قصة قصيرة بعنوان:
أرجوحة..!
في قرية صغيرة بعيدة عن ضجيج المدن، خرج سعيد من كوخه الصغير متهلل الوجه كعادته، تلامس ابتسامته تباشير الصباح وأشعة الشمس المشرقة، باعثًا الأمل لكل من يراه، رام ًيا خلف ظهره همومه.
التفتيمنةويسرةمناديا:سارةسارة،أينأن ِتياطفلتيالجميلة؟أناذاهب،لقدتأخرتعن العمل، أين أن ِت؟
اقتربت سارة والحزن يكسو وجهها. تتنهد، ويكاد الدمع يهوي على خديها الناعمين، قالت بصو ٍت با ٍك: أبي، لقد.. لقد.. لقد سقطت الأرجوحة.
اقترب منها، ثم جلس على ركبتيه. بدأ يمسح شعر طفلته، ثم قال والابتسامة تعلو محياه: لا بأس، لا بأس يا صغيرتي، سأصلحها لك كالعادة.
سارة: لن تستطيع يا أبي، فقد قُطع الحبل، قضت أرجوحتي الصغيرة نحبها. سعيد: الأمر يسير، سأشتري اليوم حبلا، وسأُصلحها. سارة: اليوم! حقًا! اليوم! دائما تخبرني بذلك يا أبي، وعندما تعود لا أجد في يديك شيئا لي.
سعيد: حقًا! قاتل الله النسيان يا ابنتي، سأتأكد اليوم ألا أعود دون أن أشتري حب ًلا متينًا يليق بأرجوحة الأميرة الصغيرة. هيا لقد تأخرت عن العمل كثيرا اليوم.. وأريد الآن أن أرى ابتسامة طفلتي الجميلة.
سارة وهي مبتسمة: ها هي الابتسامة يا أبي، شكرا لك.
أهدى سعيد جز ًء من ابتسامته لطفلته الصغيرة، ووعدها بأن يشتري حبلا ليصلح أرجوحتها، إنه وعد يعلم أنه لن يستطيع الإيفاء به، فهو لا يملك ثمن الحبل، لا يملك إلا ابتسامته التي هي علاج يأسه، وشفاء بأسه.
مضى سعيد يسعى في الأرض ويعمل ليكسب قوت يومه، فهو في عادته يساعد الخباز في إعداد العجين ليعطيه رغيفي خبز، وال ُخ َضري في ترتيب محله ليعطيه بعض الخضار، وهكذا... ولكنه اليوم خرج متأخ ًرا، فلم َي ُع ِد الخباز في حاجته فقد انتهى من إعداد العجين، ولم يعد الخضري بحاجته فقد قام بترتيب محله بنفسه، وهذا ما يحدث في كل مرة يتأخر فيها سعيد عن الذهاب إلى السوق. بدأ سعيد يبحث في السوق عن أي عمل يتقاضى مقابله قوت يومه، يسير والابتسامة لا تفارق محيّاه، من يصدق أن هذا الرجل لا يملك قوت يومه!

ومضى الوقت.. وانتصف النهار.. وسعيد لم يجد أي عمل ُيؤجر عليه، وبدأت أشعة الشمس المحرقة تُذيب ابتسامته وأمله.
ذهب سعيد إلى الخباز... سعيد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مساء الخير أيها الخباز الطيب.
الخباز: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مساء السرور، أراك مبتسما يا سعيد، هل وجدت ما ت س د ب ه َد ي ن ك ؟
سعيد: لا، لا علاقة لابتسامتي في قضاء ال َدين يا رجل، جئتك أطلب منك رغيفي خبز سأدفع لك ثمنهما مع بقية ال َدين إن شاء الله.
الخباز بسخرية: هع هع.. لو كنت مكانك لما ابتسمت أبدا، خذ الخبز واغرب عن وجهي. سعيد وهو يأخذ الخبز: شكرا لك!
لم يعلم الخباز أنه بكلامه هذا قد أخذ من سعيد ما هو أغلى من ثمن رغيفي الخبز، لقد أخذ منه جز ًء من ابتسامته، وشط ًرا من أمله.
اتجه سعيد إلى ال ُخضري ليطلب منه أن يأخذ بعض الخضار مستدينا ثمنها كما طلب من الخباز، فسمع منه كلا ًما لاذ ًعا كالذي سمعه من الخباز، ليأخذ ال ُخضري بكلامه نصيبا أكبر من ابتسامة هذاالمسكين،فذبلتابتسامته،وكساوجههاليأسوالهموالحزن،ومضىعائًداإلىبيته.
وهو في طريق العودة.. تذكر وعده لابنته، حبل الأرجوحة. لم يعرف ماذا يفعل؟ أيعود إلى البيت بدون الحبل؟ أم يذهب إلى تاجر الخردوات ويبتاع منه حبلا؟ هو لا يملك الثمن، وهو مستدين أيضا من تاجر الخردوات سيء السمعة، لكنه يملك القليل من الأمل: قد يوافق على طلبي ويعطيني الحبل.
عاد سعيد أدراجه إلى السوق متجها إلى بائع الخردة. سعيد: السلام عليكم ورحمـ... التاجر:لا َسِلم َتولا ُرحمت..أينماليياوجهالشؤم؟ سعيد بكل انكسار: اعذرني على تأخري في سداد الدين، بإذن الله سأجد أكثر وأكثر حتى أسدده. التاجر: لقد نفذ صبري يا هذا، إذا لم تستطع قضاء دينك فغادر الكوخ وأعطني إياه بدل الدين. سعيد: وأين أذهب وأسرتي؟ التاجر: وما دخلي أنا؟ سعيد: إنا لله وإنا إليه راجعون!

التاجر: لماذا أتيت؟ هل ستسدد بعض الدين؟ سعيد: لا، أنا لا أملك المال الآن. التاجر: ما رأيك أن تعطيني هذا الخبز وهذه الخضروات وأحسبها في قضاء دينك. سعيد: هي قوت يومنا، أنا وطفلتي وزوجتي. التاجر: ولماذا أتيت إذا؟ سعيد: كنت أريد أن أطلب منك حبلا أُصلح به أرجوحة ابنتي. التاجر: ماذا! ماذا! تُصلح الأرجوحة! وعلى حسابي! سعيد: لا، أضف الثمن إلى الدين الذي عل ّي وسأسدده بإذن الله. التاجر بسخرية: ههههه تسدده!.. أحلام اليقظة، أتظنني معتوها!
سأعطيك الحبل، ولكني أتمنى حقا ألا أراك ثانيةً.. سعيد بحزن: جزاك الله خيرا.. التاجر: لا جزاك الله خيرا، هيا خذه وغادر، ولا تريني وجهك ثانيةً إلا عند سداد دينك.
غادر سعيد والأسى يملأ قلبه، لقد فقد أغلى ما يملك، أمله وابتسامته. استمر طوال طريقه إلى المنزل بالتفكير بكلام الخباز وال ُخضري والتاجر، يسمع صدى كلماتهم ترن في أذنه، وطعناتها في قلبه، ك ٌّل منهم نكأ جر ًحا لا يندمل، وحمله من الهم ما لا َيحتمل.
ماذا أفعل؟ في كلامهم عين الصواب، كيف سأسدد ديني وأنا في أسعد أيامي لا أستطيع أن أحصل إلا على قوت يومي! كيف سأكون أبا صالحا وأنا أعد ابنتي وعودا لا أقدر على إيفائها لفقري! كيف! وكيف! وكيف! وكيف!... وما هو الحل؟
تمكن اليأس من قلبه، حتى وجد نفسه بجوار كوخه، بجوار الأرجوحة الخائرة، نظر إليها وأخذ يفكر: أي راحة أنت فيها بعد سقوطك أيتها الأرجوحة! أي ِحم ٍل كان سيكون عليك الآن لو لم تسق ِط وتكت ِب الفصل الأخير من حياتك!
وبكل هدوء.. اعتلى خشبةً ليربط طرف الحبل الذي في يده بغصن، وربط يأسه الطرف الآخر حول رقبته. وقف على الخشبة متأملا منظر الغروب، استنشق أنفاسه الأخيرة. ركل الخشبة لينهي مأساته، ليرتاح كالأرجوحة، ليهرب من واق ٍع الموت أهون ما فيه.
مات سعيد، مات ودموعه على خديه تعكس أشعة الغروب، مات تاركا خلفه سر موته.. من قتله؟؟ أقتله يأسه؟ أم قتله الخباز والخضري والتاجر؟