الرحيل خلف الوهم مناورة عقيمة
لخيط دخان هارب في اللاشيء ،
والدوران داخل دوائر صماء بلا منافذ
لضوء المعرفة فكر ميت.
بين شروق وغروب تأتي حكايا ومواقف لا تنسى، وأحداث بعضها مضحك وبعضها مبكي، وأخرى انكسارات لها أثر.
لا تحب جدتي فلسفتي للتبرير والتوضيح وتعتبرها ثرثرة بلا فائدة، وتلوم والدي على مساحة الحرية التي يمنحها لي، وقيادتي للسيارة، وحتى دراستي للطب لم تحتفي بها، وكثيرًا ماتردد "ما من شطارة، لكن مع الخيل ياشقراء".
لسعتني كلماتها منذ أن عرفت معناها، تلوكني من الداخل حتى أصبحت أعماقي محتدمة بردات فعل مكبوته، لم أكره جدتي، إلا أن قبلاتي لها خفت.
أمي تقف في المنتصف، هي لا ترى أنني من فصيلة "شقراء"، وتعرف أن كلمات جدتي تثقل عليَّ، وتحاول قيادتي بهدوء إلى ضفاف الرزانة أمامها لأكسب رضاها، تنجح لفترة قصيرة لكن "الطبع غلاب"
تحب أمي فوضاي، وزوابعي الصغيرة التي أحدثها، فالنتائج بعدها ترضيها، وتحدث حركة تغير رتابة الأيام،حتى عندما تداهمتني في المطبخ و أنا في حالة تجلي لإعداد طبق أفاجئها به، وما أن تقوم بعملية مسح للموقف بعينيها لأبواب الخزانات، وأرضية المطبخ التي ناوشها بعض الخليط حتى تمسك رأسها بكلتا يديها وهي تردد "ليتنا من حجنا سالمين"..
ونغرق في ضحكة طويلة.
هكذا أنا وأمي ومعاركنا الصغيرة التي تنتهي بضحكة منها وقبلة رأس مني.
في إحدى الأمسيات التي اجتمعت فيها صديقاتها، أخذت مني عهد وميثاق بالتزام الصمت كالعادة، وعدم مغادرة المكان لكي أقوم بواجب الضيافة فهي تشد أزرها بي في الأوقات الصعبة بحذر شديد.
بعض المواقف تستثيرني للمشاركة، أتذكر عهدي وأكبت رغبتي.
انتبه إلى إيماءات أمي بنظراتها كلما أرادت أن أفعل شيء، اتغلغل في هواجس النساء، ورتابة أيام بعضهن، وهن يندب حظوظهن، وجور العشير والزمن.
تضوع رائحة القهوة السعودية بالهيل في المكان تنعش الأحاديث، تعلو الأصوات، وهن يتبادلن أطباق الحلوى الشعبية وغيرها من الأكلات الشهية.
لا أدري كيف علقت عيناي على وجه أحداهن، في حالة تعجب مني على قدرتها على الحديث والأكل والشرب في آن، وبقايا طعام عالقة على أطراف شفتيها دون مبالاة منها، ربما شعرت بنظراتي نحوها، ارتبكت وراحت تعدل من جلستها وتتفقد حال فمها، ثم وجهت كلامها نحوي فجأة مخترقة موضع يدور حديثهن حوله.
من خلف ابتسامة ساخرة سألتني وهي تشير نحوي بيد متراخي للأسف:
في أي سنة تدرسين؟
توقف الحديث، اتجهت الأنظار نحوي. رغم مباغته السؤال ردت بسرعة:
المستوى الرابع طب.
هزتني ضحكتها المبتورة وهي تعلق وينك وين الطب؟ وإلا "مع الخيل يا شقرا".
أحرقني ردها وكبلتني إيماءات حاجبي أمي -للحظة تذكرت وجبتي المفضلة- لم أرد، إلا أن نظراتهن نحوي وضحكهن بما فيهن جدتي، أعادتني للمربع الأول. التزمت الصمت، ولهيب داخلي لا يبرد، لأنني أعرف من هي -شقراء-التي شبهت بها.
استدار الحديث عن بنات الجيل الجديد وحبهن للتقليد ، وسخافة أفكارهن… أحكام أصدرت بلا إثبات. فكرت طويلا كيف أرد عليها بأدب إلا أن الموقف برد بالنسبة لهن وما زالت ساحة ملعبي ساخنة. إبتلعت هزيمتي وأنصرفت لمطالعة الجوال. فجأة سقط كأس، إمرأة متشنجة وقد انتفخت أوداجها، كاد نفسها أن ينقطع وسط حشرجة تبحث عن الحياة. فزعت نحوها على الفور، طلبت منهن مساعدتي لإسناد جسدها الثقيل، حاولت، وحاولت، خرجت قطعة فطيرة لم تمضغ من فمها، ارتدت أنفاسها، فتحت عينيها ووجهها مبلل بالعرق، وجهت نظرتها نحوي نحوي بأسف خرجت كلماتها متقطعة:
آسفة يا بنتي… حقرتك….
ابتسمت وأنا أربت على كتفها:
ولا يهمك يا خالة "اللي ما يعرف الصقر يشويه".
وغادرت المكان دون أن التفت.