مرحباً بأصدقاء الأدب والكُتب, هنا ملتقى الأدباء ومجلة الكُتاب العظماء, هنا حيث ننثر من ربيع الكلمات مطراً .. أهلاً بكم
لم يكن فؤادي مٌترعاً بالحب
ولم يٌباغتني ضوء العشق
ومثلي لا تعجزه البلاغة
ولا تستعصي عليه اللغة والبيان
وكنتٌ أشعرٌ أن كل شيء مسخرٌ لي
حتى حاصرني جمالٌ الحزنُ بعينيها
واستعصت عليَ معاجم اللغة التي أرتلها
وأدعو الله أن يحلل عٌقدة من لساني …
يا الله دثروني من ربة الحسن وبابه
أين قناع القسوة والغرور الذي كنتٌ أرتديه
أين تلك النفس التي تضيقٌ من المواعيد
ولا تشدها رائحة الزهور والعطور
أين تلك الأنفة التي لا تتوسد
إلا وجه السماء وصدر الغيم
أين ذلك الجسد الذي
لم تعبث به سياط الحٌب
فإلى أي الجهات أولِ وجهي
وكيف أحافظ على سبحة الكبرياء والشموخ…
يارب نٌذري معقودة بين يديك
اطلق سراحها من قلبي
فنفسي ليست متهيئة لضعف الحٌب
أكره الهوان والانكسار وعوز العاشق
أكره الفقد والغياب وأسوار المدينة المٌغلقة
أكره الصمت وحشرجة الصدر والاستسلامٌ للنحيب …
أخاف أن يأتي الوقت الذي أجبرٌ فيه
على عد أنفاس الساعة
ليكون ثمة لقاء منتظر …
أخافُ أن أصبو في لحظة ضعفي
وأطرقٌ أبواب العرافين والعرفات
وأبحثٌ عن تعويذة عشق
تزرع السكينة في قعر جوفي ..
أخاف من لحظة جنون تجعلني
أتحسس رأس الطريق
الذي تنمو فوقه خطواتها
أن أستعطف تلك النخلة التي
ظللت وجهها من حٌرقة الشمس
أخاف أن أسأل الهواء الذي يشهقٌ به صدري
وهو يٌحاول صد الأبواب عنها
ويغلقٌ على عٌمره تابوت الخيبة
وويلات الطعنات تٌحاصر قلبه من أقْصاه إلى أقصاه …
–
أعود إلى الكتاب من وقت لآخر. أفتح دفته الأولى أتصفحه بعناية ورقة ، ورقة، ثم أعيده لمكانه، فيما الوقت يمر طويلاً وكتابي
يرقد دون حراك، في صبيحة أحد الأيام حملته بين يدي، ربَّتُّ على غلافه الأنيق، نفضت عنه غبار القطيعة، فالتمعت أحرف عنوانه، قررت أن أقرأ كم صفحة من صفحاته ، أذكر أني مضيت في القراءة حتى أنهيت الفصل الأول، وضعت فاصلةً من ريش حيث وصلت، ورفعته فوق الرف الزجاجي القريب مني متمتمة بالعودة إليه في لحظة شوق ، رمقتني
كلمات العنوان بنظرة
حادة قائلة ”
كل البشر يكذبون.
لأوَّلِ مرةٍ أقرأُ على قسماتِ وجهِ الرجلِ الآسيوي معنى الغربة، بدتْ على جبينه بعضُ التعاريج، كان يضعُ في رغيفِ الخبزِ حشواتِ الطعامِ وينظر إليَّ باستغرابٍ وكأنه يتساءلُ عن تأملي غيرِ المعهود، وأنا أنظرُ إلى التعاريجِ التي رسمتْ على جبهتِه مرارةَ الغربةِ تخيلتُ أنَّ أمه بعثتْ إليه عبرَ الأثيرِ بيتين من الشعرِ تشتكي حالها أو تصفُ حالَه في الغربة، ظلَّ ينظرُ نحوي وأنا أنظرُ إليه حتى فرغَ من مهمته لإطعامي، ناولني القرصَ المحشوَّ بالبيضِ المقليِّ والطعميةِ التي تعلَّمَ صُنعَها من مغتربين مثله ووضعَ مع البيضِ والطعميةِ بعضَ البطاطسِ المقليَّةِ والبهارات، لم أفكر مطلقًا في كميةِ السُّعراتِ في اللوحةِ المعلقةِ أمامي التي تحددُ كميتها، غادرتُه لأشتري من مكانٍ مجاورٍ كوبًا من عصيرِ البطيخِ المفضلِ لي، لم أشأ أن أتجرعَ مرارةَ غربةٍ كتلك الغربةِ التي يعيشها العاملُ النحيل، ولأني أريدُ المزيدَ من معرفةِ تفاصيلِ الاغترابِ اتجهتُ إلى الوادي القريبِ لأتأملَ أجنحةَ الطيورِ ومناقيرَها وهل العصافيرُ في الوادي تشعرُ بالمرارةِ في الصباحِ الذي بدا مسودًا وكأنه يعيش معنا الغربةَ بعد فراقِ الليل، جلستُ على عُشبةٍ نصفُها أخضر ونصفُها الآخر يتجهُ لأن يكونَ يابسًا، هبطَ إلى جواري طائرٌ يغردُ بألمٍ ويَحكُّ بطنَه الصغيرَ بإحدى رجليه، اكتفيتُ بوضعِ قليلٍ من الحشواتِ الزائدةِ من طرفِ الرغيفِ وفتاتٍ من الخبزِ له، تغيَّرَ صوتُه للأجملِ بعدَ أن نقرَ نقرتين من الطعامِ القليلِ وانطلقَ بفرح، عرفتُ ذلك من تغريدتِه المنتشية، سرعان ماعادَ ومعه سربٌ في مثلِ عمره، دمعتْ عينايَ فألقيتُ لها نصفَ مامعي من طعامٍ وسكبتُ لها العصيرَ على أرضٍ ملساء ليتذقوا السُّكرَ في عصيرِ البطيخ، سألتُ نفسي! هل العصافيرُ غرباءَ مثلي وقد جاءوا من أعشاش قريبةٍ وحولها أغصانٌ طريةٌ وسنابلُ ملأى في فصلِ الخريف، كتمتُ عبرةَ الغربةِ وجلستُ أخطُّ على الأرضِ خطوطًا غيرَ مفهومة، لم تكن كتابةً بالحروف، كانت تعاريجُ تشبهُ إلى حدٍّ كبيرٍ تلك التي رأيتُها على جبينِ المغتربِ الذي لم يسألْني ولم أسألْه عن وجهِ الشَّبَهَ بيننا، كان بيننا حاجزٌ زجاجيٌّ امتصَّ بعض العبَراتِ قبلَ أن تنفجرَ في أولِّ الصباح.
شربتُ فنجانَ القهوةِ العاشر، أكلتُ الكثيرَ من حباتِ التمر، رميتُ النوى في كلِّ مكان، تشكَّلَ عليه جيشٌ من النمل، تنبهتُ إلى ذلك الحدثِ قبل أن يرتفعَ صوتُ أمي بالصراخ، توجهتُ إلى غرفةِ النومِ التي تنعمُ بالفوضى، حملتُ الكاميرا على عجل، عدتُ أدراجي مسرعاً، أخذتُ ألتقطُ عدةَ صورٍ لذلك السربِ من النملِ الذي تجمَّعَ على نتفِ من التمرِ العالقةِ بالنوى.
كنتُ أحبُّ أن آخذَ الصورةَ من عدِّةِ زوايا، نصبتُ الكاميرا فوق الدرجِ القديمِ الذي يقبعُ في وسطهِ التلفازُ و عن يمينه الراديو و عن يساره المدفأةُ و يوجدُ في الأسفلِ الكثيرُ من أشرطةِ الفيديو و الكاسيت و فوقه الكثيرُ من المزهرياتِ البلاستيكيةِ التي كانت أمي تعملُ على تلميعِها بقطعةٍ من القماشِ في كلِّ مناسبة.
كنتُ أقول لها إنَّ تلك الأشياءَ يُقالُ عليها تحفٌ من زمنِ العصرِ الحجري، لم أكن أحسُّ أني بفعلتي تلك سأهدمُ ما بداخلها من أحلامٍ كانت تتناولها كالدواءِ حتى تعيش في سكينةٍ من مرضِ السكرِ و الضغطِ و القلب.
تناولتُ الكاميرا التي شرعتُ على تنظيفِها, خرجتُ قاصداً بيتَ ذلك المسنِّ الذي تزوجَ عشرين مرةً وله من الأولادِ و البناتِ خمسون و الأحفادُ لا أعلم, غلبَ عليه مرضُ الزهايمر قبل أن يقولَ عددَهم, و لكنهُ تذكر أن يقول ما شاء الله.
قادني حفيدُه إلى مبنى صُنعَ من الطين قابعٍ خلفَ مجموعةٍ من المباني الفخمة، سرَتِ السعادةُ إلى قلبي عندما رأيتُ تلك المزرعةَ الغناءَ ذات المساحةِ الكبيرة، كان العمَّالُ منتشرين في كلِّ مكانٍ من المزرعةِ فمنهم مَن كان يجمع ( الطماطم, الخيار, الخس, الكوسة , البامية) و هناك مَن يعملُ على جمعِ الحطبِ وجَنْيِ التمرِ و هناك مَن يعملُ في كُرومِ العنبِ ومَن يضعُ الكثيرَ من الكراتينِ الممتلئةِ بالخيراتِ في الحافلاتِ الواقفةِ حتى تقلَّها إلى السوق.
دخلتُ إلى المجلسِ الذي يجلسُ بداخله ذلك المسنُّ الذي اقترب عمره من مئةِ عام، كان يجلسُ
وسطَ المكانِ مائلًا بجسمه النحيلِ على الوسادةِ التي كانت على يمينه يتمنطقُ خاصرتَه حزامٌ أسود من الجلدِ و يوجدُ على رأسهِ “شماغ” أحمر أسفله طاقيةٌ؛ ما إن سمعَ الصوتَ حتى اعتدلَ في جلستهِ ثم رحَّبَ بنا بطريقتهِ الخاصة.
كان لا زال يمتلكُ صوتًا جهوريًّا يسمعه مَن كان خلفَ البابِ أو متقرفصًا بجلستهِ داخلَ المزرعة، قدَّمَ لي الشابُ الذي حضرَ معي فنجانًا من القهوة، شكرتهُ على ذلك، بادرني الرجلُ المسنُّ و هو يفرُكُ لحيتَه بالسؤالِ قائلاً: مَن أنت؟ أخبرتُه أني مصوِّرٌ قادمٌ من مدينةِ الرياضِ أريدُ أن ألتقطَ له و للبيتِ والمزرعةِ مجموعةً من الصورِ التاريخية.
ظهرتْ على محيَّاه ابتسامةٌ أراحتْني من عناءِ الكلام، أخذتُ له العشراتِ من الصورِ داخلَ ذلك المجلسِ المفروشِ بالسجادِ الأحمرِ والمساندِ الحُمرِ الضخمةِ التي بينها مجموعةٌ من المراكي ذاتِ الصناعةِ التركيةِ وفي الوسطِ “مجمرٌ” كبيرٌ يوجدُ عليه العديدُ من دلالِ القهوةِ وأباريقَ الشاي.
تجولتُ معه في أرجاءِ المزرعة، أخذتُ لهُ صورًا و هو يتوسطُ الأغنامَ وصورًا وهو ممسكٌ بالجملِ و أخرى وهو يمتطي صهوةَ الحصانِ كما التقطتُ له صورًا وهو يتناولُ ثمارَ التينِ الشهيةِ وأخرى وهو يشربُ من ماءِ البئرِ، كان يتظاهرُ أنه لا زالُ يمتلكُ القدرةَ على أن يسابقَ أحفادَ أبنائه وعندما يتحدثُ إلى العمالِ، كانت كاميرتي مبتهجةً بذلك الجمالِ الذي ألقمته لها من الصباحِ حتى خيَّمَ الليلُ علينا.
عدتُ إلى بيتِ أمي القديم، جمعتُ أمتعتي، أَغلقتُ البابَ على ذكرياتٍ داخلَ ذلك البيت ثم وضعتُ نسخةً من المفاتيحِ أمانةً عند جارنا “أبو مسعود” كي يسقيَ الزرعَ و ينظفَ البيتَ الذي عملتُ على ترميمِه منذُ خمسِ سنوات.
وقفتُ بجوارِ الباب، شاهدتُ سِربًا من الحمامِ المعانقِ للغيوم، التقطُتُ الصورةَ الأخيرةَ ورحلتُ .