تشي كلمة التناص (( intertextualite)) بوجود تداخل أو تفاعل أو تشارك بين نصيين قديمين أو حديثين شعراً أو نثراً باستحضار أحدهما في الآخر , بحيث يستحضر الأديب النص الأدبي القديم السابق ويوظفه في النص اللاحق أو الحاضر , ويكون هذا النص السابق حرفيا كما في التضمين والاقتباس والاستشهاد – سواء أكان بيتاً من الشعر أم جزءاً من بيت , أم مثلاً أم حكمة – , أو يكون أسلوبياً وإيقاعياً كما في الوقوف على الأطلال أو المعارضات أو النقائض أو المحاكاة أو البناء كما في محاكاة المقامات أو يكون مجازياً كما في استحضار الأساطير والقصص الشعبية , وكل هذا يعني أن يستحضر الأديب المعاصر نصاً ممن سبقه بنصه أو بروحه أو بأسلوبه لغاية فكرية أو فنية ؛ لأن النص – كما يقول عبد الله الغذامي – هو إناء يحوي بشكل أو بأخر أصداء نصوص أخرى .
وإذا ما تتبعنا نشأة التناص (( intertextualite)) وبداياته الأولى كمصطلح نقدي نجد أنه كان يرد في بداية الأمر ضمن الحديث عن الدراسات اللسانية , وقد وضح هذا المفهوم أعني التناص عند العالم الروسي ميخائيل باختين , وإن لم يذكر هذا المصطلح صراحة و اكتفى بـ (تعددية الأصوات)، (والحوارية)، وحلّلها في كتابه (فلسفة اللغة)، وكتاباته عن الروائي الروسي (دستوفيسكي) من خلال كتابه (فلسفة اللغة) والتي تدور حول مفهوم الحوارية في النص الروائي , فقد حدد باختين انطلاقا منه ظاهرة تعدد الثقافات في النص الروائي على الخصوص .
ويرى باختين أن الحوارية تتجلى في النص عبر ثلاثة مظاهر هي : التهجين ويقصد به المزج بين لغتين اجتماعيتين داخل ملفوظ واحد , والعلاقات الحوارية المتداخلة بين اللغات وهي التي تتجسد في الحوارات الأيدولوجية والثقافية غير المباشرة , والحوارات الخالصة ويقصد بها الحوار العادي بين الشخصيات الحكائية .
وعنى باختين بالتناص : الوقوف على حقيقة التفاعل الواقع في النصوص في استعادتها أو محاكاتها لنصوص – أو لأجزاء – من نصوص سابقة عليها .
وإذا كان باختين لم يستخدم مصطلح التناص صراحة فقد اعتمد على مفاهيم أخرى تدشن له كالتفاعلية والتفاعلية السيميائية , وتفاعلية السياقات , والتفاعلية الاجتماعية اللفظية , وتتطور هذه التفاعلية ويستوي سوقها عند تلميذته الباحثة البلغارية جوليا كرستيفا حيث أجرت استعمالات إجرائية وتطبيقية للتناص في دراستها ( ثورة اللغة الشعرية ) وعرفت فيها التناص بأنه { التفاعل النصي في نص بعينه } , كما ترى جوليا أن { كل نص يتشكل من تركيبة فسيفسائية من الاستشهادات وكل نص هو امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى } .
وقد خاض في غمار هذا المصطلح بعد كرستيفا الكثير من الباحثين كريفاتير وبارت ودريدا غير أن التناص ظل مطاطيا غير مقنن ولم يكتسب قيمته المنهجية ووضوحه إلا على يد الباحث الفرنسي جيرار جينيت الذي انتقل بالمصطلح انتقالاً عميقا فاعتبره نمطا من أنماط العلاقات غير النصية لذا لم يعد التناص عنصرا مركزيا لكنه واحدة من بين علاقات أخرى يندرج في قلب شبكة تحدد الأدب في خصوصيته , أي تحدد شعرية العمل أو النص .
وإذا كان الشكلانيون الروس قد تنبهوا إلى مفهوم هذا المصطلح بشكل مبسط فإن كرستيفا استطاعت أن تستنبط هذا المصطلح « التناص » من خلال قراءتها لباختين في دراسته لأعمال دستويفيسكي الروائية حيث وضع مصطلحي تعددية الأصوات والحوارية دون أن يستخدم مصطلح التناص . وبذلك تكون الرواية أول الأجناس الأدبية معملاً إجرائيًا لهذا المصطلح دون تسمية ، وتكون ـ أيضًا ـ جوليا كرستيفا عام 1966م أول من استخدم هذا المصطلح قاصدة به (( أن كل نص هو عبارة عن فسيفساء من الاقتباسات، وكل نص هو تشرب وتحويل لنصوص أخرى)) .
ولقد اعتمدت في ذلك على منهج التحليل النفسي جاعلة منه « خطاب الحياة الفكرية والعقلية ومعتبرة إياه نوعًا من الملازمة الجوهرية في ثقافتنا ».
ورغم ذلك فإن كرستيفا انصرفت عن مصطلح التناص فيما بعد وآثرت عليه مصطلحًا آخر هو «التنقلية» ولقد تعددت المفاهيم التناصية وتشعبت المدلولات، غير أن مصطلح التناص ظل حاضرًا عبر جميع الاتجاهات الأدبية الحديثة، وإن تباينت القيمات الدلالية للمفهوم داخل كل اتجاه مع الاتجاه الآخر محاولة من النقاد في تبين جزيئات هذا المصطلح.
ثم التقى حول هذا المصطلح عدد كبير من النقاد الغربيين وتوالت الدراسات حول التناص وتوسع الباحثون في تناول هذا المفهوم وكلها لا تخرج عن هذا الأصل ، وقد أضاف الناقد الفرنسي جيرار جينيت لذلك أن حدد أصنافاً للتناص وهي :
*- التناص أو التناصية , ويقصد به ما جاءت به جوليا كرستيفا ويحدده بعلاقة حضور مشترك متزامن لنصين أو أكثر داخل إطار نصي واحد , ويتم عبر آليات ثلاث محددة وهي : الاقتباس والسرقة والإيحاء . وزاد تيفن ساميول ونتالي غروس آلية رابعة هي : الإحالة .
*- المناص أو محيطية النص أو الملحق النصي , وهو كل ما يحيط بالمتن ويجعل منه متناً / نصاً ويقسمه جيرار جينيت إلى قسمين : الأول :
النص المحيط كالعناوين الجانبية أو التحتية , المقدمات والتمهيد والخاتمة والهوامش .
والثاني : النص الفوقي .
*- الميتانص أو انشراح النص أو الماورائية النصية , ويتمثل في علاقة الشرح والتفسير أو التعليق الذي يربط نصاً بآخر يتحدث عنه دون أن يذكره أحيانا , ويستدعيه دون أن يسميه.
*- جامعية النص ويتمثل في العلاقة البكماء التي تربط النص بجنسه وهي – كما يرى جينيت – تخص القارئ أكثر من الكاتب من حيث تحديد المؤشر الجنسي للعمل حتى وإن كتب عليه مؤشر جنسي محدد كقصة أو رواية أو شعر إلا أنها تظل في تحديدها مرهونة بالقارئ الذي تهيئ أفق انتظاره لتقبل العمل الأدبي .
*- التعلق النصي أو لاحقية النص , وهو ما يشتغل عليه جيرار جينيت أكثر من الأقسام الأخرى ويعني به اشتقاق نص لاحق ويسميه النص ( ب ) من نص سابق عليه في الوجود ويسميه ( أ ) ويتم إعادة إنتاج النص اللاحق عن طريق المحاكاة كمعارضة نص لنص بمعنى كتابة نص قديم برؤية حديثة . أو عن طريق التحويل كتحويل النص من صيغة لأخرى أو من نوع لآخر كالإعداد المسرحي أو السينمائي لنص روائي .
ويتم التحويل هذا بطرق متعددة منها : التحويل الكمي – التحويل الصيغي – استبدال الحوافز – التحويل القيمي . وأشار جينيت إلى أن هذه الأنماط متداخلة يكمل بعضها بعضا ولا ينبغي الفصل بينها ؛ لأنها كثيرا ما تتكامل وتتوحد .
وبعد ذلك اتسع مفهوم التناص وأصبح بمثابة ظاهرة نقدية جديدة وجديرة بالدراسة والاهتمام وشاعت في الأدب الغربي ، ولاحقاً انتقل هذا الاهتمام بتقنية التناص إلى الأدب العربي مع جملة ما انتقل إلينا من ظواهر أدبية ونقدية غربية ضمن الاحتكاك الثقافي .
ونحن وإن قيل إن هذا المصطلح النقدي دخيل على الثقافة العربية والنقدية فإننا نؤكد أن له جذوراً في النقد العربي القديم .
جاء في كتاب تلخيص المفتاح في المعاني والبيان والبديع للخطيب القزويني في فكرة الاقتباس والتضمين والعقد والحل والتلميح، يقول عن الاقتباس هو : { أن يضمن الكلام شيئا من القرآن أو الحديث } . فالذي يظهر من تحديده لهذا المفهوم وجود بذور لفكرة التناص في النقد العربي القديم، من خلال التقاطع الحاصل بين كل من الاقتباس والتناص المباشر، كما أن حديثه عن مفهوم التضمين يبقي جذور التناص لديه، لكن مع اختلاف أساليب تحديد نوعية الأخذ , وذلك أن يضمن الشاعر شعره شيئا من شعر الآخرين , وأشار إلى مفهوم العقد، وهو تنظيم نثر على طريق الاقتباس، أو بمفهوم الحل وهو جعل النظم نثرا، أو إلى مفهوم التلميح الذي يكون بالإشارة إلى قصة أو شعر من غير ذكر مصدر هذا الأخذ، وهنا يتطلب حضور القارئ النموذجي ليستقرئ هذا الأخذ.
ولا نجد هنا مناصاً من الحديث عن قضية السرقات الشعرية وهي قضية تضرب بجذورها إلى أبعد من القرن الثالث الهجري حينما ظهرت قضية اللفظ والمعنى على مسرح النقد , وأول من أشار إليها من النقاد هو ابن سلام الجمحي , نجده ينبه إلى فكرة المعنى الذي تدوّول حتى استفاض وصار كالمشترك فيقول : (( إن امرأ القيس سبق العرب إلى أشياء ابتدعها واستحسنها العرب , واتبعته فيها الشعراء منها : استيقاف صحبه , والبكاء على الديار , ورقة النسيب , وقرب المأخذ , وتشبيه النساء بالظباء والبيض , والخيل بالعقبان والعصي وقيد الأوابد , وأجاد التشبيه .. )) .
وابن سلام بذلك يلمح إلماحة خفيفة إلى أن هناك معاني مبتدعة لأصحابها فضل السبق إليها , ولكنها على مر العصور تناولتها الشعراء فأصبحت كالمعاني المشتركة المتداولة بينهم .
وجاء ابن قتيبة فعرض في كتابه الشعر والشعراء لكثير من القضايا النقدية , وأفاض القول في بعضها غير أنه لم يقف طويلاً عند قضية السرقات , بل أشار إليها من بعيد إشارة تنم عن بعض مقاييسها . فهو يقول : (( كان الناس يستجيدون قول الأعشى :
وكأس شربت على لذة *** وأخرى تداويت منها بها
إلى أن قال أبو نواس :
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء *** وداوني بالتي كانت هي الداء
فزاد فيه معنى اجتمع له به الحسن في صدره وفي عجزه , فللأعشى فضل السبق إليه , ولأبي نواس فضل الزيادة عليه )) .
والمقياس النقدي الذي ننسبه إليه هاهنا هو : (( أنه يجوز للشاعر أن يلم بمعاني السابقين ما دام قد أحسن فيها بالزيادة عليها أو بتأكيدها , وهو بهذا يخرج بالسرقة من دائرة الاتهام إلى دائرة الفن فلا يهم الناقد سبق المعنى أو تأخره , ولكن تهمه الموازنة بين السابق واللاحق لمعرفة الفاضل من المفضول )).
وهذا الأخذ الذي أشار إليه ابن قتيبة هو ما سماه البلاغيون المتأخرون إغارة أو مسخاً , وتكون مقبولة إذا اختص الثاني عن الأول بفضيلة كحسن السبك أو الاختصار أو الإيضاح أو زيادة في المعنى , وأبو نواس قد زاد على الأعشى في المعنى .
ونحن لا نريد أن نقف عند الملاحظات الجزئية التي نجدها في كتاب الطبقات لابن سلام أو كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة , أو عند ما اتهم به الشعراء كجرير والفرزدق , فتلك أخبار تاريخية حظ النقد فيها ضعيف , ولذلك ينبغي أن نعنى بالدراسة المنهجية , وأغلب الظن أن دراسة السرقات دراسة منهجية لم تظهر إلا عندما ظهر أبو تمام ؛ وذلك لأمرين :
1- قيام خصومة عنيفة حول هذا الشاعر , ولاسيما التعصب لمذهب البديع الذي يقوده , ومذهب عمود الشعر الذي يتزعمه البحتري .
2- ثم لأنه عندما قال أصحاب أبي تمام إن شاعرهم قد اخترع مذهباً جديداً وأصبح إماماً فيه , لم يجد خصوم هذا المذهب سبيلاً إلى رد ذلك الادعاء خيراً من أن يبحثوا للشاعر عن سرقاته ليدلوا على أنه لم يجد شيئاً وإنما أخذ عن السابقين ثم بالغ وأفرط .
وأكبر دليل على أن دراسة السرقات دراسة منهجية قد نشأت عن تلك الخصومة هو استعمال ذلك اللفظ سرقات بدلاً من الأخذ عند ابن قتيبة , أو السلخ عند أبي الفرج الأصفهاني .
وكان أول كتاب ألف بهذا العنوان كتاب عبد الله بن المعتز { سرقات الشعراء } ثم تلته كتب أخرى تناولت هذه القضية بالدراسة والعمق , ومنها كتابا عبد القاهر الجرجاني { دلائل الإعجاز – وأسرار البلاغة } .
وعند ابن رشيق في كتاب ( العمدة 2/ 282) ، نجد بوادر مفهوم التناص من خلال حديثه عن باب السرقات وما شاكلها، يقول : (( وهذا باب متسع جدا، لا يقدر أحد من الشعراء أن يدعي السلامة منه ، وفيه أشياء غامضة، إلا عن البصير الحاذق بالصناعة، وأخر فاضحة لا تخفى على الجاهل المغفل، وقد أتى الحاتمي في { حلية المحاضرة } بألقاب محدثة تدبرتها ليس لها محصول إذا حققت كالاصطراف والاجتلاب والانتحال والاهتدام والإغارة والمرافدة والاستلحاق وكلها قريب من قريب , وقد استعمل بعضها في مكان بعض )) ويجب أن نتبين هذه المصطلحات الدالة على أنواع السرقات عنده في ضوء كتابه :
1- الانتحال : وهو أن يأخذ الشاعر أبياتاً لشاعر آخر .
2- الانحال : وهو أن يقول شاعر أو راوية قصيدة ثم ينحلها شاعراً آخر .
3- الإغارة : وهو أن يصنع الشاعر بيتاً ويخترع معنى مليحاً فيتناوله من هو أعظم منه ذكراً , وأبعد صوتاً فيروى له دون قائله .
4- المواردة : وهو أن يتنازل الشاعر عن بعض أبيات له يرفد بها شاعراً آخر ليغلب خصماً له في الهجاء .
5- الاصطراف : وهو أن يعجب الشاعر ببيت من الشعر فيصرفه إلى نفسه .
6- الاجتلاب أو الاستلحاق : وهو اصطراف بيت على جهة المثل أي : على جهة ( الاقتباس والتضمين )
7- الاهتدام أو النسخ : وهو السرقة فيما دون البيت .
8- الاختلاس أو النقل : وهو تحويل المعنى من غرض لآخر .
9- الموازنة أخذ بنية الكلام فقط .
10- العكس : وهو جعل مكان كل لفظة ضدها .
11- الاستيحاء : وهو أن يأتي الشاعر أو الكاتب بمعان جديدة تستدعيها مطالعاته فيما كتب غيره .
ويذكر ابن رشيق بعد ذلك مواضع الأخذ الحسن وهي : 1- اختصار المعنى إذا كان طويلاً . 2- بسطه إذا كان كزاً . 3- تبينه إذا كان غامضاً 4- أن يختار له حسن الكلام إذا كان سفسافاً 5- أن يختار له رشيق الوزن إذا كان جافياً . 6- صرفه عن وجهه إلى وجه آخر .
أما قبح الأخذ عنده فهو : أن يعمل الشاعر معنى ردياً ولفظاً ردياً مستهجناً ثم يأتي من بعده فيتبعه فيه على رداءته .
ومن الطبيعي أن السرقة القبيحة – كما قررها النقاد من قبل – تنحصر في مسح المعاني أو الألفاظ أو الأساليب التي يتناولها الشاعر ممن قبله .
وعقد أبو هلال العسكري في كتابه ( الصناعتين – 217وما بعدها ) بابا سادسا سماه في حسن الأخذ ، أو وقع الحافر على الحافر .
تحدث في الفصل الأول من الباب السادس في حسن الأخذ ” وأنه ليس لأحد من أصناف القائلين غني عن تناول المعاني ممن تقدمهم والصب على قوالب من سبقهم ولكن عليهم إذا أخذوها أن يكسوها ألفاظا من عندهم ويبرزوها في معارض من تأليفهم ولولا أن القائل يؤدي ما سمع لما كان في طاقته أن يقول وإنما ينطق الطفل بعد استماعه من البالغين وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: (( لو أن الكلام يعاد لنفد )) , فصفة الأخذ التي لا يسلم منها أحد أبرزت لنا طريقة اكتساب اللغة عند الطفل، فهو لا يتكلم ولولا سماع الآخرين، فمبدأ الكلام هو استمرارية ولا يمكن له أن يكون من العدمية، فإذا هو تفاعل حاصل بين الناس، فحديثه يميل إلى درجة كبيرة لمفهوم التناص، كما أدلى أبو هلال العسكري في الفصل الثاني من الباب السادس في قبح الأخذ (( وهو أن تعمد إلى معنى فتتناوله بلفظه كله أو أكثره أو تخريجه في معرض مستهجن )) .
وحدد أبو الهلال العسكري في هذا الفصل كيف يكون قبح الأخذ في تناول المعنى بلفظه كله، أو أخذه بأكثره أو إخراجه إلى معنى مستهجن، فمن خلال هذين الفصلين عمل على دراسة فكرة الأخذ التي تكون إما مستحسنة أو مستقبحة، ويبقى المبدع مربوطا بها، فلا يمكن أن يكون إبداعه مبنيا من لا شيء وإنما من ذات اطلعت على نصوص سابقة وأخذت منها ولكن تختلف طريقة الأخذ في تقاطع مع فكرة التناص الذي اقترب من مصطلح الأخذ .
ويتعرض الآمدي لموضوع السرقات من خلال منهجه ﻓﻲ الموازنة بين الطائيين أبي تمام والبحتري فيقول : ( وأذكرُ طرفاً من سرقات أﺑﻲ تمّام، وإحالاته، وغلطه، وساقط شعره، ومساوئ البحتري، ﻓﻲ أخذ ما أخذه من معاني أﺑﻲ تمّام، وغير ذلك من غلط ﻓﻲ بعض معانيه)
وحصر الصيغ والأشكال التي استخدمها ﻓﻲ حديثه عن سرقات أﺑﻲ تمّام فيما يلي : ( الأخذ – السرقة – التبعية – التقصير – الخلط – الزيادة – الادّعاء – التغيير – التعديل – الكشف – الإفساد – التحويل . لكنّ المصطلح الأكثر استعمالاً، هو (الأخذ)، وهو الاسم المُلطّف للسرقات.
ويتحدث عبد القاهر في الدلائل عن فكرة الأخذ ويتناولها من نواحيها المختلفة من وجهة نظر منهجه البلاغي ؛ وهو لذلك يهاجم النقاد الذين يأخذون بظواهر الكلم , حتى إنهم يرون خيال الشيء فيحسبونه الشيء وذاك أنهم اعتمدوا على النسق الذي يرونه في الألفاظ , وجعلوا لا يحفلون بغيره , ولا يعولون في الفصاحة والبلاغة على شيء سواه , حتى انتهوا أن زعموا أن من عمد إلى شعر فصيح فقرأه , ونطق بألفاظه على النسق الذي وضعها الشاعر عليه كان قد أتى بمثل ما أتى به الشاعر في فصاحته وبلاغته إلا أنهم زعموا أنه يكون في إتيانه به محتذياً لا مبتدئاً .
وعبد القاهر هنا يهاجم النقاد الذين قد بالغوا كل المبالغة في ادعاء السرقة والاحتذاء , ونسوا في سبيل ذلك أن الاحتذاء سبيل كل مبتدئ , ولا سبيل سواه لتتفتح موهبته الشعرية , وهو يفسر معنى الاحتذاء عند أهل العلم بالشعر فيقول : (( أن يبتدئ الشاعر في معنى له وغرض أسلوباً , والأسلوب الضرب من النظم والطريقة فيه فيعمد شاعر آخر إلى ذلك الأسلوب فيجيء به في شعره , فيشبه بمن يقطع من أديمه نعلاً على مثال نعل قد قطعها صاحبها ، فيقال : قد احتذى على مثاله )) .
وينكر عبد القاهر على النقاد وصمهم الشاعر بالسرقة ما دام محتذياً , وذلك لأنه لا يفرق بين الاحتذاء والسرقة , كما تبين من تفسيره لمعنى الاحتذاء ؛ ذلك التفسير العلمي السليم الذي يجعل من دراسة السرقات دراسة نقدية فنية لا مجرد اتهام وظن .
ويتناول عبد القاهر هذه الفكرة مرة أخرى فيقول : (( وإذا عمد عامد إلى بيت شعر فوضع مكان لفظة لفظاً في معناه ولا يعرض لنظمه وتأليفه كمثل أن يقول في قوله :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ذر المآثر لا تذهب لمطلبها *** واجلس فإنك أنت الآكل اللابس
وما كان هذا سبيله كان بمعزل من أن يكون به اعتداد , وأن يدخل في قبيل ما يفاضل بين عبارتين , بل لا يصح أن يجعل ذلك عبارة ثانية , ولا أن يجعل الذي يتعاطاه بمحل من يوصف بأنه أخذ معنى , ذلك لأنه يكون بذلك صانعاً شيئاً يستحق أن يدعى من أجله واضع كلام , ومستأنف عبارة وقائل شعر ذاك لأن بيت حطيئة لم يكن كلاماً وشعراً من أجل معاني الألفاظ المفردة التي تراها فيه , مجردة معرّاة من معاني النظم والتأليف , بل منها متوخى فيها ما ترى من كون { المكارم } مفعولاً به { لدع } وكون قوله : { لا ترحل لبغيتها } جملة أكدت الجملة قبلها , وكون { اقعد } معطوفاً بالواو على مجموع ما مضى , وكون جملة { أنت الطاعم الكاسي } معطوفة بالفاء على { اقعد } فالذي يجيء فلا يغير شيئاً من هذا الذي به كان كلاماً وشعراً لا يكون قد أتى بكلام ثان وعبارة ثانية بل لا يكون قد قال من عند نفسه شيئاً البتة )) .
ويقرر عبد القاهر بعد ذلك أن علة الخلط الذي وقع فيه النقاد ترجع إلى جهلهم يقول : (( وقد علمنا أن أصل الفساد وسبب الآفة هو ذهابهم عن أن من شأن المعاني أن تختلف عليها الصور , وتحدث فيها خواص ومزايا من بعد أن لا تكون , وأنك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل , فصنع فيه ما يصنع الصانع الحاذق إذا هو أغرب في صنعة خاتم وعمل شنف وغيرهما من أصناف الحلي فإن جهلهم بذلك من حالها هو الذي أغواهم واستهواهم , وورطهم فيما تورطوا فيه من الجهالات , وأداهم إلى التعلّق بالمحالات , وذلك أنهم جهلوا شأن الصورة ووضعوا لأنفسهم أساساً , وبنوا على قاعدة فقالوا : إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث )) .
ولا شك أن عبد القاهر قد وصل إلى علّة حقيقية في مشكلة السرقات لم يتنبه إليها النقاد من قبل , فليس الأمر مجرد لفظ ومعنى وإنما هو صياغة وتصوير أيضاً .
ولهذا كان المبدأ الذي أخذ به النقاد في السرقات وهو : { إن من أخذ معنى عارياً فكساه لفظاً من عنده كان أحق به } ليس مبدأ صحيحاً طبقاً لنظرية عبد القاهر , فهو يرد هذا المبدأ على النقاد فيقول : { الاستعارة عندكم مقصورة على مجرد اللفظ ولا ترون المستعير يصنع بالمعنى شيئاً , وترون أنه لا يحدث فيه مزية على وجه من الوجوه , وإذا كان كذلك فمن أين ليت شعري , يكون أحق به ؟ }
ويجمل عبد القاهر فكرته في حقيقة الأخذ طبقاً لنظرية النظم التي نادى بها فيقول : وجملة الأمر أنه كما لا تكون الفضة أو الذهب خاتماً أو سواراً أو غيرهما من أصناف الحلي بأنفسهما , ولكن بما يحدث فيهما من الصورة كذلك لا تكون في الكلم المفردة التي هي أسماء وأفعال وحروف كلاماً وشعراً من غير أن يحدث فيها النظم الذي حقيقته توخي معاني النحو وأحكامه .
فإذن ليس لمن يتصدى لما ذكرنا من أن يعمد إلى بيت فيضع مكان كل لفظة منها في لفظة في معناها أن يستركّ عقله أي : ( يعد ركيكاً متهالكاً ) ويستخف ويعدّ مَعدّ الذي حُكى أنه قال : إني قلت بيتاً هو أشعر من بيت حسان , قال حسان :
يغشون حتى ما تهرُّ كلابهم *** لا يسألون عن السواد المقبل
وقلت :
يغشون حتى ما تهر كلابهم *** أبداً ولا يسلون من ذا المقبل
فقيل : هو بيت حسان , ولكنك أفسدته .
وعلى أساس ما تقدم يجعل عبد القاهر المعنى المتداول بين الآخذ والمأخوذ منه قسمين :
الأول : (( قسم أنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى بالمعنى غفلاً ساذجاً , وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتُعجب , ويكون ذلك إمّا لأن متأخراً قصّر عن متقدم , وإما لأن هُدي متأخر لشيء لم يهتد إليه المتقدم ومثال ذلك قول المتنبي :
بئس الليالي سَهِدت من طربي *** شوقاً إلى من يبيت يرقدها
مع قول البحتري :
ليل يصادفني ومرهفة الحشا *** ضدين أسهره لها وتنامُه
وقول المتنبي :
إذا اعتل سيف الدولة اعتلت الأرض *** ومن فوقها والبأس والكرم المحض
مع قول البحتري :
ظلنا نعود الجود من وعكك الذي ** * وجدت وقلنا اعتل عضو من المجد
وقول معْن بن أوس :
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد *** إليه بوجه آخر الدهر تقبل
مع قول العباس بن الأحنف :
نقلُ الجبال الرواسي من أما كنها *** أخفُّ من ردّ قلب حين ينصرف
وقول جرير :
بعثن الهوى ثم ارتمين قلوبنا *** بأسهم أعداء وهنّ صديق
مع قول أبي نواس :
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت *** له عن عدوّ في ثياب صديق
الثاني : قسم أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى وصوّر , وهذا يدل على أن المعنى ينتقل من صورة إلى صورة ))
ويهتم عبد القاهر بهذا القسم اهتماماً كبيراً – يظهر في إيراده كثيراً من الأمثلة التطبيقية – باعتبار أن القسم الأول ليس مجال دراسة البلاغيين لأنه أمر ظاهر للعيان , ولكن هذا القسم هو الميدان الذي يصول فيه البلاغي ليستخدم أدواته في الحكم على أي الصورتين أجمل من الأخرى ما دام المعنى واحداً .
وعبد القاهر هنا لا يهتم بالبحث عن سارق المعنى من الآخر , ولكنه يحصر اهتمامه في فكرة تصوير المعنى باعتبار أن الشعر صناعة وضرب من التصوير كما سبق أن قرر الجاحظ , واتبعه عبد القاهر في هذا المبدأ يقول : (( واعلم أن قولنا { الصورة } إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا , فلما رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة فكان تبيُّن إنسان من إنسان وفرس من فرس بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك , وكذلك الأمر في المصنوعات , فكان تبيّنُ خاتم من خاتم وسوار من سوار بذلك , ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرقاً عبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا : للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك )) .
ويتناول عبد القاهر مشكلة السرقات في كتابه { أسرار البلاغة } من وجهة نظر علم البلاغة بصفة عامة , وفي كتابه { الدلائل } تناولها من وجهة نظر فكرة إعجاز القرآن خاصة – كما سبق توضيحه – وإن كانت أفكاره في الكتابين متكاملة بالنسبة لمشكلة السرقات .
أما منهج عبد القاهر في دراسته السرقات في كتابه { أسرار البلاغة } تفرق في فصلين يكمل كل منهما الآخر , وهو يجعل المعاني قسمين :
الأول : عقلي : مجراه في الشعر والكتابة والبيان والخطابة مجرى الأدلة التي تستنبطها العقلاء , والفوائد التي تثيرها الحكماء , ولذلك تجد الأكثر من هذا الجنس منتزعاً من أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – وكلام الصحابة – رضي الله عنهم جميعاً – ومنقولاً من آثار السلف الذين شأنهم الصدق , وقصدهم الحق , أو ترى له أصلاً في الأمثال القديمة والحكم المأثورة عن القدماء فقول أبي الطيب :
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى *** حتى يراق على جوانبه الدم
وقول ابن الرومي :
وما الحسب الموروث لا درّ درّه *** بمحتسب إلا بآخر مكتسب
معنى صريح محض يشهد له العقل بالصحة , ويعطيه من نفسه أكرم النسبة , وتتفق العقلاء على الأخذ به , والحكم بموجبه في كل جيل وأمة , فهذا كما ترى ليس للشعر في جوهره وذاته نصيب , وإنما ما يلبسه من اللفظ ويكسوه من العبارة , وكيفية التأدية من الاختصار وخلافه , والكشف أو ضده .
الثاني : تخييليّ : فهو الذي لا يمكن أن يقال إنه صدق , وإن ما أثبته ثابت , وما نفاه منفيّ , وهو مفتنّ المذاهب , كثير المسالك , لا يكاد يحصر إلا تقريباً , ولا يحاط به تقسيماً وتبويباً , ثم إنه يجيء طبقات , ويأتي على درجات :
فمنه ما يجيء مصنوعاً قد تلطف فيه واستعين عليه بالرفق والحدق , حتى أعطي شبهاً من الحق , وغشي رونقاً من الصدق باحتجاج يخيّل وقياس يصنع فيه ويُعمل , ومثاله قول أبي تمام :
لا تنكري عطل الكريم من الغنى *** فالسيل حرب للمكان العالي
فهذا قد خيل إلى السامع أن الكريم إذا كان موصوفاً بالعلو والرفعة في قدره , وكان الغني كالغيث في حاجة الخلق إليه وعظم نفعه , وجب بالقياس أن ينزل عن الكريم نزول ذلك السيل عن الطود العظيم , ومعلوم أنه قياس تخييل وإيهام لا تحصيل وإحكام , فالعلة أن السيل لا يستقر على الأمكنة العالية , أن الماء سيّال لا يثبت إلا إذا حصل في موضع له جوانب تدفعه عن الانصباب وتمنعه عن الانسياب , وليس في الكريم والمال شيء من هذه الخلال .
وأقوى من هذا في أن يظن حقاً وصدقاً وهو على التخيّل قول مسلم بن الوليد :
الشيب كره وكره أن يفارقني *** أعجِبْ بشيء على البغضاء مودود
فهو من حيث الظاهر صدق وحقيقة , لأن الإنسان لا يعجبه أن يدركه الشيب ؛ فإذا أدركه كره أن يفارقه , فتراه لذلك ينكره ويكرهه إلا أنك إذا رجعت إلى التحقيق كانت الكراهة والبغضاء لاحقة للشيب على الحقيقة , فإما كونه مراداً ومودوداً فمتخيل فيه , وليس بالحق والصدق .
هذا هو تقسيم عبد القاهر للمعاني , وهو في الواقع قد فلسف تقسيم النقاد السابقين للمعاني إلى معنى عام مشترك ومعنى خاص , فأطلق على القسم الأول { المعنى العقلي } وعلى القسم الثاني { المعنى التخييلي } وعلى هذا الأساس ينتفي ظن السرقة عن المعنى العقلي , ولا يكون إلا في المعنى التخييلي , وإن كان عبد القاهر سينفي السرقة عن هذا المعنى أيضاً .
ويعود عبد القاهر فيتناول في فصل آخر تقسيم المعنى إلى مشترك وخاص بطريقة بلاغية فلسفية على غير الطريقة التي اتبعها في الفصل الأول , فهو يجعل الاتفاق بين الشاعرين على وجهين :
الأول : أن يكون في الغرض على العموم , وهذا الاتفاق لا يدخل في الأخذ والسرقة والاستمداد والاستعانة كوصف الممدوح بالشجاعة والسخاء أو حسن الوجه والبهاء , أو وصف فرسه بالسرعة , أو ما جرى هذا المجرى .
الثاني : الاشتراك في وجه الدلالة على الغرض , وذلك بأن يذكر ما يستدل به على إثباته له بالشجاعة والسخاء مثلاً , وهذا النوع ينقسم أقساماً منها :
التشبيه بما يوجد هذا الوصف فيه على الوجه البليغ والغاية البعيدة كالتشبيه بالأسد في البأس وبالبحر في الجود وبالبدر والشمس في الحسن والبهاء والإنارة والإشراق .
ومنها ذكر هيئات تدل على الصفة من حيث كانت لا تكون إلا فيمن له الصفة كوصف الرجل في حال الحرب بالابتسام , وسكون الجوارح وقلة الفكر .
وهذا القسم – أي الاتفاق بين الشاعرين في وجه الدلالة على الغرض – يجب أن ينظر فيه على النحو التالي :
1- فإن كان مما اشترك الناس في معرفته , وكان مستقراً في العقول والعادات فإن حكم ذلك – وإن كان خصوصاً في المعنى – حكم العموم الذي تقدم ذكره , من ذلك التشبيه بالأسد في الشجاعة , وبالبحر في السخاء , وبالبدر في النور والبهاء ..
وكذلك قياس الواحد في خصلة من الخصال على المذكور بذلك , والمشهور به والمشار إليه سواء كان ذلك ممن حضرك في زمانك أو كان ممن سبق في الأزمنة الماضية ؛ لأن هذا مما لا يختص بمعرفته قوم دون قوم , ولا يحتاج في العلم به إلى روّية واستنباط وتدبر وتأمل , وإنما هو في حكم الغرائز المركوزة في النفوس والقضايا التي وُضع العلم بها في القلوب .
2- وإن كان الاتفاق بين الشاعرين في وجه الدلالة على الغرض مما ينتهي إليه المتكلم بنظر وتدبر , ويناله بطلب واجتهاد , وكان درّاً في قعر بحر لا بد له من تكلف الغوص عليه , وممتنعاً في شاهق لا يناله إلا بتجشّم الصعود إليه فهو الذي يجوز أن يدّعى فيه الاختصاص والسبق والتقدم والأولية , وأن يجعل فيه سلف وخلف , ومفيد ومستفيد , وأن يقضى بين القائلين فيه بالتفاضل والتباين , وأن أحدهما فيه أكمل من الآخر , وأن الثاني زاد على الأول أو نقص عنه , وترقى إلى غاية أبعد من غايته , أو انحط إلى منزلة هي دون منزلته .
وممّا تقدم نرى أن عبد القاهر الجرجاني يجعل ما سبق أن سماه المعنى العقلي { اتفاقاً في الغرض على العموم } وما سبق أن سماه المعنى التخييليّ { اتفاقاً في وجه الدلالة } , وكل هذه التسميات ليست إلا محاولة لفلسفة ما سبق أن قرره النقاد من أن المعاني قسمان : ( مشترك عام الشركة وخاص ) .
ثم يستطرد بعد ذلك إلى الكلام على المشترك والخاص من المعاني بقصد تحديد مفهومهما وإبداء رأيه فيهما فيقول : (( واعلم أن ذلك الأول وهو المشترك العامي والظاهر الجلي , والذي قلت إن التفاضل لا يدخله , والتفاوت لا يصح فيه إنما يكون كذلك منه ما كان صريحاً ظاهراً لم تلحقه صنعة وساذجاً لم يعمل فيه نقش , فأما إذا رُكب عليه معنى ووصل به لطيفة , ودخل إليه من باب الكفاية والتعريض والرمز والتلويح فقد صار بما غيّر من طريقته , واستؤنف من صورته واستجد له المعرض , وكسي من ذلك المعرض داخلاً في قبيل الخاص الذي يُملك بالفكرة والتعمل , ويتوصل إليه بالتدبر والتأمل )) .
ومعنى هذا أن عبد القاهر يقرر عموم الشركة في المعاني المجردة فقط , في حين أنه يسلّم بأن الصياغة وحدها هي التي تُخرج هذه المعاني من العموم إلى الخصوص .
وقد سبق أبو هلال العسكري إلى هذه الفكرة حين قرر أن العبرة بالكساء الذي يكسو به الشاعر معناه , ومن ثم اتخذ من الصياغة دليلاً على السرق , إلا أن عبد القاهر قد جعل من هذه الفكرة أساساً ثابتاً للحكم على المعاني , ورفع من شأن الصورة الشعرية حين جعلها أساساً للجمال الفني الذي يبدعه الشاعر فيستحق به المعنى , حتى لو كان هذا المعنى مكرراً مشتركاً , وذلك لأنه قد أتى به كما يقول عبد القاهر : (( من طريق الخلابة في مسلك السحر , ومذهب التخييل , فصار لذلك غريب الشكل , بديع الفن , منيع الجانب , لا يدين لكل أحد ))
ويتناول عبد القاهر بعد ذلك تأثير هذا التصوير الفني الذي يبدع به الشاعر المعنى فيقول :
(( فالاحتفال والصنعة في التصويرات التي تروق السامعين وتروعهم , والتخيلات التي تهز الممدوحين وتحركهم , وتفعل فعلاً شبيهاً بما يقع في نفس الناظر إلى التصاوير التي يشكلها الحذاق بالتخطيط والنقش , أو بالنحت والنقر , فكما أن تلك تعجب وتخلب , وتروق وتونق , وتدخل النفس من مشاهدتها حالة غريبة لم تكن قبل رؤيتها , ويغشاها ضرب من الفتنة لا ينكر مكانه ولا يخفى شأنه )) .
وبإدراك عبد القاهر لهذا التأثير النفسي الذي يحدثه التصوير الفني للمعنى المشترك يصل تقسيم النقاد للمعاني إلى غايته , ويعرف على وجه التحديد المعنى المشترك بين الناس الذي لا يجوز ادعاء السرقة فيه والمعنى المبتدع الخاص الذي ينحصر فيه ادعاء السرق , وإن كان عبد القاهر لا يرى هذا الادعاء بل يجوّز فيه الاختصاص والسبق وأن يجعل فيه سلف وخلف , ومفيد ومستفيد , وأن يقضى بين القائلين فيه بالتفاضل والتباين كما سبق .
والمعنى المشترك الذي يبدع الشاعر في تصويره فيصير خاصاً به , والمعنى المبتدع الخاص الذي يكثر تداوله ويستفيض حتى يصبح مشتركاً , والقسمان الأخيران قد فطن عبد القاهر إلى أهميتهما – وإن كان ابن سلام وابن قتيبة – قد فطنا قبله إلى ذلك المعنى المبتدع الخاص الذي يكثر تداوله حتى يصبح مشتركاً – بحديثهما عن اتباع الشعراء لا مرئ القيس في أكثر معانيه المبتدعة .
ثم أكّد القاضي الجرجاني هذا المعنى أيضاً بصورة قوية ثابتة , على أن عبد القاهر قد استكمل ما فات القاضي الجرجاني والآمدي في دراستهما للمعاني التي هي عماد مشكلة السرقات , وحول دراسة السرقات من دائرة الجمود والاتهام إلى دراسة فنية خالصة للمعاني وتطورها , وتأثر الشعراء بعضهم ببعض إلى سوى ذلك من دقائق فنية تنفي وجود سرقة على الإطلاق إلا أن تكون نسخاً ومكابرة .
وبعد فهذه خلاصة لأفكار الإمام عبد القاهر الجرجاني المتصلة بموضوع السرقات كما جاء في كتابه أسرار البلاغة , وفيما يظهر أنه ألمّ بجميع جوانبها , وأطل عليها من زوايا متعددة , ونحا في دراستها منحى أدبياً خالصاً يدل على ذوق رفيع وعلم غزير وذهن متفتح وبصيرة نافذة في الشعر .
ويبدو أنه قد قال الكلمة الأخيرة في دراسة السرقات لأننا قد لا نصادف بعده ناقداً يستطيع أن يضيف شيئاً جديداً إلا في النادر , بل على العكس من ذلك سنجد البلاغيين قد جمدوا هذه الدراسة حتى أصبحت – تقريباً – آية قرآنية لا يملون تلاوتها .
وبهذه الدّراسة نرى كيف استطاع عبد القاهر الجرجاني (( أن يفلسف دراسة السرقات إلى حد ما، وأن ينقلها من دائرة الاتهام إلى دراسة فنية خالصة للمعاني ينتفي معها وجود سرقة على الإطلاق إلا إذا كانت نسخا , فهو يبرز فكرة الأخذ ويعطى لها سمة القبول من باب أن المعاني تشترك بين الناس وتتداولها العقول ، فهي ليست سرقة وإنما تتبادل صفة العمومية والخصوصية يستطيع أن يمتلكها أي شخص ويدخل ذلك في باب الأخذ، فهذا الأخير نجد مفهومه يقترب بطريقة وبأخرى إلى حد كبير من مفهوم التناص )) .
ويعيد أغلب النقاد العرب المعاصرين إلى السرقات الأدبية وهجاً نقدياً جديداً بعد أن حظيت بهذا الوهج في النقد القديم عند نهوضها كفكرة لها ظروفها وملابساتها أو لعلهم تناولوها في إطار من المفاهيم الأخرى وكأنهم يسعون إلى إعادة زراعة حقل مهجور بآليات حديثة وصالحة لمعالجته إن الآراء التي تناولت السرقات الأدبية لكونها جذوراً أو أصولا للتناصية كان لها من الشيوع ما أوحى أحيانا بتطابق تام بين التناصية والسرقات ويكاد يجمع أغلب من تناول التناصية في علاقتها بموروثنا النقدي على أن السرقات تحمل صلة ما مع التناصية من هنا كانت الحاجة إلى استعراض هذه الرؤى والأفكار في مستوياتها المختلفة 0
ظل النظر إلى السرقات الأدبية وغيرها مما أشار إليه نقدنا القديم بآليات جديدة هاجساً لعدد من النقاد المعاصرين فهم يشيرون إليها بمنظورهم الحديث المنبثق من النظرية الحديثة وتحظى هذه الرؤية بقبول عند أغلب الدارسين مع اختلاف مشاربهم وممن أشار إلى ذلك عبد الله الغذامي الذي عرض لمصطلح التناصية بعد نظرة جديدة يصحح بها ما كان الأقدمون يسمونه بالسرقات أو وقع الحافر على الحافر بلغة بعضهم 0
ويبدو فعل التصحيح المقترح في هذه الرؤية متصلاً بجانبين اثنين أحدهما التحول من الأحكام الأخلاقية التي كانت سائدة ورمت بظلالها على السرقات الأدبية مع كون بعض النقاد القدامى تباعدوا عن ذلك والثاني يتصل برصد ملامح القديم بأدوات حديثة .
ومن أبرز هؤلاء الذين رأوا في السرقات الأدبية شبه نظرية تحتاج إلى إعادة البناء من جديد عبد الملك مرتاض الذي جعلها من أكبر القضايا النقدية التي يجب الاهتمام بها وذلك بعد أن رآها فكرة تحتاج إلى صياغة جديدة وقراءة بأدوات تقنية جديدة وختم بحثه بالإشارة إلى كون التناصية تبادل التأثر والعلاقات بين نص أدبي ما ونصوص أدبية أخرى ومع اتفاق الدعوتين السابقتين للغذامي ومرتاض في كونهما تمثلان اقتراحاً لتحديث السرقات الأدبية إلا أنهما تفترقان في تصوّر كل منهما وموقف كل منهما في النظر إلى السرقات أولاً ومن ثم إمكان التغيير وشموله فقد كان مرتاض مندفعاً إلى ضرورة الإسراع في إيجاد الحل معتمداً على ضرورة الابتعاد عن الخضوع والخنوع .
وأهمية عملية التناص هي التي جعلت الدكتور محمد مفتاح يقول : إنه بمثابة الهواء والماء والزمان والمكان للإنسان فلا حياة له بدونها ولا عيشة له خارجها . فهو أمر محتوم لا غنى عنه للنص الأدبي أراد الكاتب ذلك أم لم يرده , فهو محكوم به عليه رغم أنفه حيث إنه قد يحصل دون أن يكون ذلك بقصد الكاتب بل يقع فيه من خلال مخزونه الأدبي في الذاكرة .
ويشير الدكتور محمد مفتاح أن دراسة التناص في الأدب الحديث قد انصبت أول الأمر في حقول الأدب المقارن والمثاقفة كما فعل عز الدين المناصرة في كتابه ( المثاقفة والنقد المقارن: منظور شكلي) , ثم دخل الباحثون العرب في إشكالية المصطلح نتيجة لاختلاف الترجمات والمدارس النقدية فمحمد بنيس يطلق عليه مصطلح { النص الغائب } ومحمد مفتاح يسميه بـ { التعالق النصي } حيث عرفه فقال (( التناص هو تعالق – الدخول في علاقة – نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة )) ، ويحدد نوعين رئيسيين للتناص هما :
= المحاكاة الساخرة ويحدد لها مقابلاً في النقد العربي وهو النقيضة .
= المحاكاة المقتدية وتقابلها في النقد العربي المعارضة .
ويقسم آليات التناص إلى التمطيط ومن أشكاله الجناس بالقلب وبالتصحيف , والشرح والاستعارة والشكل الدرامي وأيقونية الكتابة .
ويضع دعامتين أساسيتين يجعلها شرطاً لكل الآثار الوسيطة وهما :
= التوالد والتناسل : الآثار يتولد بعضها من بعض , وتُتناول النواة المعنوية بصور متعددة .
= التواتر : أي إعادة نماذج معينة وتكرارها لارتباطها بالسلف ولقوتها الإيحائية .
ويشير الدكتور محمد مفتاح في كتابه اللاحق “مساءلة النص” إلى التحريف وسوء الفهم الذي اعترى إنجازات الدارسين لمفهوم التناص، ثم بعد دعوته إلى وجوب إدراك ظروف نشأة المفهوم وأبعاده الفكرية، ويقترح درجات ستاً للتناص ، هي :
1- التطابق : أي تساوي النصوص في الخصائص البنيوية وفي النتائج الوظيفية.
2- التفاعل : وهو الامتزاج الكلي أي التفاعل بين نصيين مختلفين زمنياً ونسقياً وسياقياً, والتفاعل يكمن في جعل النص الأصلي قادراً على أن يصنع من تلك النصوص جميعها نصاً واحداً له دلالته ورسائله الخاصة به .
3- التداخل : هو تداخل النصوص السابقة من النص اللاحق في فضاء نصي عام دون تحقق الامتزاج الذي يصعب معه تمييز النصوص الداخلة بل إن كل نص يحتفظ بهويته المرجعية الإشارية وذلك لا ينفي وظيفته السياقية والدلالية التي يؤديها داخل نسيج النص , بل المقصود هنا مدى اكتشاف المتلقي له حيث لا يتسم ذلك بالصعوبة في تفنيد النصوص الداخلة ومن ثم بيان سياقها الذي سيقت منه والذي أدمجت فيه ومدى الجمالية والتوافقية التي قامت إحداثيات تلك النصوص بها داخل جسد النص .
ويبرز التداخل من خلال الاقتباسات والتضمينات , فالتناصات والمقبوسات ليست ملكا للنص إنما هي موجودات تنفعل به وتدخل معه في نسيج دلالي معين تحكمه علاقة تبادلية , فالنص يمنح المقبوسات سياقات جديدة في حين تمنحه هي كل ما تملكه من مقومات جمالية وفكرية ومضمونية .
4- التحاذي : يكون بمحافظة كل نص على هويته في غياب أي صلة بين النصوص .
5- التباعد : إذا كان من الممكن تحاذي نص حديثي ونص قرآني، فإن التباعد يتجلى في مجاورة نكتة سخيفة لآية قرآنية.
6- التقاصي : يقوم على المقابلة بين ثنائيات نصية متغايرة ومتناقضة يضمها الفضاء النصي العام مثل التقابل بين النصوص الدينية و النصوص الفجرة والنصوص العلمية والنصوص الفكاهية والنصوص الحكمية والنصوص الحمقية .
والوجه الأكثر بروزاً للتقاصي نلمحه من خلال البعد الميتانصي (( وهو نوع من العلاقة التي يقيمها النص مع المتداخلة معه , وفي الميتانصية نجد التفاعل يقوم على أساس النقد , أي أن الميتانص نقد للنص المستدعى يقوم به المؤلف , ويكون فيه المتناص متنوعا { سردي – شعري } والميتانص قد يكون نقداً أدبياً وأيديولوجيا أو تاريخياً والعلاقة التي يقيمها مع النص هي علاقة نقدية )) حيث تتجاور النصوص المتناقضة كتابياً { آية + شعر + سخرية +مثل …} ولكنها تتآزر لتعطي صورة عن رؤية المؤلف الذي يتوارى وراء السارد معلناً عن وجهات نظره وانتقاداته لظواهر معينة وقضايا مختلفة يمتد صداها خارج النص
ونشير إلى أن بعض هذه الدرجات يمكن الاستغناء عنها، إذ لا كبير فرق بين التفاعل والتداخل، وبين التباعد والتقاصي . كما يمكن إلغاء درجة التطابق لأنها لا تدخل ضمن التناص كونها لا تتحقق إلا في النصوص المستنسخة.
وقد أضاف النقاد العرب المعاصرون الكثير من الإضافات حول مصطلح التناص ضمن جوهره فعرفه محمود جابر عباس بإسهاب بأنه : اعتماد نص من النصوص على غيره من النصوص النثرية أو الشعرية القديمة أو المعاصرة الشفاهية أو الكتابية العربية أو الأجنبية ووجود صيغة من الصيغ العلائقية والبنيوية والتركيبية والتشكيلية والأسلوبية بين النصين .
وعرفه الدكتور أحمد الزعبي بأنه : أن يتضمن نص أدبي ما نصوصاً أو أفكارا أخرى سابقة عليه عن طريق الاقتباس أو التضمين أو الإشارة أو ما شابه ذلك من المقروء الثقافي لدى الأديب بحيث تندمج هذه النصوص أو الأفكار مع النص الأصلي وتندغم فيه ليتشكل نص جديد واحد متكامل.
وعرفه خليل الموسى بأنه : مصطلح سيميولوجي وتفكيكي معا , يذهب أصحابه وفي مقدمتهم كريستيفا وبارت و جينيت إلى أن أي نص يحتوي على نصوص كثيرة نتذكر بعضها ولا نتذكر بعضها الآخر وهي نصوص شكلت هذا النص الجديد فالكتابة نتاج لتفاعل عدد كبير من النصوص المخزونة في الذاكرة القرآئية , وكل نص هو حتما نص متناص , ولا وجود لنص ليس متداخلا مع نصوص أخرى .
أما الناقد { عبد الله الغذامي} فقد حاول في کتابه { الخطيئة والتكفير} أن يربط التناص ببعض المفاهيم والطروحات النقدية الموروثة ولاسيما نظريات الناقد عبد القاهر الجرجاني في البلاغة النقدية وخاصة فيما يتعلق بمفهوم { الأخذ } وشدة اقترابه من مفهوم التناص الحديث إذ رفض الجرجاني استعمال { السرقة } کما شاعت قبله وبعده .
أما الناقد محمد بنيس فقد اجترح مصطلحاً جديداً التناص أسماه بـ { النص الغائب } علي اعتبار أن هناك نصوصا غائبة ومتعددة وغامضة في أي نص جديد وقد طرح هذا المصطلح کتابيه “سؤال الحداثة” و” ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب” وقد اعتمد أيضاً علي طروحات ” کريستيفا وبارت وتودوروف ” , والتناص عنده يحدث من خلال قوانين ثلاثة وهي : الاجترار، الامتصاص والحوار ويضع بنيس النص المتناص مرجعيات عدة منها: الثقافية والدينية والأسطورية والتاريخية و الکلام اليومي .
وأشار كثير من النقاد العرب القدامى وبعض الشعراء إلى ظاهرة التناص تحت مفاهيم الاقتباس والتلميح و الإشارة… فهذا امرؤ القيس يقول:
عوجا على الطلل المحيل لأننا *** نبكي الديار كما بكى ابن حذام
وهي إشارة إلى أنه ليس أول من بكى على الأطلال، فما فعله غير تكرار واستعادة لفعل شاعر آخر هو ابن حذام . وهنا أيضا بيت لابن زهير يقول:
ما أرانا نقول إلا رجيعا *** ومعادا من قولنا مكرورا
و أيضا إشارة علي بن أبي طالب لولا أن الكلام يعاد لنفذ، وما قاله عنترة في معلقته مستنكرا :
هل غادر الشعراء من متردم *** أم هل عرفت الدار بعد توهم
والمعنى أن الشعراء لم يتركوا شيئا يصاغ فيه الشعر إلا وصاغوه، أي أن الأول لم يترك للثاني شيئا، كما يتساءل أبو تمام : كم ترك الأول للآخر.
ويأتي التناص على أشكال متعددة، منها :
1ـ التناص القرآني : يرد وفق آلية كتابية تتخذ من قوسي التنصيص علامة على الاقتباس النصي من القرآن الكريم ودلالة على اقتطاع جزئي منه دونما أي تغيير في سياقه أو تراكيبه أو تراتبيته .
2ـ التناص والتراث الشعبي : مصطلح شامل نطلقه لنعني به عالماً متشابكاً من الموروث الحضاري والأنماط السلوكية والقولية التي بقيت عبر التاريخ وعبر الانتقال من بيئة إلى بيئة ومكان إلى مكان في الضمير الإنساني وهو بهذا المصطلح يضم الأنماط الأسطورية أو الموروث الميثولوجي العربي القديم كما يضم الفلكلور العربي القولي أو النفعي أو الممارس . وتكون المحاكاة فيه على مستوى اللغة الشعبية، وهذا مما يؤخذ على بعض الأدباء، إضافة إلى الاستفادة، وتوظيف القص الشعبي، والحكايات القديمة، والموروث الشعبي بإيحاءاته وظله على النص الأدبي، لنلمح جزءاً من قصة أو حكاية أو سيرة يدخلها في سياق نصه .
3ـ التناص الوثائقي : وهذا النوع في النثر أكثر منه في الشعر كالسرد والسيرة، فيحاكي النص نصوصاً رسمية كالخطابات والوثائق، أو أوراق أخرى كالرسائل الشخصية والإخوانية؛ لتكون نصوصهم أكثر واقعية.
4ـ التناص والأسطورة : وهي تتشابه مع سابقها من ناحية الاستفادة من التراث، لكنها تختلف من ناحية أن الأسطورة غالباً ما هي موروث؛ لكنه يوناني أو غربي ، وإن كان هناك بعض الأساطير العربية، إلا أنها قلة مقارنة بالغرب .
والتناص نوعان : تناص مباشر( تناص التجلي) أو غير مباشر (تناص الخفاء).
التناص المباشر: لأن العلاقة فيه هي علاقة حضور مشترك بين نصيين أو عدد من النصوص بطريقة استحضارية , وهي في أغلب الأحيان الحضور الفعلي في لنص في نص آخر , فيدخل تحته ما عُرف في النقد القديم بالسرقة و الاقتباس، والأخذ والاستشهاد والتضمين، فهو عملية واعية تقوم بامتصاص وتحويل نصوص متداخلة، ومتفاعلة إلى النص.
ويعمد الأديب فيه أحياناً إلى استحضار نصوص بلغتها التي وردت فيها كالآيات القرآنية، والحديث النبوي، أو الشعر والقصة.
التناص غير المباشر : فينضوي تحته التلميح والتلويح والإيماء، والمجاز والرمز، وهو عملية شعورية يستنتج الأديب من النص المتداخل معه أفكاراً معينة يومئ بها ويرمز إليها في نصه الجديد.
ويحلو للبعض تفريعه بإيجابي وآخر سلبي، ويقصد بالأول إنتاج أفكار قديمة بأسلوب جديد، أما السلبي فهو كالصدى المكرر للنص الذي سبقه.
إلا أن جميع هذه الأنواع تعتمد على فهم المتلقي ذلك أن الثقافة محكومة بسمة التوليد والاستنتاج والتناص وليد التراكمات الثقافية لدى المبدع ، وعلاوة على ذلك تحليله للنص .
أما آليات التناص التي ينبغي أن يعرفها الناقد أو المحلل أو القارئ أثناء مقاربته للنص الأدبي، والتي تساعد ه على استكناه النص وسبر أغواره، فهي وفق الآتي :
*- المستنسخات النصية ( ألفاظ وشواهد وعبارات واقتباسات بارزة…).
*- المقتبسات النصية ( تكون في بداية الرواية أو الفصل أو المتن في شكل نصوص ومقاطع وفقرات موضوعة بين علامات التنصيص تضيء الرواية تفاعلا وحوارا…).
*- العبارات المسكوكة ( أمثال وحكم وعبارات مسكوكة في نسقها اللغوي والبنيوي بطريقة كلية عضوية ومتوارثة جيلا عن جيل مثل : أكلت يوم أكل الثور الأبيض، من جد وجد ومن زرع حصد، راح يصطاد اصطادوه…).
*- الهوامش النصية : يورد المبدع في عمله الإبداعي المتن ويذيله بهوامش إحالية ومرجعية. وغالبا ما توضع هذه الهوامش في أسفل النص أو في آخر العمل، حيث تقوم بوظيفة الوصف والتفسير لما غمض من النص، وما يحمله من إشارات نصية .
*- الحواشي النصية : قد يرفق المبدع نصه بحواش في بداية العمل أوفي نهايته أو في آخره لتفسير النص من خلال تحديد سياقه وإبراز مناسبته أو شرح بعض الألفاظ أو تفسير بعض أسماء الأعلام أو تعيين المهدى له هذا العمل، أو تبيان الدواعي التي دفعته لكتابة النص وتحبيره….
*- الاقتباس ( هو أن يأخذ المبدع القرآن والسنة ويدرجه في كلامه بطريقة صريحة أو غير صريحة…)
*- التضمين ( أن يضمن المبدع كلامه شيئا من مشهور الشعر أو النثر لغيره من الأدباء والشعراء…)
*- المحاكاة : يلتجئ المبدع إلى توظيف المقتبس أو المستنسخ بطريقة حرفية دون أن يبدع فيها .
*- الإحالة : غالبا ما نجد الكاتب يوظف بعض الكلمات أو العبارات التي توحي بإشارات أو إحالات مرجعية رمزية أو أسطورية…..؛
*- المناص : ينطلق المبدع من عمل أو حدث أو فكرة أو مرجع أو مصدر لمبدع آخر فيحاول محاكاته أو نقده وحواره .
*- الاستشهاد : يورد المبدع مجموعة من الاستشهادات التي يضعها بين قوسين أو بين علامات التنصيص للاستدلال والإحالة وتدعيم قوله.
*- الباروديا: هي عبارة عن محاكاة ساخرة يتقاطع فيها الواقع واللاواقع، الحقيقة واللاحقيقة، الجد والسخرية، النقد والضحك اللعبي .
*- التهجين أو الأسلبة: المزج بين لغتين اجتماعيتين في ملفوظ لغوي وأسلوبي واحد، وهذا يعبر عن البولوفونية( التعددية) اللغوية القائمة على تعدد الأصوات واللغات والأساليب والخطابات والمنظورات السردية. وهذا التعدد في الحقيقة يعبر عن التعددية الاجتماعية واختلاف الشخصيات في الوعي والجذور الاجتماعية والطبقية .
*- الحوار التفاعلي : يعد أعلى مرتبة في التواصل مع النصوص والتعالق بها واستنساخها. أي إن المبدع لا يقف عند حدود الامتصاص والاجترار والاستفادة، بل يعمد إلى ممارسة النقد والحوار.
*- المعرفة الخلفية : هي تلك المعرفة التي يتسلح بها قارئ النص اعتمادا على التشابه النصي والسيناريوهات والخطاطات والمدونات، والتي بها يحلل النص ويفككه ويعيد تركيبه من جديد
*- النص الموازي: هو عبارة عن مجموعة من العتبات المحيطة داخليا وخارجيا تساهم في إضاءة النص وتوضيحه كالعناوين والإهداء والأيقون والكتابات والحوارات والمقدمات والتعيين الجنسي…. وعلى الرغم من موقعها الهامشي فإنها تقوم بدور كبير في مقاربة النص ووصفه سواء من الداخل أم الخارج . وبعد فما أروع التعالق ما بين الحاضر والماضي