يا لهذا الزمن.. زمن تقاربت فيه المسافات، و سادت فيه تقنية الآلات، و باتت كل أصقاع الدنيا تشترك في شبكة واحدة تلف الأرض كحزام ناسف، ليس من بارود أو رصاص بل من حبل يكاد يخنق رقبة هذا الكوكب، ويقطع أوداجه; حيث التقنية تملك الناس من حيث ظنهم بأنهم المالكون، و تسيطر عليهم من حيث قناعتهم بأنهم المتحكمون، ضاعت الأسرار في زخم الموجات الكهرومغناطيسية التي شوشت على أهل الأرض، و أزعجت حتى سحب السماء، و سبحت الأقمار الصناعية شامخة في فضاء مدار الأرض و لفّ الإزعاج سكينة هذا الكوكب، و سرق طمأنينته; فتحولت الأرض إلى مهرجان كبير ماجن يسوق سكانه نحو الهلاك ضجيجا. هذا التحول الهائل من رتابة الساقية، و براءة زقزقة العصافير، إلى نقيق أجهزة الإعلام ووسائله المستمرة، صنع طفرة خطرة لدى مواليد هذه الأجيال تكاد تتفوق على الطفرات الجينية فعالية و أهمية، طفرة نفسية و اجتماعية ثبتت فكرة الشهرة و الظهور لدى أغلب الشباب و الشابات، بل و جميع الأعمار من مراهقين و أطفال وكهول. فالسؤال الأهم- في ذهن الكثيرين- هو هل يعرفك الكثير؟ و السؤال الأهم كم عدد الذين يعرفونك و يعجبون بك ؟ و لربما كانت أجهزة الإعلام وبرامجه وراء هذا الهوس للشهرة و الظهور والتألق، فالإعلام يمول برامجه لتكريس فكرة الاشتهار و التنجم عبر برامج تفريخ النجوم و النجمات حتى توفر نجم لكل مواطن عربي، و صارت الشهرة لآليء تخطف بصر كل مراهق و شاب، و يتدفق العشرات لمثل هذه البرامج و وسائل التواصل تشتعل بكل مايغذي هذه الطفرة الوحشية حتى تعملقت و لم يعد باستطاعة أحد إيقافها و تحجيمها، تحول المجتمع إلى كثير من نجوم تسبح في فلك الشهرة و التعارف، و صار إطلاق برنامج أو قناة في اليوتيوب مهنة من لامهنة له بعد أن كان العلماء و القادة و المفكرون و الباحثون و المصلحون هم رواد الإعلام، أصبحت ريادة البرامج تشمل كل شاب لديه جهاز محمول و كفى و سقطت المعايير وتلاشت، و الانتقائية أضحت من أطياف الماضي فكل من لديه لسان تشدق، و كل من لديه جهاز تكلم و تفيهق، و استظرف كل سخيف ليدعى بأنه كوميدي و تفنن كل مخيف منفر فادعى بأنه فنان و متمكن.. فغرقت الوسائل و التلفزيون و غيره في بحور السباب و الإسفاف و ضمور الفكر و ظهور الفساد، فالحبال فلتت على الغارب بلا حسيب و لارقيب و صارت تلك البرامج و مطلقوها هم النماذج والمثل العليا التي يستقي الأطفال و المراهقون منها قناعاتهم و موسوعتهم اللفظية و القيمية. فقل لي بربك عن أي نهضة نتحدث و هذا حال أجيالنا، و الحقيقة لا أفهم للشهرة مزايا سوى أن يعرفني الناس و أتساءل ماذا و إن عرفوني!!! هل يرفعونني للمجد و ما المجد في أن أكون معروفا و مشهورا ؟ ربما لكسب محبة الناس.. كل ذلك جميل و لكن ماذا بعد، يظل ذلك المغرور أسير فقاعة الشهرة الوهمية الزجاجية إلى أن تفقأ و يسقط على الأرض فاقدا التوازن مكسورا متألما ، خاصة شهرة الغناء و الرقص و ماشابهها فالعرض أضحى أكثر من الطلب و الشهرة السريعة تذهب كما أتت من حيث كونها غلاف من غاز لايلبث أن ينفد و يتلاشى . قال الحكماء : "كم من فرح مغمور و كم من شقي مشهور"، و ليست العبرة بالنجومية و الظهور ، بل اعمل لتتفوق و اختر مجالا محترما، فإن اشتهرت بسبب تفوقك و تميزك بارك الله لك، و لكن حذارى أن يكون الظهور هدفك فهو هدف هلامي سطحي يسرق العمر و الجهد و يهدر الوقت بحثا عن سراب و ينتهي الكثير بلا حرفة مفيدة أو درجة علمية مشرفة .
وهج الشهرة .. دار صماء بلا سقف أو جدران .. و بحر .. لجي بلا ماء و زبد و حيتان .. و ليل أبدي بلا فجر يلوح بنور الشمس و يزدان .. الشهرة طوق يقودك جبرا نحو الإذعان.. لا أفهمها و لاتدركني.. فأنا أعرفني.. و ذلك خير من.. ألف إنسان..