بسم الله الرحمن الرحيم
(وَ شَاخَ البدْرُ*)
للشاعر:إبراهيم بن يحيى الجعفري(شادي الساحل)
بقلم:محمد سلطان الأمير
____________________
عرض النص:
أَلَا يَا هِنْدُ أَتَعْبني التمني
وَ أرْهَقَتِ الهُمُومُ رَبِيعَ سِنّي
رَأَيْتُ البَدرَ فِي عَيْنيكِ طِفْلًا
وَ شَاخَ البدْرُ مُنْذُ رَحَلْتِ عنّي
رَسَمْتُكِ لِلوِدَادِ بِرِمْشِ عيْني
بِأَجْمَلِ رِيشَةٍ..و بَدِيعِ فَنِّ
كَتَبْتُكِ بِالحُرُوفِ عُيُونَ شِعْرِي
وَ خِلتُكِ تَكْتُبِينَ..وَ خَابَ ظَنِّي !
تَأنّى الليْلُ بَعدكِ..بَلْ تَمَادَى
وَ لَيلكِ قَطُّ مَا عَرَفَ التّأنّي
أَمَا وَاَللَّهِ كانَ الشَّوْقُ أَعْمَى
وَ قَدْ أَسْكَنْتِهِ يَا هِنْدُ..عَيْنِي
رَأيْتُ الشّمْسَ تُشْرِقُ يَا صَبَاحِي
وَ تَضْحَكُ..والصّبَاحُ يَغَارُ مِنّي
تَعَرّى الثّلجُ إِذْ ضحِكَتْ أَمَامِي
و غطَّى الجَمْرُ ذَاكَ الثَّلج عَنِّي
تَرَاقَصَتِ الحُروفُ عَلى شِفَاهٍ
كإصْبع عَازِفٍ يَشْدو بِلحْنِ
وَ بَيْنَ دَفَاتِرِي صَمَتَتْ حُرُوفٌ
فَكَيْفَ لِصَامِتٍ يَوْمًا يُغَنّي !
فَلَا يَوْمِي يَجُودُ بَطَيْفِ أَمْسِي
كَأنّكَ يَا زَمَانُ أَرَدْتَ سَجْنِي
دَقَائِقُ آثَرَتْ ظُلْمَ الثّوَانِي
وَ أَيّامٌ عَلَى السّاعَاتِ تَجْنِي
لِمَهْ يَا عُمْرُ..مَا لَكَ كَيْفَ تَرْجُو-
-مُوَاسَاتِي..وَ أَنْتَ كَتَبْتَ حُزْنِي
أنَا المَكْلُومُ مِنْ غَدْرِ الليَالِي
لِذَاكَ الأمْسِ يَا عُمَرِي..أعِدْنِي
سَحَابَاتٌ تَرَكْتُ هُنَاكَ تَبْكِي
فَأَغْرَقَ حَاضِرِي دَمْعُ التّمَنّي
أ يَسْقِي الغَيْمُ بَحْرًا ضَمَّ مِلْحًا
وَ أسْمَعُ عذْبهُ يَرْجُوهُ..دَعْني!
شَهِيدٌ..هَكَذَا الأيّامُ قالتْ
فَقُلْتُ لَهَا شهيدكِ ! لَمْ تُجِبْنِي.
____________________
مدخل:
لاريب أن طابع النصّ العام هو النزوع إلى الوجدان الواله المترع بالأخيلة الوثَّابة؛والأسئلة الشجيِّة المصطرعة في أعماق الشاعر.
إذ ترفُّ على قسماته وملامحه بدءاً وانتهاءً ظلال الرومانسية الرقيقة؛وسماتها البرَّاقة؛وألوانها المميزة.
أطلق عليه شاعرنا عنوان (وشاخ البدر)؛وهو تركيب مباغت أراد الشاعر-متعمِّداً- قطعه عن سياقٍ سابق عليه
في استئناف الجملة الفعلية بحرف الواو؛ تاركاً للمتلقي استنباطه .
وفيه يخلع الشاعر وسم الشيخوخة المقترنة بالإنسان والكائنات الحيَّة عموماً على صفحة البدرالمنير الذي يحتلُّ مكانةً عالية في نفسه ؛وسيعزف على أوتاره ثانية في البيت الثالث من القصيدة.
ومن موحياتِ هذا التكرار البارزة؛أنه نقل إلينا صلة الشاعرالوثيقة ببدره الأرضي والسَّماوي؛المتحدّين في العديد من الأوصاف والنعوت الواردة في ثنايا القصيدة.
فهو-أي الشاعر- إذا نظر إلى بدره مزدهياً بأشعَّته في قبب السماء؛قصر ساعده عن لمسه وعناقه؛وإذا نظر إليه على كوكب الأرض مرتسماً في محيَّا معشوقته الأثيرة ؛حوصر عن التنعِّم بهالاته الناعمة؛وأنفاسه الحريرية؛نتيجة إقامة السدود الحصينة؛والحواجز المعنوية المنيعة؛وما أكثرها!!
فلذاك صحَّ هنا أن نستشهد بقول الشاعر القديم:
تراه باكياً في كلِّ وقت
مخافةَ فرقةٍ أو لاشتياق!
في هذا الجو المتوتر المحاط بالقلق النفسي؛والمسيَّج بالحوائط العاتية؛
لم يجد الشاعر بُدَّاً من أن يستهلَّ نصَّه بالنداء ؛قابضاً بيده على أداة (ألا ) ذات الوظيفة الاستفتاحية؛ وذلك لمنح نداءه الجهير مساحة صوتية طويلة ؛ لبلوغ مسامع الفاتنة المستولية على سويداء قلبه؛وهواتف بوحه.
ويكشف النقاب عن فاتنته؛في معرض التنويه باسمها «هند»؛وهو اسم عريق يتطابق تراثياً مع هند معشوقة ابن أبي ربيعة في قوله:«ليت هنداً أنجزتنا ما تعد»؛ومع الأخطل الصغير في قوله: «ياهند قد ألف الخميلة بلبل»؛وغيرهما.
والمتعارف عليه أنَّ أسلوب النداء؛يتطلب في أساسه الإفصاح عما في النفس من مطالب ورغبات وأوامر ونواهٍ؛بطرق مباشرة وصريحة ؛وبطرق فنية بلاغية ؛كمثل هذا الموقف المفصلي في تجربة الشاعر.
ويسترعي انتباهي أنَّ الشاعر -إلى جانب استحسانه أسلوب النداء في انطلاقته هذه -لم يعمد إلى رصد خطرات وجيب قلبه المحترق؛واستكناه دواعي آلامه الحادَّة بشكل مباشر صارخٍ فجّ ؛وإنما استثمر ما أُتيح له من أدوات فنية؛ووسائط تعبيرية في يسرٍ وسهولة؛يحدوه الأمل النَّابض في أن تتسق وتتناسق مع مضامين تجربته الشعورية؛وأن تتساوى مع شحناتها الانفعالية المتوهِّجة.
إنَّ عاطفة الشاعر المتأججة؛وإحساسه الموَّار بلوعة الحنين المستبد؛فرضا عليه وصف الشوق بفقدان البصر؛فهو والأعمى المتحيِّر سواء ؛يخبطان خبط عشواء ؛وإنَّه ليؤدي القسم على ذلك؛مُسنداً تهمة إيوائه وسط أجفانه المُسهَّدة؛ إلى محبوبته (هند)؛وكأنَّها بصنيعها هذا أرادتْ نقل مأساة العمى إليه؛أو على الأقلِّ إلزامه مسؤولية رعاية كائن الشوق؛متناسيةً أو متجاهلةً جناية تلك السكنى على راحته المنشودة كما في قوله:
أَمَا وَاَللَّهِ كانَ الشَّوْقُ أَعْمَى
وَ قَدْ أَسْكَنْتِهِ يَا هِنْدُ..عَيْنِي
____________________
-نظراتٌ في بعض تشكيلات النص:
لعلَّ أول صرخة تواجهنا في النص هي هذا البوح الشفاف:(أتعبني التمني)؛وهو تركيب لغوي يكشف لنا عن ألوانٍ من
الأمنياتٍ مما ازدحم بها فؤاد الشاعر؛إلى جانب الهموم الصاهرةالتي اقتحمت عالمه غير عابئه بعمره الربيعي الغضّ..
واستجابة لتلك الصرخة المدويَّة في الفضاءات؛وسعير نارها الملتهب بين جنبيه؛انطلق بنا الشاعر في رحلته الدرامية الدامية بطبيعة الحال؛شاحناً لبناء نصَّة لَبنات من صيغ (أفعال الماضي) على نحو خاص ؛وكْدُه من وراء ذلك رسم أبعاد التجربة ومعالمها ؛ولحظاتها المتباينة بصدقٍ وجلاء ؛آخذاً في الاعتبار آثار تلك الرحلة العالقة في ذاكرته؛وهي آثارٌ مؤرقة لابثةٌ في مغاني آماله وأفراحه؛ومتصلة بمسرح حياته اتصالاً وثيقاً.
فعلى سبيل التمثيل تلوح لنا في خضمّ القصيدة وأنساقها التعبيرية أفعال ماضية -كما أشرت- إنما ذات نكهات مختلفة :(رأيت؛رسمت ؛كتبت ..الخ)؛ حيث نشتم من أريجها البصري ؛والكتابي ؛والفني(التشكيلي).
ولاريب أن توظيف الشاعر هذا منح التجربة حرارتها وتوهجها وتأثيرها في أحاسيس المتلقي؛وفي وجدانه.
وتجئ صيغ (المضارع) موازية لها في عملية البناء الفنِّي كالأفعال(تشرق؛يضحك؛يشدو؛يغني؛يجود؛تجني؛ترجو؛أغرق؛تبكي؛أسمع)و متآزرةً معها في تشكيل ملامح التجربة ومنحها الدينامية اللازمة للارتقاء بها عالياًفي سماء الفن.
نستطيع إذن أن نقول عنها إنَّها استطاعت أن تجسَّد لنا الخطوط العريضة-إن صح التعبير- لمعاناة الشاعر المؤرقة؛وغصصه المشتعلة؛وأشجانه المصطرعة الصَّاخبة في أعماقه.
ولعلّ الخيوط الأولى لمجريات تلك المعاناة؛تبدأ من تحولات بدر الشاعر؛من الطفولة إلى الشيخوخة؛في عيني معشوقته كملحوظة أولى التقطها الشاعر ذاته ؛وهي تحولات مريبة؛تشي بطبيعة اللامبالاة الفاترة من جانب محبوبته المتمادية في الهجران.
وكأني به يودّ أن يقول إنَّ نشأة أواصر المحبة بيننا ؛هي أشبه ماتكون بالمراحل التي يمر بها القمر في رحلته الكونية إلى أن يصير بدراً في مرحلة اكتماله؛ثم تتضاءل إشعاعاته شيئاً فشيئاً؛ وتخفت معالم حسنه الوضاء؛حتى تتوارى تماماً من عالم الوجود ؛ويصبح وقتئذ في مرحلة بائسة يكتنفها العجز والشحوب واللاجدوى ؛كما دلَّ على ذلك قوله تعالى:(وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ)
وتبعاً لما تمليه لفظة(شاخ)؛المرتبطة بمرحلة عمرية معيَّنة.
____________________
-بعض ظواهر النص الفنية:
اشتمل النص على عدِّة مشاهد؛ذات آفاق رومانسية؛على هذا النحو:
1-رحلة غرام الشاعر؛وتفانيه ؛ورِهاناته الضائعة ؛واصطدامه آخر الأمر بخيبة الظن؛إشاراتٌ كافيةٌ لتفسير الصراع النفسي.
2-حضور الأزمنة في التجربة عبر نافذتي: (الماضي؛الحاضر) من جهة؛وعبر استدعائه ألفاظ (الأمس؛اليوم؛الليالي ؛الأيام)الخ؛من جهة ثانية؛وفي ذلك إبراز وإحاطة بجميع نواحي التجربة الشعورية التي خاض غِمارها.
3-استثمار الشاعر بعض مشاهد الطبيعة(الثلج؛غيم؛سحابات؛ جمر ؛إلى جانب بعض الظواهر الكونية:(الليل؛الشمس؛الصباح؛البدر)؛لمشاركته حرارة الإفصاح عن مشاعره المضطرمة وأزماته المتجددة.
4-عناصر :التجسيد والتشخيص؛وبثِّ الحياة في بعض الكائنات من الجمادات أو المعنويات؛تفصح عنها عدة تراكيب لغوية (أتعبني التمني؛ شاخ البدر؛تَأنّى الليْلُ بَعدكِ..بَلْ تَمَادَى؛الشَّوْقُ أَعْمَى؛تَعَرّى الثّلجُ ؛تَرَاقَصَتِ الحُروفُ)الخ.
5-بلوغ الشاعر قمة انصهاره؛واستشعاره مرارة إخفاقاته الراهنة؛والحنين الملحّ إلى أمسه الناعم البرئ ؛حمله على المواجهة ؛في مقام الاعتراف بالتلويح بضمير المتكلم (أنا)؛ بقوله:
أنا المكلوم من غدر الليالي
لذاك الأمس.. ياعمري أعدني!
٦-في البيت الذي ختم به الشاعرقصيدته؛استفهام غرضه الإنكار إلى جانب توظيف فن الاستعارة :
أ يَسْقِي الغَيْمُ بَحْراً ضَمَّ مِلْحاً
وَ أسْمَعُ عذْبهُ يَرْجُوهُ..دَعْني!
ويمكن لنا أن نستشف من وراء دلالاته؛"إدانة الشاعر للوجه المأساوي للحب"؛حيث تُهدر قيمه
في غير أهله؛كالعلاقات النفعية؛ومادار في فلكها.
____________________
لم يبق لي في ختام هذه الدندنة المواكبة لنص شاعرنا؛إلا التلويح والإشادة بقول أديب المهجر الفذ؛ميخائيل نعيمة:
«إنَّ أول ما أبحث عنه في كل ما يقع تحت نظري باسم الشعر هو (نسمة الحياة)؛فإن عثرت فيه على تلك النسمة، أيقنت أنه الشعر، وإلاّ عرفته جماداً، وأن ذاك لا يخدعني بأوزانه المحكمة، ونبراته المنمقة، وقوافيه المترجرجة»
وفي هذه القصيدة وجدت النسمة المشار إليها؛كما وجدتها في غيرها من نصوص شعراء المخملية؛ لاسيما تلك التي حاولتُ الاقتراب من حدائقها المونقة في حدود المستطاع من الرصد والممكن منه؛راجياً من الله أن يحالفني التوفيق؛وأن يلهمني الصواب.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله.