تأملات في أحلام التصابي للشاعر يحيى معيدي
نحن هنا أمام بناء تعبيري متين تعددت فيه صور المعاناة بعد أن طوقتها المخاطر من كل جانب ابتداءمن الأسر الذي لايرجى انقضاؤه ،ووقوف الحرف عاجزا في حضرة هذا الحسن الفريد، ومن ثم انبثاق معان أخر في سلسلة منتظمة انعكاساطبيعيا لهذه التجربة المكثفة:متمثلةفي اشتعالات: الهيام المتفجر في حنايا الروح ،ووطأة البعد المرير، والأنفاس المحترقة في المواقف النفسية ،والدقات الموشكة على الهلاك ؛وأشذاء الذكرى المهينمة في الذهن مستولية على مساحات التفكير، والأرق الملازم، والانكساروالخطف وما إلى تلك المعاني المتشحة بأردية شفيفة من الرؤى الإيقاظية وحملها على مواجهة معركة الوجود وأزماته الحادة
نأت الدروب بشاعرنا وهو يشق طريقه في عباب المسافات، وعزت مطالبه الجسام، وآده طول الترقب في رحلته الشائكة المضنية ،فتمخض ذلك كله عن اقتران أحلامه الثائرة الراكضة في ميادين الحياة -بزهوها وعنفوانها واحتفالها -بعناقيد التصابي ومااستقر في طواياه من توثب وجموح ومرح وابتهاج واستلهام واستهلال جديد لرحلة موازية وقد تكون مغايرة ذات بهجة أخرى ،فماتزال في مطاوي الغيب
وكأن شاعرنا حين أراد تلوين أحلامه بأصباغ جديدة عتيدة عمد إلى "متحف التصابي" وهو متحف فاخر وقلة قليلة ممن اهتدوا إليه ووقعوا على كنوزه ،وكأنه في الوقت نفسه قد اشتم روائح الجنة منبعثا إليه من أبي العتاهية في قوله:
يا للشباب المرح التصابي روائح الجنة في الشباب.
كما أنه رأى أن يبث الحياة في "أحلامه وألوانها الحريرية التي تلوح له في الأفق ويتلمسها في المشاهد الحيوية المحملة بالصبوات الراكضة"فقرنها بلفظة "التصابي" فأكسبها ذلك دلالة التعريف بعد أن كانت ملقاة مدثرة برداء "النكرة " في اللغة.
إن هذا الشجن الممض والنزيف المحتدم.
وهذا الحنين المتقد وهذه الالتماعات الفنية وهذا الإشراق النوراني لهي براهين ساطعة، يبعثها شاعرنا مؤكدا على احتلال الشعر الوجداني ذروة البيان العربي وقدرته المتجددة على استيعاب طاقات التجارب الحية على تنوع منطلقاتها ،وهي كذلك أدلة يسوقها على انصياع صافنات الحلم والشعر في اتحادهما إلى أداء ماسيناط بها من شؤون وشجون عندما يرصدها بعدسة الشاعر الملهم المتمكن .
وتأملوا معي برهانا لماسبق هذا التجلي في وصف المطالب المستعصية أو كما اصطلح على تسميتها "بعيدة المنال" :
أتوق إلى الحبيب فصرت أمضي
وحيدا في دروب البعد نزفي
على وهم اللقاء شرعت أخطو
فضاع الدرب قدامي وخلفي
عهود الوصل تجذبني فيسري
على إيقاعها ولهي وحرفي
حكاية حبنا في الهجر ذابت
فيكفي ما جرى للروح يكفي
أحلام مجنحة نأت عنها الدروب وادلهمت مسالكها واستبدت بها الوحدة واربد وجه الأفق دونها وعلى الرغم من ادراك شاعرنا حقيقة الوهم الكامن في اللقاء المرتقب المأمول والمخاطرالمتوارية خلف الأستار الغيبية الكثيفة ظل يغذ السير بين الأمل والرجاء معايشة للحياة ومسايرة لطقوسها واستكمالا لمهمته الفنية في مواصلة العزف على قيثارة الشعر مناهضة للأوجاع وقطع الطريق عليها وهو بذلك يتساوق مع نشيد الجبار في معزوفة( أبو القاسم الشابي) التي بدأها قائلا:
سَأعيشُ رَغْمَ الدَّاءِ والأَعْداءِ
كالنِّسْر فوقَ القِمَّة ِ الشَّمَّاءِ
أَرْنو إِلَى الشَّمْسِ المضِيئّة ِهازِئاً
بالسُّحْبِ، والأمطارِ، والأَنواءِ
لا أرمقُ الظلَّ الكئيبَ ولا أَرى
ما في قرار الهَوّة ِ السوداءِ...
وأسيرُ في دُنيا المشاعِر، حَالماَ
غرِداً- وتلكَ طبيعة ُ الشعراءِ
وحين أشعت عهود التداني في أعماقه ،وكادت تبرز أمام نظراته الحسيرة الملتظية ،منارات شماء وهو يغذ خطاه، هنالك ألقى عصا الترحال ،وكان لزاما عليه فعل ذلك ،وقد رآها تشرع الأبواب وتستبق لاحتضانه ،ومداواة الانكسارات التي أرهقته طويلا .
كان لابد أن تسري -إذ ذاك -إلى القلب المرهف
المفعم الواله ،نسمات رقراقة يبعثها أريج الأمل المستسر في لطف الله الخفي ،وهو وإن جابهها بقوله :(يكفي ) مكررة ،ليرى في حكاية حبه الذائبة ،صورا لألاءة عزيز عليه تهاويها .
وفي هذه النظرة الدقيقة ،مصداق لقول قديم مأثور :"إذا أردت اكتشاف صدق مودة إنسان فاختبر حنينه إلى ملاعب لهوه، ومدارج صباه ،تجد الحقيقة الناصعة"
ولدى شاعرنا هنا يتجلى هذا العنصر.
ويمضي معبرا بلسان العاشقين قائلا:
يهيم العاشقون على نهار
حيارى والدجى دركات خسف
عجبت من الهوى يجتاح قلبا
ويتركه على يأس وضعف!
ومن ذا الذي لا يتضامن معك في الهوى المشبوب أيها الشاعر البارع؟
لقد استطاعت ريشتك الفنية أن تنقل هيام العاشقين وعذاباتهم أجمعين ،وتصوير أعاصير الحيرة وهي تعبث بهم ليل نهار ،بل وتطوح بهم في أغوار سحيقة لاآخر لها، ومامن طعناتها "فرقة ناجية"انقادت لها الآمال ،وأسلمت لها الأماني القياد ،طافحة بالنعيم وجداوله الريانة والبشائرالمتهادية في قطارها الحالم ،بيد أن العاشقين ،وهم يردون هذه الموارد ،انشراحا وارتيابا، طبقا للتباينات وتموجاتها، وهم يلحظون مورانها على سطح هذا الكوكب الأرضي ،ومع ما يلقونه من خيبات متتابعة، واقفة لهم بالمرصاد في الطرقات والميادين ،وقيود تكبل خطواتهم وتحد من وثباتهم ؛ ومع ما يتجرعونه من مرارات الكؤوس ليرجون من وراء هذا العناء مايرجوه المسافر ،والمغترب والمنيب إلى ربه، من ثواب
أنى ،وكيف؟
وقديما قال قائلهم:
ماتحمل الأرض على ظهرها
أشقى ولاأوثق من عاشق!
أيها الشاعر الصيرفي الغواص في بحر الأبداع
لأحلامك الطافرة التي أطلقت لها العنان، أن تشد على يديك ،وأن تربت على كتفيك ،وأن تصيخ السمع إلى ندائك الحاسم الحالم والمطامح المتأخرة عن موعدها ولها أن تحدق في مرآة قصيدتك فترى وجهها الحسن الناعم المشرق، ولها كذلك أن تشرق شموسها في حياتك الفنية الخصبة فتتخلى عن وجهها الشاحب الآخر استحياء ،بعد أن أدنيت شواردها إلى منظومة بيانية، لن يمسسها في جنباتها قنوط أورهبة .
ولن ينقضي عجبي ولاعجبك ولاعجب الأولين والآخرين من حكماء وشعراء من أساطير هذا الهوى وخيالاته المنمنمة ومن تصاويره وزخارفه ومن أفاعيله وألاعيبه ، ومهما بلغت الانقسامات حول "عبثياته" وسلطانه على القلوب وعزله أوتنحيته أو الإيقاع به فلا أظننا سنفلح أبدا!
لولاَ الهَوَى لَمْ تُرِقْ دَمْعاً عَلَى طَلَلٍ
ولا أرقتَ لذكرِ البانِ والعَلم
وكيف نتحاشاه أو نتجرد من هيولاه ونحن لانستغني عن وقوده المستمر ونفحاته الدافئة وشحناته التي تجري في تفاصيل الحياة كافة ؟!
ليل الهوى سنة في الهجر مدته
لكنه سنة في الوصل من قصره!
لانستغني عنه لأنه شعور راسخ في أعماق النفس الإنسانية يقترن بحالتي السخط والرضا ،يمتزج بضميرها الداخلي ،وهو باعث لها على التجدد والحيوية، مشكلته العويصة حين تكون له الولاية المطلقة على مقاليد الأمور .
وللشعراء قديما مواقف متباينة من (الهوى) وعذاباته ،فهذا البحتري يستهل قصيدة له قائلا:
أُخْفي هَوًى لكِ في الضّلوعِ وأُظهِرُ
وأُلامُ في كَمَدٍ عَلَيْكِ، وأُعْذَرُ
وَأرَاكِ خُنتِ على النّوى مَنْ لَم يخُنْ
عَهدَ الهَوَى، وَهجَرْتِ مَن لا يَهجُرُ
وَطَلَبْتُ مِنْكِ مَوَدّةً لَمْ أُعْطَهَا
إنّ المُعَنّى طالِبٌ لا يَظْفَرُ
إن ضراوة الآلام الطاغية المتشابكة التي فاضت بمكنونها أنغام شاعرنا الساحرة واحتشدت للنهوض بفحواها كلماته الموحية في هذه القصيدة البليغة السهلة الممتنعة
لتجعلها من التجارب الفنية ذات الأفق البعيد والنظرة المنفسحة كما أن حسن الصياغة وجودة إيراد المعاني خصوبة صورها واستثمار بعض الأساليب البلاغية كالمقابلة واختيار الشاعر بحرها المميز وهو الوافر المنسجم جدا مع الأشجان العاصفة ومحاكاتها لأشجان إنسانية مماثلة أهلتها للبلوغ إلى مراتب الجمال الفني كشأن السيمفونيات المؤثرة بإشعاعاتها ذات المذاق الخاص.