_______________________
الكتاب في نظري جولةٌ سياحية في أعماق التراث العربي ؛إذ يفتح للقارئ العربي نوافذ ضوئية على العديد من المعارف العلمية؛والطبائع الاجتماعية والمصطلحات السائدة في تلك البيئات القديمة التي أصبحت نسياً منسياً لدى الجيل المعاصر أوكادت..
و من شأن تلك الرحلة المثمرة التي يصحبنا فيها هذا العالم الثبْت، أنْ تعود على القارئ الحصيف بفوائد لاعداد لها؛وجوانب لاتُحصى من الطرافة و المتعة والمؤانسة؛تعكس لنا فطنة المؤلف الكريم؛ولماحيته الدقيقة؛وولائه الفريد المدهش لكنوز التراث العربي.
ولقد عرفت الحياة الأدبية المحقق: عبدالسلام هارون في العديد من تحقيقاته النوعية؛ومنزلته السامقة في مجال التراث العربي لايختلف عليها اثنان؛حتى قيل إنَّ ما أخرجه للناس من آثار سواء أكانت من تحقيقه أو من تأليفه تجاوزت 115 كتاباً..
على أنَّ امتاز به من صبرٍ وجلد ودأبٍ ودقة متناهية
في خدمة التراث العربي؛والغوص في أعماقه ؛ونفض الغبار المتراكم عنه ؛وحشد الطاقة على اكتشاف النصوص التراثية المغيبة الدالَّة على عظمة التراث العربي، ونواحي الجلال الكامنة في ذخائره؛لمما يسترعي الانتباه حقاً؛ويحملنا -كتلامذة له - ومن باب الإنصاف، على الاعتزاز بإنجازاته تلك؛ والسعي في إعادتها إلى دوائر الضوء؛كلما سنحت الفرصة.
ولاريب أنَّ الجامعات العربية عرفته أستاذاً محاضراً ومشرفاً ومناقشاً لمئات الرسائل العلمية..
_______________________
-عودةٌ إلى الكُنَّاشة.
وقد ساق تلك المعلومات بأسلوبٍ سهل لاتعقيد فيه؛وإيجاز شديدٍ غير منقوص،وترتيب غاية في الأناقة ؛وذلك مراعاة منه؛لمستويات القرَّاء، و لإيقاع العصر السريع؛و الشواغل المستبدَّة بأوقات الباحثين عن معارف من هذا النوع في مختلف بقاع الأرض.
وقد صدَّر كتابه هذا بمقدمة ضافية ؛أشار فيها إلى بواعث تأليفه؛وطريقته المنهجية ؛ومن ذلك قوله:
«وكانت كُنَّاشة النوادر التي أقدم اليوم طاقةً منها جزءاً من تلك الصورة المشرقة للتفكير العربي العزيز، والحضارة الإسلامية الفارعة، وتحفةً لمن يؤمن بتراثه، وهادياً لم ضلَّ به الطريق عن الإيمان بمعدنه الأصيل ،وسالفه المضئ.
وحول سر اختيار التسمية يقول:
«وقد وجدت أنَّ هذه التسمية مع ما فيها من التوليد أو التعريب أقرب في الدلالة، وأدقُّ في التعبير.
ويمضي شارحاً الطريقة التي اعتمدها فيقول:
«وقد كان من سوالف الأقضية أن أقيد تلك الشوارد ما استطعتُ إلى ذلك سبيلاً ،فإن الحكيم العربي كان يقول -وقوله الحق- : العلم صيدٌ والكتابة قيد،
وإذا ضاع القيد ذهب الصيد.
وقد قيَّدتُ في هذه الكناشة على مدى اشتغالي بالبحث والتحقيق زهاء نصف قرن، نحو ثلاثة آلاف مذكرة، هي رؤوس مسائل أرجو إنْ مُدَّ لي في أجل الحياة،
أن أنشرها مفصَّلةً على هذا النحو الذي أشرف بتقديمه.
ومن طريف ما قيدته في هذه الكناشة تفكير أسلافنا القدماء في أمور حضارية يزهو بها عصرنا الحاضر ويعدها من مفاخره».
وهو كتاب-على حدِّ قوله- «مشحون بالطرائف، وغذاء الذهن والروح واللسان أيضاً».
________________________
نموذج من الكتاب:
-كلماتٌ موؤدة..
لعل قولهم: اللغة كائن حي من أصدق القضايا المسلم بها، ففي جميع اللغات كلمات تحيا ،وكلمات تموت، والبقاء للأصلح.
ومن الكلمات التي وئدت في العصور الحديثة كلمة (الجراثيم) إذ تغير مدلولها الواسع ،وانحرف إلى مجري هو غاية في الضيق انحرافاً من الجمال إلى نهاية القبح والشناعة.
فالجرثومة في فجرها اللغوي تعبير جميل عن أصل كل شئ ومجتمعه، والجرثومة ما اجتمع من التراب في أصول الشجر ... وفي حديث ابن الزبير لما أراد أن يهدم الكعبة ويبنيها كانت في المسجد (جراثيم)، يراد بذلك أنه كان فيه أماكن مرتفعة عن الأرض مجتمعة من تراب أو طين، أي أنَّ أرض المسجد لم تكن مستوية.
فإذا حاولنا أن نفهم هذا النص بالمفهوم العصري أخطأنا المعنى المراد، وفهمنا أنَّ الارض كانت موبوءةً بجراثيم أمراض، إذ أصبح مفهوم هذه الكلمة في عصرنا
لا يمكن أن يتعدى هذا المعني الطبي الذي يعمُّ الفيروسات والفطر والبكتريا كما يقولون.
وكذلك حين نصغي إلى قول جرير في مدح عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك بن مروان:
يا آل مروان إنَّ الله فضلكم
فضلاً قديماً وفي المسعاة تقديم.
قومٌ أبوهم أبو العاصي وأمهمُ
جرثومةٌ لا تساويها الجراثيم .
ولا يمكن ان تفسر هذه الجراثيم التي تعني الأصل السامي، والعرق الكريم بالمفهوم اللغوي المعاصر.
وفي الشعراء الأمويين من كان يُدعى (جرثومة)، عثرت علي اسمه في كتاب المصون للعسكري، وقد كان هذا الشاعر موضع إعجاب من الخليفة عبد الملك بن مروان.
ومن ذلك أيضاً كلمة (التبجح)، فقد أصبح مفهومها العصري منحصراً في الدلالة علي الجرأة المستهجنة وسوء الأدب وسلاطة اللسان.
ولكن مدلولها الأصيل هو الفرح والشعور براحة النفس والفخر بما صار إليه المرء من منزلة، كل ذلك في نطاق الأدب والرضا.
ومنه حديث أمِّ زرع «وبجحني فبجحتُ إلى نفسي»؛ أي فرَّحني ففرحت وعظمت نفسي عندي.
_______________________
تلك كانت إضاءة يسيرة أشبه ماتكون بنظرة طائر؛ أردت من خلالها المساهمة في الإشادة بقيمة هذا الكتاب النفيس العلمية والأدبية؛راجياً أن تُعاد طباعته ومن ثم تقديمه إلى الأجيال في ثوب قشيب زاهٍ؛تقديراً لمابذله الدكتور الراحل من جهود لايستهان بها أبداً.والله من وراء القصد.