تلك الحرب الباردة بيننا، التي بدأتها جميلة منذ كانت في السابعة لا علاقة لي بها، هي وحدها من اخترعتها، لكن يبدو أنها قررت اليوم إنهاءها:
"تباً للبشر، ينقصهم الوفاء لما يمتلكون".
بدأت رحلتي معها منذ أكثر من خمسة وعشرين عاما، وذلك حين وضعتني والدتها في غرفتها ذات اللون الوردي، ما زلت أتذكر لكنتها عندما خاطبَتْها قائلة:
- جميلة هذه المرآة، هي لك وحدك، لن تشاركك إياها أختكالصغرى.
- لي وحدي؟! هذا أجمل خبر سمعته اليوم!
في تلكم الساعة تعرفت على وجهها البريء حينما نظرت إليّ ثم ذهبت لزاوية من زوايا الغرفة، وفي لمح البصر عادت مسرعة تجاهي، كان رأسها للأسفل ورجلاها للأعلى، ارتعبت من فكرة أن تصطدم تلك المخبولة بي، لكنها توقفت فجأة، وفرت من ثغرها ضحكات بريئة، لمست وجهها على سطحي، عاودت النظر لنفسها، كانت تأتي بتصرفات صبيانية، تارة تمد لسانها وتنشد ثم ترقص، وتارة تختفي ثم تظهر من جديد، وأحيانا تضع إبهامي يديها في أذنيهاوتلوح بأصابعها للأمام والخلف، وتصدر أصوات حيوانات غريبة، تجري هنا وهناك وتعاود الكرة مرات عديدة، كان تصرفها مستفزا في البداية ولكن مع الوقت أصبح كل ما تفعله جميلة يسليني، صرت أجد متعة في شقاوتها ومشاكستها، ولكن تلك المودة كانت من طرف واحد، ولم تدم طويلا.
مشكلتها معي بدأت منذ كبُر أنفها وازداد اعوجاجه، وبرزت أسنانها الأمامية، واكتست بشرتها بكثير من البثور الحمراء البشعة، والتي كانت تستمر لعدة أيام قبل أن تختفي تاركة ندوبا في وجهها، كانت جميلة حنقة من والدتها لأنها لم تسمح لها بوضع مساحيق التجميل لتخفي آثار تلك الندوب، التي جعلتها محل سخرية رفيقاتها في المدرسة، كانت تحكي لي وهي تهذي:
- لن نصحبك .. نحن رفيقات منذ فترة طويلة، بينما لم تمض على معرفتي بك سوى فترة قصيرة، إضافة إلى أنك غبية ومزعجة.
- وحتى أنا لن أكون صديقتكن، من تخالين نفسك؟! اللعنة عليك وعلى المدرسة الكريهة.
تسحب كحلا مخبأ من جيبها، تضعه بعصبية على أهدابها، تخونها أصابعها فيلطخ الكحل حول عينيها ، تخرج أحمرشفاه فاقع، تضعه على شفتيها، تهتز يداها فيتبعثر اللون، تنظر مرة أخرى، تبصق على وجهي، تستفزني وكأن ذلك بسببي، ولكني ظللت باردة كصقيع، كانت تستفزني لأكذبوأقول إنها جميلة بتلك الهيئة، ومن ثم بدت منزعجة لأننيكنت صادقة معها، فقد أخبرتها صورتها المنعكسة بداخلي أنها كانت تبدو مقرفة بالكحل السائل على جانبي عينيها وبحمرتها المشعة حول الشفتين، كانت مقرفة بحق، نحن المرايا لا نكذب، تلك فضيلتنا.
توالت موجات الغضب، أصبحت جميلة أكثر حدة، وأقلابتساما، أهملت حتى مسح الغبار من على وجهي اللامع، كرهت النظر إليها بداخلي، لم تعد تنظر إلي إلا وهي تهذي غاضبة، تتمتم بلعنات متلاحقة
- اللعنة عليك مرآة قبيحة... قبيحة!
مرت السنون، كبرت جميلة، وفي يومنا الأخير الذي أمضيناها معا، عادت من الخارج وعلى أنفها لفافة طبية، وتحت عينيها شاش أبيض، بقي على وجهها عدة أيام، وحين نزعته بدت مختلفة، لم يعد أنفها كبيرا ومعوجا كما كان بل أصبح أكثر استقامة، وبدت أسنانها وقد قدت بشكل مصفوف وكأنها رسمت بعناية، كما أن شفتيها غدت أكثرامتلاء، أما وجنتاها فقد ظهرت عليهما غمازتان عميقتان، حدقت جميلة في صورتها داخلي وأجهشت بالبكاء، وددت لو أفهم لماذا كانت تبكي؟ لقد أصبحت أجمل مما كانت عليه ولكنها مازالت غير سعيدة ..
- ربما أنت مرآة حظي العاثر اللعينة، سأحطمك وأخرجروحي السجينة من داخلك.
كسرتني إلى شظايا، ولكن روحها ظلت محبوسة في داخل القطع المتناثرة على أرضية الغرفة، وما أن لمستني حتى تطايرت شظايا على وجهها.