يحدق في مؤخرات النساء العابرات أمامه، يشيعهن بنظرات من الشبق، يمد رقبته، يتنشق عبير عطرهن الفواح الذي لفح المكان بصخب، وتصهل، تصهل الشهوة في أعماقه، فيبتلُّ كل اليباس الذي جفف روحه المنهكة، ويغمض عينيه حتى يتيه في شوق عميق، بعدها يسند ظهره على جدار المحل الذي اتخذ منه مقراً دائما لكسب كل طراوة شاردة.
كان يفترش الارض وأمامه بعض الحنّاء والعود، والجواريب النسائية، فينكفئ على توقه بيأس فارط، حتى تهجع كل لهفة غيم عبرت سماء قلبه اليباب. يستنفر به الحنين عبر ثقوب الذكريات، فيركض به إلى أزمنة أخضل فيها تلال الورد، واحمرت فتائل الزعفران، وتحجر كل عضو في بدنه.
***
سوق الحُبْ بالدمام، مكان قنصِه المفضل في ذلك الوقت، سوق الحُبْ الذي أخذ من اسمه نصيب، فكان قِبلة للعشاق، ومرتعا خصباً لطرائد سمينة لا تملّ الركض على أرصفته و في دكاكينه، و أزقته الضيقة. كان الشباب يتوافدون عليه من كل حي ومن كل مدينة، يذرعونه راجلين أو راكبين في سيارات فارهة، يبحثون عن مشية متناغمة، في ثوب فاقع اللون، انحسرت عنه العباءة فوق الردفين بقليل، فتحدث لهم هزة عنيفة في جوف الفؤاد، وتؤرجح أحلامهم حد الجنون. أما هو فكان ينافس أصدقاءه في توزيع أرقام هواتفه، على كل فتاة تدخل السوق. أما من كانت تعانده وتنفر منه كجيفة، فكان يضع الورقة في حقيبتها أو يدسها في صدرها عنوة، فتقابله بركلة أو صفعة على الخد.
عرفهُ أصحاب المحلات والباعة، والمتجولون، والزائرون، ورجال الحسبة، بل وحتى رجال المرور. فقد تم القبض عليه أكثر من مرة، وفي أحايين كثيرة كان يتفلت منهم ببراعة ويهرب كفريسة كُتب لها يوم جديد، أو يقوم بتحاشيهم من بعيد.
أقيم عليه الحد أكثر من مرة، وتم جلده أمام أحد مدارس البنات، وفي السوق، وأمام المسجد، وغيرها، وفي كل مرة كان يُجلد فيها، يُقسم داخل نفسه بأن يضاعف جولاته ورغباته، في توزيع أرقام هواتفه، واحتكار السوق كحوت عملاق، حتى لو تطلب ذلك أن يضع رقمه في صناديق البريد، وفي أكياس الزبائن، وكل قطعة قماش تُقص، بل وحتى في كل ربطة كيس يباع.
أصبح السوق بالنسبة إليه كرقعة شطرنج، بث فيها حبائل صيده، وبذر فيه أرقام هواتفه، وزرع فيه العيون من العمالة الوافدة التي تقنص الطرائد السارحة، فتدُلهُ بيسر عليها، حتى اضمحلت فيه بيادق العشاق، وتهاوت أحصن "الكهنة" وسقطت قلاع العذارى، فاستبد بالسوق حتى هتك جيوب عرضه.
في الأصيل يحزم أهدابه كنسر محلق نحو فريسته، وفي الليل ينشب كفيه في رمانتيها. أصبح الصيد لديه لذة فاترة، فأخذ يجود به على النخبة من أصدقائه كعشاء فائض عن الحاجة. لم يعد السوق جاذبا له بعد أن استنفد كل شريحة لحم نابض، بل أصبح هو الطريدة تثب عليه النساء في كل ركن من السوق، وفي كل شارع، وهو يلوذ بالفرار!
ذات مساء من ليال الدمام الحارة والرطبة، وبعد أن ودّعت خيوط الشمس آخر مغزل لها في السماء، اصطففن النسوة على عتبات المحلات التجارية، ينتظرن الرجال الفراغ من صلاة المغرب، جلست إحداهن على إنفراد، ترفع برقعها عن وجهها وتهوي به على صدرها النافر، تروّح عن جيدها شآبيب اللظى، وسعار الطقس، تهدلت عباءتها فبانت صفحة خدها، وتلألأت حبات العرق على طول نحرها الشفيف، زفَنَ قلبه وارتجّ بين الضلوع، تسامقت نظراته تخطف شيئا من ثمارها الناضج حد الامتلاء. اقترب منها بخطى متلكئة، وهو الضالع في الهوى حد السديم، مسد على شعره المتهدل على كتفيه، محاولا جذب انتباهها بشيء من وسامته، لم تعره أي اهتمام فغاظه تجاهلها، دس في حقيبتها رقم هاتفه، فباغتته بصفعة، انحنى أمامها ومد لها خده الآخر، خلعت حذاءها وهوت به على رأسه، جلس على الأرض يتقي ضرباتها بيديه وهو يدلق عليها كلمات الرجاء والصفح، غادرته حانقة، ولكنه تبعها بخطى واثقة، أشارت بيدها على سيارة أجرة، فتوقفت على الفور، ركبت السيارة وصفقت الباب، انطلقت السيارة فوثب على مقدمتها، ضرب السائق الفرامل بقوة، فاصطدم به، تدحرج على الأرض، وقف بانحناء وأخذ ينفض التراب من أناقته الفارطة، هرب السائق من أمامه، فوثب على دراجته الهوائية، وأخذ يلاحقه في كل رقعة من المدينة، حتى توقفت السيارة عند عمارة قديمة، نزلت الفتاة وأسرعت بالدخول، وصل متأخرا بعض الشيء، فرمى الدراجة، ودخل العمارة يبحث عن بقايا أثر لها، استخدم غرائزه البدائية، لاحق عطرها في المكان، حتى اهتدى إلى شقة في الدور الأول، ورفع من مستوى تخمينه، حذاؤها القاني عند الباب. أخذ يقرع الجرس بإصرار، ولكن رجع الصدى كان خاويا. يقفل عائداً دون أن تسري روح الهزيمة إلى حجرات قلبه.
في اليوم التالي، ما إن دلق الصبح حزمة الضوء، إلا وكان واقفا بالقرب من العمارة، يرصد خطى أهلها، تناوب على الشارع ليل نهار، رسم خارطة الوله على المكان، استبد به العشق فقرر أن يقتحم الشقة عليها. صعد إلى السطح، تهدل رأسه فلم يرهبه الارتفاع، هبط زاحفا على ماسورة ماء، حتى قفز إلى العلية، دلف إلى الداخل ووجيب قلبه يتصاعد من الشوق. جال في أنحاء الشقة فلم يرها، وصل إلى غرفة مغلقة، حرك ذراع الباب ببطء، لفحه هواء التكييف مضمخا برائحة "بخور" هادئة. انسل الضوء إلى المكان، فبانت له كحورية بحر ممدة بنصف ثوب يشف عن مفاتن عاجية، استلقى جانبها يشم شعرها ونحرها، قبّلها بتشهٍ فقفزت صارخة، محاولة أن تستتر بلحافها، ولكنه كان غارقا في نشوة العطر. هربت إلى غرفة خالية وهي تولول وتصيح، فأقفلت على نفسها الباب، سمع قرع الجرس فانتفض كقط مذعور، اتجه إلى العلية، ثم قفز على سقف سيارة كانت تقف بالأسفل، ولاذ بالفرار.
في اليوم التالي عاد وكله توق إلى شهقة العطر المنبعث من شعرها، تسلل كحيوان زاحف على ماسورة الماء، إلا أنه وجد شبك حديدي أعاقه عن الدخول، تمسك به بيد، وبيد أخرى قام بدفع جهاز التكييف إلى الداخل، ومنه وثب إلى الشقة. توجه مباشرة إلى غرفة النوم، دفعه بحذر، صفعته رائحة "البخور" فاغمض عينيه، وهو يعبئ رئتيه من عبق الرائحة، وجدها متدثرة بغطاء سميك، انسل في سريرها، أتاها من خلفها، رفع الغطاء عنها، فانتبهت والتفتت بعيون متورمة، وإذا هو رجل بشارب عريض وبطن متهدل على سرواله القصير، اطبق يده على عنقه، وقذفه بسباب فاحش، فبادره بعدة لكمات على وجهه، وأعاد الغطاء عليه، هرب مسرعا فتحير في الخروج، وثب من الفتحة التي أحدثها، سقط على الأرض وتدحرج ككرة، فأتت سيارة كومضة برق، ودهسته.
***
عجز عن أداء فروضه العقلية والزوجية حد الانطفاء. ما زال يسند ظهره على محل الفساتين الأنيقة، ويهز رأسه طربا على أنغام ترطب جدران صدره اليابس، تنبعث من جهاز الراديو العتيق، وسفرة وضعت أمامه لخردوات، زهدت فيها حتى العجائز، ولكنه ما زال يلاحق سيالات الرائحة المنبعثة من عبائتهم، ويحدق في كل ردف شارد، ويمنّي نفسه بأيام خلت، حين كان ملكا على السوق.