( لنا قمرٌ ) . جبران محمد قحل . ٤٢/٦/٣٠
___________________________
لنا قمرٌ غِرٌّ .. يَضِنُّ .. ونمنَحُ
وفي روحِهِ أفلاكُنا تتأَرجَحُ
يُخبِّئُ في كُحلِ المجرَّاتِ سِرَّهُ
ويَبذُرُ في صحرائنا ما يُصَرِّحُ
وفي مائهِ كلُّ البروجِ تدلَّلَتْ
مداراتُها المُستغفراتُ .. تُسَبِّحُ
فضاءاتُنا اللاتي ترودُ غِمارَهُ
على نَرْدِه خَرَّتْ .. تخيبُ .. ويربحُ
وترمي .. دِهاقا حُلْمها .. كلما رَمَتْ
تقهقرَ مبخوسَ الجوى .. يترنَّحُ
لنا قمرٌ في لونه يَجْنَحُ الشذى
فيُغوِى المدى ، والأُمسياتُ تُجَنِّحُ
يُطِلُّ من الموَّالِ لهفةَ غيمةٍ
فلا دوحةٌ إلا عَنَتْ .. تتمسَّحُ
ويخبو على وجدٍ ، وفي نقعِ همسِنا
تذوبُ أغانينا .. نذوبُ .. فنُجرَحُ
نُعاتِبُ .. حتى إذْ يفورُ عِتابُنا
نُعَوِّذُ قلبينا .. عِناقاً .. ونصفحُ
______________________________
( تعَلُّقٌ وصَفْحٌ ..) د. عبدالله مذكور . ٤٢/٧/٣
لنا قمرٌ غِرٌّ .. يَضِنُّ .. ونمنَحُ
وفي روحِهِ أفلاكُنا تتأَرجَحُ
ياله من قمر ..مخدوع بحسنه ، وقلة خبرته !
يالجهله بما يضره ويضر عاشقه إذ ينأى ، وغفلته عمّا ينفعه وينفع رامقه بعين المحبة..إذ يمنع نورَ ودِّهِ من يمنحه روحَه ...
يالهذا القمر الذي تغوي روحه أفلاك عاشقيه ..فتنجذب إليه بقوة إغرائه ورغبتها في الدوران حوله ..لكنه يصد ويضن فكأنما يبعد هذه الأفلاك عنه ويطردها عن مدار القرب ..فتتأرجح هذه الأفلاك بين اقتراب الرغبة وقوة الإغراء ، وبين إبعاد القمر الصّاد الذي لا يقدم الا البخل (الضن ) بالوصل ...!
تأرجح مخيف عواقبه الهلاك ...ومع ذلك فالعاشق غافر للذنب يسلي نفسه بأن ما يحدث بينهما سحابة صيف ، وأنهما سيدخلان -بنهاية المطاف -في عناق يبرىء الألم ( نعوذ قلبينا عناقاً ) وأن قمره سيشاركه الصفح عن ذنب لم نر الشاعر العاشق يقترفه ..فالعاشق لم ينأ ، ولم يبخل بوصله ..لكن هذا الفعل يدل على شدة تعلق العاشق بقمره ، فيفترض خطأً له لم يُخْبِرنا عنه ، وذنباً مُبهماً يحتاج الى صفح قمره...ومتى استُغْرِبَت الأسرارُ بين عاشقين إن كان خلف هذا الفعل أسرار .. ؟
نص جبران هذا ( تعلق بمتعالٍ وغفران لزلته )
وكأنه يستحضر قول من سبقه من الشعراء كابن نباتة المصري حين يقول :
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد
جاءت محاسنه بألف شفيع
ومعنى البيت هنا لايدور حول كثرة او قلة عدد أخطاء
الحبيب ،بل يعني محض الصفح والعفو عن تلك الأخطاء
قلَّتْ أو كَثُرَت..
وهو نفس المعنى في قول ابي ماضي عن صاحبه :
وأرى مساوئه كأني لا أرى
وأرى محاسنه وإن لم تكتب
وألوم نفسي قبله إن أخطأت
وإذا أساء إلّي لم أتعتّب
إنه مطلق العفوِ
والقصيدة يمكن أن تختصر - من حيث الدلالة -في معنيين ( يُخطىء ، وأصفح )
ولكن هذين المعنيين لم يكونا بهذه البساطة على مستوى اللغة ، فللشعر لغته ، وله طرقه في إيصال رسالته ، وإلا كان من معتاد الكلام البالي ..
وقد حشد الشاعر كل ما يستطيع من أوصاف الجمال لقمره في لغة مدهشة بكر فهو :
تتأرجح حوله الأفلاك/ يخبىء سره في كحل المجرات /تدلت مدارات الأبراج في مائه تسبح/فضاءات عاشقيه تخر على نرده خائبة خاسرة/تجنح الأمسيات ، والشذى للونه/يطل لهفة غيمة فتتمسح به كل دوحة وتعلق بصرها به ..
واذا كان القمر بهذا الجمال ذي النفوذ ،والسلطة ، والجبروت فلابد من مخرج لعاشقه كي تستمر الحياة معه وإن كانت مكلفة ، فالقمر قدر المحب المغرم ..فلا بد لهذا المتعالي من ترويض -وان كان في الخيال - فنرى الشاعر يفترض أن هذا المتعالي المتسلط ، القوي ، الجبار ( يخبو على وجد ) أي أن تعاليه ليس بحقيقة ملازمة له ، وإنما تعتريه هذا الصفة إذا غضب ، ثم يلين ،ويدنو ، ويتدلَّى إلى ( همسٍ) كثيف ، كأنه الغبار الذي نشأ عن طراد وعراك جيشين في معركة ( نقع همسنا ) وتتحول الحرب - نزاع التقرب والإبعاد بين القمر وما يدور حوله من أفلاك ، وفضاءات ، ومدارات أبراج - الى غيمة من همس بين العاشقين تذوب فيه الأغاني فيذوبان ،وتجرح هذه الأغاني كليهما بما فيها من عتب حار فوّار كالبركان ( نعاتب ..حتى إذ يفور عتابنا ) ..ثم تهدأ النفوس فيرجع العاشقان الى ما استقر في النفوس من حقيقة الحب ، فيعالجان قلبيهما بدواء ناجع هو العناق، ويعوذانهما به ..!
ويظل القمر رابحاً منتصراً مهما فعل ، ويظل العاشق غافراً متسامحاً مهما نال من نصب ، وكما لا يخضع الشعر لمرآة الحقيقة اللغوية ، ينأى العشق عن محكمة الواقع فليس بين العاشقين ظالم ومظلوم ، وليس في قاموسهما لفظتا : أخطأ وأصاب ..