إنها قصيدة باذخة ، لشاعر شامخ ، أما القصيدة فهي ( الدفتر الـمصلوب) ، وأما الشاعر فهو أبوالهيثم محمد جابر المدخلي ، الشاعر المعلم ، فالمعلم يجيد فن القول ، ومتفوق في توصيل ما يريد قوله ، وحينما يتحد المعلم والشاعر في شخص واحد ، فلا تنتظر غير الجمال ، وذاك هو الذي نجده لدى محمد المدخلي .
عتبة العنوان من أهم العتبات في تأمل النص الشعري؛ لأنه أول ما
تقع عليه عينا المتلقي ، فالعنوان لابد أن يكون مغريا ومثيرا ، وقابلا للتأويل ؛ حتى يجذب المتلقي لقراءة النص ، ولو نظرنا في عناوين قصائد شاعرنا نجده يتمتع بقدرة فائقة على اختيار العنوان مدخلا للقصيدة ، فهو بارع جدا في انتقاء عناوينه ، كما هو بارع جدا في نظم قصائده ، فلو نظرنا في بعض عناوين قصائد الشاعر نجد كل عنوان بمثابة قصيدة ، من حيث المفردات والصياغة والخيال ودقة التركيب، ومن تلك العناوين :
رعشةُ الذكريات، و َعثْرةٌ على فوضى الغرام ، أوجاع على باب َمخلوع ،
وعنوان قصيدتنا موضوع التأملات الحالية : الدفتر المصلوب .
وإن تتبعنا قصيدة "الدفتر المصلوب" ، فالقصيدة عبارة عن قصة حب نسجها شاعرنا بضمير المتكلم ، وهو المحب العاشق الذي قطع قربا لذلك الحب ، لكن تقطعت سبل الوصال ، وتصرمت حباله ، ونجح في استخدام عدد من الكلمات التي تخدم ذلك الغرض ومنها : شد ، حبل ، نسج ،المفتول ،وصلا لحبل ... ؛ مما جعل مدلول رمزية مقصده واضحة ، لكنها عميقة ، فهذه الرمزية المحببة للمتلقي ، أن يعطيه الشاعر مفاتيح يتمكن بموجبها فك رمزية الشاعر ، لا أن تكون الرمزية غموضا يستحيل معها فهم مرام الشاعر .
ثم ينتقل إلى توضيح التشظي الذي أصاب قلبه ، فالأسئلة تخرج من قلب محطم ، بدافع ذلك الخداع الذي أصابه ، والغدر الذي ألم به ، وإجابات هذه الأسئلة حيرت الأفكار ، وفرقت النبأ.
فقد عانى من الغدر ، وأصابته الدهشة الكبرى لما حدث من غدر وخداع ، وكثرت جروحه ، وأضحى هائما على وجهه في البيداء ، ولم يدر وجهته ، ولم يجد كلأ سوى فتات نفسه ، ثم يبرز الدفتر المصلوب - عنوان النص- بعد بحث وتفتيش، لكنه لا يبقى صامدا ، فما أن يقرأه حتى تتلاشى سطوره.
ثم سكنته الحيرة ، وما عاد له أنيس ، وبقي سجينا لآلامه التي امتدت وتطاولت بحجم الكون ، لكنه يعود إلى قوة إيمانه ، ويلجأ لرب العزة الذي ما خاب لاجئ إليه ، ثم ينتظر الأمل ، فيختم بهذا الاستفهام الذي يخرج عن غرضه الحقيقي لغرض التمني :
فهل تعود المُنى ومالِتسقيني ماء الحياة لِـماضِ ودع الظمأَ
هي قصيدة تنتحي أحيانا في بعض أجزائها ناحية درامية ؛ حيث يبرز
الحوار فيها :
فَقُلت: ماذا تراءى للحبيب وما تَصاعد الحس إ لاّ ِخلتُهُ َهدأ؟
برع الشاعر في نسج صوره ، وأجاد في توظيفها حسب مقتضيات
النص ، ومن ذلك تلك الصورة المعبرة التي أراد بها الشاعر توضيح أن حزنه كبير، وألمه ممتد، وآهاته عظيمة ،تفوق كل المخلوقات :
الكوُن لْمَ يتَِّسْعِ للآِهِ مـْن ألَـمي ولَّالفضاء اُتأ وماخالقيَ بَرأ
وهذه مبالغة ، لكنها حسنة، وليست ممقوتة .
شاعرنا بارع جدا في انتقاء مفرداته ، وكلها ذات إيحاء وظلال ، ومع كثرة الترادفات في اللغة ، لكنه يحسن اختيار المرادف الذي يكون مميزا عن غيره في دقة إصابة المعنى ، ومن ذلك قوله : خاتلتني ، فكان يمكنه أن يقول خادعتني، بنفس الوزن ، ونفس المعنى ، لكن هنا يبرز تميز محمد المدخلي ، وهذه ميزة تسمو به على كثير من الشعراء .
وهنا مفردات متقدة ، تخدم مجالا محددا ، تتضافر معا ؛ لتعطي النص قوة ، وذلك يتمثل في : وميض ،اشتعال ، انطفأ ... وهذا قمة التكثيف:
عاثْتِبِه ُظْلَمةُ الأنحاِء واشتعلْت أقداُحهُِ مـْن وميِض الْغْدِر فَاْنَطفَأَ
يحشد الشاعر عددا من الصور التي تصب في المتخيل الشعري ،
فيمنح المتلقي جمالا يفوق الوصف ، ومن ذلك :
الاستعارة في :
لحقني صدى جروحِ لتسبقني ماءَ الحياةِ لـماضِ ودع الظمأ
ويأتي بالترادف الذي يؤكد المعنى في :
انطفأ ، تلاشى
كما نلمح الطباق ؛ حيث التضاد الذي يوضح المعنى، وذاك كثير في النص، سواء كان تضادا بين مفردات أو بين مواقف ، ومن ذلك الطباق بين :
تَصاع َد ، هدأ ، وأيضا بين : أ ْسئلةٌ ، َجوابُها كما يجيد شاعرنا صوغ الكنايات بشكل احترافي، ويبدو ذلك في
مواضع كثيرة من النص، ومنه:
ما خالقي َبرأ
وهي كناية عن موصوف، ويقصد بها جميع المخلوقات التي برأها
الخالق البارئ عز وجل .
وهنا كناية أخرى عن موصوف أيضا ، والمقصود بها "رب
العالمين" في :
َسأَشتَكيه ِلـمـن تَأتي الخصوم لَهُ
ثم يبرز التشخيص في :
ل ح ْب ٍل ش ا َخ تدافعت أسئلة
ينوع شاعرنا بمهارة بين الجمل الاسمية ، ومنها :
َجيشان في لَ ْهو ِه العاتي الكو ُن ل ْم َيتَّ ِس ْع ِللآ ِه ِمـ ْن ألَـمي
والجمل الفعلية ، ومنها :
َم َك ث ْ ُت ح ي ر ا َن لَّ َح ْد ٌس ي ؤ ا ن س ن ي َو َع ا َش ِس ْج ن ً ا ِب ق ُ ْض ب ا ٍن ل َ ه ُ
لكن استخدامه للجمل الفعلية كان أكثر، وذاك لأن النص يضج بالحركة
ولا يقبل السكون ، فكان ملائما جدا أن تكثر فيه الأفعال .
ومن ذلك أنه حشد بعض الأبيات بعدد من الأفعال المتعاقبة ؛ مما
أدى إلى منح النص حيوية وحركة دؤوب ، يتضح ذلك في هذا البيت الذي ذكر فيه الشاعر أربعة أفعال :
لعَّلإيماءةًللودتَْجَعلُني أُقيُم َو ْصًلالحْبٍلشا َخواهتَرأ
تلاعب الشاعر باقتدار بأماكن الكلمات ، فقدم ما حقه التأخير؛ كي
يمنح النص معاني إضافية ،ويفتح له آفاقا احتمالية أوسع ، ومن ذلك :
َش َّد َح ْب َكتَهُ َوفا ُء َح ْر ٍف
فترتيبها الطبيعي : شد وفا ُء حر ٍف حبكته ، فأ ّخر الفاعل وقدم المفعول به.
يعتمد الشاعر الحذف للاختصار ؛ فـ : " حذف ما يُعلم جائز "، ومنه :
َجيشاِنفيلَْهوِهالعاتيتُعارُكهُ ِريُحالصباباِتِمـْنَحْصبائها َصَبأَ
أي هما جيشان ، فحذف المبتدأ للعلم به وللاختصار. وكذلك في البيت :
الكوُن لْمَ يتَِّسْعِ للآِهِ مـْن ألَـمي ولَّالفضاء اُتأ وما خالقيَ بَرأ
فأصل المعنى : ولا الفضاءات تتسع ... لكن المعنى مفهوم يفسره الفعل المذكور قبله.
واتكاء على ثقافته القرآنية ، نجد أن شاعرنا يقتبس من القرآن الكريم
قصة الهدهد وسبأ في سورة النمل ، حينما يقول :
َمَكثْ ُتحيرا َنلَّ َحْد ٌسيؤانسني َو ُهْد ُهِديغا َبعنيواقتفى َسَبأ
وهذا من قوله تعالى : " مالي لَّا أرى الهدهد..." النمل 20 و " وجئتك من سبأ بنبأ يقين " النمل 22
تنوعت أساليب شاعرنا في نصه ما بين الخبر والإنشاء ، فمن الإنشاء
نجد الترجي في :
لعَّل إيماءةً للود تَْجَعلُني أُقيُمَ وْصًلا لحْبٍل شاَخ واهتَرأ
والاستفهام بغرض التمني :
فََهْل تَعُوُد الـُمنىَ يْوًماِ لتَْسِقَيني ماَء الحياِةِ لـَماٍضَ وَّدَع الَّظَمأَ
واستفهام آخر بغرض التعجب :
ماذا دهى النبرةَ القُصوى َو َسطوتَها أم ُكلَّما لَّح َصوتي للوصال نَأَى؟!
القصيدة من بحر البسيط الذي "يبسط لديه الأمل" بتفعيلاته الثنائية : مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن ، تتكرر مرتين في كل شطر ، والبسيط بحر رحب طويل ، يتسع لاحتواء مكنونات الشاعر ، ويقدر على استيعاب معانيه ، مهما كثرت .
أما حرف الروي فهو الهمزة ، والهمزة حرف حلقي عميق المخرج قوي الصوت ، وهنا اختار شاعرنا أن تأتي همزته مفتوحة ، كانه يوحي لنا بإطلاق معانيه ، وتدفق صوره دون توقف.
جاء البيت الأول مصرعا ؛ حيث اتفق آخر حرف في كل شطر منه:
قَ َط ْع ُت قُ ْربًا ِلذَا َك ال ُح ِب ُم ْذ َب َدأَ فَخانني نَ ْس ُجهُ الـ َم ْفتو ُل َواتَّ َكأ
والتصريع، ويس ّمى أيضا التقفية الداخليّة، يكون باتّباع عروض البيت لضربه.
حرف السين ، وهو من حروف الصفير، أعطى الأبيات جرسا
موسيقيا رائعا ، وذلك بتكراره كثيرا في النص، ومنه ثلاث مرات في بيت واحد:
َمَكثْ ُتحيرا َنلَّ َحْد ٌسيؤانسني َو ُهْد ُهِديغا َبعنيواقتفى َسَبأ
كذلك تكرار حرف القاف في بيت واحد ثلاث مرات ، له أثره في
إحداث نغمة موسيقية :
تَقَلَّبت ِقبلَتي بالبيد ماو َجدت إلا فُتاتي ِلكي يبقى لَهُ َكلَ
ويختم شاعرنا قصيدته "قصته" بهذا التساؤل المفتوح الذي يحمل
معنى التمني :
فََهْل تَعُوُد الـُمنىَ يْوًماِ لتَْسِقَيني ماَء الحياِةِ لـَماٍضَ وَّدَع الَّظَمأَ
الدفتر المصلوب نص ماتع ، عميق ، فاره، باذخ ، لشاعر عظيم ،
متفرد ، متمكن ، لا أدعي أنني أحطت بالنص من جميع جوانبه في هذه القراءة التأملية ، فعبقرية المدخلي صعب سبرها ، ولكن حسبي أنني أطلقت إشارات ،تضيء الطريق لقراءات أكثر عمقا .
( الدفترُ الـمصلوب)
قَطَعْتُ قُرْبًا لِذَاكَ الحُبِّ مُذْ بَدَأَ
فَخانني نَسْجُهُ الـمَفْتولُ وَاتَّكَأ
على دَفِينٍ وَشَعْرٍ شَدَّ حَبْكَتَهُ
وَفاءُ حَرْفٍ لِتِبْرٍ يَنْبُذُ الصَّدَأ
تَدافَعَتْ في شَظَايا القلبِ أسْئلةٌ
جَوابُها شَتَّـتَ الأفْـكارَ والنَّبَأَ
ماذا دهى النبْرةَ القُصْوى وَسَطْوتَها
أمْ كُلَّما لاحَ صَوتي للوصَالِ نَأَى؟!
أينَ الـمرايا التي باتتْ تُحَدِّثُني
قدْ خاتلَتْني بِجُرْحٍ بيننا نَكَأَ؟
لَمْ تَدَّخِرْ عَمْدَ تَعْذيبٍ تَقُدُّ بِهِ
خَيطًا لِذَاكرتي يَقْتادُني خَطَأَ
أُصِبْتُ بالدهشةِ العُليا وَلاحَقَني
صَدَى جُرُوحٍ تَعَالَتْ كُلَّما طَرَأ
تَقَلَّبَتْ قِبْلَتي بالبيدِ ما وَجَدَتْ
إلا فُتاتي لِكي يَبْقى لَهُ كَلَأَ
فَقُلْتُ: ماذا تراءى للحبيبِ وما
تَصاعدَ الحِسُّ إلَّا خِلْتُهُ هَدَأ؟
جَيشانِ في لَهْوهِ العاتي تُعاركُهُ
رِيحُ الصباباتِ مِـنْ حَصْبائها صَبَأَ
عاثتْ بِهِ ظُلْمَةُ الأنحاءِ واشتعلتْ
أقداحُهُ مِـنْ وميضِ الغْدْرِ فَانْطَفَأَ
يُفَتِِّشُ الدفترَ الـمصْلوبَ مُعْتَمِدًا
على سُطُورٍ تَلاشَتْ حَيثما قَرَأ
مَكَثْتُ حيرانَ لا حَدْسٌ يؤانسني
وَهُدْهُدِي غابَ عني واقتفى سَبَأ
وَعَاشَ سِجْنًا بِقُضْبانٍ لَهُ استندتْ
على عَذَابٍ لِـمَـنْ في قَلْبِهِ نَشَأَ
الكونُ لمْ يَتَّسِعْ لِلآهِ مِـنْ ألَـمي
ولا الفضاءاتُ أو ما خالقي بَرَأ
سَأَشْتَكيه لِـمَـنْ تَأتِي الخُصومُ لَهُ
على صَغَارٍ وَمَا خَابَ الذي لَجَأَ
لعلَّ إيماءةً للود تَجْعَلُني
أُقيمُ وَصْلًا لحبْلٍ شاخَ واهترَأ
فَهَلْ تَعُودُ الـمُنى يَوْمًا لِتَسْقِيَني
ماءَ الحياةِ لِـمَاضٍ وَدَّعَ الظَّمَأَ