بقرة منصور هربت . حطمت القيود وفرت . انطلقت في الطرقات موقعة الفزع بين الأهالي . جرى صاحبها مستشيطاً مستغيثاً بالناس . انطلقت بأقصى قوة عبر الدهاليز الضيقة والدروب الوعرة . راحت تعدو بسرعة فائقة وخوف شديد ، وجدت نفسها أمام أحد البساتين فاندفعت نحوه واقتحمته . استمرت مندفعة إلى الأمام غير عابئة بما حولها . أخطأت حوافرها الطريق فهوت في بئر الساقية .
أقبل منصور لاهثاً فهاله ما وقع لها وراح يضرب على رأسه ويندب حظه . أراد أن ينتشلها فلم يفقه وسيلة . هبط إلى داخل البئر وعاينها فألفاها مثخنة بالدماء . الليل يدنو والظلام سيصبح سيد الموقف . ماذا يفعل ؟ لا يستطيع إخراجها ، إنها تحتاج إلى عدة رجال .
وصل بعض الأشخاص الذين شهدوا الموقف . تفاكروا فيما بينهم . قرروا أن تنزل مجموعة من الشبان الأشداء . البئر ضيق لا يتسع إلَّا لثلاثة أشخاص . لم يتمكنوا من رفعها . حاولوا عدة مرات لكنهم باؤوا بالفشل .
قال أحدهم لنطلب رافعة تنتشلها ، فرد صاحبها بأن ذلك سيكلفه عشرين ديناراً على الأقل، وهو رجل فقير لا يملك هذا المبلغ . تذكر أن البقرة ربما فرت لأنه أهمل رعايتها ولم يقدم لها الطعام الكافي . لم يعد يهتم بها منذ أن شح حليبها وقارب ضرعها على الجفاف . لم تعد ذات فائدة . فكر يوماً أن يذبحها وفكر يوماً آخر أن يبيعها بسعر جيد .
قال شقيقه لنضع حبلاً حول رقبتها ونرفعها ، فجيء بالحبل وطوقوا عنقها . كافحوا كي ينتشلوها إلا أنها لم تتزحزح . شعرت بالاختناق . جربوا أن يوثقوا الحبل حول جسمها ، تكاتفوا جميعاً لكنهم لم يفلحوا ، فالبقرة ثقيلة كالصخر ومرتعبة .
قال رجل قاسي القلب : إذا ظلت هنا طول الليل فسوف تموت . من الأفضل أن نذبحها في مكانها . على الأقل سيستفيد منصور من لحمها .
صاحب البقرة رغم إنه شعر باليأس ، إلَّا أنه لم يُحبِّذ الفكرة على أية حال ، لقد جلبت له الخير في سنوات سابقة .
بادر أحد الواقفين : لماذا لم توافقوا على جلب الرافعة ، لنتعاون مع الرجل ونساعده ببعض المال ، لكن الرجال صمتوا .
الدماء تنزف من ساق البقرة ورقبتها وعينها تومض بالألم وهي تلهث من شدة الأعياء . لسان حالها يناشد النجدة وصاحبها لا يعرف ماذا يفعل فهو حزين . أقبل رجل واستفهم عن الخبر فأعلموه بما جرى . نصح بإحضار رافعة فأخبروه بما دار بينهم . فكر قليلاً وقال بخبث: أنا مستعد لأن أجلبها على حسابي وأنقذ البقرة شريطة أن أمتلكها .
وأردف : سوف أعطي صاحبها عشرة دنانير .
منصور ، اليائس البائس ، أطرق رأسه وراح يدرس العرض . نظر إلى حال البقرة ، إنه لن يكسب إلا مبلغاً زهيداً لكن إنقاذ حياتها أهم . ليفعل هذه المرة شيئاً يسعدها ، يصالحها فيه ويكفر عن ظلمه وإهماله .
وافق على العرض وبادر الرجل في طلب الرافعة . البقرة تئن من الألم والدم لا يزال ينزف والماء بارد . الكل ينتظر على وجل . شارفت الدنيا على السواد . وبعد فترة قصيرة وصلت الرافعة .
وضع منصور يده على عنق البقرة وراح يربت عليها ويبشرها بساعة الفرج ، لكنها مالت على رأسها وهوت في الماء .