النص ، ملحمة الخلق ، وفلسفة الرؤية )
د. عبدالله مذكور المباركي .
أولاً النص :
أتيتُ مِنَ القَدَرِ الواقِفِ
أهدهِدُ في هَدأتي خائِفِي
وأحمِلُني مِنْ جهالَةِ طيني
صعودًا على آدمِي العارِفِ
أتيتُ وَهلْ كنتُ شيئًا وما
سوايَ تفلَّتَ مِنْ لاقِفِي
أطاردُني في متاهاتِ قاعِي
عُروجًا .. إلى عُرُشِ السَّاقِفِ
كثيرًا .. كثيرًا بدوتُ وكلِّي
توحَّدَ في رحِمِ السَّالِفِ
ومازالَ شكِّي يَؤزُّ يقيني
سكونًا على قَلقِي العاصِفِ
فأدلَقتُ مِنْ مقْلةِ العُدْمِ دمعي
فلمْ أبْكِ .. لكنْ بكى ذارِفِي
وألصقتُ في صفحةِ الماءِ ركضِي
فما سِلتُ مُذْ سالَ بيْ راشِفِي
فمِنْ عطشِ الأرضِ دلَّتْ سمائي
دلائي على فرجِها النَّاطِفِ
فأفرغنِي شغفُ الطِّينِ ريحًا
تمدَّدَ في أنفِهِ الرَّاعِفِ
فكيفَ تسَاوَيتُ بيني وبيني
وجودًا .. توشَّحَ بيْ تالِفِي
وكيفَ تحرَّكَ خلفي أمامي
وليسَ يَمرُّ سوى راجِفِي
فَهلْ جئتُ حقًّا وسيرُ انطلاقِي
تخثَّرَ في سطرِيَ النَّازِفِ
وَهلْ صرتُ شيئًا .. وما كنتُ إلَّا
جُمودًا تحرَّكَ مِنْ قاذِفِي
أمرِّرُني مِنْ تصلُّبُ عُمري
عبورًا على شكلِيَ الآنِفِ
رجوعًا أعرتُ المرايا وجُوهيْ
فأكمَلَني في الخُطَى رادِفِي
ومازجَنِي نَغمُ الكَونِ حتَّى
تألَّهتُ في نوتةِ العازِفِ
كأنِّي دَلفتُ مِنَ اللاشعورٍ
حواسيَ كيما يُرى دالِفِي
وأنِّيْ تفتَّقتُ مِنْ لُطفِ كلٍّ
فلا قبلُ لا بعدُ إلَّاهُ فِيّْ
فمنذُ حوَى نفختي فيَّ قيدي
تحسَّستُ في عقلِها ما خفِي
وأبصرتُ في الحَصرِ إطلاقَ روحي
تسامى على حَجَري الطَّائِفِ
فما كنتُ إلَّا تمظهُرَ ذاتٍ
هِيَ النَّصُّ في متنِيَ الزَّائِفِ !
=============================
ثانياً القراءة :
عصام فقيري أستاذ عروضي
وهو أستاذ في الشعر..
ولا يستغرب هذا الإبداع منه ..
إن هذا النص يحكي قصة الخلق..لكن بطريقته التي تميزه وتميز قائله ..
إنه خلق تتداخل فيه العناصر الحسية والمعنوية ، وقل : إن النص كلغة هو (عدسة المجهر) التي نحاول من خلالها التقاط شيءٍ من ملامح هذا الخلق الفريد ، الذي يؤول إلى تمظهر كلي هو ذات الشاعر ( عصام ) لكنه لا يبقى في هذه الدائرة الرومنسية المغلقة ، بل يمتد كعصام الرمز الذي يشير الى ما هو إنساني ، مجسدا رحلة الإنسان في الحياة مذ بذرته الأولى ( الطين/آدم )
الى هبوطه من علياء السماء من الجنة بسبب ما اقترفه.....
وعليه فإننا سنجد ( عصامًا )الشاعر بأشواقه وعوالمه الخاصة ، وعصامًا ( الإنسان في مطلقه )من بدء تشكله الأول ، ورحلته الأولى من السماء الى الأرض ..مروراً برصد ملموس لعذابات هذا الإنسان على الأرض من خلال رؤية شعرية فلسفية شفيفة تليق بنص وشاعر لهما صفة التميز الظاهر ، رؤية تُري القارىءَ المهتمَّ ذاتَهُ ونوعه البشري من خلال منظار الشعر المختلف ...
يقول :
( أتيت من القدر الواقف ) يرصد هنا الخروج من أمن الجنة ، ونعيمها الى الأرض ذات المكابدة ، فالشاعر هنا هو ( آدم ) الذي خرج بقدر الله الواقف الثابت الذي لايميل و لايتزحزح كأنه جبل أشم ..
وآدم إذ يندرج في هذه الحياة الجديدة ، والعالم المغاير لاشك أنه سيعتريه الخوف فهو بشر ، والبشر ينتابهم القلق حيال كل ماهو جديد عليهم ، خاصة اذا اقترنت بهذا الجديد حياة ، وواقع مختلف ، ومستقبلٌ هو في خزائن الغيب عند مالك السموات والأرض ، ولا غرابة والحال هذه أن يهدهد الإنسان الأول خوفه في سانحةِ هدأة اضطراب تفكيره ونُقْلَتِه (أهدهد في هدأتي خائفي )
ونلمح في هذا البيت المتصدر للنص ( المطلع) تداخله وإشارته الى نص (الروح /او النفس ) لابن سينا * :
هبطت إليك من المقام الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
غير أنه إن كانت رحلة الخلق عند (ابن سينا ) في جانبها المعنوي رصدا لنزول (الروح) من علياء السماء ( هبطت إليك ) لتحل في طين الجسد ..فإن قصة الخلق عند عصام في مسارها تتخذ سردًا للقصة بطريقة معاكسة فهو يبدأ من القاع والطين باتجاه السماء ...
وأحملني من جهالة طيني
صعوداً إلى آدمي العارفي
إنها الفلسفة التي ترى الطين سجناً للروح تكبله ، وترمز الى أرضيته، وثقله ،وخطيئته ، بينما تنظر الى (الروح )رمزاً للعلوية ، والخفة ،والطهارة ..
ومن خلال الجدل بين الروح ، والجسد ..
تتداخل خيوط النسج لسجادة القصيدة على نول الفن
وتلتقي القصيدتان :( نص عصام ، ونص ابن سينا ) على مستوى الفكرة المحورية ( قصة الخلق ) وهبوط الانسان إلى القاع ،و توقه الى منزله السماوي الأول ، واللعب بأدوات الفن على التناقضات القائمة بين الروح والجسد ..
وتتجلى من خلال هذه التناقضات عوالم بديعة لذات الشاعر في إطارها الضيق ، و ما ترمز إليه من مدى إنساني شامل لذات الإنسان في المطلق ، مستوعبة للفكرة الكلية والجزئية المراد إيصالها للمتلقي ...
فحين يقود الطين للجهالة التي هي رديفة الضعة ، يرفع العِلْمُ صاحبه
فجهالة الطين وإخلاده إلى الأرض يقابلها الصعود الى المعرفة التي علمها الله آدم ( وأحملني من جهالة طيني / صعوداً إلى آدمي العارف ) متناصاً مع القرآن الكريم في قوله تعالى ( وعلم آدم الأسماء كلها ..) ومع الحوار الذي دار بين الذات العلية والملائكة والذي ختمه الله سبحانه تعالى بمطلق علمه ( ...أعلم ما لا تعلمون )
ونرى ابن سينا يذكر ثقل الطين ، ونفور الروح /الذات منه يقول : ( وغدت مفارقة لكل مخلَّفٍ /عنها حليف التُّرْبِ غير مُشيّعِ) ويذكر رمزية العلم : (.....والعلم يرفع كلَّ مَنْ لم يُرْفَعِ)
ويؤكد عصام هذا المعنى بقوله :
أطاردُني في متاهاتِ قاعِي
عُروجًا .. إلى عُرُشِ السَّاقِفِ
فالذات الانسانية (روح سماوية )هبطت الى الطين الأرضي، لذلك يطاردها الشاعر ليعيدها إلى موطنها الأول ( عروجاً ) ولَك أن تستحضر هنا قصة الإسراء والمعراج ، وإكرام الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتسليته له بذلك بعد هموم وأحزان حدثت له من تكذيب قومه ، وموت عمه أبي طالب، وزوجه أمنا خديجة رضي الله عنها ، وما حدث له في الطائف من كبارها وصغارها ، ولقائه بالأنبياء ،وما رآه في السماء ، وما حدث في رحلته من فرض (الصلاة ) التي هي صلة بين العبد وربه ...فالشاعر يرمز الى هذا العالم العلوي النوراني البهيج النقي ( في عروجه بذاته التي طاردها في حمأة طينه).
ويشير الى انه في البدء لم يكن شيئاً ، مستحضراً قوله تعالى ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا) وأنه تَفَلَّتَ مما أراد الامساك به والإحاطة بذاته، لكن ذلك المتفلِّت المستعصي على الإمساك به (كروح )تكوَّنَ كلاً متنقلاً في الأرحام السالفة، ظاهرا متكررا بكثرة في صورة آباء وأجداد ، وأمهات وجدات عبر العصور مُذ خلق الله آدم وخلق منه حواء :
أتيتُ وَهلْ كنتُ شيئًا وما
سوايَ تفلَّتَ مِنْ لاقِفِي
أطاردُني في متاهاتِ قاعِي
عُروجًا .. إلى عُرُشِ السَّاقِفِ
كثيرًا .. كثيرًا بدوتُ وكلِّي
توحَّدَ في رحِمِ السَّالِفِ
وفكرة أنفة الروح من طين الجسد ،ومحاولة الخلوص منه ، والعروج الى عالم السماء هي مانجده عند ابن سينا في النص المذكور ، ومنه قوله:
وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ ....
أَنِفَتْ وَمَا أَلِفَتْ ...
فالروح كارهة للطين ، آنفةٌ منهُ وليست بآلفة، والطين خراب بلقع...
ثم لما ذكر الشاعر أنه بدا كثيرا في التمظهر سالف الذكر ...أخذ ينتابه عَرَضُ الشك المؤِزُّ ليقينه، ويذكر ما ينتاب سكونه من قلق التفكير العاصف، المتمثل في سؤال عن الهوية فحواه : (أهو روح أم طين ، أهو كائن أرضي ام سماوي..؟)
ومازالَ شكِّي يَؤزُّ يقيني
سكونًا على قَلقِي العاصِفِ
وتنتابه الحسرة والحزن على التباس روحه بطينه ، وهو يبكي ويدلق الدمع الحارَّ الذي لا يُرى ( من مقلة العدم/مقلة الروح) وهو مع ذلك (لم يبك )فليس (لعين الروح )إدراكُ مُبصرٍ من خارج ذات الشاعر ، ولا شهادة مُعايِنٍ لدمع يجري منها فيقول الشاهدُ : نعم لقد بكت روح الشاعر ، ولمستُ دمعها بيدي ...
إذن هو بكاء من نوع خاص بكاء الروح ، ودمعها السخي الذي لا يشعر به إلا الشاعر وحده ، ونرى الشاعر ينحاز هنا إلى جانب الروح وكأنما يشير إلى أنها هي ذات الشاعر الحقيقية ، موطن فرحه وحزنه ، لا صورته الطينية المحسوسة التي تذرف عينها الدمع فَتُرَى وَتُلْمَس..
فأدلَقتُ مِنْ مقْلةِ العُدْمِ دمعي
فلمْ أبْكِ .. لكنْ بكى ذارِفِي
يقول : إن روحي هي ذاتي وحقيقتي ، وما عداها فهي تمظهر زائف ...
وبكاء الروح هو ما نجده عند ابن سينا في قوله :
تَبْكِي إِذَا ذَكَرَتْ عُهُودًا بِالْحِمَى ******* بِمَدَامِعٍ تَهْمِي وَلَمَّا تُقْلِــعِ
والبكاء في الحالين وعند الشاعرين بكاء على التباس النقي ، الشفيف ،الخفيف بالآثم ، الغليظ، الثقيل، من ناحية ، وهو في جوهره بكاء على مفارقة الموطن السماوي الأول ( الجنة ) ممزوجٌ بالاشتياق إليه من ناحية أخرى ...
ثم يذكر الشاعر صورة جديدة من صور تمظهره الحسي ( كإنسان ) وهي (الماء) ويعيد معه ذكر (الطين )مرة أخرى للعلاقة الوثيقة بينهما ، فمنهما تشكل الإنسان ...
يقول مسترسلا في رصد تشكله مما هو سماوي روحي ، وما هو حسي :إنه أُلصِقَ في الماء ! متناصاً بذلك مع قوله تعالى ( وجعلنا من الماءِ كل شيء حي) ، وقوله تعالى ( أفلا ينظر الإنسان مما خلق خلق من ماء دافق )، ويصوّر أنه انتقل عبر الماء قدراً مكتوباً ! متناصاً مع الحديث ( رُفعت الأقلام وجفَّت الصُّحف ) فبين الأقلام ، والمداد ، والصحف ، وجفافها والماء صلة قوية فتأمَّل ...
والشاعر هنا إذ يجعل الفعل مبنيًّا للمعلوم (وأَلْصَقتُ ) نرى أنه لا دخل للشاعر في عملية الخلق ، والفعل -في المعنى السياقي -بمثابة المبني للمجهول ، وكأنه يقول : أُلْصِقَ خلق آبائي وأجدادي -وهم سبب وجودي بعد الله _ بالماء ..فهم أنا ، ووجودهم وجودي ، وخلقهم خلق لي ، فجوز لنفسه أن يتحدث بصيغة المعلوم عن المجهول لهذه الغاية ، وهذا القصد ...
لكنه يقول أيضًا : أنا لست الماء الذي كان سبب خلقي ، والذي امتددت فيه عبر سلالة أسلافي، وستمتد منه سلالتي من بعدي الى قيام الساعة ، هذا الامتداد الذي عبر عنه ( بالركض) ... ينكر الشاعر إذن أن يكون (عينَ الماء )وكأننا نسمع صراخه : أنا لست الماء الذي جرى بي وسيجري بسلالتي ...الماء يسيل ، وأنا كائن مزدوج روح معنوية لا توصف بالسيلان ، وجسد طيني محسوس له خصائصه التي لا تشبه الماء الذي ينزل مطرا فيسيل هادرًا شاقا الأودية ، او أنهارا تحفر مجراها في الأرض متنقلة بين أرجائها ، أنا لست الماء الذي ( يُرشَف) ...أنا لست ماءً وإن قلتم :إن الذي جئتَ منه - أبي وأجدادي-سال بي أي كان سبب وجودي ...
والسيلان هنا يلعب فيه الشاعر على (الحقيقة )لينفي عنه كونه عيْنَ الماء ، ويلعب فيه على (المجاز) ليصف عملية توالي الأجيال والسلالات بسيلان الماء الذي لا ينقطع عبر الزمان والمكان ، ويرمز به للحالة التي تكون بين الرجل والمرأة كسببين لبقاء البشرية ، وأن مايكون بينهما لحظة الفعل هو أشبه بسيلان أحدهما بالآخر وامتزاجهما امتزاج الماء بالماء ، وسيلانهما كالماء ذريةً لا تنقطع ، واحتواءً وتلاشيًا كما يتلاشى الماء في جسد من يرشفه ...فضلاً عن تجلي الماء في مظاهر عدة عند التقاء الرجل بالمرأة عند ذلك الفعل الخاص..
وألصقتُ في صفحةِ الماءِ ركضِي
فما سِلتُ مُذْ سالَ بيْ راشِفِي
ثم يذكر حكمة الله في إهباط آدم من السماء الى الأرض ، فالله ماخلق الأرض الا لتكون موطنًا جديدا له، ( والأرض وضعها للأنام ..) وقد سخرها لآدم وبنيه ليمتحنهم فيها بعبوديته، ( وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فلا غرابة إذن أن تكون ( الأرض عطشى ) للرسالات ،وأن من لوازم خلق الأرض ، ونزول الرسالات هبوط أب البشرية إلى المنزل الجديد وتكوين ذريته..
(فعطش الأرض/احتياج ذرية آدم للرسالات) لتربطها بالله الخالق، وبوعده لها بعودتها الى وطنها الأول إن حققت العبودية ..
الرسالات غيث الأرض الذي يحيا به خير من في الأرض وهم البشر الذين كأنما تقذفهم الأرض من رحمها بكل اتجاه ( ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشرٌ تنتشرون ) ..وإن التكاثر مرتبط بالرغبة الجسدية ( شغف الطين ) وإن هذا الشغف أدى الى انسراح البشر في جهات (الأرض / الطين) كالريح ، يمرون بكل بقعة فيها، وما (الناس الا معادن )، وما المعادن الا نتاج الأرض ، وما الناس -إن صح الخبر - (إلا أشباه للتربة التي خلقوا منها ) فمن كان من أرض سَبخة كانت أخلاقه شبيهة بها في السوء ، ومن كانت طينته من أرض طيبة كان شبيها بها .. ولذلك فكأن الأرض بكل تنوع تربتها ( رعفت الناس/أخرجتهم ) وهاهم يمرون بها وينتشرون فيها انتشار الريح عبر ( أنفها الذي رعفهم) يقول :
فمِنْ عطشِ الأرضِ دلَّتْ سمائي
دلائي على فرجِها النَّاطِفِ
فأفرغنِي شغفُ الطِّينِ ريحًا
تمدَّدَ في أنفِهِ الرَّاعِفِ
وهذا الانتشار في الأرض ، والتنقل نجده في قصيدة ابن سينا شتاتا بين ( القعر الأوضع) و( بين المعالم والطلول ) و( الدمن الدارسة ) و ( ذرا الشواهق )
ثم يعود الشاعر الى أسئلته القلقة التي تدور في سؤال واحد أشرنا اليه سالفا ( أأنا روح مستترة ، أم طين تمظهر في جسد ؟ ) ، وتتفرع من هذا السؤال الكبير ، أسئلة فرعية ، ككيف تشكلت من ( روح وطين ) ، وكيف أصبحت هذا الجسد الظاهر المعرض للتلف، وقد كنت ذلك الوجود الدائم في الجنة على صورة آدم ( فكيف تساويت بيني وبيني ...وجودا توشح بي تالفي ؟)
يعود لتلك الأسئلة المقلقة للشاعر في لغة يلفها غموض يبقي الأبواب مواربة لمن تمعّن ، ولا يغلق منافذ الدلالة في وجه المريد الحقيقي ، ونراه في النهاية يقرر ، أن الإنسان ( روح نقية ) وان الطين /الجسد ما هو الا الزيف ...
الروح هي (الحقيقة /المتن) والجسد (الهامش )بعد ان يشير متعجبا كيف أصبح ( الخلف /الطين ) هو (الأمام )اي المقدم عند الناس فيشبعون رغباته المادية بكل وسيلة ، ويتركون الروح وهي (الأمام )الحقيقي ( خلفاً ) فيهملونها ، ويرجئون متطلباتها الى الرتبة المتأخرة او لا يلتفتون اليها أصلاً ...
فكيفَ تسَاوَيتُ بيني وبيني
وجودًا .. توشَّحَ بيْ تالِفِي
وكيفَ تحرَّكَ خلفي أمامي
وليسَ يَمرُّ سوى راجِفِي
فَهلْ جئتُ حقًّا وسيرُ انطلاقِي
تخثَّرَ في سطرِيَ النَّازِفِ
وَهلْ صرتُ شيئًا .. وما كنتُ إلَّا
جُمودًا تحرَّكَ مِنْ قاذِفِي
أمرِّرُني مِنْ تصلُّبُ عُمري
عبورًا على شكلِيَ الآنِفِ
رجوعًا أعرتُ المرايا وجُوهيْ
فأكمَلَني في الخُطَى رادِفِي
إنه القلق والحيرة في تشخيص الذات ، وكيف اجتمعت ، وتمثلت في هذا الجسد (الفاني/التالف)
كيف اصبح (الخلف /الجسد )مقدما، وهو ضعيف ( راجف) معرض للفناء ، كيف أصبح أغلب مافي الحياة مُكرَّساً للاهتمام به ، ولرعايته من المسكن الى الملبس، الى المأكل ، والمشرب ، وقد أقيمت له اماكن الترفيه ، والمصحات ،والأسواق وغيرها في كل زاوية وصدرٍ من طريق، ولَم تُعِر هذه الحضارة المادية الروح شيئاً من ذلك الالتفات على خطورتها..! يالها من حياة بائسة تقدس الجسد وتهمل الروح ، إنها لا تعرف جوهر الإنسان ، وما ينبغي الاهتمام به فيه ..
ياله من قلق تُعَرِّشُ أسئلته وتتشابك على نحو : هل أنا حقاً موجود ؟، هل جئت ؟، وهل تَحَرُّرُ روحي ( سير انطلاقي) توقف في هذا المسار النازف ( توالي السلالة /سطري النازف) ؟ إن هذا السطر النازف هو ( صورة اللحم والدم ) المتكرر عبر الزمن والذي لا قيمة له عند عاقل ..
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم تبق إلا صورة اللحم والدم
ثم يسأل هل صرت شيئا ذَا بال بعد هبوطي من الجنة ؟، هل صرت شيئاً مهماً عندما تنقلت جمادا متحركا كماء من الأصلاب الى الأرحام (تحرك من قاذف ) ثم إنني سأفنى ( تصلب عمري)...إن كل مخلوق صفته اللحم والدم سينتهي ...! فما قيمة الفاني ، وما قيمة حياته ؟
ومع ذلك فإن صورة (اللحم والدم )هي التي تستمر بالمرور الى الحياة كذرية كلما ( تصلب عمر ) أي مات إنسان ،فكأنما الجسد هو الجسر الذي يعبر عليه نسل كل إنسان ، فتأخذ الذرية ملامح الأب /شكله وصفاته ،وجيناته ( عبوراً على شكلي الآنف ) إنهم يعبرون عبر الأب ، ويُسْتَنسخون على هيئته وصفته ..
ومن ثم فإنّ هذه الذرية تكرر عملية الولادة ، والحضور الى الدنيا ، فكأنها وجوها لآبائها وأسلافها تتكرر وتعود في شبهها اليهم كما تعيد المرايا صور الوجوه ، وتستمر هذه الذرية في إكمال المسيرة فهي الرديف للقائد الذي مضى( فأكملني في الخطا رادفي ) فكأنما الحياة دابة تُركب ، وراكبها اثنان القائد الوالد ، والرادف الذرية ، فإذا مات القائد واصل المسير الرادف ...
ثم يشير الشاعر بشكل رائع في أسلوب فني لافت أن البشر او الإنسان هو جمال هذا الكون الحقيقي ( معزوفته ، ونغم نوتته ) ولذلك فإن الإنسان -حين ابتعد عن الوحي /دلاء السماء- فُتِنَ بالإنسان ووقع في (الشِّرْكِ )فألَّه الإنسانُ الإنسانَ وأقام للصالحين التماثيل وعبدها ... فهو هنا يشير الى هذه الحقيقة المؤلمة التي ألَمَّت بالإنسان في مسيرة حياته على وجه الأرض ...
ومازجَنِي نَغمُ الكَونِ حتَّى
تألَّهتُ في نوتةِ العازِفِ
ثم يعود الشاعر ليؤكد حقيقة الإنسان ، وأنه روح ، لكنها كأنما (دلفت ) حواساً من عالم الغيب ( من اللاشعور )لِتُدْرَكَ في تمظهرها الخارجي ( القشرة) في قوله ( كيما يرى دالفي ) والدالف هنا ( الطين /صورة الجسد ) وأما حقيقة الإنسان وجوهرة فهو محض ( لطف ) من قبل ومن بعد ، ويؤكد هذه الحقيقة قيد الروح وعقالها وهو الجسد ، فمن تأمل هذا الجسد وعرف عظمة ما يجري فيه من بديع الخلق ، عرف ما هو أعظم من الجسد وهي ( الروح ) ولذلك هي مما اختص الله به ( وما خفي كان أعظم ) ، إن المتحسس للجسد الذي يحاصر الروح يتبين له أنها أثمن منه، وأنها أسمى وأغلى من ( الطين /الحجر /الجسد ) الذي يطوف البلاد من شرقها الى غربها ...ولذلك فالروح هي ذات الإنسان الحقيقية ، هي النص الحقيقي ، والجسد هو المتن الزائف ...
كأنِّي دَلفتُ مِنَ اللاشعورٍ
حواسيَ كيما يُرى دالِفِي
وأنِّيْ تفتَّقتُ مِنْ لُطفِ كلٍّ
فلا قبلُ لا بعدُ إلَّاهُ فِيّْ
فمنذُ حوَى نفختي فيَّ قيدي
تحسَّستُ في عقلِها ما خفِي
وأبصرتُ في الحَصرِ إطلاقَ روحي
تسامى على حَجَري الطَّائِفِ
فما كنتُ إلَّا تمظهُرَ ذاتٍ
هِيَ النَّصُّ في متنِيَ الزَّائِفِ !
والنص يشير -فيما يشير إليه- الى البدايات ، وذلك بعدم عنونة الشاعر له، وهذا الفعل علامة نصية -في زعمي- تشير الى بداية الخلق وتعلق الشاعر بتلك البداية ، وتشير الى بداية الفن الشعري إذ لم تكن القصيدة ذات عنوان ...
وقد أراد الى جانب ذلك دلالة لها علاقة وثيقة بالجدل الدائر في النص بين الروح والجسد ، وكون الجسد مكبِّلاً للروح ، يحبس الذات ويحددها في المحسوس الملموس..وكأن الشاعر بفعله هذا يقول : ما العنوان إلا مكبل للنص كالجسد الذي يكبل انطلاق الروح ...!
وهو في هذا محق-من بعض الوجوه - فلا شك أن ( العنوان ) كعتبة للنص يأخذ قارئه باتجاه معين في إدراك الدلالة ، لذلك أهمله الشاعر فكان النص مفتوحا على كافّةِ الاحتمالات ، قابلًا لمُتَنَوِّعِ التأويل ، مرنًا للخوض فيه خوضَ البشر في مقولاتهم حول الروح بينما الروح من أمر الله لا يحيط بها كائن بشري أو مخلوق ...
إنَّ هذا النص نصٌّ ملحمي في تنوعه والتباسه بالأنسان من حيث نشأته ، وحقيقته ، ورحلته ، وغايته ، عميق في فلسفته، ثري في دلالته ، غني بفنه وتناصه، مفتوح على كل الاحتمالات القرائية ...ونص كهذا جدير بأن يُعكف على قراءته من مداخلَ عدة...وأرجو أن يجد القارىء شيئا من متعة النص في هذه الكتابة المتواضعة ...
—————
د. عبدالله مذكور المباركي .
٤٢/٦/١٢
٢١/١/٢٤
———————————————————————
*قصيدة عن الروح لابن سينا (هنالك من يجادل في نسبتها اليه ) والمشهور أنها له ، والنص كمايلي :
هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ ********* وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّـــعِ
مَحْجُوبَةٌ عَنْ مُقْلَةِ كُلِّ عَارِفٍ ********** وَهْيَ الَّتِي سَفَرَتْ وَلَمْ تَتَبَرْقَـعِ
وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرُبَّمَا *********** كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهْيَ ذَاتُ تَفَجُّعِ
أَنِفَتْ وَمَا أَلِفَتْ فَلَمَّا وَاصَلَتْ ********** أَنِسَتْ مُجَاوَرَةَ الخَرَابِ البَلْقَـعِ
وَأَظُنُّهَا نَسِيَتْ عُهُودًا بِالحِمَى ******** وَمَنَازِلاً بِفِرَاقِهَا لَمْ تَقْنـــَعِ
حَتَّى إِذَا اتَّصَلَتْ بِهَاءِ هُبُوطِهَا ******** عَنْ مِيمِ مَرْكَزِهَا بِذَاتِ اُلأَجْرَعِ
عَلِقَتْ بِهَا ثَاءُ الثَّقِيلِ فَأَصْبَحَتْ ******* بَيْنَ المَعَالِمِ وَالطُّلُولِ الخُضَّـعِ
تَبْكِي إِذَا ذَكَرَتْ عُهُودًا بِالْحِمَى ******* بِمَدَامِعٍ تَهْمِي وَلَمَّا تُقْلِــعِ
وَتَظَلُّ سَاجِعَةً عَلَى الدِّمْنِ الَّتِي ****** دَرَسَتْ بِتِكْرَارِ الرِّيَاحِ الأَرْبَعِ
إِذْ عَاقَهَا الشِّرْكُ الكَثِيفُ وَصَدَّهَا ******* قَفَصٌ عَنِ الأَوْجِ الفَسِيحِ المُرْبِعِ
وَغَدَتْ مُفَارِقَةً لِكُلِّ مُخْلِفٍ ********** عَنْهَا حَلِيفِ التُّرْبِ غَيْرِ مُشَيِّعِ
سَجَعَتْ وَقَدْ كُشِفَ الغِطَاءُ فَأَبْصَرَتْ **** مَا لَيْسَ يُدْرَكُ بِالعُيُونِ الهُجَّعِ
وَغَدَتْ تُغَرِّدُ فَوْقَ ذِرْوَةِ شَاهِقٍ ******* وَ العِلْمُ يَرْفَعُ كُلَّ مَنْ لَمْ يُرْفَعِ
فَلِأَيِّ شَيْءٍ أُهْبِطَتْ مِنْ شَامِخٍ ***** عَالٍ إِلَى قَعْرِ الحَضِيضَ الأَوْضَعِ
إِنْ كَانَ أَهْبَطَهَا الإِلَهُ لِحِكْمَةٍ ******* طُوِيَتْ عَنِ الفَطِنِ اللَّبِيبِ الأَرْوَعِ
فَهُبُوطُهَا إِنْ كَانَ ضَرْبَةَ لاَ زِبٍ ****** لِتَكُونَ سَامِعَةً بِمَا لَمْ تَسْمَعِ
وَتَعُودَ عَالِمَةً بِكُلِّ حَقِيقَةٍ ******** فِي العَالَمَيْنِ فَخَرْقُهَا لَمْ يُرْقَعِ
وَهْيَ الَّتِي قَطَعَ الزَّمَانُ طَرِيقَهَا *** حَتَّى لَقَدْ غَربت بِعَيْنِ المَطْلَعِ
فَكَأَنَّهَا بَرْقٌ تَأَلَّقَ بِالحِمَى ****** ثُمَّ انْطَوَى فَكأَنَّهُ لَمْ يَلْمَعِ