مرحباً بأصدقاء الأدب والكُتب, هنا ملتقى الأدباء ومجلة الكُتاب العظماء, هنا حيث ننثر من ربيع الكلمات مطراً .. أهلاً بكم
وافت المنية أخي الغالي الشاعر العظيم ( إبراهيم جابر بقار مدخلي) قبل صلاة فجر الخميس الموافق١٤٤٤/١٢/١١هـ رحمه الله وغفر له وجعل مسكنه الفردوس الأعلى وإنا لله وإنا إليه راجعون
قد كنتُ ندا قويا شامخ الجلد
وبعد موتك دبَّ الضعف في جسدي
ما وسوستْ لي جِهاتي أنْ تفارقَني
يوما ولا دار هذا الحدسُ في خلدي
ما كنتُ أحسب دنيا الخوفِ تأسرني
على صفيح من الآهات للأبد
أخي وروحي وعنواني الذي ارتسمت
ضحكاتُهُ في خبايا داخلي الوَجِدِ
قد كنتَ حسِّي وأنفاسي وذاكرتي
ونبضَ قلبي وتفكيري أيا عضدي
واليوم تتركُني فردا بدائرتي
أحوم فيها كمجنونٍ أعض يدي
أَواهُ كلُّ الدُّنى تبكيكَ ما فتئت
تشتاقُ إطلالةً من ذلك الأسدِ
الكل يبكيك من قلبٍ فواأسفي
على فراقٍ لروحِ العز والسندِ
مشارق الأرض قد لفت مغاربَها
حزنًا على هامةِ الأجداد والولد
ماذا فعلتَ لأهلِ الأرض كي يثبوا
على وداعكَ تمجيدًا بلا عدد؟
لِسانك الشهد (إبراهيم) إن حضرتْ ملاحمُ الشعرِ ما جاراكَ من أحدِ
وإنْ توالى مُزاحٌ كنتَ أولَنا
ضحكًا تُترجم إحساسًا بلا نَكدِ
ما مات ذكرك ( إبراهيمُ) في بلدٍ
بل زاد ذكرك ( إبراهيمُ) في البلد
فتًى صدوقٌ عطوفٌ سيدٌ ورعٌ
كريمُ طبعٍ عفيفٌ بارئُ الحسدِ
حينَ الوداعِ دنت عيني لرؤيتِهِ
فما وجدتُ سوى مسكٍ لمنفرد
بياضه ناصعُ الأنحاءِ بسمتُهُ
تُغري وجثمانُه قد لُفَّ بالبَرَدِ
آهٍ (أبا منذرٍ) آهٍ أرددها على رحيلك في يومي وكلِّ غَدِ
ودعتك اللهَ ياطودًا قد اتكأت
عليه نفسي بيوم حالكِ الشِّدَدِ
عزاؤنا أنكَ الأنقى بما عَهِدَتْ
خِصالُك البيضُ يا طهرا غشى سَهدي
فارحمْ إلهي فقيدًا كلما بزغتْ
شموسُ كوني ليبقى واسع الرغد
محمد جابر بقار مدخلي
جازان – صامطة- مجعر
١٤٤٤/١٢/١٢هـ
تُعاتبني ملك، لا أجلس معها كثيرا. تُريد أن تلعب، لا تفقه أفعال التباعد وقوانين الحظر. إغلاق الحدائق والمنتزهات والشواطئ، حيث متعتها البكر. ماعادت الدمى تُشبعها. تُريد كائنات حية، تمتلك أيدٍ يُمكنها أن تحملها، تمسح على رأسها، تركض وراءها. لها عيون تنظر وفم يبتسم، يضحك. ووالدها قابع في مكتبه، رهين عمله. عمل عن بعد، تتماهي فيه خصوصيتنا مع أولويات العمل ورغبة أربابه. منطقة مُتقلبة اللون، تبع مزاج الشركة وقوانين السوق. وأنا رهينة عملي. يُسموننا ملائكة الرحمة. البعض لايرانا، فقد كنا منذ أزمنة طويلة؛ غير مرئيين. يمر أحدهم في أروقة المستشفى، يرى الأطباء، المستشارين. ربما ينظر من فوق كتفيه لعمال النظافة، يسأل مُمرضا أو مُمرضة، عرضا وهو في عبوره، إلى مريضه أو لرؤية طبيبه.
يخطفني الصباح، يُلقي بي هناك، ألهث من غرفة إلى غرفة، من مريض إلى آخر. مرة أدفع عربة الأدوية، مرة أسابق الريح وأنا أدفع جهاز غسل الكلى. أجهزة هنا، أجهزة هناك. تتبعثر همومي بين وجوه تقترب من الموت ووجوه تنسحب إلى زوايا اليأس. والآن، يبتلعني النهار كله أو الليل. مَلك ، لا تعترف طفولتها بمشاغل الحياة والظروف. لم تكبر بعد لتتذوق طعم القوانين والبرتوكولات. قطة صغيرة مشاكسة، تلعب في أوقاتها هي. تختارها على وقع مرحها وغبطتها، منتصف الليل، منتصف النهار، لا يهم ، فالوقت يمرح معها مثل قطتها البيضاء.
-ماما متى ترجعين؟
اسمعي .. حبيبتي..ماما هناك في العمل، مشغولة، لا يمكنها تناول جوالها. يقول أبوها وهو يحملها فوق كتفيه، يدور بها في الصالة، يُشتت صورة أمها، حتى تنسى فتنام.
ماذا أقول لها، عندما يلعقني لسانها؟
أنا مع المرضى .. ستقول عيناها البريئتان: تُحبينهم أكثر مني. والوقت مربك كما الكلام والإبتسامات تهرب، تلوذ بصمتها. قبلة قُبيل منتصف الليل، وهي نائمة. لاتُضاف إلى سجل الأمهات. أو دقائق معدودات،تتمرغ في أحضاني، وعقارب الساعة تطل بشراسة، دون حساب لوقت مُقتطع بين أم وابنتها.
تك..تك ..تك ، ويبدأ نهار آخر أو حتى يبزغ ليل آخر بطعم الآلام. أصوات أبواق سيارات الإسعاف، لاتهدأ ليل نهار. هل هي حرب كونية ؟ لكن لا معارك، لاميادين قتال. ذرات غير مرئية ، تُسمى فيروسات، تغزوا المعمورة. وكأنها معركة نووية لم تُعرف تفاصيلها. هل يموت الناس ، والحيوان وتبقى الأشجار؟ يقولون أن عباد الشمس، تمتص جذوره الإشعاعات وهو آخر من سيبقى على وجه الأرض. إذن.. وتلك الأشجار العملاقة، تموت من أول شمة دخان.
تلك البذلة البيضاء والكمامة الملتصقة بوجهي، تُقبّلني وأنا كارهتها. بياض يمشي على رجلين، أروقة بيضاء وأغطية بيضاء وغرف بيضاء. وهياكل بشرية تذوي. عيون جاحظة. ابتسامات ذاوية، ملامح هاربة.
تنفس جماعي، تقوم به أجهزة، غدت شحيحة. أسطوانات الأوكسجين، تقف ببرودة وصلابة. حتى جسمها الفولاذي، يشهد بقوتها الخارقة. ذات ليل تُشعل رواق هنا ورواق هناك. الأسطوانة واحدة، صُنعت من نفس المادة. لا تبتسم، في مستشفى كئيب متهالك أم في عيادات خمس نجوم. أنابيب مجوفة ومحايدة. أشعلتها الدهشة والخوف.
ملك تُداعب قطتها. تتحدث معها. تنصت الببغاء، تُخزّن الكلمات. وحين عودتي – يا لتلك الفضولية المشاغبة- تُطلقها في وجهي:
-ماما بعيدة، مامي لا تلعب معي، ماما تُحب المرضى، لا تحبني. ملاك..ملاك .. ملك .. ملك..مختار..مختار..
أفتح الباب بهدوء، مُتسللة ، كي لا تلمحني عيناها البرزخيتان. يدور رأسها الأخضر ، مثل كاميرات المراقبة بالأشعة تحت الحمراء:
-ملاك..ملاك..مساء الخير. ملاك ..ماما بعيدة..تُحب المرضى..لا تُحبني..
وبعض الأحيان تفز ملك على سماع صوتها، تنزل بمنامتها، تتشبث بقميصي الأبيض وهي تبكي.
-بس ماما.. ماما موجودة..ماما ملاك. حبيبة ماما.
أرفعها وألثمها تقبيلا. أدسها بيننا في الفراش بعد أن حرنت ولم تعد تطيق النوم في غرفتها. توشوش لي، أنام بعد سبع دقائق. تبتلعني دهاليز، غابات بيضاء، ضباب، أضواء حمراء،زرقاء. عويل، بكاء. أدوية،محاليل،معقمات،روائح تتطاير. همهمات،حشرجات. أنين. وتكبر وجوه، وتصغر وجوه،تنكمش،تتجعلك،تنوء بأشجانها وأحزانها. أجهزة النداء..د.محمد السامي الرجاء التواجد فورا في غرفة رقم ٩. د. أمل الفريحي.. الرجاء الحضور إلى غرفة عمليات أ. نقالات تُحمل بسرعة. بكاء أجهزة الرصد. مُحاولات إنقاذ، أرواح تتطاير. تركض واحدة بزي أزرق، تفتح الباب، تُصافح الهواء ووجوه مُنهكة، عيون دامعة. دخان سجائر مرة. السيارات تقف بالمرآب، أضواؤها تنود. قط أسود يموء ، يتعارك مع قطة رمادية.
أستيقظ والصداع يكبس رأسي. مختار يُحضّر الإفطار. ملك نائمة. أتناول خبزا محمص بالزبدة والفول السوداني، لا طعم له. كوب حليب بغبار الشاي والنسكافيه، نكهة شكوك وهروب.
… الجوال يعزف مقطوعة دودك، حزينة مثل صباح مغبر.
-آلو.. ملاك.. أسرعي إشراق .. إش ر ا ق..
سقط الهاتف، رجلاي تتحركان بلا إرادة. السيارة تلتهم الأسفلت. وجدتني هناك في ساعة الصفر. الغرفة صامتة، الوجوه دائرة تحيط بالسرير. أنبوب الأكسجين يتدلى في الهواء. شاشة الجهاز توقفت على الرسم البياني الراكض. ضباب ينتشر أمامي ، يغطي كل شيء، لا أرى بوضوح. الصور تتشابك، تدور ورأسي يدور، الغرفة تموج بي. أهوي، يسحبني مكان سحيق، ظلمة،ومضة ضوء ثم ظلمة. مصعد في اتجاه سفلي عكس المصاعد، نازل إلى عوالم سفلية. لازال ينزل وتتسع البقعة ويتناوب الضوء والظلام.
كَــأُمْـسِـيَـةٍ عَــذْبَــةٍ حَــالِــمَــة
تُـهَـدْهِـدُنِــي كَـفُّــكِ الـنَّـاعِـمَـة !!
وَ تَـأْخُـذُ بِـي أَخْـذَ كَـأْسِ الـمُــدَامِ
بِـصَـبَّـيْـنِ فِـي نَـشْـوَةٍ عَــارِمَــة !!
و تَـجْـتَاحُنِـي مِثلَ نَـظْـمِ القَصِيدَةِ
مِنْ نُـقْـطَـةِ الـبَـدْءِ لِـلْـخَـاتِـمَـة !!
وَ تَـرْسـمُـنِـي كَـوْكَـبـاً مِـنْ ضِـيَـاء ٍ
عَـلَى لَـوْحَةِ الـوحْـدَةِ الـقَـاتِـمَـة !!
وَ قَـدْ كُـنْتُ فِـي غُـرْبَـةٍ لا تُـطَـاقُ
تُـجَـلِّـلُــهَـــا خَـيْـبَـةٌ صَـادِمَــة !!
كَــغُــرْبَـــةِ أَوَّلِ يَــوْمٍ لِــشَــيْــخٍ
مِـنَ الـبَـدْوِ يَـنْـزِلُ لِـلْـعَـاصِـمَــة !!
دَعِـيهَـا تُـطَـوِّق خـصْـرِي وَ تَـغْـفُـو
وَ لا تُـزْعِـجِـي طِـفْـلَـةً نَـائِـمَــة !!
دَعِـيـهَـا فَـبِـي ألْـفُ مَـحْـلٍ هُـنَـاكَ
يُـرَجِّــي سَـمَـاوَاتِـهَـا الـغَـائِـمَــة !!
إذَا الأرْضُ لَـمْ تَـلْــقَ جُـودَ الـسَّـمَـاءِ
سَـتَـفْـنَـى و أعْــلامُـهَـا قَـائِـمَــة !!
دَعِـيـهَـا تُـضَـمِّـدُ جُـرْحَ الـغِــيَـابِ
وَ كَلْمَ سُـيُـوفِ الـجَـوَى الـصّـارِمَـة !!
وَ قُـومِـي لِـنُـشْـعِـلَ هَـذا الـمَـسَــاءَ
وَ نَرْوِي ظَمَا الأنْـفُـسِ الـصّـائِـمَـة !!
وَ نَـبْـنِـي قُـصُــوراً مِـنَ الأُمْـنِـيَـاتِ
وَ نَـنْسَى فُصُولَ الأسَـى الـظَّـالِـمَة !!
فَمَا زَالَ فِـي مَـسْـمَـعِـي قَـوْلُ جَـدِّي
بِـمَا فِـيـهِ مِنْ حِـكْـمَـةٍ عَـائِـمَـة !!
مَـسَـاكِـيـنُ أهْـلُ الـهَـوَى والـغَـرَامِ !!
ذَوُوا الأَنْـفُـسِ الـبَـرَّةِ الـهَـائِـمَــة !!
يَـسِـيرُونَ في النّاسِ أَحْـيَـاءَ مَـوْتَـى
فَـأنَّــى تَـقُــومُ لَـهُــمْ قَـائِــمَــة !!
فَــإِنْ حَــقَّ مَـا قَـالَ فَـلْـنَـبْـتَــدِرْهُ
وَ إنْ لَــمْ نَــجِــدْ لَــذَّةً دَائِــمَـــة !!
فَـأَرْخِـي قِـيَادَكِ واسْـتَـسْـلِـمِـي لِـي
فَــلا لائِــمَ الــيَــوْمَ أوْ لائِــمَــة !!
وَلا تَـهْـدِمِـي حلْـمَ ثَـغْـرَيْـنِ عَـاشَـا
يَـتُـوقَـانِ لِـلَّـحْـظَـةِ الـحَـاسِـمَـة !!
نَـصَـحْـتُـكِ كَـيْ لا تَـكُـونِـي إذَا مَــا
طَـوَتْـنَـا صُـرُوفُ الـنَّـوَى نَـادِمَــة !!
وَ إنْ خِـفْـتِ مِنْ سَـوْرَتِـي عَـلِّـلِـيـنِي
بِـلَـثْـمِـكِ فِـي الـمَـرَّةِ الـقَـادِمَــة !!
وَ حَـسْـبِـي و حَـسْـبُـكِ أنَّ (عَـلِـيّـاً)
على الـعَـهْـدِ مَا زَالَ يَا (فَـاطِـمَـة) !!
وأتيتُ نحوك مثل طفلٍ تائهٍ
لم يلق في وسط الزحام أباهُ
يبكي ويصرخ لا مجيب لصوتهِ
وأتى الظلام بقسوةٍ غطاهُ
ويرى جميع الناس أعداءً له
والكل ينوي بالزحام أذاهُ
حيران لا يدري نهاية دربه
أو أين تمضي بالدجى قدماهُ
ومضى يفتش عن أبيه باكياً
وتشرَّدَت بين الظلام خطاهُ
ظمآن لا ماءٌ يلذ لثغره
وكذاك جوعٌ قارصٌ أعياهُ
والوقت سيفٌ قاطعٌ في نحره
والبعد عن أحبابه أشقاهُ
حتى إذا ما السير أضنى جسمه
وتكسرت من سيرها رجلاهُ
والحزنُ عذَّبَه ومزَّقَ قلبه
ويحسُّ أن الموت قد وافاهُ
ألقى على ذاك الرصيف برأسه
ترتاح فيه هنيهةً عيناهُ
فإذا بكفٍ في المنام تهزه
وإذا بصوتٍ دافءٍ ناداهُ
انهض فدتك أيا صغير جوارحي
يا عشق قلبٍ أنت كل مناهُ
من فرحه لم يدرِ كيف يضمه
أو كيف يصرخ مرحباً أبتاهُ
وتعانقا دمعاً بكل براءةٍ
وتمسَّكت عشقاً به كفاهُ
عادت له من بعد يأسٍ روحه
وكأنه من موته أحياه