تأملاتٌ في قصيدة:(إجهاشةُ قلب)؛للشاعر:شيخ بن علي صنعاني*
____________________
-النص :
أَلَا فَسَلُو الْمُدَامَةَ عَنْ مُصَابِيْ
عَنِ الْأَمَلِ الْمُضَمَّخِ بِالْسَّرَابِ
عَنِ الليْلِ الَّذِيْ أَمْسَىْ جَرِيِحًا
وَ أَنْجُمُهُ الْثَّكَالَىْ فِيْ انْتِحَابِ
سَتُنْبِيكُمْ كُؤوسُ الْوَجْدِ عَنِّيْ
وَ تُرْسِلُ بَعْضَ نَزْفِيَ لِلْتُّرَابِ
وَ تَنْثُرُ مَا تَوَارَىْ حِينَ جَاءَتْ
مُدَلَّلَتِيْ كَعِطْرٍ فِيْ كِتَابِيْ
أُجَاذِبُهَا الْغَرَامَ بِكُلِّ صِدْقٍ
وَ تَمْنَحُنِيْ الْعَذَابَ ، فَوَا عَذَابِيْ
عَشِقْتُ أَرِيجَهَا سِحْرًا تَوَالَىْ
عَلَىْ رِئَةِ الْجَمَالِ مَدَىْ اغْتِرَابِيْ
فَكَانَتْ مِثْلَ رَاحٍ زَادَ نَفْحًا
مِنَ الْشَّفَتَيْنِ طُوِّقَ بالرّضَابِ
مَدَدْتُ لِخَمْرِهَا كَأْسِيْ ، أَشَاحَتْ
بِخَدٍّ شَعَّ أَفْقَدَنِيْ صَوَابِيْ
فَأَجْهَشَ خَافِقِيْ فِيْ كَفِّ إِلْفٍ
بِسَيْفِ الْهَجْرِ قَدْ طَعَنَ اقْتِرَابِيْ
وَ نَاحَتْ أَحْرُفٌ ضَمَّتْ فُؤَادِيْ
أَقْامَتْ مَأْتَمًا ، عَزَّتْ مُصَابِيْ
____________________
-وقفةٌ مع عنوان القصيدة:
المدخل الفنِّي لعالم القصيدة هو عنوانها الذي ارتآه الشاعر؛وهو هنا عبارة عن مفردتين جاءتا مركَّبة تركيباً إضافياً؛تبعاً لما يُسمى في علم النحو (إضافة نكرة إلى نكرة)؛وغايتها( (التخصيص).
والذي يعنينا أن هذا القالب الفنى؛اشتمل على عدِّة معاني إيحائية؛أهمُّها
أن قلب الشاعر أثخنه الولهُ والانتظار؛وأرَّقته لواعج الحنين؛فلم يجد بُدَّاً من أن يجهش بالبكاء هنا وسيلته في ذلك الأنَّات الحائرة؛والآهات الحادَّة.
ولمَّا كانت العينان وحدهما؛أوعية العبرات؛والمدامع المنسكبة؛وهما ملاذ الشاعر في حركة الكون وسكونه؛ وسلواه في مواجهة أمانيه المتجهمة؛ومطالبه الممتنعة؛ فإن ذلك الموران من شأنه أن يهبط على القلب المضرَّج بالأسى؛ويشعل بين جوانحه سعيرَ الصبابة، وضغطها العاصف المستمرّ؛وقديماً قال الشاعر:(فإنَّ البعضَ من بعضٍ قريب).
بيدَ أن لغة (بكاء القلب) وجيشانه لاتعدُّ من المحسوسات المرئية ؛بل هي فعلٌ معنويٌّ صِرف مستترٌ عن الأنظار تماما ؛ووحده الشاعر ؛صانع التجربة ؛يملك القدرة على ترجمته في إطار تراكيبه اللغوية المعبِّرة عن خلجاته المحتدمة في أعماقه.
ومما هو شبيه باستعمال شاعرنا أننا نلحظ في أبياتٍ للشريف الرضي صورة (القلبِ المتلفَّت)؛وكأنَّه كيانٌ قائم بذاته ؛وذلك في قوله:
وَتَلَفَّتَت عَيني فَمُذ خَفِيَتْ
عَنها الطُلولُ (تَلَفَّتَ القَلبُ).
وتجدر الإشارة إلى أن
الشاعرالأمير عبد الله الفيصل رحمه الله أصدر ديواناً شعرياً أطلق عليه عنوان:(حديث قلب) وذلك في الثمانينات الميلادية.
وحول معنى الإجهاش المنصرف إلى معناه الحقيقي لا المجازي ؛نستأنس هنا بأبيات الشاعر العذري ابن الملوح؛إذ يستهلُّها بقوله:
وَأَجهَشتُ لِلتوبادِ حينَ رَأَيتُهُ
وَهَلَّلَ لِلرَحمَنِ حينَ رَآني !
وَأَذرَيتُ دَمعَ العَينِ لَمّا رَأَيتُهُ
وَنادى بِأَعلى صَوتِهِ وَدَعاني !
فَقُلتُ لَهُ أَينَ الَّذينَ عَهِدتَهُم
حَوالَيكَ في خِصبٍ وَطيبِ زمان؟!
فَقالَ مَضَوا وَاِستودَعوني بِلادَهُم
وَمَن ذا الَّذي يَبقى مَعَ الحَدَثان؟!
إنَّ (إجهاشة) قلب شاعرنا هنا ؛ يستحيل أن تُرى بالعين المجرَّدة كما أسلفت القول؛ولا حتى بالعين المُبصرة عندما تعبُر بها عبوراً فاتراً سريعاً ؛أو تمر بها مروراً
لا أناة فيه؛ولااستشعار(جُوَّاني) لطبيعةِ الغليان النفسي والشجون الثائرة في سماء الشاعر.
إنَّما الذي لايخفى أثره ؛ولايخفت بريقه؛ أن أصداء تلك (الإجهاشة القلبية) مما ينفذ إلى القلوب والأسماع؛ دون عناء ؛من خلال ماحملته التجربة من صدقٍ وحرارة وانفعال.
لاريبَ أن تجربة الشاعر هنا؛تبحر بنا -في ضوء استخدامه عنصر(تراسل الحواس وتبادلها)- بمنأى عن أفق الرؤية البصرية المحدودة؛إلى أفقِ الرؤية القلبية المتسعة؛(وناظر القلب لايخلو من البصر)وفقاً لتعبير الشاعر القديم.
ولعلَّ من أبرز مظاهر تلك (الإجهاشة المؤثرة)؛هذا الجانب الملحوظ الذي أُحبُّ الدندنة في محيطه؛أوعلى هامشه؛وهو:
-أنَّ شاعرنا استطاع التفنن في تعميق تجربته الفنية ؛وتوشيتها ؛بواسطة الإحالة على بعض الطقوس الحالمة؛ مما لها صلةٍ بواقعه المعاش وأحلامه المتطلِّعة؛فهو هنا يرمقها بعينيه وقد استحالت إلى بيادر قاحلة؛خلتْ جنباتها من النضارة والرواء؛وترتب على ذلك الخُواء الكوني أن ذبلتْ أفنانُها الخضراء؛وجفَّت ينابيع أُنسها؛ إلى الحدِّ الذي باتت فيه راضخةً لفعلٍ إقصائي أراد لها الجمود والشحوب؛بمعزل تماماً عن مواطن الفرح ؛والسرور؛والأوقات الصافية المترعة بأحاديث الغرام العذب؛ومذاقات الشهدِ المُصفَّى ؛حيث (الأمل الواهن مُلقَى في أكناف السراب؛وسط هاجرة النهار؛وحيث الليل الجريح ؛والأنجم اليتامى؛والكؤوس النازفة).
تلك المشاهد المتشحة بثياب الأسى؛عزَّ على الفاتنة المدللة (عطر كتاب الشاعر)كما سمَّاها الشاعر ؛أن تعيد إليها هالات الفرح المسلوب؛والبهجة المفتقدة ؛وأن تمنحها إكسير الحياة الهادئة الناعمة؛التي تملكها وحدها؛
وبدلاً من ذلك كله ؛كان سخاؤها عليه ؛وتضامنها معه؛-عكس المُراد؛والمُشتهى والمؤمل-أنْ(منحت العذاب) أضعافاً مضاعفة!
ولمن ياترى منحت (العذاب الصاهر) والشجن المرير ؟!
للشاعر المفتون بها؛المغرم بهواها؛المتفاني في عشقها إلى الأبد؛كما في هذا التصوير الدرامي الآسر:
مَدَدْتُ لِخَمْرِهَا كَأْسِيْ ، أَشَاحَتْ
بِخَدٍّ شَعَّ أَفْقَدَنِيْ صَوَابِيْ !
وأنَّى لهذا العاشق المطعون (بسيف الهجر ) أن يحظى بالوصال المنشود؟!
وطالما أن تلك (الإجهاشة القلبية) خفيَّة وكامنة في مناطق الأعماق المجهولة؛ -إلا على تلك المدللة- ؛فمتى ستخمد نارها المستعرة؟!
--------------------------------
-بعض ظواهر النص الفنية
-إننا هنا أمام نص رومانسي بامتياز؛احتشدتْ فيه الصور البيانية بقدرٍ عالٍ من الانسيابية؛كقوله:كَعِطْرٍ فِيْ كِتَابِيْ ؛ناحتْ أحرفٌ...الخ
- ألفاظ الشاعر مشحونةٌ بالتوتر والانفعال:مصابي؛عذابي ؛اغترابي؛الخ؛بما يؤكد احتلال التجربة بؤرة اهتمام الشاعر.
-استثمر الشاعر فيه مايُسمَّى(فنَّ التشخيص والتجسيم)؛فضلاً عن استثمار(فن تراسل الحواس) كما في العنوان الذي انطلق منه..
-اعتماد الشاعر الأسلوب الخبري؛ومن شأن ذلك الكشف عن أبعاد التجربة واستقصاء أسرارها العميقة.
-اعتماد (بحر الوافر) وهو بحرٌ سلسٌ طيِّع يستوعب التجارب الغرامية ويتلاءم معها.
وبعد فقد كانت تلك السطور محاولة لتجلية تجربة شاعرنا؛وإبراز بعض مواطن الجمال في أنغامها الحالمة؛إلى حدٍّ ما ؛راجياً أن أكون قد وفقتُ في تلك المهمة؛على أنَّ هناك جوانب فنية أخرى ؛قصر الحديث عنها لضيق الوقت؛
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.