- 15/01/2023 casualarticlesandblogsonline
- 26/12/2022 How to make a scary Halloween charcuterie board?
- 24/12/2022 كلية العلوم الإنسانية ونادي أبها الأدبي يحتفيان باليوم العالمي للغة العربية
- 12/12/2022 webblogsa
ضوء قنديل [ 164 ]

من مذكرات طبيب
تشكل صداقتي للمرضى محور عملي وحياتي. خالد رجل أربعيني معافى جسدياً ،وذو شعر كثيف أشيب.
كان في الثامنة عشرة من عمره عندما تعرض لحادث سير، فقد على إثره أسرته، وجزء كبير من ذاكرته. يرقد في المشفى طيلة السنوات الماضية.
تشير تقارير ملفه إلى أنه دخل في غيبوبة كاملة،أفاق منها قبل أيام.
في أول جلسة،أبدى تجاوباً واستعداداً للحديث معي.
– صباحك جميل.
– أهلا وسهلا .
– حدثني عن نفسك؟
أخبرني باسمه واسم قريته. تحدث عن جيرانه وأصدقائه، وملعبهم الترابي.
تكلم بحماسه عن أسرته، أبوه، أمه، أخته… وتوأمه يوسف!.
وراح يُسهب في سرد آخر مساء يذكره، بتفصيل وحنان.
توقف فجأة! ثم طلب ورقة بيضاء وقلم رصاص.ظل جامدا بلا حراك، مع نظره مرتبكة ومظلمة .ثم شرع برسم ملامح شابٍ مشرقٍ .كان بارعاً في إبراز التقاسيم..
– يشبهك كثيرا!.
– ……….
– ولكن…! لمَ هذه الشامة على الوجنة اليمنى!.
– هذا أخي يوسف – قالها بابتسامة .
كان ممتلئاًبالحيوية وهو يتحدث عن أخيه. راح يتذكر ويحيا الأشياء بخياله.
يكبرني يوسف بسبع دقائق فقط. لكني أقوى منه، انظر..!
شمّر عن عضلاته ثم أطلق قهقهة عالية رجّت العيادة…
استوقفني أنه لا يتكلم بصيغة الماضي، بل بصيغة الحاضر…!
رفعت روزنامة التقويم عن المكتب؛ ثم سألته وأنا أخفي حيرتي : في أي سنة نحن الآن؟
أجاب : في عام ألفين، قالها بكل ثقة! .
باغتّه : كم عمرك الآن؟.
تردد للحظة، ، ثم قال : أعتقد في الثامنة عشرة! .
شعرت أن الوقت قد حان لإنهاء جلستنا. رافقته الممرضة إلى غرفة تنويمه.
آثرتُ أن تكون الجلسة التالية مليئة بالأريحية والاستلطاف.
– صباح الخير صديقي العزيز خالد.
لم تكن هناك أي علامة على وجهه تدل على تعرفه عليّ! .
سألته : ألم نلتقِ قبلاً؟
– لا، لا أظن ذلك يادكتور؟
– حسناً، لماذا تدعوني دكتور؟
– من خلال اسمك على المكتب .
– أين تظن نفسك الآن؟
– كل شيء يوحي لي أني في مستشفى ما. ولكن! ماذا أفعل هنا!
هل أنا مريض؟ أم أعمل هنا؟
ربما أعمل هنا؛ فأنا أشعر بشعور جيد … ما وظيفتي؟
أريته الورقة التي رسم عليها توأمه .ذُهل، وأنكر بأن الرسمة تخصه .
سألني مستنكرا : أين أسرتي؟
قلت وأنا أناوله مرآة : انظر في المرآة، وأخبرني ماذا ترى؟
شحب وجهه فجأة، وأمسك بشعره الأبيض…
هاج بشدة وقام مذعوراً.
صارحته :أنت تعاني فقداً شديدا في الذاكرة الحديثة، خلاف الماضي الذي تعيشه بوضوح.
تغير لونه ، ثم قال :
– إذاً أنا مريض، وتلك مشكلتي..!
اصطحبته إلى النافذة، أشار إلى أولاد يلعبون كرة القدم. استعاد لونه وبدأ يبتسم.
انسحبتُ بهدوء…
كنتُ معصوراً بالعاطفة نحوه، لقد كان روحاً ضائعة.
تاهت حياته في حالة من عدم اليقين، وأذابها النسيان.
عايدته هذا الصباح في حجرته.
عندما فتحتُ الباب، التفتَ ناحيتي، وارتسم على وجهه تعبير بهيج.
قال : أهلا وسهلا! تريد أن تتحدث إليّ.. ؟
قلت له : هل تسمح لي أن أجري عليك بعض الاختبارات؟ وإن تجاوزتها؛ فسآخذك لفسحة خارج حدود المستشفى.
أظهر خالد مقدرة ممتازة في اختبار الذكاء، كان سريع البديهة وشديد الملاحظة. ليست لديه في أية صعوبة في حل المسائل السريعة.
لكنّي اكتشفت أن آثار ذاكرته الحديثة سريعة الزوال، وعرضة لأن تمحى في غضون دقائق !. عدا بعض الصور الباهتة عالقة كصدى مبهم أو شعور بالاعتياد.
فقد وضعت أمامه قلم وسماعة ومذكرة صغيرة، وطلبت منه أن يذكرها، ومن ثم غطيتها.
وبعد أن تحادثنا لبرهة، سألته عن الأشياء التي وضعتها تحت الغطاء، لم يستطع أن يتذكر شيئاً منها.
ألزمته أن يحتفظ بدفتر يوميات، يدون فيه يومياته، أسماء شخوص وأماكن، تجاربه، مشاعره وتأملاته…
كتبتُ في جدول بياناته : “حياة مبكرة يتذكرها خالد بصورة حية. ولكن لسبب ما، توقفت ذكرياته هناك. وهذا يؤكد بأن توقف ذاكرته عند العام ألفين كان حادا، مما خلف لديه هفوات عميقة في الذاكرة الحديثة. ”
طمأنته بأني لازلت على وعدي له بالفسحة.
ظل مبحلقاً، ثم تمتم: أي فسحة…!

( خاطرة في أقصوصة )
في رقة الأنثى.. بهمس ناعم.. ربتت على كتفيه في حنان بالغ.. لمست خصلات شعره التي تتخللها فضيات السنين المتناثرة..
جلست بجواره قالت له بكل معاني الحب والأمل المذاب في عمق اللهفة.. وقد عشقت في محياه الطفولي ذاك الوهج الجميل :
لقائي بك غير مافي تكويني.. لحظات معك لكنها بحجم مسافات الفضاء تضج حبََا وشغفََا..
بعد غيبة طويلة في ذاكرة الزمن أظنها تكفي لغرس ذكرياتنا في زمن أغفلنا وجوده..
فرحتي بوجودك مدججة بألوان الشوق.. حولت بسمتي الباهتة إلى هزجة مفعمة بنغمات طربية مع أوتار نبضك.
لا أريد لخيالاتي البلهاء تصور لي رحيلك عني.. لايمكن أن أبكيك كل حياتي.. في قلبي نبضة وأدتها لتبقى أنت نبضي.
كفانا ياحبي وجع السنين.. وأنات الأحداث.
أنحنى على كفيها يلثمهما وفي أحداقه دمعات عالقة كحبات اللؤلؤ البراق
قال لها : رجعت إليك حبيبتي.. أنا لك حتى يحين الرحيل.

انتظار مُرّ …
انتظار مُرّ …
قصة قصيرة…
يذرع الرصيف ذهاباً ،
وإياباً على قدميه المشنوقتين
في حذاء جلدي له شراكان متصالبان مهترئان ،
الشمس تلسع
سحنته الحنطية ،
وكفيه وهامته
المعصوبة بشماغٍ بالٍ ،
لا يكترث لحرارة الشمس ،
بل يزيدها اتقاداً بدخان سيجارته المرتعشة بين اصبعيه الناحلتين ،
و شفتيه الصخرية اللون ، هكذا قضى جل الظهيرة ، مابين ، الرصيف وحبال السكة
الممتدة أمامه، يركل بتجهمٍ
حجارة الملل ، وينفث دخان سيجارته بمرارة انتظارٍ طال ،
بينما تمر الكثير من سيارات الأجرة، بعض سائقيها توقفوا
لبرهة يدعونه للركوب معهم
فيلوح لهم بالمضي ، مشيحاً عنهم بوجهه تلقاء المجهول
الذي رسمته خطواته الوئيدة
على الطريق ،
الطريق التي ملت دهسه البائس ،
جيئةً وذهابا ، مر النهار طويلاً ،
مال عمود الشمس قليلاً ،
توقف فجأة، لوَّحَ لسيارة سوداء خاصة توقفت بجواره ،
وخرجت من زجاجها الخلفي
يد منتصبة سبابتها
بغلظة.. فيما يبدو أن
الراكب بالخلف كان يهدد
الرجل المسكين بأمر ما !!
ثار الرجل ساخطاً ،
متراجعاً للخلف
يضرب كفاً بكف ، بطريقة تنبئ
بأن هناك خلافاً نشب بينهما..
تحركت السيارة
بسرعة كبيرة كادت تدهسه ،
رفع كلتا يديه للسماء
عائداً يذرعُ
الرصيف ثانيةً ..

هل ياترى يعود ؟
وأنا معه أرقب لحظات أفراحنا عند اللقاء (فهل ياترى يعود)؟

ق. ق. ج ( بلا ذنب )
بقي على زواجهما أياما معدودة..
شاب لايرفض مقدما قلبه مهرا ..
ترك ملف أوراقه الشخصية بالسيارة..
أخذت تعبث بالأوراق لحين عودته وهو يبادلها جسرا من نظرات الحب و الوله..
مالبثت أن تحولت عيناها إلى بركتي دمع..
عاد وجرحت سمعه و قلبه بسكين :
“لقيط؟؟ لم كذبت وخبأت الحقيقة ؟”
فرت دمعة من عينه :
” لأربعة : أحبك وأثق في إنصافك ولكوني غرس مثمر وإن تاه جذره عمقا ..”
اختنق صوته وهي تقفز من السيارة و تبتعد :
” وحتى لا تعدميني رحيلاً “

ق. ق. ج ( عقوق )
غمَرَتها بلطفِ ذراعيها حتى اشتدت ذراعاها..
علّمتها كيف ترفرف وتعلو..
حلَّقتْ و سَمتْ..
وحينها أفلتتْ يدها فوقعتْ في جرفِ وادٍ سحيق..
هبطتْ بها في
دار المُسنّات.

احضروا والده
رمقها عن بُعْدٍ قمحية ، رشيقةً، تتربع على صخرة بلوريَّة بشاطئ رماله فضيّة ، مصوبة عينيها تجاه يم لها معه ثأر؛ تحملق بعيدًا؛ تجترُّ مرارة ذكرىً جلادُها لن تناله عقوبة؛ عبثَا حاول بإشارات أن تلتفت نحوه، توقف خشية أن يفسدَ خلوتَها ؛ معوّلًا على أمواج تحرِّض جفونها ، تحبس تأوهاتها المنكسرة..
اقتربَ مع مقدم موج لطيف ؛توّج سنامه شيءٌ لم يتبيَّن كنهَه، خمّنهُ قطعة خشبية منسيَّة؛ اقترب الموج أكثر ؛ كاد أن يحتضنها، لفظ مغلفًا واجهته زجاجية بحجم كف وليد ؛ سكن حجرها؛ تمتمَ مستفسرًا … تنهدت بعمق خشيَ أن تلفظ معه أنفاسَها ، أخيرًا كسرت صومها ، انبأتُهُ : “بداخل هذه القلادة …صورة ابني الوحيد , حمله والدُه على كتفه في هذا اليم فاختطفه ووالده موجٌ لئيم ، وقد استحوذ عليَّ حينها تبلدٌ غريب من هول الحدث
منذ خمس سنين انتظرهما على هذا الشاطئ، فيما أهلي ما انفكوا يحاولون أن اقبل من ترددوا يطلبون يدي؛ لسان حالهم … لعلي أُرْزَقُ بطفلٍ يئدُ حزني ويبلسم وحدتي ، جوابي الحاضر ظل وسيظل، سؤالي الأبدي : أتضمنون أن ألدَ شبيهًا لولدي؛ أحضروا والده .

هجران .
قصة قصيرة
كانت وماتزال قريبتها التي مافتئت تتمنى لها الخير ، وتدعو بأن يهدي الله لها زوجها وأبناءها، كانت بدورها ترد على قريبتها بذات الدعاء، وتكن لها ذات المشاعر، من مودة قُرْبَى ، وصلة رحم ، ذات مساء خفتتها عبر اتصال قصير متسائلة هل يزورك زوجك ؟! لا. لمَ؟ هجرني منذ أعوام عديدة وأظنك تعرفين جيدا الحكاية كلها! سكتت لبرهة، ثم قالت : إمممم عوضك الله خيراً، لا تبتئسي ، قالت : نسيته تماماً! وهل بعد تلك الأعوام من بؤس أشد مما مضى ؟! عاجلتها قريبتها لا تدعِ عليه فلعل الله يهديه يوماً ويرجع إليك ولأبنائه ، تنهدت بأسىً منهيةً المكالمة ،مضت سنتان على مكالمتهما تلك ، وفي بداية العام الثالث عرفت تلك القريبة بأن المهجورة قد رفعت دعوى نفقة على زوجها الغائب ، اتصلت لتوبخها ، وتكيل لها النصائح بحدة ، وبصوت غليظ قالت: كيف تجرؤين على رفع دعوى نفقة ضد زوجك ألا تخجلين من صنيع كهذا ؟! أجابتها” ماشأنك به ؟! هل يهمك أمره ؟! هل هو ابنك أم أخاك ؟! أجابت هو قريبي مثلك تماماً ويهمني سمعة عائلتيكما .. قالت : وهل كان يهمك وضعي المادي أنا وابنائي طيلة تلك السنوات الماضية وإلى الآن ؟! سكتت ، وبعد ثوانٍ أردفت إذا كنت تريدين الطلاق فسيطلقك وسأسعى معك لتحصلين على مخصصاتٍ مالية من الضمان الإجتماعي.. وعلى فكرة والدته يرحمها الله تعالى كانت قد أوصتني به خيراً .. نهرتها الأخيرة” نعم.. نعم !!! .. ماذا قلت؟! وهل هو مريض عقلياً حتى توصيك والدته به خيرا؟! وأين هن شقيقاته الأقرب إليه منك وأشقاؤه وأبناؤه ؟! ثم من قال لك أريد الطلاق ؟! ذُهلت الأخرى على الطرف الآخر محوقلة بصوت متهدج من الخوف ، ومتمتمة بكلمات انفلتت منها كالبرق الخاطف .. أسمعي قد بحثت له عن زوجة غيرك … وزواجه سيكون قريباً ! قالت المهجورة: منّك لله .. عرفت الآن سبب الهجران أيتها الغادرة …

أنى لها انتظاري.
قصة قصيرة.
يقتعد كرسيه الهزاز الذي جلبه له صديقه الأجنبي ، يقول بأنه تحفة فريدة من خشب الصندل ، لا يسمح لأي كان بالجلوس عليه إذ يعده من أجمل مقتنياته وأشد خصوصياته التي يحرم على الغير الإقتراب منه، لذا ظل يحتفظ به في مكتبته المنزلية التي تطل على الشارع العام ، الشارع الذي قلما يتوقف عنه المطر ، ليتأرجح عليه في أوقات راحته ، مطلقاً سهام عينيه من خلف زجاج النافذة ، مستأنساً بخلوته ، سارحاً بخياله في الذِّكَرِ البعيدة …
أثناء أرجحته لجسده على كرسيه ، تمتم قائلاً : قد لا أفي بوعدي لها الليلة ، تباً أشعر بخمول غير معتاد والأجواء تنذر بالمطر ، وهذا الشارع المكتظ بالضجيج أمامي سيحيله المطر لبحيرة عائمة ، إن لم يكن لبحيرات ، ولن يجرؤ كهلٌ مثلي على المجازفة بالخروج في مثل هذا الطقس السيئ، مد يده اليسار وتناول كوب الشاي الذي نسيه منذ دقائقٍ على الطاولة المنبسطة أمامه قرب النافذة ، وراح يرشف منه رشفات كبيرة متتالية، بينما يده اليمنى تجوس على صدره المحتقن بالسعال ،
تذكر المقالة وكان عليه الإنتهاء من كتابتها قبل حلول المساء ، استرد عينيه من خارج النافذة، تاركاً لكرسيه متابعة الاهتزاز ، انصرف لطاولته التي تكاد تحتل نصف مكتبته ، وراح يبحث عن قلمه المفضل الذي سيكتب به مقالته ، فمهما حفلت آنية أقلامه التي على مكتبه بأنواع الأقلام ، إلا أنه لا يحبذ سوى ذلك القلم الجاف الذي دأب على شرائه من المكتبات القديمة في الأحياء الشعبية ، أو من على بسطات الباعة الذين يفترشون الأرصفة، إذ كان يستشعر معاناة البسطاء فيشتري بعض أدواته الكتابية منهم ، بحث فوق المكتب الضخم ، نظر أسفله ، اتجه لأرفف المكتبة، فلم يجد القلم المفضل ، تمتم قائلاً : أعلم أني لن أفيها ماوعدتها به هذه الليلة، تباً قلمي ضاع ، تناول غيره على مضض ، وراح يكتب كلماته التي استعصت على كل الأقلام ، عدا ذلك القلم ، تمعر وجهه غيظاً، قرفص الورقة التي رصف سطرها الأول بتلك الكلمات ، (أعرف أني لن أفي بوعدي لها هذه الليلة، وأنَّى لها انتظاري) وألقى بالورقة في سلة المهملات تحت مكتبه الضخم ، وعاد مجدداً يبحث عن قلمه المفضل..

وهم
وهم
ذات ليلة شتوية باردة، كنت مع صديق قديم -غاب عني مدة طويلة- في طريقنا إلى أحد مطاعم المدينة المشهورة. كانت الأجواء الدافئة والمعتمة داخل السيارة وصمت صاحبي، تستدعي السكينة، مما أضفى على الحديث نوعا من الحميمية، وساعد الإنسكاب الناعم لصوت غنائي مخملي على انعاش الروح لتبوح بحرية صادقة عن مكنونات أعماقها. كنت ممتلئا حماسا وسعادة أثناء حديثي عن ذكريات أسفارنا البعيدة، عن المطارات والمقاهي، عن ردهات الفنادق وسهراتنا الليلية الطويلة. أخذتني النشوة المنعشة إلى الإحتراق شوقا للترحال من جديد إلى بلدان العالم. لكن سرعان ما تحولت المتعة إلى مأساة جمَّدت الشغف والحماس في داخلي!
أشعل صاحبي مصباح السيارة الداخلي ثم التفت إليَّ وقال:
أرجوك، توقف، مزاجي لم يعد يحتمل.
بدا لي صوته متوترا.
بقيت مندهشا لبرهة ثم سألته؛
ما بك؟ مالذي حدث؟
قال بصوت مرتعش؛
لا أريد سماع الماضي، إنه يثير تعاستي!
ارتسمت على شفتي ابتسامة استغراب! تبادلنا بعض الكلمات في نفس الوقت، ثم صمتنا.
نظرت إليه بتمعن، ملامحه المشدودة وعيونه الفزعة حملت أفكاري بعيدا.. هل الكآبة أمسكت به أخيرا؟!
أبطأ السرعة قليلا معتقدا أنه حدس ما أفكر فيه وقال:
لست كما تظن، أنا لا أتعاطى شيئا ولله الحمد، لكن بعد موت زوجتي وأبنائي الثلاثة أصبحت أيامي مضطربة، كانوا يمثلون كل شيء في حياتي لدرجة أنني كنت لا أنظر للوجود إلا من خلالهم، وفجأة رحلوا جميعا وتركوني وحيدا مع قدري المثقل بالألم.
ومنذ ذلك الوقت قطعت كل صلاتي بالبشر، ولم أعد أبالي بفراق أحدهم أو حتى موته.
ظل يحاول كبح دموعه لكنها غلبته في الأخير، سقطت حبات ساخنة على وجنتيه القاسية.
أكمل بعد صمت ثواني:
الوحدة تخفف شعوري بالعذاب والقلق من نظرات الناس الحادة. والآن لا أجد الرغبة في تبادل الأحاديث مع أحد، وكلما أرجوه أن ينسحبوا من حياتي ويبتعدوا عني.
قلت له؛
لكن الوحدة باردة ومظلمة يا صديقي، إنها تبقيك منعزلا، تتأمل المآسي. افتقادك للعلاقة مع الأشياء والبشر ربما تأخذك إلى هوة سحيقة لا تسطيع الخروج منها بسهولة. يجب أن تكون قويا، ولا تيأس إذا لم تجر الأمور كما تشتهي. مأساتك لا يوجد بها أشخاص حقيقيون، إنه الوهم ليس إلا، يجرك من بؤس إلى آخر.
لجأ إلى الصمت خلال ما تبقى من الطريق، وأنا كذلك، ولكن على مضض، تشكل على إثر ذلك الصمت فراغ حذر.
وصلنا أخيرا إلى وجهتنا. كان على جانبي الشارع سلسلة من المطاعم والمحلات التجارية المتنوعة. انعطف يمينا وتوقف على مقربة من المطعم المقصود. حركة المرور الكثيفة اضطرتني للنزول من السيارة لأعطيه الفرصة لركنها في أحد الممرات الضيقة -لم يكن من السهل العثور على موقف في مثل هذه الأماكن- وما أن هممت بإغلاق الباب حتى انحرف باتجاه الشارع وانطلق سريعا. شعرت بالحزن وأنا أراه يبتعد، ورحت أشير باتجاهه وأنادي بصوت مرتفع، وكأن لا أحد في المكان سواي؛
هيه .. أنت .. مالذي تفعله ؟ لماذا تذهب وتتركتني لوحدي يارجل؟
هل نسيت صداقتنا القديمة .. هه .. ألم تقل عنها يوما من الأيام، إنها أفضل من يواسيك حين يخذلك الآخرون ؟
أيقظ انتباهي اصطدام أحد المارة بكتفي، نظرت إلى الوراء، أنوار المحلات تمتد إلى ما لا نهاية، سرت بخطى مترددة، لا تدري إلى أين تتجه. كان في الجهة المقابلة، مقهى صغير، بدأ هادئا وجميلا، رفعت بصرى إلى الأعلى، تنفست بعمق، ثم اتجهت نحوه، وقبل أن أدلف داخله، عاودت النظر إلى الشارع، ودار في خلدي تعاسة صديقي القديم، كم كان احتياجه شديدا إلى امرأة تهتم بشأنه وتلطف بجسدها الدافيء هيجان مشاعره، فمنذ إصابته بطلق ناري أثناء الحرب وهو غير مُصدِّق أنه فقد القدرة على أن يكون زوجا حقيقيا.

✍️ “خبط عشواء”
تنغمسُ في مكان مزدحم،متكئاً بظهرك إلى جدار متصدع .
ترمقُ عيناك الفراغ، وتشمّ رائحة خوفك.
تضرب الفوضى أطنابها في الخارج…!
تنهضُ إلى النافذة الصغيرة، تحبسُ أنفاسك وتختلس النظر.
هدير محرك حافلة قادمة!.
يترجل منها كبيرهم بصدره العاري!.
يُفتح له الباب، يتجاوز بنظره جميع من حولك، ويقع الاختيار عليك!.
تُقاد إلى الحافلة معصوب العينين…!

أم حبيبة
عادا للتو من النادي؛ حيث يمارسان الرياضة، ليسترخيا في هذا المقهى يلتقطان الأنفاس، ويتجاذبان الأحاديث، ويحتسيان القهوة ، ويستنشقان الحوار العذب، ثم ينطلقان عائدَيْن كلٌّ إلى بيته، لم تتزحزح علاقتهما، ولم يهترئ نسيجها طوال سنين خلت.
لديهما كثير من الكلام ليقولاه، لما بينهما من المشترَكات القوية والصلات الطيبة، فهما صديقان بل أخَوان، لم يفرِّق بينهما كرُّ الغداة، ولا مرُّ العشي، لم تغيِّرْهما السنون، ولم تبدلهما الأحداث.
فجأة هبطت عليهما أم حبيبة، لا يعرفانها، ولكنها جاءتهما تتقدمها طفلة في الرابعة من العمر، غضة طرية لطيفة عذبة بريئة، كانت تناديها حبيبة.
اندفعت حبيبة نحوهما، وصَلتْهما أولا ثم تبعتْها أمُّها، سيدة في أوائل الثلاثينات، ذات قامة ممشوقة، لم تتمكن عوادي الزمن من أن تحنيها، يتقدمها وجهٌ، علتْه سحابة حزن من ندوب الدهر، ولكن لم تقدر بصمات الفقر أن تمحو لمحة الجمال الفطري الذي يكسوه.
ألقت حبيبة أمامهما على الطاولة مجموعة من الميداليات اختلطت بفناجيل القهوة، وجاورت قوارير المياه ، استهوتهما براءة الطفلة فداعباها ، ولاطفاها، وعبرها كانا يداعبان ويلاطفان أمها، فجمالها الفطري لم تقع أعينهما عليه من قبل ، وجهٌ خلا من المكملات الجمالية من مساحيق وغيرها ،جاءتهما به كما هو، خرجت به للشارع كما هو، لم تعبث به رغبةً في تزيينه، ولا بحثا عن تجميله، فهو هو، وحالها:
*حُسنُ الحضارة مجلوبٌ بتطريةٍ* *وفي البداوة حسنٌ غير مجلوب*
بالله عليكم دي حبيبة بنتي، شايفاكم حبيتوها، ما تكسفوها
قالتها – بصوت يقتحم شغاف القلب – وهي تنكس رأسها، وتخفض معه وجهها الجميل.
كانت حبيبة وأمها يتجولان في الطرقات؛ بحثا عن رزق، يأتيهما من رواد المقاهي، والمتسكعين على الأرصفة، والجالسين على المطاعم.
تنثر حبيبة الميداليات، فيعطيها مَن يعطيها، وهم قلة، ويردها مَن يردها، وهم كثر، قد يأخذ مَن يعطيها ميدالية مقابل ما أعطى، وقد يمنح دون أن يأخذ.
لم يقدرا على صد براءة حبيبة، ولا على رد جمال أمها، فمنحَا دون أن يأخذا.
غادرت حبيبة وأمها سريعا، كطيف سماوي ألمَّ بهما لحظاتٍ، فغيَّر وجه الدنيا.
غشت الرجلين لحظاتُ صمتٍ، بعد مغادرة حبيبة وأمها، لكنها لم تكن صمتا إلا في الظاهر، لأنَّ الدواخل كانت تعج وتصطخب.
هبطت عليهما نسمات باردة، أزاحت قدرا من حرارة الجو، ولطَّفت المكان، وعبَّقت الزمان.
-ما بك؟
-أم حبيبة.
-وأنا كذلك.
نهضا معا دون اتفاق، وهاما في الطرقات المجاورة؛ طمعا في نظرة أخرى، تعيد التوازن إلى نفسيهما، وترتب الدواخل المبعثرة.