- 24/12/2022 كلية العلوم الإنسانية ونادي أبها الأدبي يحتفيان باليوم العالمي للغة العربية
- 08/10/2022 الأديبة عنبر المطيري على مأدبة التوقيع
- 25/09/2022 مساء المفاخر الفاخرة للوطن
- 20/09/2022 🇸🇦 وطني 🇸🇦
العين القارئة [ 95 ]

قصيدة ( كفى الله دمياط الحوادث ) للبهاء زهير
قصيدة ( كفى الله دمياط الحوادث ) للبهاء زهير قراءة فنّية للدكتور / محمد بن علي بن درع
هو أبو الفضل زهير محمد بن علي بن يحيي المهلبي الأزدي , ولقبه : بهاء الدين , ولد في مكة خامس ذي الحجة سنة 581هــ , ونشأ وربى في قوص مدينة العلم في صعيد مصر .
كان على صلة بالملك العادل وابنه الملك الكامل الذي هزم الصليبين واستعاد منهم دمياط , كما كانت له صلة بالملك المسعود يوسف بن الملك الكامل , ثم كانت له أقوى الصلات بالملك الصالح نجم الدين أيوب .
// مناسبة القصيدة : كان انتصار الملك الكامل على الصليبين وانتزاع ثغر دمياط منهم عزة للإسلام والمسلمين وفخراً لهم أجمعين لا في مصر وحدها , ولكن في بغداد ودمشق ومكة وطيبة وغيرها , فكانت هذه القصيدة صدى لما تجيش به نفس البهاء زهير في هذه المناسبة العظيمة .
// الغرض الذي قيلت فيه هذه القصيدة : هذه القصيدة مدح للملك الكامل وإشادة ببطولته وانتصاره على الصليبيين أعداء الدين , وفيها فخر للمسلمين بهذا النصر العظيم , ولم يخلط الشاعر بين غرض المدح وبين شيء آخر كفخره بشعره على ما جرت به عادة الشعراء .
// الفكرة العامة في القصيدة : هي إشادة ببطولة الملك الكامل في هذا النصر العظيم , وإزجاء للبشري به للعالم الإسلامي كله , مع تصوير لبطولة الجيش المسلم وبيان لذل الصليبيين وخضوعهم وانهزامهم .
// الأفكار الجزئية الموضحة للفكرة العامة :
- مكانة النصر وأثره في المسلمين . الأبيات من ( 1- 5 ) .
- مدح الملك الكامل . الأبيات من ( 6 -12 )
- أثر هذا النصر في العالم الإسلامي . الأبيات من ( 13- 20 ) .
- تصوير للمعركة وما دار فيها من بطولات . الأبيات من ( 21- 31 )
- هزيمة الصليبيين وانكسارهم . البيتان من ( 32- 33 ) .
- كرم الملك الكامل في معاملة الأعداء ومنّه عليهم . الأبيات من ( 34- 36 ) .
- مكانة دمياط في العالم الإسلامي . البيتان من ( 37-38 )
- حديث عن هذا الفتح الكبير . الأبيات من ( 39- 50 ) .
// شرح القصيدة : القصيدة كلها تعبير عن البهجة والنصر , وأول ما تكشف عنه هذه القصيدة هو فهم الشاعر العميق لأبعاد المعركة فهي معركة بين الإسلام والكفر , وهذا هو البعد الذي صدر منه الشعراء في هذا العصر ؛ فالمعركة ذات هوية إسلامية واحدة .
*- كما تكشف هذه القصيدة أن هذا الفرح المحمود ليس لأمر شخصي , بل هو أمر عام , تخطى كل الحدود الوطنية والمحلية والإقليمية والقومية , إنه فرح محمود ونعمة كبرى تستحق الشكر والحمد .
*- كما كشفت القصيدة عظمة هذا النصر بعد طول الانتظار ؛ حتى إن الإنسان لو بذل نفسه فنقل البشرى إلى المسلمين في كل مكان بهذا النصر لكان قليلاً , وهذا النصر فتح أبواب القول على مصراعيها , وأذن للقائلين , فليقل ما شاء من هو قائل فهذا موضع النظم والنثر .
*- كما كشفت القصيدة عن تمجيد القائد والثناء على سخائه وكرمه وشجاعته وخضوع أعدائه لطاعته , ورفع مكانة الأمة الإسلامية بهذا النصر العظيم .
لك الله من مولى إذا جاد أو سطا فناهيك من عرف وناهيك من نكر .
وأقسم إن ذاقت بنو الأصفر الكرى فلا حلمت إلا بأعلامه الصفر
*- كما كشفت القصيدة عن قدرة الشاعر الفائقة في تصوير المعركة ورسم أحداثها وما دار فيها من بطولات وما لحق الصليبيين فيها من هزيمة منكرة , وما تميز به الملك الكامل من كرم المعاملة مع أعدائه ومنته عليهم .
*- وبيّن لنا أن النصر يقوم على دعامتين أساسيتين هما : الإيمان والقوة , وهذا ينم عن وعي عميق , لذلك قال : طهرها بالسيف , الذي هو رمز القوة المادية , وقال : والملة الطهر , الذي هو رمز الإيمان والتعبئة الروحية .
// ويظهر في القصيدة اهتمام البهاء بإبراز قيمة الصبر بوصفه قيمة إسلامية كبرى , وكرر الصبر في أكثر من موضع , فالصبر عنده له قيمة مطلقة لا تنتهي عند حد إلاّ حين يتحقق الهدف المنشود وهو دحر الصليبيين وطردهم عن بلادن المسلمين , وهذا التشبث بالصبر يوصل إلى أحسن النتائج وأحمد العواقب ويلح أيضاً على قيمة الجهاد وأخذ الأهبة والاستعداد للدفاع عن مقدساتنا وتراب أوطاننا , والصدق فيه والثبات عند لقاء الأعداء والخونة والمتآمرين .
*- كما كشفت عن مكانة هذا الحصن العظيم دمياط في قلب العالم الإسلامي وانتزاعه من براثن الصليبيين الحاقدين , والأخطار التي نجمت من احتلالهم لدمياط مدة ثلاث سنوات كانت تهدد المسلمين في شتى أقطارهم .
// القيم الشعورية في القصيدة : تكتظ القصيدة بقيم شعورية أهمها الشعور الديني الغامر , والذي منبعه انتصار الإسلام والمسلمين في هذا المعركة . وأن هذا الشعور الديني يستحق الامتنان والشكر لله تعالى , وأن هذا الشعور بالنصر الكبير يتضال تجاهه كل شيء سواء كان نثراً أو نظماً . وأن هذا الشعور تفاعل عارم وواسع غير منعزل أو محدد , بل يتفاعل فيه الشاعر مع أمته الإسلامية جمعاء . كما تألقت القصيدة بمشاعر الإعجاب والاعتزاز بهذا السلطان .
// وسائل التصوير والأداء الفني :
**- اعتمد الشاعر على التضاد أو الطباق ؛ في البيت الأول , فجمع بين ( الإسلام والكفر ) ليعطي للمعركة هويتها الحقيقية , وهي أنها معركة دينية بين فسطاطين : المسلمين والصليبيين
*- وكذلك عندما جمع في شخصيته بين : ( العرف والنكر ) ليبين أن للسلطان شخصية قوية متعددة المناقب . وكذلك الجمع بين ( الكره والرضى ) ليصل إلى أن ملوك الشرق والغرب في طوع أمر الملك الكامل . وكذلك الأمر والنهي . والسمر والبيض وأشبعت وطاوي . وكأني ذو وقر ولست بذي وقر ..
*- واستعان أيضاً بالمقابلة ,حيث جمع بين صورتين متضادتين هي : اهتزاز عِطف الدين ( فرحة العالم الإسلامي بالنصر ) يقابلها صورة الكفر وذلته واندحاره .
*- واعتمد على الترادف العام فجاء بالمعنى من خلال أكثر من لفظ ( حمد وشكر , يقل ويصغر , طرب فرح , مبلغ ينهي , تميس وترفل , حلل ومطارف ) لتقوية الفكرة وتمكينها, وأن هذه الألفاظ والكلمات والمعاني تصغر أمام هذا الانتصار .
*- واستخدم جناس الاشتقاق لإحداث نغمات إضافية راقصة مثل : ( ليقل – قائل – مقالة – قائلاً ) , وما تركيزه على القول إلا ليبين أهمية مواكبة الشعر للأحداث . ومنه أيضاً : ( الخُضر والخَضِر – وأفلاك وأملاك وأساطيل وأساطير وسابحة دهم – أي السفن السود – وسانحة غرّ – أي : خيل مباركة سريعة )
*- كما استعان بالتورية في قوله : ( بكل غراب أفتك من صقر ) , فالغراب هنا له معنيان : ظاهر ( الطائر المعروف ) وهو غير مراد , وخفي ( زورق حربي صغير ) وهو المراد .
وكذا في قوله :
وما طاب ماء النيل إلا لأنه يحل محل الريق من ذلك الثغر
وحسن التعليل كما في قوله :
ومن أجله أضحى المقطم شامخاً ينافس حتى طور سيناء في القدر
*- ولا يخفى عليك ما في أسلوب ردّ الإعجاز على الصدور في الأبيات ( 13- 19- 21- 25 – 27 ) الذي من شأنه أن يربط بين أجزاء الكلام , ويعين على تذكره وحفظه ويؤدي إلى تقريره وبيانه والتدليل فضلاً عما يحمله من إيقاع موسيقي يجذب إليه السامع .
*- ونجد التقديم في قوله : ( بك اهتز عطف الدين ) جاء لغرض التخصيص , ولبيان السبب الحقيقي لهذه البهجة . ومثله : ( ومن أجله أضحى المقطم شامخاً ) .
*- واستخدامه للجملة الاعتراضية في قوله : ( فقد أصبحت – والحمد لله – نعمة ) للتعبير عن استعجال نعمة الحمد , ولتشيع الألفاظ الدينية معبرة عن أن الجوّ كله ديني .
*- وقد راوح الشاعر بين الأساليب الإنشائية والخبرية , فقد استخدم الاستفهام ( فمن مبلغ ) , واستخدم أسلوب الأمر ( فقل لرسول الله ) , واستخدم التعجب والنداء ( فيا طرب الدنيا ويا فرح العصر ) واستخدم أسلوب القسم ( وأقسم لولا همة كاملية – واقسم إن ذاقت بنو الصفر ) .
وكذا الأساليب التعبيرية المختلفة مثل : الدعاء ( لك الله ) وناهيك , وليهنك ) .
واستخدم التكرار لغايات فنية ( فناهيك من عرف وناهيك من نكر ) ( وما فرحت مصر – لقد فرحت بغداد ) ( ويا طرب الدنيا ويا فرح العصر ) وهي ظاهر بارزة في القصيدة عامة , وهو نابع من إحساس الشاعر بتمكين الصفات في الممدوح , وإشاعة روح البهجة والسرور في النص .
التشخيص : تظهر مقدرة الشاعر على إبراز موصوفاته ومعانيه في صور شخوص آدمية تروح وتجيء على مسرح المعركة , ولا شك أن تشخيص الصورة الشعرية يكسب الفكرة أو المعنى تمكيناً في نفس المتلقي وحضوراً في ذهنه , كما يضفي على القصيدة طاقة حيوية , ويجعله أكثر قدرة على التأثير والإثارة وتحريك الوجدان , ومن ذلك قوله :
بك اهتز عطف الدين في حلل النصر وردت على أعقابها ملة الكفر .
صورة بصرية صور بها الشاعر ما هو معنوي وهو الدين في صورة مادية تدرك بالبصر وهي الاهتزاز من فرح وسرور .
وفي قوله : تميس به الأيام في حلل الصبا .
حيث جعل الأيام وهي شيء معنوي تميس أي : تتباهى وتتبختر في حلل الصبا , وهذا تجسيد للمعنويات وتشخيص للأيام , وهي صورة موحية بالقوة والبهجة والفتوة .
وفي قوله : وترفل منه في مطارفه الخضر . صورة مكررة حيث جعل الأيام ترفل أي تتبختر وتجر مطارفها المصنوعة من الخز والحرير , وهي صورة موفقة فيها راحة نفسية فضلاً عن اختياره للون الأخضر الذي يوحي بالخصب والخير والبهجة والسرور وراحة النفس واطمئنانها . ولعل الشاعر أراد أن يصور ما أحاط بالمسلمين من مشاعر عقب النصر فاختار هذا اللون .
وفي قوله : ومن أجله أضحى المقطم شامخاً ينافس حتى طور سيناءَ في القدر .
تشخيص المقطم في صورة رجل ترتفع قامته ينافس طور سيناء , ويخلع عليه صفات إنسانية ( شموخ ) ومن هذه الصور أنه شبه الملك الكامل بالأنبياء والأولياء في الصلاح والتقوى كما في قوله :
أياديه بيض في الورى موسوية ولكنها تسعى على قدم الخضر .
ومنها أيضاً فرحة مصر وبغداد بهذا النصر , وهي صورة رائعة تعبر عن شمول الفرح والابتهاج للقطرين الكبيرين أو قل لمشرق الأمة ومغربها . وفي قوله : وكم بات مشتاقاً إلى الشفع والوتر . تشخيص , حيث جعل من المحراب شخصاً آخر له شوق إلى أن تقام فيه الصلوات . وفي قوله : فيا طرب الدنيا ويا فرح العصر , صورة تنضح بمشاعر الفرح والبهجة والاعتزاز .
وفي قوله : وأشرق وجه الأرض جذلان بالنصر , صورة بصرية .
وفي قوله : فرويت منهم ظامئ البيض والقنا . صورة أخرى .
**- واستطاع البهاء أن يؤلف صورة خيالية رائعة , تذوق الأبيات ( 13- 17 ) – جمع أطرافها من فرحة مصر وبغداد ومكة ويثرب بهذا النصر العظيم الذي حمى بيضة الإسلام من عاديات الزمان
// المعجم الشعري :
= الروح الإسلامية في قصيدة البهاء : يدب في القصيدة روح إسلامي يظهر في كل جوانبها , وفي كل عناصرها , في الأفكار والعواطف والمشاعر والأحاسيس والصياغة . الأثر الإسلامي ذو مستويات ثلاثة :
*- على المستوى الفكري في كل أجزاء القصيدة نجد الشاعر يربط بين اجزاء العالم الإسلامي , وينبذ الإقليمية والحزبية والقومية , وعلى مستوى المشاعر نجد الشاعر في قصيدته شديد الارتباط بالإسلام والإيمان وإعجاب الشاعر ينبثق من النصر والاعتزاز بالإسلام عقيدة وأمة وحضارة .
وأما على مستوى الصياغة فقد بدا ذلك جلياً من خلال تأثره بالصياغة القرآنية ومن خلال كثرة الألفاظ والأماكن الإسلامية الموحية ذات الدلالات الدينية العميقة , من مثل : ( الدين – الحمد – الشكر – طور سيناء – الملائك – الملأ الأعلى – المقام – الحجر – مكة – يثرب – لرسول الله – صاحب القبر – بيضة الإسلام – الملة الطهر – المحراب – صلاته – الشفع والوتر – الصبر – النصر – تجاهد فيهم – ليلة النحر – ليلة القدر – جنود الله – أيد الله حزبه – قبلة الإسلام – دمياط – فلله يوم الفتح – حنين وبدر ..)
= ألفاظ البهجة والسرور : طغت مشاعر الفرح والطرب والسرور والبهجة على القصيدة وامتزجت بهذا الإنجاز العظيم , من مثل : ( اهتز عطف الدين – حلل النصر – نعمة – الحمد والشكر – بشارة – تميس به الأيام – حلل الصبا – وترفل – مطارفه الخضر – بيض – شامخاً – تدين له الملاك – تخدمه – ملكاً – رفعة – أطيب الذكر – ليهنئك ما أعطاك ربك – مواقف هن الغر – فرحت – الهناء – طرب الدنيا – فرح العصر – أشرق وجه الأرض- الأنجم الزهر …)
= ألفاظ تصوير المعركة : أودع الشاعر صورا قوية الدلالة والإيحاء على ما يشعر به من طرب وزهو وافتخار عبر بها عن مشاعره ومشاعر أمته ,من خلال الألفاظ التالية : ( ثلاثة أعوام – تجاهد – ليلة غزو – كأنها بكثرة من أرديته ليلة النحر – ليلة شرف الله قدرها .. ليلة القدر – سددت سبيل البر – والبحر – سابحة دهم – سانحة غر – أساطيل – بكل غراب راح أفتك من صقر – جيش كمثل الليل – هولاً وهيبة – جواد – جنود الله – ضوامر – أيد الله حزبه – رويت منهم ظامئ البيض والقنا – أشبعت منهم طاوي الذئب والنسر – وجاء ملوك الروم نحوك خضعاً – تجر أذيال المهانة والصغر – فمننّ عليهم بالأمان تكرما – بيض الصوارم والسمر – كفى الله دمياط المكاره – يوم الفتح – حنين وبدر – الغنيمة والأجر ..)
= ألفاظ مدح القائد : أدار الشاعر ثناءه وتمجيده للشاعر حول مجموعة من القيم والمعاني , منها ما هو قديم ومنها ما هو مرتبط بعصره فجعله في الغاية القصوى من حيث الاتصاف بصفات فائقة المدح ووظف لهذا وسائل فنية كثيرة منها الضمائر من مثل : ( بك – دونك – وجدت – لك الله – فناهيك – به – منه – ومن أجله – تدين له – تخدمه – له – ليهننئك – أعطاك ربك – فلو لم يقم – سميه – هو – طهرها – ورد .. ) ومنها : النداء ( فيا ملكاً – يا طرب الدنيا – يا فرح العصر ) .
= ومنها ما جاء بصيغة الفعل مثل : ( جاد – سطا – فناهيك من عرف وناهيك من نكر – تدين له – تخدمه – سامى – ليهنئك – أعطاك – يقم – حمى – طهرها – ردّ – أقمت – تجاهد – صبرت – أحمدت – سددت – فرويت – منّ – فاق أيام الزمان ) .
ومنها ما جاء على صيغة الاسم مثل : ( أياديه بيض – موسوية – الخضر – بالكره والرضى – النهي والأمر – ملكاً – كاملية – سميّه – هو الكامل – ملك الغمر – جنود الله – ملكاً فوق السماك – جوده )
= ألفاظ تصور حال الصليبيين : ( ردت على أقابها ملة الكفر – يصغر – الذعر – الخوف – القهر – الأسر – العدى – خضعاً – تجر أذيال المهانة والصُّغر ) .
= الموسيقى الخارجية في القصيدة : نظم قصيدته على البحر الطويل , وهو من البحور التي يستحسنه الشعراء في الأغراض الجليلة الشأن ؛ لأنه أحفل البحور بالجلال والرصانة والعمق , ولأنه يعطي إمكانيات للسرد والبسط القصصي والعرض الدرامي , وفيه قوة وبهاء يناسبان الموضوعات الجادة , لأن التجارب الجادة لا تؤدى إلا بنفس طويل , ولا تتلاءم إلا مع الأعاريض الطويلة . وعلى كل حال فالشاعر قد أحسن اختيار الوزن وجاء ملائماً لتصوير الموقف والتعبير عنه .
وكذلك الشأن في القافية , فقد أجاد في اختيار حرف الراء الذي يجسد حالات الطرب والابتهاج والسرور التي عاشها الشاعر والأمة , والراء صوت مجهور لثوي متكرر , وكأن الشاعر قد اهتدى إلى هذا الحرف بإمكانياته الصوتية ليجهر من خلاله بفرحه وابتهاجه واعتزازه بهذا الإنجاز .
= الموسيقى الداخلية : حفلت القصيدة بالأنغام الداخلية والإيقاعات التي تحمل بين ثناياها شحنات الفرح والبهجة والطرب والسرور , وإذا بحثنا عن روافد ذلك التنغيم أو مصادر الإيقاع المؤثر وجدناها كثيرة ومتنوعة , ومن ذلك التصريع في البيت الأول , ولا يخفى على المتذوق والدارس ما يضفيه على القصيدة من طلاوة ولما له من موقع في النفس لأنها تحرك الإحساس بالقافية في نهاية البيت قبل الوصول إليها
كذلك تطالعنا الألفاظ المتشابهة والمتساوية في الوزن , من مثل : الكفر – الشكر – النصر – الصبر – النحر – النذر . عُذر – نُكر – خُضر – صُفر – الملاك والأفلاك …
ولاشك أن ترديد ألفاظ ذات بنى صرفية متماثلة أو متشابهة أو متقاربة في إطار البيت الواحد أو الأبيات المتتالية أو المتقاربة ينتج إيقاعات وأنغاما داخلية تتضافر مع الأنغام والإيقاعات التي تنتجها روافد التنغيم الأخرى في التعبير عن التجربة . ومن ذلك حسن التقسيم والطباق والجناس كما في قوله :
سددت سبيل البر والبحر منهم بسابحة دهم وسانحة غر
= التجربة الشعرية : عاش الشاعر تلك الفترة العصيبة التي تحالفت فيها دول أوروبا على العالم الإسلامي في تلك الحملات الصليبية المسعورة التي استهدفت الشام كله وبيت المقدس بالذات ومصر , وأحس الشاعر بما تعانيه الأمة الإسلامية من ويلات هذه الحروب ورأى بعينه كيف استولى الصليبيون على ثغر دمياط وعلى غيره من المدن والحصون الإسلامية , فلما شاء الله للمسلمين على يد الملك الكامل أن يستعيدوا هذا الثغر الغالي من العداء رأى الشاعر في هذا الحدث فرحة كبرى للعالم الإسلامي كله فانطلق يشيد بهذا النصر العظيم وينادي بأن الملك الكامل قد حمى بذلك النصر بيضة الإسلام من نوب الدهر
فموضوع التجربة الشعرية هو هذا النصر العظيم وموقف الشاعر منها قد صاغه في هذه النفثة الإسلامية الحارة واختار لها أمثل الصور والوسائل الفنية .
العاطفة التي شاعت في القصيدة : لا نستطيع القول أن عاطفة الإعجاب بالملك الكامل هي التي أملت على الشاعر هذه القصيدة , وإنما نؤكد أن العاطفة الإسلامية الجياشة في نفسه والتي تمثلت في هذا الفرح الغامر بالنصر هي التي أملت على الشاعر قصيدته , وبثت في جوانبه هذه المشاعر الإسلامية النبيلة بترابط المسلمين واتحاد مصالحهم ووحدة ألامهم وأفراحهم .
= قضية الترابط في القصيدة : في هذه القصيدة بدت الأفكار واضحة عميقة مبتكرة إذ ربطها بتلك الحرب , وهي أفكار قادرة على التأثير على السامع , مترابطة متسلسلة متماسكة يفضي بعضها إلى بعض حيث استهل حديثه عن مكانة هذا النصر واثره في المسلمين , ثم عطف عليه الحديث عن هذا الملك الذي حققه , ثم توسع في الحديث عما أيقظه هذا النصر من معاني الأخوّة والوحدة والترابط في نفوس العالم الإسلامي كله , ثم كان لابد من تصوير المعركة التي حققت هذا النصر , عاطفاً على ذلك هزيمة العداء وذلّهم وانكسارهم , ثم عفو الملك عنهم , منهياً الحديث بكلمة عن مكانة دمياط من العالم الإسلامي , وعن مكانة هذا الفتح .
= صلة القصيدة بعصرها : القصيدة في الحقيقة بنت عصرها , وتحمل سمات وطوابع عصرها , ونستطيع أن ننسبها لعصر الحروب الصليبية أو الدول المتتابعة حتى وإن لم نعرف قائلها , وتظهر على أصعدة أربعة الصعيد الفني , والتاريخي , والفكري , والاجتماعي .
فعلى المستوى الفني وعلى الرغم من أننا نستطيع أن نقول إن القصيدة تتبع المذهب التقليدي مذهب الجزالة والفخامة إلا أن الشاعر لم يستطع أن يتجاهل ذوق عصره فحلّى قصيدة بألوان من البديع التي لم يثقل كاهل القصيدة بهذه الأنواع , بل جاءت حقيقة عفوية دون أن يتكلفها أو يتعمدها كالجناس والطباق والتصدير والتورية وحسن التعليل وغير ذلك .
وأما على المستوى التاريخي فقد سجلت القصيدة حادثة تاريخية حقيقية – حادثة انتزاع دمياط من براثن الصليبين – كان لها أهمية في عصرها , وحددت القصيدة مكانه هذه الحادثة وزمان الانتصار فيها , و وضعها في إطارها الواقعي وإكسابها صدقاً واقعياً .
وأما على المستوى الاجتماعي فقد صورت القصيدة بعض صور العصر كالاحتفالات بهذا النصر والمراسلات بعده , ورفع الرايات والأعلام في الاحتفالات , وتبادل التهاني ابتهاجاً بهذا النصر . ونستطيع أن نلمح في القصيدة صورة الكفر والكفرة وقد بدأوا يجرون أذيال المهانة والصغر .
وأما على المستوى الفكري فقد عكست القصيدة الروح الفكرية التي كانت تعم الأمة الإسلامية , روح تنفي التحزبية والقومية وتتخطى الحدودية والإقليمية , والقصيدة أيضاً تعكس روح الترابط والوحدة بين شعوب العالم الإسلامي , والقصيدة تعكس خطورة الغزو الصليبي لبلاد المسلمين ومقدساتهم .
= دلالة القصيدة على شخصية قائلها : القصيدة تنفي أن يكون شاعر إخوانيات وطرائف وحسب , بل إنه شاعر متعدد الجوانب فهو من جانبٍ جاد ملتزم يحمل هماَ جماعياً وليس ذاتياً شخصياً , إنه يضع فنه وموهبته في خدمة أمته ومجتمعه , ومن جانب آخر نلمح شخصيته القيادية قيادة الفكر والوجدان , فهو واعٍ ذو بصر وفكر عميق بأحداث عصره وبقضايا أمته ومصيرها ويظهر جان ثالث وهو طابعه الثقافي فالقصيدة تشتمل على عدد من الإشارات التاريخية والدينية ولها دلالاتها التي تنم عن ثقافة الشاعر وتعاطيه معها .
= القصيدة في ميزان النقد : تنتمي القصيدة لغرض الجهاد لا إلى غرض المدح , فتحررت من قيود المدح التقليدية , وخلت من أي إشارة للمنفعة المادية , وعبرت القصيدة عن شاعر أمة وتوجهات عصر كامل هي الأمة الإسلامية فجسدت أخطارها في مرحلة خطيرة لا يساميها إلا المرحلة الحالية التي يعيشها المسلمون اليوم .
= والقصيدة ناجحة من الناحية الفنية إلا أن هناك هنات نظراً للسرعة , لأن الموقف يتطلب منه ذلك , وعلى كل حال فإننا نلحظ ما يلي : عدم الترتيب في بناء الصور . المبالغة المفرطة . اعترتها النثرية والمباشرة كما في المقطع الأخير منها . غلبة الطابع الفكري والتقريري .
في 8/ 8 / 1435هـــــــــــــ

حيوان(الضبِّ) ودلالته في شعر المتنبي وآخرين ..
في سياق وجداني صرف ؛يوميء فيه المتنبي إلى انصهاره ومحبوبته معاً
في بوتقة البعد العاصف ؛وعذابات البين ؛تتقاذفهما من كل جانب ؛فهي تطغى عليهما مؤرقة بذلك أجفانهما ؛وتصطنع حولهما سياجاً شائكاً يحجب عنهما نفحات وعود التلاقي ؛فيما لو أذن الزمان بالوصال المرتقب ؛ولانت قناته لهذا الغرام المضطرم ؛في هذا الجو الآسر تقرع أسماعنا كلمة (الضب)؛
وذلك في قوله:
لقد لعب البين المشت بها
و بي
و زودني في السير ما زود الضبَّا!
سأعترف لكم أيها القرَّاء أنني اهتززتُ وانتابني شعورٌ غريب ؛عليه مسحة من امتعاض واسترابة ؛بيد أنني سرعان ما أخضعت ذلك الشعور الطارئ لصوت العقلانية؛وعملت على تنحيته جانباً من أن يجثم على صفحة الفكر ؛سيَّما وأنني في حضرة (مالئ الدنيا شعراً؛ وشاغل الناس على مرِّ العصور)..
فنحن نستكثر على عبقرية المتنبي؛أن يقع -وهو الشاعر الغواص على المعاني ؛المدرك دقائقها وأسرارها – في مأزق “لفظة نابية مستكرهة”؛وعنده في اللغة ما لايحصى من النظائر الموحية ؛ولاننفي -مع ذلك الاعتداد بمكانته- صحة المآخذ المتعلقة بورود بعض الألفاظ الغريبة في شعره ؛مما لايتسع المجال للوقوف عندها في هذه المقالة ..
ويحسن بنا قبل الخوض في ملابسات (الضب) ؛أن نذكر موقع ذلك البيت من القصيدة..
وهي قصيدة بدأها المتنبي جريا على عادة الأقدمين ؛في التغني بالطلول البالية؛ومناجاتها ؛واستثمار فن الغزل ؛ في ساحاتها الباكية الصمَّاء؛على هذا النحو:
فَدَيناكَ مِن رَبعٍ وَإِن زِدتَنا كَربا
فَإِنَّكَ كُنتَ الشَرقَ لِلشَمسِ وَالغَربا!
وَكَيفَ عَرَفنا رَسمَ مَن لَم يَدَع لَنا
فُؤاداً لِعِرفانِ الرُسومِ وَلا لُبّا؟!
نَزَلنا عَنِ الأَكوارِ نَمشي كَرامَةً
لِمَن بانَ عَنهُ أَن نُلِمَّ بِهِ رَكبا!
نَذُمُّ السَحابَ الغُرَّ في فِعلِها بِهِ
وَنُعرِضُ عَنها كُلَّما طَلَعَت عَتبا!
وَمَن صَحِبَ الدُنيا طَويلاً تَقَلَّبَت
عَلى عَينِهِ حَتّى يَرى صِدقَها كِذبا!
إذن لم يتحرَّج أبو الطيب من استخدام كلمة (الضب ) في قصيدته هذه ؛ولم يكن مضطراً إلى اللفظة كقافية يسدُّ بها عجُز بيته كما قد تُظنُّ به الظنون ؛كما أنه لم تغب عن بصيرته المتقدة ؛ولاعن ذائقته المصقولة ؛مسألة وقع الكلمة؛وصورتها في أذهان أهل عصره؛والعصور السابقة؛وإنما قصد إلى هذا الكائن قصداً في غير مواربة؛ولامخافة من ألسن المنتقدين؛ولامن هم على شاكلتهم من خصومه الألداء؛الذين ناصبوه العداء لالشيء إلا لمكانته المرموقة في عالم الشعر ..
ولنستأنس هنا بمحاولة تحليل أبي العلاء المعرِّي لذلك البيت؛وتعليله اللماح ؛في (لامعه الغريزي)؛ إذ يقول:« أشبه ما يقال في هذا البيت أنهم يزعمون أن الضب إذا خرج من بيته فبعد لم يهتد للرجوع ؛فيقال: «هو أحير من ضب» , «وأبله من ضب»؛ ويمضي قائلاً :«ويجوز أنه يعني أنه لم يزود شيئًا ؛كما أن الضب لا يزود؛وخص الضب؛ لأنه لا يحتاج إلى الماء»
ونقف مع الأستاذ عبدالرحمن البرقوقي في شرحه للبيت ؛ على هذا النحو :«الضب: حيوان من الزحافات معروف يضرب به المثل في الحيرة، يقال: أحير من ضب؛ لأنه إذا خرج من جحره لا يهتدي إليه عند أوبته..
يقول: لعب الفراق بشملنا وزودني الضلال والحيرة فلا أهتدي إلى وجه، وليس إلى لقاء الحبيب من سبيل، وقيل: إن المراد كما أن الضب لا يتزود في المفازة؛ لأنه لا يحتاج إلى الماء أبدًا فكذا لم يزودني الفراق شيئًا؛ أي إنه لم يودع حبيبته وفارقها من غير وداع ولا التقاء فيكون التوديع زادًا كما قال بعضهم: زَوَّدَ الْأَحْبَابُ لِلْأَحـْـبَابِ ضَمًّا وَالْتِزَامَا!
وَسُلَيْمَى زَوَّدَتْنِي يَوْمَ تَوْدِيعِي السِّقَامَا!
وقال ابن فورجة :«أي زودني الضلال عن وطني الذي خرجت منه ؛فما أوفق للعودة إليه والاجتماع مع الحبيب ؛والضب يوصف بالضلال ؛وقلة الاهتداء إلى جحره.
وعبارة الواحدي يجوز أن يكون المعنى أن الضب مكانه المفازة ؛فلا يتزود إذا انتقل منها؛يقول: أنا في البين مقيم إقامة الضب في المفازة، وليس من عادة المقيم أن يتزود فالسير والبين كأنهما منزل».
وعندي إلى -جانب ماذكر الأوائل من قبلي- أنَّ المتنبي ذكر ذلك تهويلاً لوطأة (البين المشت ) وتعظيماً لشأنه؛وتقريباً لصورته ..
بمعنى آخر لما كان الشتات الذي تجشمه ؛واصطلى بنيرانه؛حصيلة ما لاقاه في رحلته المضنية تلك ؛اقتضى ذلك أن يصور المعنى الذي يحتدم في نفسه تصويراًمستبشعاً ؛باستدعاء صورة الضب غير المستحسنة عند الكثير من الناس من حيث المظهر والشكل الخارجي..
وفي هذا الصدد نتذكر هنا قصة الرسول – عليه الصلاة والسلام – عندما قُدم له الضب مشويًّا فلم يأكل منه بحضور خالد بن الوليد -رضي الله عنه- فقال أهو حرام يا رسول الله؟
فقال: “إنه ليس بأرض قومي؛ونفسي تعافه”.
فقال خالد بن الوليد: فأكلته؛ومصصتُ عظامه.
إذن لفظة (تعافه) في حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام مما يكتنف النفس الإنسانية ويعلق بها تجاه بعض الكائنات الأخرى ؛وما إليها من مشاهد ؛ من شأنها أن تصيب الإنسان بالفزع ؛أو عدم الارتياح؛مع الأخذ في الاعتبار أنها خلْقٌ من (خلق الله) له أسراره وميدانه الذي يتحرَّك فيه؛وتبارك الله أحسن الخالقين ..
————————
عودةٌ لأبي الطيب؛وطائفة من الشعراء:-
وليس المتنبي أول من تعرض لذكر الضب في شعره؛ فقد سبقه شعراء آخرون ؛تناوله بعضهم في معرض الهجاء على ماسنرى في النماذج التالية مما بسطها الجاحظ في كتابه (الحيوان)؛وغيره من المصنفين :-
قال امرؤ القيس يصف ديمة هطلت:
دِيمَةٌ هَطْلاءُ فِيها وَطَفٌ
طَبَقُ الأَرْضِ تَحَرَّى وَتَدُرّْ
تُخْرِجُ الوَدَّ إذا ما أَشْجَذَتْ
وَتُوارِيهِ إذا ما تَشْتَكِرْ
وَتَرَى الضَّبَّ خَفِيفًا ماهِرًا
ثانِيًا بُرْثُنَهُ ما يَنْعَفِرْ
وَتَرى الشَّجْراءَ في رَيِّقِهِ
كَرُؤُوسٍ قُطِّعَتْ فِيها الخُمُر
قال التميمي:
لكسرى كان أعقل من تميم
ليالي فرّ من أرض الضّباب !
فأنزل أهله ببلاد ريف
وأشجار وأنهار عذاب !
وصار بنو بنيه بها ملوكاً
وصرنا نحن أمثال الكلاب !
فلا رحم الإله صدى تميم
فقد أزرى بنا في كلّ باب !
وللحارث الكندي:
لعمرك ما إلى حسن أنخنا
ولا جئنا حسينا يابن أنس !
ولكنّ ضبّ جندلة أتينا
مضبّا في مضابئها يفسّي!
فلمّا أن أتيناه وقلنا
بحاجتنا تلوّن لون ورس !
وآض بكفّه يحتكّ ضرسا
يرينا أنّه وجع بضرس !
فقلت لصاحبي أبه كزاز
وقلت أسرّه أتراه يمسي ؟!
وقمنا هاربين معا جميعا
نحاذر أن نزنّ بقتل نفس!!
وللنواسي :
إذا ما تميميٌّ أتاك مفاخرا
فقل عدّ عن ذا كيف أكلك للضّبّ ؟!
تفاخر أبناء الملوك سفاهةً
وبولك يجري فوق ساقك والكعب !
ولآخر:
إن يأكلوا الضّبّ باتوا مخصبين به
وزادها الجوع إن باتت ولم تصد !
لو أنّ سعدا لها ريف لقد دفعت
عنه كما دفعت عن صالح البلد!
من ذا يقارع سعدا عن مفازتها
ومن ينافسها في عيشها النّكد؟!
وللدكتور مرزوق بن تنباك مقالة عنوانها؛ (حديث الضب) وفيها يشير لمكانة الضب عند العرب بقوله:«وللضب عند النحويين وجماع اللغة حين يسمعون الكلام ؛ويميزون بين الفصيح ؛والأفصح حتى يعتمدوه شاهدا على سلامة اللغة وصحة العربية؛ويكفي في عرفهم أن يكون المتكلم من حرشة الضِّباب ؛وأكلة اليرابيع ؛ليصح كلامه ويتميز على غيره من عباد الله سكان الجزيرة العربية».
————————
من أمثال العرب في (الضب):
ذكر الدميري عن ابن خالويه أن الضب «لا يشرب الماء ؛ويعيش سبعمئة سنة فصاعدا؛ ويقال إنه يبول في كل أربعين يوم قطرة ، ولا تسقط له سن ؛ويقال إنَّ أسنانه قطعة واحدة ليست متفرقة»
وفيما يلي طائفة من أمثال العرب:
-” أضل من ضب ” و ” أعق من ضب ” ، ” أحيا من ضب ” أي أطول عمرا ، ” أجبن من ضب ” ؛” أبله من ضب ” و:أخدع من ضب ” ؛” أعقد من ذنب الضب “؛و ” أروى من ضب”.
و يقولون في الشيء الممتنع :
“لا يكون كذا حتى يرد الضب”؛و
“لا أفعل ذلك حتى يحن الضب في أثر الإبل الصادرة”..
-«خبّ ضبّ»؛و:«أخبّ من ضبّ» ؛
و «أخدع من ضبّ»؛و«كلّ ضبّ عند مرداته»
————————
الضبُّ وبعض خصائصه في ضوء الدراسات المعاصرة:
ويمكن إجمالها على النحو التالي:
1-أظهرت الدراسات العلمية التي أجريت على لحم الضب أنه يفوق كافة أنواع اللحوم في نسبة الكوليسترول ؛وأن درجة الحرارة الملائمة لمزاولة نشاطه تتراوح بين 34 و38 درجة مئوية.
2-يعيش الضب في البيئات المفتوحة المستوية تقريباً حيث يقوم الضب بحفر جحره بنفسه ويبلغ طول الجحر حوالي من 1 ـ 2 متر وفي بعض الأحيان يصل طول الجحر حوالي 4 أمتار.
3-عندما يقرر الضب الخروج للبحث عن غذائه في الصباح عند الساعة السابعة والنصف تقريباً وتكون درجة الحرارة حوالي 29 درجة مئوية ؛فإنه يُخرج رأسه مرفوعاً في البداية من فتحة الجحر ؛ويعرضه لأشعة الشمس
ليسمح بتعريض أكبر جزء من منطقة الصدر لأشعة الشمس حتى تصل الحرارة إلى 31 درجة مئوية ؛وهذه العملية تستغرق قرابة نصف ساعة ؛ثم يبدأ بعدها الخروج تدريجياً من الجحر..
4-للضب قدرة فسيولوجية وسلوكية تساعدة على التحكم في درجة حرارة جسمه.
5-في فصل الشتاء يخلد الضب ويبقى في بيات شتوي في جحره دون نشاط ملحوظ حتى يفوح دفء الربيع ليخرج من جديد؛وقد يخرج مضطراً من جحره عند سقوط الأمطار خوفاً من الغرق.
———————–
نهايةُ الرحلة:
لقد استبدَّ بي العجب أثناء مطالعاتي بعض كتب الأقدمين ككتاب الحيوان للجاحظ وعيون الأخبار؛وغيرهما؛ تجاه هذا الكائن الأعجوبة ؛إذ استفاضوا في ذكر الشواهد المتعلقة به في نصوص الشعراء ؛والأسرار العجيبة التي أُنيطت به؛إلى درجة أن حيكت حوله الأساطير -كما يخيل لي ذلك-؛كإشارتهم -على سبيل المثال -إلى تلك الصداقة المتينة التي تربطه بالعقرب؛من بين الكائنات الأخرى!
ولعل الجاحظ أكثر الذين أيدوا ذلك -في معرض كلامه المستفيض عنه- إذ يشير إلى تلك العلاقة بقوله:
« إنَّ الضب يحتمي بالعقرب خشية أن يأتيه من يصطاده، إذ تتولى العقرب في هذه الحالة الدفاع عنه بلسع مهاجمه».
والحمد لله من قبل ومن بعد..

سيمياء تحولات الريح في شعر (محمد الثبيتي).
يقول جاك ديريدا: «العنوان هو الثريا المعلقة في سماء النص»؛ إشارة إلى الاكتناز الدلالي الذي يتضمنه العنوان باعتباره العتبة الأولى في مسار القارئ نحو عوالم النص ومكنوناته، وبحسب الغذامي، فإن العنوان يكون :«خلاصة دلالية لما يظن الشاعر أنه فحوى قصيدته، أو أنه الهاجس الذي تحوم حوله، فهو ــ إذاً ــ يمثل تفسير الشاعر لنصه من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن العنوان هو إعلان النص وإشهار له».
من هذا المنطلق يمكن القول إن جملة (بوابة الريح)/ العنوان المعلق في فضاء قصيدة الشاعر محمد الثبيتي المنشورة ضمن أعماله الكاملة، تلك العبارة/ العنوان، تجسد اختزالا دلالياً بالغ التوتر والتكثيف لنص يمكن أن يصنف هو الآخر عنوانا شعريا لكامل تجربة الثبيتي الشعرية، وبوابة تعبر بنا إلى تفاصيل العلاقة القلقة بين النص والمبدع.. بين الشراع ومشيئة الريح.. بين العتمة المتربصة وأحلام المصابيح المسهدة في أحداق الليل.. بين الفاتنة ونزق المفتون وتجلياته.
وإذا جاز لنا أن نستعير من قاموس الألسنية مصطلح (الصوتيم)، ثم تجوزنا في استخدامه قليلا، كان بوسعنا إثر ذلك أن نعتبر هذا النص هو (صوتيم) التجربة الإبداعية للشاعر، ولب الممارسة الشعرية، وذلك لما انطوى بداخله من سيرة تستثمر المجاز الشعري لتوجز تفاصيل وإشارات شتى تمتد مدلولاتها إلى أقصى تخوم التجربة مراوحة بين الأضداد والثنائيات المتقابلة التي تشكل في مجموعها سيرة القصيدة/ الحياة أو الحياة/ القصيدة.
والإحالة إلى مفهوم القصيدة ؛وقلق الشعر ؛ومكابدات التجربة ؛باعتبارها قيمة ذات موضوعية ؛وصدقية عالية؛ تفضي إليها الممارسة التأويلية السابرة لغور النص، الرامية إلى استكناه مضامينه وتبديد كثافة الرمز، كل ذلك ــ بطبيعة الحال ــ لا يدخل في دائرة الإسقاط المباشر على النص من خارج أسواره، مثلما أنه لا يصنف باعتباره قيمة مسبقة تستبطنها القراءة، ويصطحبها التأويل دون مساءلة ؛ليحشد لها المؤكدات ؛ويجمع الشواهد ؛انتصارا لصدقية مفترضة قد لا يكون لها من الصدق نصيب؛
إنما يتأتى لهذه القراءة ادعاء ذلك الفهم، والخلوص إلى تلك القيمة عبر مسارين اثنين:
مسار النص الذي هو محور هذه القراءة وموضوعها.
ومسار التجربة الشعرية لمحمد الثبيتي في الجزء المتعلق منه بسيميائية الريح التي تواتر هبوبها في غير موضع من نصوص الشاعر وعلى امتداد مراحل تجربته؛الأمر الذي يكون معه لزاما لمن يتوخى مقاربة مفهوم الريح في موضع ما من مواضع التجربة أن يعرج على سائر دروب تلك الريح، ومواضع عصفها وسكونها، ليستبين دلالاتها وما تسوقه من الأنواء أو تثيره من غبار.
والولوج عبر بوابة الريح يستلزم دون شك أن نستدعي جزءا ليس باليسير من سيرة الريح لدى الشاعر، لعلنا بمعية تلك السيرة أن نفلح في فض مغاليق تلك البوابة، ونحيط بأسرار العبور، إلى ما أحكمت عليه أقفال مجازاتها.!
وبمراجعة المنجز الشعري للثبيتي وفق أعماله الكاملة، نجد أن مفردة (الريح ) قد وردت في اثني عشر موضعا ؛موزعة على عدة نصوص «سألقاك يوما، مساء وعشق وقناديل، ليلة الحلم وتفاصيل العنقاء، صفحة من أوراق بدوي، أغانٍ قديمة لمسافر عربي، أسميك فاتحة الغيث أم هاجس الصحو، بوابة الريح».
وإذا كانت هذه القراءة ستستدعي في مفاصل بعينها تلك الشذرات من النصوص التي تشكل الريح جزءا من تكوينها، وسيبدو ذلك منسجما مع ما تترامى إليه هذه القراءة من مقاربة دلالات الريح في النص، وربط الثريا المعلقة في سمائه إلى أفق آخر وسماء مغايرة حين نستهل مقاربة النص انطلاقاً من نص آخر ونقرع «بوابة الريح»بأنامل «البابلي» والبابلي هو عنوان نص للشاعر سابق على هذا النص، منشور ضمن مجموعة (التضاريس).
ويسوغ ابتداءنا به أن جملة (بوابة الريح) التي هي عنوان هذا النص قد وردت ضمن أحد مقاطعه مكررة أربع مرات كما في المقطع:
«تدلى من الشجر المر.. ثم استوى
عن بوابة الريح
أجهش
بوابة الريح
بوابة الريح
بوابة الريح
فانبثق الماء من تحته غدقا»!
ومن هنا يلتحم هذا المقطع من نص البابلي بنص بوابة الريح ؛ويغدو جسرا يؤكد عمق التجربة وامتدادها وتدفقها إلى الأمام، خصوصا ونحن نستحضر أسبقية نص البابلي بسنوات طويلة على نص بوابة الريح وفق السياق الزمني، وليس ذلك لمجرد (التناص) الظاهر بين النصين، أو ما يمكن تسميته بالنصية التحتية، والتي هي بحسب جيرار جينيت:«العلاقة بين نص ونص تحتي سابق يستند إليه فيحوله أو يغيره أو يطوره أو يوسعه»؛وإنما لأن هذا المقطع من نص البابلي هو المهاد الموضوعي لبوابة الريح، التي لا تغدو في المقطع السابق مجرد (بوابة ريح) إنما هي أيضا بوابة الماء الغدق الذي تفجر ؛وكأنه :«نهر من الريح عذري الحكايات» ؛وظل صاخبا حتى لحظة مُضي الشراع، تلك اللحظة المفصلية في عمر التجربة، حين خالف الشراع مشيئة الريح، وانطوى في ترحاله الفجر المنتظر:
«مضى شراعي بما لا تشتهي ريحي
وفاتني الفجر إذ طالت تراويحي»!
وقد كانت الريح نافذة المشيئة من قبل، وكانت سيدة المشهد كله، فقبل أن يعلن الشراع عصيانه كانت الريح تدير نجوم المجرة:
«وريح محملة بالضجيج
تدير نجوم المجرة حول
ضفاف الخليج
وتعبث بالصوت والماء والأمتعة»
وأيضا ثمة ما يؤشر إلى هيمنة الريح على البحر ومراكبه:
«زورق يأتي من الصحراء ممشوقاً كمارد
كشهاب فصلته الريح من قلب عطارد»
وحين نأخذ الريح في بعدها الرمزي، ونربطها بالقصيدة باعتبارها المعادل لذلك الرمز، فلن نعدم من سيميائيات الريح ما يوثق منطقية ذلك الربط، ففي نص :(أسميك فاتحة الغيث ؛أم هاجس الصحو)؟! يقول الشاعر:
للريح :
«قلت
تعالي أمارس فيك شعائر حزني
وحزن القصيدة».
حيث تغدو الريح فضاءً لحزن القصيدة، وهي ذاتها الريح التي تحتوي قلق الروح:
«أثير وراء الغيوم غباري
وأبعث معْ كل ريح بقاياي
همي، وخوفي
لألقاك عشقاً يجسد عمق
انتمائي»..
ولم يكن الشاعر ليودع بقاياه ريحا سوى ريح القصيدة التي تنازعه دمه:
«يأبى دمي أن يستريح
تشده امرأة وريح»
تلك الريح التي تنازع المرأة جنون الدم وقلقه ؛تعود قيدا يكبل تلك المرأة:
«يحتد صوت المغني
يكبل في قامة الريح امرأة»
وذلك لأن القصيدة / الريح هي المصيدة
«والقصائد في يديك مصائد
والليل بحر للهواجس والنهار قصيدة
لا تنتمي إلا لباريها وباري الناي»
وحتما فلن يمنح الشاعر عينيه وباسقات النخل فيهما إلا لعيون القصائد:
«كانت عيناي مزارع نخل
ألقيت بها للريح
فضاع اليوم وضاع الأمس»
وحين تكون القصيدة كل ذلك، حين تحقق هذا الحضور الطاغي، تكون كل خفقة شراع في مسيرة العمر لا تنبض فيها ريح مدعاة ألم، وكل اشتغال فيما عدا القصيدة ــ وفق رؤية النص ــ نافلة إذا ما استطال وقتها ألهت عن الفرض مثلما أن التراويح حين تطول مدعاة إلى فوات الفجر.!
وحين يستهل الشاعر البيت التالي بالفعل (أبحرت) فهو ضمنا يستدعي حضور الريح، فبغير الريح لا يتحقق الإبحار :(إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره)؛فإذا ما تحقق الإبحار عادت الريح قافية تهوي إلى مكان سحيق من الروح :
«تهوي إلى الأعماق قافيتي»..
ثم تمتد حبالا من التسابيح، وحللا من النور تزمل رحلة المنتبذ تلقاء مكة.!
ومفردة (مزمل) يمكن أن تحيل إلى النص القرآني في سورة (المزمل)؛
قال تعالى: (يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا)، ثم نربط مدلول الآية الكريمة التي تدعو إلى استبقاء شيء من الليل بعد طول القيام بقول الشاعر :
«وفاتني الفجر إذ طالت تراويحي»..
مستذكرين أن التراويح هي ضرب من قيام الليل، لنا أن نقول بعد ذلك إن النص يستبطن دلالة الآية الكريمة؛ثم يعمد إلى توظيفها بطريقة مختلفة وربما معاكسة في سياقين يبدوان على قدر من التنافر كما قال الشاعر في نص آخر:
«وكتبت نافرة الحروف ببطن مكة
والأهلة حول وجهك مستهلة
والقصائد في يديك مصائد»
فالقصائد مصائد الحروف النافرة والمختلفة والمغايرة، مثلما هي أيضا مصائد للنساء التي تكبل قاماتهن في الريح.
وربما أوحى بزوغ الحيز المكاني في النص المتمثل في (مكة) بإشراقة روحانية قياسا إلى العمق الروحي الذي يستحضره المكان، وتبوح لأجله الروح بآياتها، غير أن هذا الفهم الذي يطفو على السطح ابتداء ؛لا ينفذ إلى حقيقة الحضور المعمق الذي يمثله عامل المكان في بناء النص.
إن حضور (مكة) هنا وقبل أن يكون وثيق العلاقة بالروح هو حضور وثيق العلاقة بالريح ذاتها، يقول صاحب كتاب عبقرية العربية: «والرياح الأربع وهي الدبور والقبول والجنوب والشمال مناطها مكانان وهما مكة والحجر، فالدبور تأتي من دبر الكعبة والقبول من تلقائها وهي الصبا، والشمال تأتي من قبل الحجر، والجنوب من تلقائها».
ويقول صاحب كتاب الأزمنة والأمكنة: «وما جاء من وراء البيت فهو دبور، وما جاء قبالة ذلك فهو صباء والصباء القبول».
ومكة إذاً هي موئل الريح، وهي التي تمنح الريح هويتها وحقيقة وجودها، حين تكون تسمية الريح وفقا لجهة هبوبها على مكة، إذ التسمية هي حقيقة الوجود ؛ولا وجود للأشياء خارج حدود مسمياتها؛فإذا ما تماهى مفهوم الريح في النص بمفهوم القصيدة، أمكن القول حينها إن مكة هي الحاضنة المكانية والروحية والوجودية للقصيدة، ففي رحمها تتخلق الحروف.
«وكتبت نافرة الحروف ببطن مكة
والأهلة حول وجهك مستهلة»..
والأهلة مطالع النور وإشراقات النور الأولى التي تتزملها الروح وتتلو القصائد
«مزمل في ثياب النور منتبذ
تلقاء مكة أتلو آية الروح».
ولعل عمق دلالة المكان هنا تحيل بدورها إلى دلالات أكثر عمقا وأبعد غورا لباقي الدوال التي لا تنفك مرتبطة بأجواء المكان وما تؤشر إليه، فحين نقرن دلالة (مزمل) ؛إلى دلالة (النور) ضمن الإطار المكاني المحدد في مكة، يتجلى لنا ملمح من ملامح (التناص) الذي يستبطن عميقا الحكاية التاريخية لبعثة النبي ــ عليه الصلاة والسلام ــ حين نزل عليه جبريل في غار حراء الكائن بجبل النور وما تلا ذلك من عودته ــ عليه الصلاة السلام ــ إلى بيته قائلا: “زملوني، زملوني”، إلى نزول سورة المزمل، تلك اللحظة المفصلية في عمر التاريخ كله، والتي جسدت أول انبعاث للنور إزاء الظلام المهيمن، هي ذاتها التي يستثمر النص أصداءها، ويعكس تفاصيلها في مرايا رؤاه، ليضع الظلام على الضفة المقابلة للنور مندهشا ومستريبا إزاء الانبعاث المفاجئ للنور:
«والليل يعجب مني ثم يسألني
بوابة الريح ما بوابة الريح؟!»..
ولعل ذلك قريب الشبه جدا بالمشهد المكي لحظة إطلالة النور المستجد بعد تلك الحادثة، وما آل إليه الأمر من خلخلة السائد والدهشة التي تفشت إبان تلك اللحظة التاريخية
وأعمق من ذلك ؛وأبعد غورا ما يمكن أن تحمل عليه مفردتا (منتبذ) و(الروح) من رمزية الدلالة إلى ارتباط القصيدة بالإلهام الرباني المتجسد في (الروح)، والذي يستلزم بلوغه حالة من الصفاء الروحي ؛والخلوص عن كل شاغل ؛وانتباذ كل شيء في خلوة القصيدة المؤطرة في فضاء النور، وإحالاته شديدة التكثيف والعمق.
وربما لا يتسق ومنهج القراءة أن نشير إلى إقامة الشاعر بمكة في جبل النور تحديدا، ولكنها إضافة تدعم ما ذهبنا إليه من دلالات الرموز فيما سبق.
والمقطع السابق يرصد صيرورة القصيدة لحظة أن تهوي إلى الأعماق إلهاما ينسكب من ميزاب السماء، أو ترتقي حبالاً من التسابيح الممتدة نحو السماء، فهي تعتلج أبدا بين السماء والأرض وكأنها الريح في دائب حركتها، وكأن تلك الحركة الآخذة في العلو حينا والانخفاض حينا، صورة تتسق ومشهدية الإبحار في لجج الماء حين لا يستقر المركب على حال من العلو أو الانخفاض.
وإذ ترصد الأبيات صيرورة القصيدة فهي لا تتوقف عند ذلك، بل تعمد إلى اقتناص هوية القصيدة في لحظة صيرورتها تلك وتلاحقها في صور متعددة، فتكون بوابة الريح حينا، وآية الروح حينا آخر، والريح تستدعي حقلا من دلالات القلق والحركة وما تنطوي عليه الذاكرة من نذر العذاب كل ذلك مقابل علوية الريح وسكونها وما تستدعيه من دلالات ضاربة في عمق العاطفة الإنسانية المتسامية أبدا نحو السماء.
ثم تتخلى الريح عن مجازية دلالتها في المقطع التالي من النص، لتعود ريحا تعصف بالعلائق الواهية مع الليل فتعود قبضا من الريح، ثم يرصد توالي أفعال المضارعة «يعجب، يسأل، يرقب»؛في الأبيات
«والليل يعجب مني ثم يسألني
بوابة الريح ما بوابة الريح؟!
فقلت والسائل الليلي يرقبني
والود ما بيننا قبضٌ من الريح!
يرصد توالي أفعال المضارعة السابقة هواجس الليل المتنامية إزاء تجليات النور المحدق به، والليل قيمة رمزية لا تفهم إلا في سياق ما سلف من فلسفة القصيدة التي تنبعث في لحظة كثيفة النور، تلتقي فيها الأرض بالسماء، وتشرق القصيدة فجرا جديدا يتسامى ليصبح نهارا ساطعا :
«والنهار قصيدة لا تنتمي إلا لباريها وباري الناي»
بينما :«الليل بحر للهواجس والهموم»..
ومن هنا فالليل إحالة عميقة إلى ظرف تاريخي لم يكن ليتطامن إلى تلك القصيدة التي تتخلق في النور في بطن مكة في حالة مخاض فريدة، إذ الرحم رحم من نور ينفي ما يتكاثف حول الأرحام من الظلمات الثلاث.
ولأن القصيدة هي ارتياد المجهول أبدا، والشاعر يهجس باختراق الآفاق دائما، وقد جاءت الجمل التي تؤكد ذلك متطابقة من حيث سماتها الأسلوبية، فعليه تحيل إلى المتكلم:
«فما تيممت شمسا غير صافية
وما طرقت سماء غير مفتوح»!
وهذا الذي يصعد في السماء هو ذاته الذي استهل من قبل مبحرا :
«أبحرت تهوي إلى الأعماق قافيتي»
وإن كانت الرحلة هنا موزعة بين ثبج البحر ؛وآفاق السماء؛فإن شرفة النور في بطن مكة كانت فاتحة الحكاية ومبتدأ الرحلة، والزورق الذي:
«امتطى غلس التيه»
حين كانت :«الرياح مواتية للسفر»
إنما استهل رحلته من الصحراء
«زورق يأتي من الصحراء ممشوقا كمارد
فصلته الريح من قلب عطارد»
فيما ربانه يردد:
«أتيت أركض والصحراء تتبعني
وأحرف الرمل تجري بين خطواتي»
«أتيت أنتعل الآفاق أمنحها
جرحي وأبحث فيها عن بداياتي».
ثم يعود النص مفصحا عن كنه ذلك الابتلاء الذي يمهد لوحي الشعر، متمثلا في ذلك القلق الذي يعتري الشاعر نذيرا بين يدي القصيدة في لحظة خارج أطر الزمان والمكان، حيث لا زمن إلا مواقيت ذلك القلق، ولا مكان سوى البقعة من الروح التي تدار فيها مفاتيح الوحي في أقفال القصائد، فتنفرج بوابة الريح عن ريح عاتية من الشعر تلوي أعناق النخيل وتعصف بالشيح لأجل الفاتنة التي تبتلي والتي توحي، وهناك في دوامات الريح تلك يروق لذلك المسكون بالقلق أن يبتني منزله مقيما : «على شغف الزوبعة» تاركا لدمه الذي تضمنته مقلتا فاتنته أن يظل موزعا بين :«امرأة وريح»..
وإذ يتآخى النخل والشيح في ختام النص ويقتسمان الأحلى من القول، فليس ذلك أول التآخي بينهما، فقد تآخيا من قبل في مقطع مكتنز الدلالات من نص: «موقف الرمال»:
«للنخل )للكثبان ؛للشيح الشمالي
وللنفحات من ريح الصبا؛
للطير في خضر الربى؛
للشمس
للجبل الحجازي؛
وللبحر التهامي»
والمقطع يرسم خارطة للجهات بين شيح الشمال، وصبا الجنوب، وبحر تهامة، وجبال الحجاز، وربى نجد، ثم يوسع في مدى الصورة لتبلغ أفق الشمس التي تستحيل بدورها جهة يتيممها الشعر في معراجه جهة السماء:
«وما تيممت شمسا غير ساطعة
ولا طرقت سماء غير مفتوح»
وعليه، فالشيح يؤشر إلى الشمال، والشمال الجهة الوحيدة التي تعتنقها البوصلة أبدا، والبوصلة أول عدة البحار، والنص استهل رحلته مبحرا، والشمال كذلك أعلى جهات الخارطة، وكأن بوصلة القصيدة إذ تشير على الشمال تستكنه ذلك العلو المتسق مع الارتقاء في حبال الريح، ولحظة الإلهام في أعلى ذرى النور حين :
«تسري الدماء من العروق إلى العذوق/ فتنتشي لغة البروق»؛ولغة البروق تلك هي التي أحكمت أبيات نص مثل (بوابة الريح) .
ناضلت هذه القراءة كثيرا لتشرع مغاليق تلك البوابة ؛ولتجيب عن سؤال مفاده.. ما بوابة الريح ؟!

تعدد التأويلات واتساع أفق الرؤى
قراءة تأملية في نص “توق” للأستاذة صفاء الأحمد
ـــــــــــــــــــــــ
النص:
تعال..
لنتحدّث كما كنّا نفعل من قبل..
سأبدأ من مضغة خبيثة
تضخُّ سمًّا في عروقي
كما لو أنها لفظتك..
لنتحدّث عن
عريشتنا التي
كنا نشيّدها معًا
بينما تجمع لنا العصافير
القش والقصب..
طفلتنا الأولى التي
تقيأها جسدي
بعد أن غصّ بشظية..
حلمنا الذي
بصقته غيمة
فسالَ مع الجداول
شربنه الحسناوات
فنبتت على أجسادهن الزهور
وماتت على جسدي القُبل..
عن أبيك الذي
شرَدَ بين الحقول
ينام في الخنادق،
يعاشر البندقية
ويخرج من ظهره الرصاص..
عن نساء البلدة اللاتي
يشعلن نارًا
لإعداد قوت أشداق
مفتوحة للهواء..
عن أقدام أطفال عارية
تلاحق كرة
مصنوعة من بقايا أقمشة..
عن الشهاب الذي
لمع في أعيننا بريقه وغاب..
الأغاني التي
ذابت في حناجرنا..
أحاديثي السخيفة..
ووجعي الثائر..
عن صفحة البحيرة التي
لم تعد تعكس وجهك..
عن الشمس الباردة..
الربيع الأصفر..
الرياح التي
تحمل ملامحك
وتصفع بها كل الوجوه..
عني..
وأنا أنتظرك
على ناصية شارع
يكلأ أسرار بيوت تهدمت
ويحتسي ماء العيون..
دعني أتحدث
كما لو أنك هنا..
كما لو أنه لم يحتضنك تابوت..
ـــــــــــــــــــــ
القراءة:
نص “توق” للأستاذة صفاء الأحمد نموذج للنص الذي تستعصي على المتلقي الإحاطة بجميع تفاصيله؛ لأنه نص منفتح على جميع المآلات.
نص عميق المعنى، مسبوك المبنى، مكتنز بالمفردات الموحية ذات الظلال التي ترمي بعيدا؛ بحيث يعجز عن رؤيتها القارئ غير المتأمل.
يتأرجح النص بين الانتظار- وهو انتظار ما لا يجيء، كما في “انتظار جودو” لصمويل بيكيت – وبين توق وشوق لغائب لن يعود؛ فالشوق إلى الأموات قاتل.
نص يُعَد مرثية لميت، اشتاقَ له الأحياء، ولكن هيهات أن يرووا شوقهم وتوقهم، فرمزية النص عميقة وغموضه متأكِّد، لكن من حصافة الكاتبة أنها منحت القارئ مفتاحا لفك شفرة الرمز وتجلية الغموض؛ ليتبيَّن غرض النص، وذلك في المقطع الأخير:
دعني أتحدث
كما لو أنك هنا
كما لو أنه لم يحتضنك تابوت.
يبدأ النص بالنداء ” تعال” وبالغرض من النداء: “نتحدث” ويتبعه بالوصف، أي بيان نوع التحدث، وهو “كما كنا نفعل ” ، وتحديد الموضوعات التي يتحدثان عنها ، وهي عريشتهم وعشهم، وأبيه ، ونساء البلدة، وطفلتهما وحلمهما ، عن أقدام أطفال يلعبون بكرة قماشية، عن الشهاب…
النص يتَّسم بالوحدة العضوية؛ فقد أحكمت الكاتبة البناء الفني لنصها، فلم يترهل منها، فكانت كل جزئية تُسلِم لما بعدها في بناء متكامل متماسك.
وبسبب استفحال التوق وتعاظم الشوق، فقد وظفت الكاتبة كل أدواتها الفنية ببراعة؛ تحقيقا لعنوان النص.
أتوقف عند ملمح عميق في النص، وهو الاتحاد بين الإنسان والطبيعة، الذي برز في مفردات مثل :
العصافير، القش، القصب، الجداول، الزهور، الحقول …
وتجلَّى في صور بديعة تجسِّد ذلك الاتحاد، مثل هذا المقطع:
لنتحدّث عن
عريشتنا التي
كنا نشيّدها معًا
بينما تجمع لنا العصافير
القش والقصب..
تميزت الكاتبة بقدرتها على التناول غير النمطي لصور مطروقة، أتت بها في ثوب مختلف، بعد أن خلعت عنها ثوبها الخَلِق البالي ؛ فلنتأمل هذه الصورة الممتدة:
حلمنا الذي
بصقته غيمة
فسالَ مع الجداول
ثم تمتد صورة ذلك الحلم:
شربنه الحسناوات
فنبتت على أجسادهن الزهور
وماتت على جسدي القُبل..
ويبرز مشهد الجندي المحارب – في تناول غير نمطي تماما -الذي :
ينام في الخنادق
يعاشر البندقية
ويخرج من ظهره الرصاص..
عند النظرة الأولية للنص تبرز للقارئ أغراض، يظن أن النص تناولها، لكن عند سبر أغوار النص العميق يتضح لنا قضية أعم وغرضا أشمل تناولته الأستاذة صفاء، فيمتد التناول إلى قضايا تمس هَمَّ الوطن؛ فتنفتح التأويلات للمتلقي، وهذه هي أهم ميزة يمكن أن يتميز بها نص باذخ، أن يكون نصا احتماليا يستعصي على أحادية التأويل .
ثم نلمح أن النص يُعد نصا قصصيا، وعند مزيد من التأمل نجد أن الكاتبة إحدى شخصياته بل بطلة من أبطال قصته.
يعج النص بكلمات توحي بالاشمئزاز، وتُشعر بالضجر، ومنها : بصقته… تتقيأ …خبيثة… لفظتك… سم …
وفي النص تخالف الأشياء طبيعتها، فلا البحيرة تعكس وجه مَن ينظر إليها، ولا الشمس تنشر الدفء والحرارة:
عن صفحة البحيرة التي
لم تعد تعكس وجهك..
عن الشمس الباردة..
وتنقلنا أستاذة صفاء بعدستها التصويرية البارعة إلى تشخيص بديع جدا؛ حينما جعلت الشارع حارسا للبيوت، حافظا أسرارها ، رغم أنها -أي البيوت- صارت أطلالا مهدمة:
وأنا أنتظرك
على ناصية شارع
يكلأ أسرار بيوت تهدمت
ثم تبرز مفارقة تصويرية عجيبة ، فالمؤثر واحد، ولكن تباين الأثر، ما بين إنبات وذبول، وحياة وموت:
فنبتت على أجسادهن الزهور
وماتت على جسدي القُبل..
تتنوع الجمل في النص ما بين اسمية وفعلية، ولكن يغلب على النص الجمل الفعلية – ففي النص ما يزيد عن الثلاثين فعلا -التي توحي بالحركة والحدوث والتجدد؛ مما ضخَّ الحياة في نص يتحدث عن ميت، وذلك قمة الإبداع.
كما طغى استخدام الأسلوب الخبري على الإنشائي، وذلك يناسب طابع النص القصصي، وجاء الإنشاء قليلا، مثل الأمر:
دعني أتحدث
كما لو أنك هنا
يزخر النص بالصور الجمالية، ومنها الاستعارات مثل:
الأغاني التي
ذابت في حناجرنا
والطباق بين “لمع وغاب”؛ مما يؤدي إلى توضيح المعنى.
والجناس بين “كما، كنا”؛ مما يؤدي إلى جرس موسيقيٍّ تستلذ به الأذن.
تكرار بعض الحروف بكثرة، وبتبادل محكم، مثل “الشين والسين” في جميع النص؛ مما خلق تناغما صوتيا ممتعا، أدّى إلى رفع قيمة المستوى الصوتي في النص.
أخيرا أتوقف عند تعبيرها في قولها:
شربنه الحسناوات
وهذه من لغة أكلوني البراغيث، وكان الأفضل أن تقول:
شربتْه الحسناوات.
ولكن تلك اللغة -رغم غرابتها – ورد بها بعض التفاسير في القرآن الكريم عن قوله تعالى: (وأسروا النجوى الذين ظلموا)، وكذلك في شروحات الحديث النبوي الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم : ( يتعاقبون فيكم ملائكة…)
أقول مرة أخرى إنه نص عميق، غني بالدلالات، مكتنز بالتأويلات، منفتح على كل القراءات؛ فالأديب يبدع نصه، ويخرجه للمتلقي، وللمتلقي -سواء أكان ناقدا أو قارئا -الحرية في فهم تأويلات النص، دون تقيد برؤية الأديب، ودون الالتزام بمراميه.

الإبداع والمبدع
لست أدري لماذا المبدع يُسلق بألسنة حداد , ولست أدري لماذا المبدع يُجلد ظهره بسياط المأمون , ولست أدري لماذا المبدع يُصلى إبداعه بنيران ذات لهب ؟ هل لأن المبدع يرفض الوصاية على إبداعه ؟ أم لأنه قد يتعالى على تراثه وينقطع عن تاريخه وعن جذوره ؟
أم أنه يرفض كل توجيه يأتيه من الخارج يلغي شخصيته ويحد من حريته ؟ أم لأن المتلقي يسعى على الدوام لإقصائه , فإن التزم بما يهواه – أعني المتلقي – نال رضاه وتمجيده , وإن هو ثار عليه قوبل إبداعه بالسخط والتنديد ؟ أم لاختلاف سياقيهما ؟
أم لأن أحدهما يحمل هماً فنياً إبداعياً والآخر يحمل هماً تاريخياً واجتماعياً فهو مربوط بهما ؟ أم بشعور المبدع بغياب القارئ المشارك له في الوعي والمعاناة والثقافة ما أدى إلى العزلة و التشرنق داخل شرنقة اللغة والفكر ؟
أم أن هناك قراءات متعددة وتأويلات مختلفة جديدة تتولد مع كل قراءة لهذا النص فتعاد كتابته من جديد , ويعاد تأويلها من جديد ؟ أم أنها المناهج النقدية المعاصرة قد أسهمت في تأزيم العلاقة بينهما ؟
لست أدري , تلكم هي أسباب القطيعة بين المبدع وبين المتلقي , ولكني أقول صبراً أيها المبدع !, وكان الله في عونك أيها المتلقي !! وإن من الضيم أن ينتج عن ما سبق توقف العملية الإبداعية لدى المبدع , وانطفاء جذوة إبداعه , أو أنه قد يتوحد الأديب بنفسه فينكفئ على ذاته غريباً عن المحيط الذي ينتج فيه , أو قد يتوجه إلى جمهور نخبوي محدود , أو إلى مخاطب ما يفهمه ويشاركه همه ويتفاعل معه .
أقول : الإبداع عملية خلق وكشف ورفض وتاريخ وجدة وأصالة وابتكار , والمبدع صاحب هذا كله , والنص الإبداعي نص يحمل في ثناياه أوجهاً عدة تتفاعل مع الحالة النفسية للمتلقي فيسقط عليها مشاعره وأحاسيسه وتجاربه الشخصية فتكوّن رؤيته الخاصة به والمختلفة عن غيره .
والنص ليس طريقة إبداع فحسب بل هو طريقة إبداع وتلق معاً , يقول الجاحظ في البيان والتبيين : ” و المفهم لك والمتفهم عنك شريكان في الفضل ” .
ويقول عميد الأدب طه حسين : ” الإبداع جهد مشترك يجب أن يحمل عبئه المنتج والمستهلك ” ويذهب الغذامي إلى أن ” النص الأدبي إبداع جمالي من منشئه وهو عملية تذوق من المتلقي ” إذاً النص الإبداعي عملية جدلية وتبادلية بين المبدع والقارئ من جهة وبين النص والقارئ من جهة ثانية .
ولا أحداً يشك في أن المتلقي مبدع ثان أي أنه مبدع للنص بقراءته وتذوقه وتأمله , وكأن للنص مبدعين اثنين , الأول تنتهي فاعليته بمجرد تصديره النص , والثاني تتحدد فعاليته في أثناء كل مقاربة قراءة وبعدها .
عندما سئل أبو تمام ذات أنشد قصيدة من قبل أبي العميثل : لم تقول ما لا يُفهم ؟ كان جوابه على الفور مفحماً لخصمه الذي أراد تبكيته , إذ ردّ عليه أبو تمام بذكاء ثاقب فقال : وأنت لم لا تفهم ما يقال ؟
إذاً هناك علاقة توتر بين المبدع والمتلقي خاصة إذا لم يفهم المتلقي خطاب المبدع ووجده مستغلقاً يفوق فهمه ومستوى ثقافته .
وتستوقفني في هذه الحادثة كلمة ( الفهم ) الذي عليه المدار في العملية الإبداعية , فالمبدع إنما يبدع ليُفهم عنه والمتلقي مطالب بعد ذلك أن يبذل جهداً ليفهم لا أن يقدم له المعنى على طبق لأنه آنذاك يفقد أهم صفة تميزه وهي الإسهام في إنتاج المعنى .
والمبدع لابد أن يكون منتمياً لتراث ما سواء أكان معجباً بهذا التراث فيحاكيه ويقلده , أم كان ثائراً عليه يتعالى على نصوصه أم كان بين بين يصغي إليه ويحاوره , ولكنه في جميع الأحوال يخضع لما يقدمه هذا التراث من نماذج صالحة والمطلوب منه التفاعل مع هذا التراث والانفعال به والإتيان بشيء جديد , وهي الطريقة التي سلكها رائد الحداثة والتحديث الأول الشاعر العظيم أبو تمام حبيب بن أوس .
فمن يقرأ نصوصه الشعرية يجد أنه ينطلق من أفق الانفتاح على نصوص الشعراء السابقين , وليس من أفق الانغلاق أو القطيعة , يقول ابن رشيق في كتابه العمدة : ” حكى بعض أصحاب أبي تمام قال : استأذنت على أبي تمام وكان لا يستتر عني فأذن لي , فدخلت عليه فإذا هو في بيت مصهرج قد غسل بالماء يتقلب يميناً وشمالاً فقلت له : لقد بلغ بك الحر مبلغاً شديداً فقال: لا ولكن غيره ثم مكث لذلك ساعة , ثم قام كأنما أطلق من عقال , فقال : الآن وردت – أي وصلت إلى المورد – ثم استمر وكتب شيئاً لا أعرفه , ثم قال : أتدري ما كنت فيه ؟ قلت : كلا قال قول أبي نواس :
حذر امرئ نُصرت يداه على العدى كالدهر فيه شراسة وليان .
أردت معناه فشمس علي – أي هرب – حتى أمكنني الله منه , فصنعت :
شرست بل لنت بل قانيت ذاك بذا فأنت لا شك فيك السهل والجبل .
وروى ابن المعتز في طبقاته : ” حدثني أبو الغصن محمد بن قدامة قال : دخلت على حبيب بن أوس بقزوين وحواليه من الدفاتر ما غرق فيه , فما يكاد يرى فوقفت ساعة لا يعلم بمكاني لما هو فيه , ثم رفع رأسه فنظر إليّ وسلم عليّ , فقلت له : يا أبا تمام إنك لتنظر في الكتب كثيراً , وتدمن الدرس , فما أصبرك عليها ! ! فقال : ” والله ما لي إلف غيرها ولا لذة سواها , وإني لخليق إن أتفقدها أن أحسنُ – يريد أن أحسن الكتابة الشعرية – وإذا بحزمتين واحدة عن يمينه وواحدة عن شماله , وهو منهمك ينظر فيهما ويميزهما من دون سائر الكتب فقلت له : فما هذا الذي أرى من عنايتك به أوكد من غيره ؟ قال : أما التي عن يميني فاللات , وأما التي عن يساري فالعزى أعبدهما منذ عشرين سنة , فإذا الذي عن يمينه شعر مسلم بن الوليد صريع الغواني , وعن يساره شعر أبي نواس ” .
ويؤكد ابن رشيق على قضية مهمة جدا وهي أن على المبدع الإتيان بشيء جديد , يقول في كتاب العمدة : ” وإنما سمي الشاعر شاعراً لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه أو استطراف لفظ وابتداعه أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني أو نقص مما أطاله شعره من الألفاظ أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر كان اسم الشاعر عليه مجازاً لا حقيقة , ولم يكن له إلا فضل الوزن وليس بفضل عندي مع التقصير ” كلام رائع وهو الرشد وما دام الحديث عن أبي تمام فإنه قد أتى بمعنى مدحي جديد فاق به كل معنى , يقول في مدح المعتصم :
هو البحر من أيّ النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
تعوّد بسط الكف حتى لو أنه ثناها لقبض لم تجبه أناملــــــه
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائـــــــله
إذاً المبدع لحظة كتابة إبداعه يعيش لحظة انكفاء على الذات وخلوة معراة يستنفر كل قواها الداخلية والخارجية على الخلق والإبداع , ولحظة اتصال روحي مع مادة الخلق والإبداع , ولحظة مكابدة كيانية عسيرة مع النص والناص .
المبدع الحقيقي لا يبدع في الفراغ خارج عالم الإبداع , بل ينقل أحاسيسه التي عاشها في تلك اللحظة عبر نصه إلى المتلقي كي يعيش تلك المشاعر التي عبر عنها المبدع بتفاعل وجداني وحس عاطفي ؛ لأن المبدع بحاجة ماسة إلى من يشاركه تجربته , ولأنه يكتب لنفسه وللآخرين وعلى المبدع أن يحترم عقلية المتلقي باعتباره مالكاً للنص لا ملكاً له , ولا أسيراً للأفكار والآراء المصاحبة له . وعلى المتلقي أن يحترم أفكار المبدع , وأن يتجنب التصادم معها دون فهم عميق لها .
والمبدع فيما يبدع من عمل سيبحث عن القارئ الفذ لأنه هو الذي يمتلك لذة التلقي ومتعة التأويل وإعادة تشكيل النص والغوص في أعماقه , ولأنه أيضاً هو الذي يعطي نتاج المبدع القيمة العقلية والفنية لنصه , شريطة ألا يمس هذا النص القارئ الكسول أو المستلب أو غير المتفاعل أو الجاهل .
يقول عبد القاهر : ” فإنك تعلم على كل حال أن هذا الضرب من المعاني كالجوهرة في الصدف لا يبرز لك إلا أن تشقه عنه , وكالعزيز لا يريك وجهه حتى تستأذن عليه …”
المبدع ذو ذاكرة تختزن صوراً ومشاعر وآراء سابقة , وتجارب إنسانية مرّ بها تنساب إلى باطن الفكر واللاشعور , فإبداعه الأصيل والجديد والسيال والابتكاري انبثاق من ذاتيته , ومع هذا كله فهو لا يبتعد عن نبض الواقع وهموم المجتمع بل يحرص على مخاطبة جمهوره بنصه الذي هو محصلة إبداعه الفردي والاجتماعي وهو لا ينكفئ على أساليب تعبيرية سواء في اللغة أو في التصوير أو في الإيقاع تدفعه إلى الغموض والإبهام أو تسوقه نحو الرمز والأسطورة إنه بهذا المسلك يفقد الصلة بالجماهير التي تستسيغ كثيرا من نصوصه مما يعمق الهوة بين المبدع والمتلقي , فالمبدع من نتاج الكتلة البشرية ومن الطبيعي أن يؤثر في هذه الكتلة بدرجة أقل أو أكثر , ولا يرتاب أحد في أن المبدع يكتب وفي ذهنه الأخر الذي يتوجه إليه بالخطاب الإبداعي , بل إنه يعتبره الهاجس الذي يشكل القلق في ذاته قبل وخلال عملية الإبداع . إذا الشعر لم يهززك عند سماعه فليس خليقاً أن يقال له شعر , إلا إذا فسرنا هذه الهزة بأنها هزة الفكر والتأثير لا مجرد الإطراب الحسي . 1 ربيع الآخر 1438 هـ – 30 ديسمبر 2016 م

قراءة في شعر الشاعر السوري :حنا حيمو
قراءة في شعر الشاعر السوري :حنا حيمو، المهاجر إلى السويد:
بقلم: أمين دراوشة
في ديوانه الأول “الهواء ثلثا زجاجتي.. ونديمي البحر!”
يضع الشاعر حنا اللبنة الأولى في مشروعه الشعري، وفيه تشغله القضايا الكبرى كالحياة والموت والألم والحب…
وفي ديوانه الثاني يتقدم الشاعر خطوات، وتبقى الأسئلة الكبرى تلاحقه وهو يلاحقها دون الوصول إلى بر الأمان؛ويستمر الشاعر في البحث في أسرار الحياة، وعن معنى الموت، وقيمة الحب، والألم الذي لا فكاك منه.
في ديوانه الثالث الذي ما زال مخطوطة اخترت هاتين القصيدتين الثريتين لغوياً، وبهما ينقلنا حنا إلى فضاءاته الشعرية على بساط الريح لنتوغل معه في شعره المليء بالمتعة ولذة اكتشاف المعرفة.
يقول جبرا إبراهيم جبرا عن الشعر الذي يرغب في سماعه: «إنه الشعر الذي إذا سمعته أثار في ذهني صوراً فالشعر في النهاية يرتكز على الصورة، “فالشاعر هو الذي يستطيع أن يخلق صورة في ذهنك، وأن يصلها بصورة أخرى، وأن يسلسل هذه الصور ثم يوحدها كلها بحيث إنك أنت ترى “شيئاً” في ذهنك كنتيجة سماعك للكلمات»
ويضيف جبرا: «أما الشاعر الذي لا يؤدي كلامه إلى إبداع هذه الصورة، فهو ليس بالشاعر ولا الفنان؛وبما أن الحساسية الشعرية تتغير بتغير الأحداث والزمن، فلا بدّ للشاعر أن يكون سباقاً في حساسيته»
وفي محاولة تعريفه للشعر، يقول أنسي الحاج إنه: «سيادة قواي الروحية على الظواهر. ما هو الشعر إنه الحقيقة… أقصد الحقيقة التي لا نستطيع أن نراها إلا بعين الشعر، بحواسه، بجسده بمفاتيحه. الشعر هو الحقيقة التي يراها الشعر وهو الواقع الذي يؤدي إليه الشعر»
ودون موهبة طبيعية تملك القدرة على الانعزال والتوحد مع ذاتها في ذرا الجبال، من أجل أن ترى وتسمع ما لا يمكن لأحد رؤيته وسماعه لا يولد شاعراً.!
وهكذا هو الشاعر حنا، يبدع صوره المتصلة والمتناسقة، والبعيدة عن التشتت، ويأخذنا في رحلته المصورة مع بطله الذي لا يعرف الراحة عبر الأفعال المضارعة التي استخدمها في قصيدته (يجلس، يكترث، يسّرح، يلوذ). وتسري القشعريرة في جسد القارئ، وتنتقل حيوية البطل ومرونة حركته إليه، ويحس بـ”النعنشة”، فيقوم من مجلسه ويحرث معه طريق الغد دون اكتراث بثمن الغوص في لذة المجهول في صحبة الريح.
يقول حنا في قصيدة “لا بارقة”:
“لم يكن ليجلس
على هامش الغواية
بانتظار طريق
على مقاس حذائه”!
ينفي الشاعر عن بطل قصيدته الكسل والخمول والاتكال، فهو يسعى بقوة نحو الغواية، يندفع ليتذوقها بشغف، لا ينتظر معجزة أو مساعدة، ليغطس في الغواية، بل هو:
“لقد حرث كل الحقول
بمحراث غيّه
واحترف ضباب السّبل”
يجرب كل ما يخطر في باله، ولا يعبأ بشيء، يتمادى في غيّه، ويحمله كمحراث يساعده على ولوج السحر والجمال ساعياً وراء الضباب الذي يلف الدروب.
يفتش عن المغامرة والمقامرة ولا يخيفه المجهول، هو يقتحم ضباب الحياة بثقة منقطعة النظير.
“وكان لا يكترث
إلا لما يلتوي في اتجاهات الرّيح منها وما لا رجاء من وصولها
لذا هو اليوم
كما في الطالح من الهواجس
يسّرح ذؤابة الخرائط
ولا يلوذ بالرجاء
يسير مهرولاً في بحثه عن سر الحياة، يزيح كل ما يعترض طريقه، لا يشعر بالخوف، ولا يخشى المفاجآت، يتنطط في الحاضر، ويثب إلى المستقبل غير عابئ بالمخاوف والهواجس، يحمل ما يملكه من فكر، ويجول في أنحاء العالم ناشراً قيمه عن غزو الحياة، وهزيمة الموت، وكسر طوق النهاية.
ورغم أنه يفعل كل ذلك، إلا أنه سيبقى يطارد هلاوسه وآماله عاجزاً عن الوصول إلى الأمن والاحتماء بالسكينة. يعجبه الأمر ويثيره ولا يعود عن سيرته الأولى (غيّه).
إنه نص يتغلغل بين مسامات جلد القارئ محدثة ما قاله بارت: «إنه ذلك الذي يرخي، يفعم، يغبط، ذلك الذي يأتي من صلب الثقافة، ولا يقطع صلته بها»
وفي قصيدة ثانية يطير بنا الشاعر من الضجر والسأم، يتخطى ذلك في ولوج المواضيع اللاهبة التي تشعل المخيلة، يقول في قصيدة “أوان الشوق”:
“كان قد خبّأ الكثير من الثمر
زوادة لولوج الطرف الآخر من الحكاية؛الآن وقد أزفت اللحظة؛
ليس له إلا أن يلفظ صرّة الذاكرة”!
تتنوع الموضوعات التي يطرحها حنا في شعره، غير أنها يغلب عليها الطابع الفلسفي بما تحتويه من أسئلة حول الموت، ومحاولاته التي لا تفتر لفك شيفرته، ويبقى مفعماً بالأمل في سعيه نحو ولوج ماهية الموت.
بطلنا هنا خبأ الكثير من الثمر تحسباً ليوم عصيب، يرحل فيه إلى الجانب الآخر من الحكاية (حكاية الحياة والموت).
ومع اقتراب اللحظة الحاسمة، لم يكن باستطاعته فعل شيء أمام غول الموت، فيلفظ ما تحتويه ذاكرته من لحظات عذبة وسعيدة، فهو على قناعة أن الصندوق المظلم لا يمكن له أن يضيء بحنينه وحسب؛غير أنه سيجد الوقت الكافي الذي كان يفتقده أثناء حياته ليروي بصبر مساحة موته المعتمة والساكنة بعد أن يكون قد نفث آخر قطرات الهواء في صدره. هذه الصورة الفانتازية العميقة تجعل القارئ يقف لحظات، ليرى كيف يسقي الميت حقول الصمت المظلمة بدموعه التي ولاشك ستزهر نوراً.
يقول الشاعر:
“لن يضيء حنينه عتمة الصندوق
وسيجد كفاية من الوقت
كي يسقي بصبر
حقول الصمت الحالكة
بعد أن يسعل آخر الهواء المتبقي
في صدره”
ليس الشعر إلا رمز وصورة وموسيقى، في القصيدة يمتزج الرمز بالصورة بطريقة فذة، وتحفّها الموسيقى الهادئة والحنونة والحزينة والتي تشي بالتحدي باختلاطها باللون والحركة.
يهاجم بطل القصيدة حظه بالحياة ولا يرضى به، إنه على استعداد أن يتخلى عنها للانتقال إلى عالم آخر راضياً مطمئناً. وكما يقول الأستاذ ديوي “ليس للحظ إلا بديل واحد هو الفن”.
والحياة في النهاية مستمرة، والذكريات تتراكم فوق بعضها البعض، لذا نرى بطلنا “حنا” لا يروي لنا قصة وحسب، بل هو يقدم تجربته الحياتية الصعبة وما فيها من أحداث وأفكار ووجدان من خلال الشعر، وينطبق على الشاعر حنا قول ديوي: “كل الفن عملية تنحو نحو جعل العالم مكاناً يختلف عما كان عليه، ليعيش فيه الإنسان”.
وحسب علم النفس، فإنَّ كل جزء من حياتنا يعلق فيه أثرٌ من ماضينا، فشخصيتنا وأفعالنا إتجاه الحياة تملك شكلها بتأثير مما سبق من حياتنا.
ويبقى الشاعر حنا حيمو يحاول أن يترك الماضي خلف ظهره، ويسير قدماً في الحياة، يحاول أن يصوغ فلسفة تجعل الحياة أمراً ممكناً، يبذل جهده ليكون الشاعر الذي قال عنه بول إيلوار: “هو الذي يُلهم (بكسر الهاء) أكثر منه بكثير الذي يٌلهم (بفتحها) للقصائد دائماً هوامش بيضاء كبيرة هوامش صمت كبيرة تنفق فيها نفسها الذاكرة المحتدمة لتعيد خلق هذيان بلا ماضٍ”.
وفي النهاية، يقول الشاعر حنا عن ضربة القصيدة الناجحة إنها: “ضربة النهاية، إذ يجب أن تكون قاصمة وحاسمة، يجب على الشاعر أن يخبئ آخر ضربة لآخر كلمة كي تكون ضربة عميقة في عقل القارئ فيحلق بها”.
ولا ريب أنني استمتعت بقراءة شعر حنا، وحملني معه إلى عوالم شتى، وحلق بي عالياً حتى آخر المدى.

قصيدة ( الحُمّى ) في ضوء المنهج النفسي
أولاً – ما ذا يمثل المتنبي في شعره وفي شخصه ؟
من المعلوم أن الأمة التي تمر بمراحل الانحلال والفساد يدركها الضعف في أبنائها ورجالها , ولكن قلّة قليلة يظلون شاهداً على روحها في قمة توثّبها , فيكونون أمة في حفنة من الرجال أو أمة في رجل , وقد مثل ذلك المتنبي تمثيلاً واضحاً , فكان لشخصيته وشعره بعدان أساسيان
بُعد فردي : فالمتنبي نموذج فذ لظهور الذات المعتدة بنفسها المستوعبة لأمجاد قومها ومثلهم ووجودهم . وبُعد قومي : إذ جسّد في مديحه لسيف الدولة الحمداني طموحاته العربية .
ثانياً – في ضوء القصيدة :
ملومكما يجلّ عن الملام *** ووقعُ فعاله فوق الكلام
ذراني والفلاة بلا دليل *** ووجهي والهجير بلا لثام
فإني أستريح بذا وهذا *** وأتعب بالإناخة والمقام
من أول بيت في القصيدة يكشف عن اعتزازه بنفسه وذاتيته التي يجعلها أجلّ من أن تلام , وخير للائميه أن ينتهوا عن لومه , فهو لا يخدع به , ولا يقبل فيه طاعة ولا خضوعاً , فهو يستدعي اللائمين استدعاء فنياً لا حقيقياً .
ويتكئ على هذه الحيلة ليبدأ حواره معهما مضيفاً على النص الروح السردية القصصية , مبرراً ما يقنعهما من واقع أفعاله التي تتجاوز أقواله , وهنا تتجلى النرجسية , والرقي والعلو على اللائمين وغيرهم , بل يعلو على اللوم ذاته , وكأنما استعار من القديم لغة التثنية ليضيف إليها أبعاداً من عالمه النفسي الخاص , فهو يرفض الانصياع لموروثه الشعري القديم بالخروج على عادته المعهودة هذا من جهة , ومن جهة ثانية فيجرد من نفسه شخصاً آخر يرفض اللوم
إنه شخص لا يعرف الاستكانة ولا الإناخة ولا قبول الضيم , ولا الصبر عليه , حتى ولو كان في أحلك ظروف حياته , فإذا هو أمام المرض يقاوم ويتحمل , وكأن بيت المطلع يتجاوز مرحلة الشكوى التي نعرفها عند القدماء : ( أطلال – ذكريات الشباب – أيام الصبا ) وهذا لم يستسلم له الشاعر هنا , إنك تشعر معه بمطلع قصيدة فخرية لا قصيدة في الشكوى , فهو أجل من أن يلام ووقع فعاله فوق الكلام , وهو بهذا القياس يتخذ من لائميه موقفاً عدوانياً صريحاً , يعقبه أداء فعل الأمر الدال على ذلك في قوله : ” ذراني ” ثم تأتي ” واو المعية ” مؤكدة هذه الدلالة , راصدة عمقاً متميزاً وهو التوحد مع هذه الفلاة , وكأنه يكشف بغضه للدليل فيها أو – على الأقل – يحقر من شأنه , فما كان ليخشى الهجير , ولا ليحتاج لثاماً يحميه من نيرانه , بل يطلب مواجهة ذلك الهجير , فهو يستعذبه , ويجد فيه ذاته , ويصرح بهذا كله عبر البيتين السابقين موزعاً الموقف المتناقض بين شطري البيت الثالث , وعامداً إلى التوكيد الذاتي الصادر من أعماق نفسه ” فإني أستريح ” ( بوابة – تنفيس ) جاء ليسجل صورة ما يستريح إليه من واقع الصحراء وهجيرها , في موازاة ما يزعجه من الإناخة والمقام , مع اختيار موفق لكلمة { الإناخة } من معجم البداوة المعلق بصورة { الناقة } أو مشهد { البعير } .
ويمتد هذا التوحد وتتصاعد لهجته وتزداد صورته تركيباً ووضوحاً وإيغالاً خاصة حين يتجاوز المكان والزمان ليستقصي بقية أركان الصورة ويستكمل مقوماتها , فيسجل توحده مع ناقته التي ربطها بمتاعه وجعلها رواحله :
عيون رواحلي إن حرت عيني *** وكل بُغام رازحة بُغامي
وبنى الصورة على مستويين :
بصري وسمعي , جعل من خلالهما التوحد يقع بين حواسه وبين حواس ناقته مما يضمن سلامة الرحلة عبر الصحراء فناقتي هي أنا وأنا هي , فعيني عينها , وعينها عيني , وصوتي صوتها , وصوتها صوتي , هذا التزاوج والتلبس والإندغام جاء موظفاً لنرجسية الأنا .
ولا يكتفي بهذا فقط بل يستمرئ الشاعر هذه اللغة الحوارية عبر الموروث , فيجد من صوره الكثير الذي اجتذبه ولا يكاد يحيد عنه , فلا زال بنرجسيته وتساميه يصور لنا أنه بدوي خبير بالصحراء , مدرب على فهم أغوارها , وإدراك حقائق أجوائها :
فقد أرد المياه بغير هاد *** سوى عدّي لها برق الغمام
فيصور موقفه من ” برق الغمام ” وكيف يشغله عدّه حتى ليعرف أين يسقط مطر السحاب , فلا يخطئ عده , ولا يخيب توقعه , وكأن مشهد التوحد والانفراد لا ينتهي حتى يستدعي الشاعر صورة الرفقة والصحبة – لكنها رفقة من نمط آخر – صحبة تعكس اغترابه وتحكي توحده النفسي ؛ فهو يغترب من رفاقه عن الأنام :
يُذمُّ لمهجتي ربي وسيفي *** إذا احتاج الوحيد إلى الذمام
ويتفرد مع { ربه وسيفه } حتى لا يظل وحيداً في فلاته وإن سبق – أيضاً – توحده مع أجوائها , وبذا يتضح حرص الشاعر على استقراء جوانب نفسيته التي تبدو معقدة , وربما أراد الإفصاح عن سر عقدته حين أردفها بتصريحه المحكم الذي ردد فيه رفضه المبدئي لفئة من البشر البخلاء لا يسعده أن يستضاف لديها , حتى وأن لم يجد ما يقتات به على الإطلاق , لأنه كريم
ولا أمسي لأهل البخل ضيفاً *** وليس قرًى سوى مخّ النعام
وآنف من أخي لأبي وأمي *** إذا لم أجده من الكرام
ثم تجذبه لغة التفرد والتميز النفسي حيث ينسج مثاليته ويسجل سخريته وتهكمه وتعجبه ممن يمتلك حيوية الشباب وقوته ثم ينصرف عن همته وقوته إلى تخاذل واستسلام , وكأن المتنبي لم يجد معادلاً لهذه السلبية سوى نبوة السيف الهزيل , بل يكشف عن تميزه وانفراده وسخريته ممن يجد طريق المعالي ومع هذا لا يتنكبه , بل يحيد وينصرف إلى غيره , وهو انصراف غير محمود لصاحبه , وإذا بالشاعر هنا تشغله صورة المطي وقد فقدت سنامها كناية عن رهقها عبر رحلة الصحراء الشاقة :
ومن يجد الطريق إلى المعالى *** فلا يذر المطي بلا سنام
وجاء البيت السادس عشر :
ولم أر في عيوب الناس شيئاً *** كنقص القادرين على التمام
حكمة نابعة من مرارة التجربة القاسية وقفلة للأفكار السابقة , فقد اتخذ من الجانب الإيجابي في ذاته مقدمة يدخل بها إلى صراعه وقصته مع المرض جاعلاً من فلسفة حياته ضابطاً يحكم هذا الفخر ويوجهه كما أراد له .
ثم يستقوي بالماضي ويستدعيه بالحاضر وهذا من آلات التسامي فلا يريد أن يعترف بالحاضر بل يستدعي الماضي يقول :
أقمت بأرض مصر فلا ورائي *** تخبُّ بي المطي ولا أمامي
وملّني الفراش وكان جنبي *** يملُّ لقاءه في كل عام
ثم يعود ليبرز أناه ونرجسيته :
قليل عائدي سقم فؤادي *** كثير حاسدي صعب مرامي
فقوله : قليل عائدي ( هروب الآخر منه – غربة نفسية ) , وقوله : سقم فؤادي ( محنته النفسية ) وكثير حاسدي ( قوة وعقدة ضاغطة ) وصعب مرامي ( التسامي والنرجسية – تحقيق الطموح ) .
فإذا ما انتقل إلى مشهد { الحمّى } وقد أفاض في تصويره لها , وتراقص معها فهو تارة مجبر , وتارة مخيّر , وثالثة مستسلم لها , وأخرى منتفض عليها فلا زالت أناه تشغله , وهو بين واقعين :
واقع القلق والانزعاج من هول انتظار موعد الحمى ومراقبتها , وواقع التماسك والتشبث بقوة النفس وإظهار مشاهد البطولة والفروسية , يقول :
وزائرتي كأن بها حياء *** فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا *** فعافتها وباتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها *** فتوسعه بأنواع السقام
كأن الصبح يطردها فتجري *** مدامعها بأربعة سجام
أراقب وقتها من غير شوق *** مراقبة المشوق المستهام
أبنت الدهر عندي كلُّ بنت *** فكيف وصلت أنت من الزحام
جرحت مجرحاً لم يبق فيه *** مكان للسيوف ولا السهام
وبعد هذا ينتابه الشوق أيضاً إلى التفرد والتوحد مرة مع إبله استطراداً حول ما سبق عرضه , وأخرى مع جواده وأدوات قتاله , نراه يصارع واقعه المؤلم , ويحاول مقاومته ليحلق من جديد فيتجلى لنا تحامله على ذاته لحمايتها , يقول :
ألا ليت شعر يدي أتمسي *** تَصرّفُ في عنان أو زمام
وهل أرمي هواى براقصات *** مُحلاّة المقاود باللغام
فربتما شفيت غليل صدري *** بسير أو قناة أو حسام
يستشرف المستقبل الذي فقده في الماضي , فهو يتسلح على مرضه بالماضي وبالمستقبل حيث يتمنى الخروج من الضائقة التي وقع فيها , وحاول منها الفرار إلى عالم أكثر رحابة وسعة .
إنها رحابة وسعة ذاته الأبية في { عنان فرسه } أو { زمام ناقته } وإن استغرقه نفسياً زمام الناقة بخاصة , فاشتد شوقه إلى ضروب سيرها من { الخبب } , ثم تأكد هذا الشوق – بما أبدعه من تصوير – بما تاقت إليه نفسه من { حُلّي } الناقة الذي تزينت به , وهو ذلك { اللغام } الذي غطى مقاودها .
ثم يستكمل المشهد قصداً إلى مزيد من النرجسية والتفرد حيث يتمنى أن يجد شفاء نفسه عبر سير في صحرائه أو عبر فروسيته الشاخصة في جواده العملاق , وإذا بالمتنبي في شفاء غليل صدره يعكس بعداً نفسياً متميزاً لديه , يقول :
يقول لي الطبيب أكلت شيئاً *** وداؤك في شرابك والطعام
وما في طبه أني جواد *** أضرّ بجسمه طول الجمام
تعوّد أن يغبّر في السرايا *** ويدخل من قتام في قتام
فأمسك لا يطال له فيرعى *** ولا هو في العليق ولا اللجام
فإن أمرض فما مرض اصطباري *** وإن أحممْ فما حُمّ اعتزامي
وإن أسلم فما أبقى ولكن *** سلمت من الحمام إلى الحمام
تمتع من سهاد أو رقاد *** ولا تأمل كرى تحت الرّجام
فإنّ لثالث الحالين معنى *** سوى معنى انتباهك والمنام
يتهم الطبيب بالغباء والجهل , فقد شخص له المرض على منهج الأطباء , ونسي أن الشاعر أشد دراية وأعلم وأعرف منه بحقيقة مرضه , فهو الجواد ( وما في طبه أني جواد ) الذي أرهقه البقاء , وأزعجته الإقامة , فقد تخلى عن عادته , وسُلب كل صور حريته , فآن له أن يضيق بواقعه , إنه يعاني هوان أمرين :
أولهما : أنه فقد حريته منذ أمسك به . و ثانيهما : أنه مع هذا الفقد وذلك القيد لم يجد ما يشفى نفسه أو يشبع جوعه من عليق يقدمه إليه فارسه . يكشف عن هذا بقوله :
فأمسك لا يطال له فيرعى *** ولا هو في العليق ولا اللجام
وهنا يتضح كيف أصبحت صورة الجواد معادلاً تاماً لوضع الشاعر بين ماضيه وحاضره , فلا هو نال أمر الولاية التي جاء يحلم بها في مصر , ولا هو وجد حريته لأن ينطلق منها إلى غيرها من الأقاليم , بل ظل أسير الحمّى التي أصابته .
ويزداد اطمئنانه وصبره حين يتذكر فلسفة الحياة والموت بصورة هادئة , يركن فيها إلى تأمل قضية المصير التي تلاحقه , سواء أصابته الحمّى أو غيرها , فإذا سلم منها فلن يكتب له خلود , ولكنه حين يسلم من الموت بها فلكي يواجه موتاً آخر بغيرها , فعالم الموت واحد وهو عالم خاص يختلف عما يعرفه البشر من حالتي السهر والنوم , فما قد يجده من متعة في سهره أو في نومه لن يجد لها نظيراً في موته بعد ذلك , ولكن الحقيقة التي لا يستطيع مقاومتها هي معرفته حتمية هذا المصير , فهو بين واقعين :
واقع موضوعي وهو تهديد للشاعر بالموت , وواقع شعري وهو رغبة الشاعر في الحياة وقهر عوامل الموت , ولك أن تقول هو بين ظاهر يتمثل في الواقع الشعري , ومضمر يتمثل في الواقع الموضوعي .
ثالثاً – ردود الفعل ورفض الآخر :
ينطلق رفض { الذات } للآخر من واقع الإحساس بالعدوانية أو الظلم أو الغبن الاجتماعي , وهو ما قد يتولد عنه الإحساس باغتراب الذات فتبدأ في إعلان التمرد الذي قد ينسحب على علاقتها بذلك الآخر نفوراً وبغضاً .
منذ المطلع في حواره مع لائميه , رفضه اللوم , والعلو عليه , والسمو على أهله , وإذا بفعاله تفوق قول اللائم , بل ربما فاقت فعله أيضاً , فهي مقدمة الرفض لهذا الآخر .
يصرّح برفضه للآخر حين تستوقفه فئة بعينها من أهل البخل , حيث تأبى نفسه أن يستضاف لديهم حتى وإن لم يجد ما يقربه على الإطلاق , وهو رفض له ما يبرره من أنفة الشاعر واعتداده بذاته , وسعيه الحثيث والدائب خلف مطامحه , فأنّى له أن يتنازل عن كبريائه أمام ذلك الآخر خاصة إذا اعتبره بخيلاً .
ويتخطى هذا الآخر إلى الناس عامة يحلل طبائع الناس من خلال ذاته , وكأنما قصد إلى التفصيل بعد الإجمال أو حسن تعليل لما سجله في البيت الأول مما دفعه إلى الممالأة والنفاق لا لخلل في ذاته , ولا استجابة لاستعداد لديه بل لضرورة اجتماعية وجد فيها مصانعة الناس أمراً مفروضاً عليه , حين أصبح الودّ ضرباً من المخادعة والمراوغة , وعندئذ راح يبتسم لكل من يبتسم له , دون أن يبدي خفايا نفسه .
ويعلن بصريح العبارة شكه في أقرب الناس إليه وحذره منه بشكل رائع , حين جعل منطق الشك يمتد حتى للأصفياء , فقد صوره مرهوناً بكونهم بشراً أو – على حد قوله – بعض الأنام , فإذا بالشاعر يأخذ موقفاً مضاداً من كل بني جنسه ممن دفعوه إلى النفاق , ويدفعونه هنا إلى الحذر والشك فيهم .
وفي البيت العاشر يعرض نقيضين : أحدهما يمثل ويتمثل بالمتنبي وهم العاقلون , والآخر الجاهلون الذي يرفضهم الشاعر فهم نقيضه .
ثم راح يستطرد حول أنفته وشموخه وتضحيته , فلا مانع لديه من التضحية بأخيه من أمه وأبيه إذا لم يكن كريماً معه أو هو كريم بعامة , ثم يمتد رفضه للآخر ممن يرون طريق المجد وينكبون سواها , ويصب جام غضبه على الآخر ( مصر ) ولعله يقصد { كافور } أو { سقوط آماله } .
وفي مقابل استسلامه الجسدي للمرض يتبدى إصراره على المقاومة النفسية فلا يستكين ولا يخضع وكأن رفضه للآخر يظل معلقاً بإصراره وإبائه إزاء هذا الرفض وقبول غيره , ولك أن تستكشف عن هذا في قوله :
فإن أمرض فما مرض اصطباري *** وإن أحمم فما حمّ عزمي
رابعاً – تضخم الأنا :
يظهر حين يحيل الملوم من اسم مفعول إلى اسم فاعل فإذا بالملوم أفضل من لوامه , وإذ به أجل من لومهم , وإذ بفعاله أوقع في هذا الوجود من فعالهم وكلامهم , مما ينم عن شخصية قوية آثرت الانطلاق عبر مجال التوحد والرفض والتمرد والثورة .
إنه يعتد بقدراته المطلقة منذ هذا الالتفات بين ( وقع فعاله – فإني ) , وما تلاه من تزاحم ضمير المتكلم ( الأنا ) بهذه الصورة المتلاحقة { ذراني – وجهي – أستريح – أتعب – أرد – لا أمسي – جزيت – حرت – أشك – آنف – أجده – أرى – عجبت – ولم أر – أقمت – بذلت – أراقب – أرمي – شفيت – فارقت – تعود – يدخل – أمسك – يرعى – أمرض – أحمم – أسلم – أبقى – سلمت – صرت – اصطفيه – لست – ملّني – عائدي – فؤادي – حاسدي – مرامي – نفسي ..)
وحتى في حواره مع الحمّى نلحظ موقفه الذاتي ، نعم لقد خضع لها وتقبلها على خوف منه وفزع , ولكنه لم يتورع عن تصوير ضروب من هذا التضخم في مواجهتها فهي تبدو على درجة من الجبن والمخاتلة إذ تأتيه متخفية ليلاً في لوحة الزائرة البغيضة إلى نفسه , ولذا يحاول مراوغتها ببذل ما يستطيع من المطارف والحشايا وإذ بها تأبى إلا أن تبيت في عظامه , وهنا يبدو الشاعر وقد استسلم لمرارة الواقع ؛ فما كان عليه إلا أن يتقبل هذا الانتصار المؤقت , وفيه تتعدد محاولات الذات للمقاومة إلى أن تتهيأ لها الفرصة مرة أخرى لبروز هذا التضخم الذي تعكسه لغة حواره مع الحمى حين صورها بنتاً للدهر فكانت جزءاً مكملاً لصورة الدهر لديه .
ويتخطى هذا الجانب إلى جانب فخري بفروسيته التي لم تبق من جسده مكاناً للسيوف ولا السهام كناية عن كثرة معاركه وكثرة انتصاراته فهو قائد وأمير لا شاعر ولا مبدع فحسب
ولا يكاد الشاعر يختم قصيدته دون وقفة أكثر تميزاً وانفراداً عن تضخم الأنا منذ وضع تلك الصيغ الشرطية التي تكشف عن مزيد من اعتداده بنفسه , فقد يمرض جسدياً كما هو حاله , ولكنه نفسياً سيظل أبياً قوياً ورافضاً الاستسلام لمرضه .
لقد احتوته ذاته فلم تنفصل عنه , ولم تخذله , إنها تشع بإشعاعاتها المتوهجة منذ المطلع ، نرصدها في الألفاظ الآتية : ( تجل عن الملام – وقع فعالها فوق الكلام – ترد المياه بغير هاد – تشك – تأنف – لا تقنع – تقيم – تبذل تعكف – تراقب – تنصرف – تشفى – تخلص – تفارق – تغير – تتحدى المرض – تتمتع بمعطيات الواقع )
وإن كشفت القصيدة عن ألفاظ أبدى الشاعر فيها عن تحطم هذه الذات ينتقي لنفسه منها :
( الوحدة , الشك , التعجب , الإقامة , الملل , السقم , العلة , السكر , مراوغة الحمى , الخوف , التمني , السخط , الرفض , المرض , السهاد , الرقاد , المنام , الحسد , الوداع , الحمى )
خامساً – تبدد الحلم
تنطمس صورة الحلم المثالية إلى صورة سوداء قاتمة أملاها عليه الواقع الاجتماعي , فلم يجد إلا المراوغة والنفاق وصيغ الخداع والمداجاة , وإذا بحث عن الأصالة والجادة لقي من الناس الخسة والنذالة والبخل والخبث وأخلاق اللئام , وإذا هو يحدد لهم طرق المجد وسبيل المعالي ويهيئ لهم الأداة من ( القد والحد والمطي والجواد ) فينتكبون غيرها , وإذا هو يبحث عن الكمال في زحام عالم تشغله النقائص والمثالب وصور القبح , وإذا هو يبحث عن سمير له في حالة مرضه , فما وجد إلا حاسداً حاقداً , أو عدواً ناقماً , وما وجد من العواد إلا القليل ومن الخصوم وجد الكثير .
سادساً – الدلالة اللفظية على الموقفين :
1- التضاد :
تستوقفنا دلالة الألفاظ { أستريح } وفي مقابلها { أتعب } فما بين الراحة والتعب هو مسافة ما بين الأمل في تحقيق الحلم وبين الإنذار بسقوطه , وفي مقابل { القد } و { الحد } نجد السيف { ينبو } وكذلك المتخاذل أو الساقط على نفس القياس من التضاد , وفي مقابل ما كشفه من { عيوب الناس ونقص القادرين على التمام } رأى من نفسه ما لم يقنع منه بحسبه ولا نسبه ولا جد همام .
وفي مقابل رؤيته { للأجداد } يرى في زمنه { أولاد اللئام } , وفي موازاة { العاقلين والتصافي } رأى . و { الجاهلين والوسام } , وفي مقابل { ثباته وجموده } يتأمل ما وراءه وما أمامه من خبب المطي , وفي { مؤازرة ملل الفراش منه } يصور رفضه في الماضي لهذا الفراش , وفي مقابل مخاوفه من لقاء الحمى كان شوقه وهيامه في مقدماته , وفي موازاة حاضر الجواد رأينا ماضيه .
2- لغة النفي والإثبات :
فهو يسجل راحلته عبر الصحراء والهجير , وينفي حاجته إلى دليل يقوده فيها , وهو يثبت خبرته العميقة بالأجواء وعد البرق وينفي حاجته إلى لثام يُحتمى به من شدة هجير الصحراء , وفي ثبوت الخبرة والتأكيد عليها يأتي حرصه على نفي الهادي الذي يهديه إلى موارد المياه , وفي مقابل إثبات حاجة الوحيد إلى الذمام ينفي حاجته إلى الصحبة إلا بقياس مختلف .
وتراه يأبى من حياته أن يتوقف عن شرف نسب { ولست } فإذا به يتعجب ممن يجد طريق المعالي على لغة الإثبات وهي ما أكملها بلغة النفي سخرية وتهكماً { فلا يذر المطي بلا سنام }
فإذا عاد إلى رؤيته لعيوب الناس عمد إلى النفي { فلم أر في عيوب الناس شيئاً } فإن صوّر إقامته في مصر على الإثبات عاد إلى نفي ما يتمناه من خبب الإبل والرحيل , فإن جاء إلى صورة الحمّى وأثبت لها الحياء نفى عنها انشغالها بزيارته في الظلام { فليس تزور إلا في الظلام } فإن أثبت مراقبته لها نفى عن هذه المراقبة أدنى صور الشوق إليها , فإن أثبت ما أصابه من كثرة الجراح والألم قبل الحمى نفى أن يوجد في جسده مكان للسيوف أو السهام , فإن صور على الإثبات أمنيته في فراق الحبيب أو البلاد لجأ إلى النفي فكلاهما لديه { بلا وداع } و { بلا سلام } , فإن أثبت ما قاله الطبيب في تشخيص مرضه اتهمه بالجهل , ونفى شخصيته { وما في طبه } , وراح يثبت عكس ما عرضه الطبيب , فإن توحد مع جواده شغله الإثبات فإذا الجواد قد { أمسك } وإذا النفي يكمله { لا يطال له } و { هو في العليق ولا اللجام } وفي قلقه بين استسلامه للمرض ومقاومته له تراه موزعاً لغته بين الإثبات والنفي { فإن أمرض } { فما مرض اصطباري } و{ إن أحم فما حم اعتزامي } فإن خرج من الدائرة إلى النجاة من المرض تراه يعيش نفس المعاناة { وإن أسلم } { فما أبقى }
وعليه فقد تضافرت الدلالات جميعاً سواء أكانت عن طريق التصوير أو عن طريق الحوار أو عن طريق المفردات الموحية , فقد عبر عن توحده النفسي بصور موحية متلاحقة , لا غموض ينتابها ولا تعقيد يعرقلها أو يكبح جماحها يقول :
وزائرتي كأن بها حياء *** فليس تزور إلا في الظلام
يصور الحمى زائرة له , فبدأ في إلباسها الثوب النسائي الذي يلفها به الحياء , ويختار الظلام زمناً يتسق مع ذلك الحياء , ومن ثم فهو يتحاور معها عبر أكثر من مستوى : فمرة يأتي حواره صامتاً حين يسارع إلى إعداد المطارف والحشايا , لعله يراوغها ويقنعها بمبيت طيّب فيها , لكنها تتأبى على ما أعده وتصر على المبيت في عظامه , فهي لغة التحدي والمراوغة , والفوز فيها للمتحدى الذي ينتهي بما أصاب الشاعر من أنواع السقام , وما ينتهي به الأمر به من رهق حتى الصباح فإذا بالصبح – تصويراً – يطردها فيحقق للشاعر ما عجز عن صنعه معها , وإذا هي تغادره باكية حزينة من خلال دموع غزار تكتمل بها صورة الغسل الذي أصابت به مريضها .
وتتجلى عنده الغريزة الجنسية في قوله :
إذا ما فارقتني غسلتني *** كأنا عاكفان على حرا م
ويستعين بالحوار الداخلي إلى إبراز رؤيته لمن حوله تتضح في : { أشك , آنف , كيف وصلت , جرحت , حواره مع الطبيب , حواره مع نفسه من خلال السخرية من الطبيب وتشخيصه , حواره بما يراه من مفارقات الحياة والموت } وتتداخل المفردات فتزداد تعقيداً وتشابكاً من واقع رؤى الشاعر لذاته انقساماً بين منطقتي الاسترخاء النفسي وبين الإرهاق الدائب :
( الراحة – ورود الماء – الرفقة – الإقامة ) .
وعلى سبيل الرهق النفسي تستوقفنا عنده منها : ( التحدي , الرفض , التعب , الأنفة , الطموح , الاستسلام ..) وبين هذا وذاك يلتقي بعدها مع المفردات المكانية التي تمثل للشاعر البغض ورفض الواقع : { أهل البخل , أرض مصر , الفراش , المطارف والحشايا , العظام , الجلد , النفس , مكان الجرح , البلاد , الجمام , السرايا , الرجام }
إلا أن شاعرنا لازال مثالاً للصبر وعدم اليأس , فبوارق الأمل لا زالت تشده شداً وترسم له خارطة الطموح مثل :
( برق الغمام / زمن الأجداد / الصبح / القتام / السرايا / المطي / الجواد / السيف / الرمح ) .
وما فتئ يعاني معاناة شديدة من طلق الأخلاق السلبية المتمخضة عن : { اللوم والملوم واللائم ، البخلاء , النفاق , الجاهلين , اللئام , النقص } إلا أنه يجد المنعة والأمان في عالمه الصحراوي الذي يمثل جوهره البدوي الطموح ورمزه الفخري الأصيل عبر مفردات عزف قيثارتها بلحن الشموخ, فقد ملكت الصحراء لبه حتى لا يكاد ينصرف إلا إليها :
( الفلاة – الدليل – الهجير – اللثام – المياه – برق الغمام – الزمام – النعام – المطي – السنام – الخبب – العنان – الزمام – الراقصات – المقاود – اللغام – الجواد – السرايا – القتام – العليق – اللجام ) , حقاً لقد ملأ الدنيا وشغل الناس , واستحق أن يدرس أكثر من ألفي دراسة ,,, …….. وحرر في 27/ 4/ 1437هـ

رواية حيموت ” قراءة في دلالة الشخصيات.”
شكلت الرواية السعودية ملمحا إبداعيا أدبيا وسرديا ملفتا فقد نافست الرواية السعودية على الجوائز العربية وفازت ومن الروايات السعودية مايشار لها بالبنان
وبين يدي القراءة رواية ” حيموت” للروائية والقاصة السعودية / فاطمة الدوسري / وهي رواية اجتماعية إنسانية صدرت عن مجموعة تكوين للطباعة والنشر . السعودية /١٤٤٣
جاءت الرواية في مائتان وعشرون صفحة من القطع المتوسط
الرواية تحكي قصة البطلة ” حيموت” التي عاشت طفلة مدللة من أبيها وبعد وفاة أبيها لاقت من أخيها” صايل” الاستبداد فتهرب إلى لتكمل دراستها وتنال الدكتوراة في الكيمياء.
الرواية تصف الحياة البدوية والعلاقات الإجتماعية فيها لتنقل لتصف الحياة المدنية بعلاقاتها المتشعبة تركز على الرواية على المرأة وقوتها ومعاناتها وقدرتها على خلق حياة مغايرة.
أولا العنوان: لفت نظري وأحببت أقف عند عتبة العنوان بوصفه نافذة للدخول إلى عوالم النص الداحلية ومضامين رسالته ومن الملاحظ أن العنوان مأخوذ من اسم بطلة القصة ” حيموت” وحين التأمل في العنوان يلحظ أنه مركب ” حي +موت” وكأنها النص الروائي يخلق من الموت حياة ويتحدى الصعاب فيخلق حياة مغايرة ( وقفت أنا والداية في حيرة كيف نبلغ والدك بوفاتها وقد سكن منها كل شئ، ثم ونحن نلف اللحاف من عليها شعرت بحركة تحت يدي هناك شئ يقاوم الموت بصعوبة، بحركة لا إرادية وجدت الداية تحدث ثقبا في بطن الجثة المسجاة ، أخرجت جنينا هزيلا لم يصرخ كنت أنت تلك الصغيرة) 42
وأيضاو:( كنت أتساءل في حيرة إذا لم أكن حيموت ماذا يمكن أن أكون) 77
فالعنوان يعكس قوة الشخصية ومقاومة الموت وخلق الحياة برغم الصعاب والعراقيل
فالعنوان اختزل خطاب عكس رغبة الخطاب في الكشف عن مكامن الشخصية ومراحل حياتها وكشف عن قوة إراد بطلة بطلة القصة في خلق حياة مغايرة وانتشال حياتها من بين براثن الفشل والموت والخيبات والسيطرة لتصنع لذاتها حياة فيها الانطلاق والمكانة والتميز .
ثانيا الشخصيات:
لايخفى على أحد ما للشخصية الروائية من أهمية ( فهي عنصر مهم من عناصر بناء الرواية الحديثة، لأنها تصور الواقع من خلال نموها التدريجي ، إذ تقدم حياة الناس بحيوية وفاعلية، لذلك لابد للشخصية أن تكون قادرة على الصمود أمام حركة الزمن المستمر فيبدو وكأنها تعيش في كل الأزمان على قدم المساواة ودون أن ينال منها الزمن)
ومن خلال ماسبق يمكن القول أن الخطاب الروائي رسم الشخصيات بإتقان وتوازن ليحدث الصراع والتأثير ذلك الإختيار
– شخصية البطلة ” حيموت”
جاء هذه الشخصية تلك الشخصية القوية والمدللة والتي اكتسبت الصفات القيادية من أبيها شيخ القبيلة ” مترك ” (في المساء أجمع البنات وأنشئ مدرستي الخاصة على ضفة ” إحدى الخباري” المائية الصغيرة، يجلسن على الأرض وأفعل مثل ماتقوم به المعلمة في الصف؛ أردد المفردات التي درستها عليهن البعض يضحك وأخريات يتعلمن.)
وهي شخصية مثابرة مكافحة لاتستسلم للعقبات والصعاب ولا للعواطف فهي ليست ك(رقية) التي ستترك التعليم للزواج وبذلك تخلق من الريفية البدوية إلى امرأة متحضرة ( في أحد الأيام قالت لي معلمتي إن للحياة محطات اختبار وتجاوزها ليس بالسهولة وشجعتني على عدم التوقف عند أي محطة والإصرار والصبر على التحديات) ص٥١
– ولاتستسلم لعواطف لتشير إلى المرأة القوية وذات الضمير الحي والملتزمة أخلاقيا والمطيعة . ( تحاول أمي أن تضع كل المساوئ كمسكنات تجعلني أفكر في الزواج منه…… هل أخبر أمه أنه يريد أن يتزوج مني؟ يا الله هل كرهني لأنني تركت يدي في يده دون أسحبها بسرعة ؟))ص ٨٠.، ٨٤
لقد قدمت الرواية شخصية المرأة بأنها شخصية رفيعة مقنعة حساسة فأحالت الضمائر إلى النساء التي تشبهها
وإذا كانت شخصية ” حيموت” مازالت مابين الموت والحياة فإنها ببلوغها أهدافها انتهى الموت وتحولت إلى حياة:(( على فكرة اليوم اقترحت على خالة سراء تعديل اسمك في الهوية إلى” حياة” بدون “موت”))
فإن ذلك التحول خلق الصراع والتحول والتغير والثبات نفس الوقت فشخصية ” حيموت” ليست فقط حكائية بل نقلت الأبعاد النفسية لها ولمن حولها فمن خلال خاصة وشخصية “صايل ، شيفعان” ولدتا صراع من حيث التناقض مع شخصية الأب وشخصية ” محسن”
فكانتا رمزا للاستبداد والتسلط على المرأة الضعيفة فهما مثلا التخلف والوجه القبيح والمتخلف بل والرعب أيضا” اخترق صوت صايل وهو يخاطب زوجته: ( اسمعي” يامرة” انتبهي لها ولا أشوف وجهها لين تنقلع كانت تهز رأسها مثل المومياء.)ص١٨
ومن خلال الخطاب في الحكي يلحظ مقدار القسوة والتحقير ” يامرة” ( كانت مثل المومياء تهز رأسها.)
وتأتي شخصية ” شيفعان” وهو الشخصية المستبدة التي تستبد بما تمتلك وتلتقي بصايل بالمصالح وهو مرعب بالشكل والمضمون والتقاء المصالحولايقدر القيم ولايقدر إنسانية الإنسان 🙁 لاتخافين يابنت العم أتفقد حلالي.. كان الشيب يغطي بشكل مقزز) ص٢٢
وتأتي شخصية ” محسن ” الشخصية المعتدلة التي تضحي من أجل الآخرين تعمل على تنفيذ وصية الأب فكانت الشخصية ذات القيم
والني تحمل المبادئ
فرسم الشخصيات في الرواية مرسومة بتوازن وتناقض لتؤدي الرسالة من مضمون الرواية وهو كفاح المرأة المؤمنة بالغاية التي ستصل إليها برغم الصعاب والعراقيل وتغير العلاقات من كراهية إلى ومن ابتزاز إلى عطاء وذلك التأثير والفاعلية الني تطمح إليه المرأة.
ومن خلال رسم الشخصيات رسمت المرأة شخصية أما بالحكمة وإنها لاتقل شأنا عن الرجل أو الرواية رسمتها في بالحنان والعطف والعقلانية ويتضح ذلك من خلال شخصية”عائلة صايل ” والتي كانت زوجته تسمح لشخصية البطلة بلقاء أمها تحت جنح الليل وابنته
ومن خلال شخصية أمها زوجة أبيها ” سراء”
فقد رسمت بالأم الحنونة الحريصة على التعليم وتحقيق أهداف من ترعى وتربي فجاءت شخصية ممتدة ثابتة ومتغيرة في الوقت نفسه والحرص على ليس لأجل التعليم والمعرفة لتحدث علاقات جديدة ومتشعبة وتغير في الواقع والفكر والمكانة .( نهاية اليوم كانت أمي تقف على بوابة المدرسة لتصحبني إلى المنزل) ص٣٢
وإلى جانب الأم الحنونة فهي الأم التي تعلمت من الحياة وتتمتع بذكاء وحكمة ومعرفة فطرية تبدو كأنها الأم المتعلمة لذلك في شخصيتها الصرامة والحزم بل بلغت الأم من حرصها على مثابرة ابنتها وتعلمها أن تتهجى الحروف وتقرأ ليعكس النص الروائي أن قدرات الأم خارقة وثمة رغبة في التعليم والتغير .( وعند عودتي من المدرسة أصبح شغلها الشاغل كتبي وواجباتي وواجباتي حتى تعودت على نظامها التي لاتقرأ ولاتكتب، بينما كنت أعتقد تعرف كل شئ في هذه الحياة) ص٣٤
وسراء تلك الشخصية القيادية التي الموازية للشيخ مترك حد أن بعض النساء يغرن منها ومن الحب الذي تحتله وأصبحت وجهة للتتفيس وحل المشكلات والهموم للنساء ممايشير إلى حكمة وقيادية وحنان وصدر يتسع للجميع ( أصبح مجلس أمي سراء تجتمع فيه نساء القبيلة في فترات راحتهن، يتبادلن الأحاديث عن همومهن اليومية ومشاغلن يتخللها الشعر والحكايات والأساطير، ولم تكن أم صايل من مرتادي هذا المجلس لغيرتها الشديدة من أمي” سراء” مرت الأيام والسنين وصارت شخصية سراء رمز ثبات أسرة الشيخ مترك وأم لأبناء القبيلة) ص٤٠
إن رسم الشخصيات جاء دقيقا فيه من الواقعية والمصداقية الكثير فينقل للمتلقي أثرا نفسيا جاذبا ورسمت الشخصيات بالأبعاد النفسية والاجتماعية وحتى بالرغبات والآمال والطموحات
وبالأبعاد المكانية والزمانية وبشكل مؤثر ولكي تعكس الشخصيات صورة عامة عن المجتمع والإنسان وتدعم فكرة الرواية في قدرة المرأة في تخطي الصعاب وقدرتها على التغير والتحول والمواكبة مع الجديد والتمسك بالأصيل..
لذلك رسمت شخصية” سراء” ” وحيموت” بالشخصتين القوتين العصاميتين والخارقتين واللتين لهما القدرة على معايشة الزمن والحياة وتحقيق الغايات لذلك جاء حتى كسب الرزق بالعمل لتعكس عزة في النفس وترفع عن المذلة( أصبح بيتنا الطيني قبلة للزوار الذين اقتسموا معنا أحد غرفه ، ووجدت أمي مصدرا للرزق بعد كلت قدماها بالذهاب إلى حراج بن قاسم) ص٤٤
وإذا عادت القراءة إلى شخصية البطلة ” حيموت” فإننا رسم الشخصية ميزها بالذكاء لتدرك جوانب الحياة وتستطيع أن تحقق ذاتها وتلفت إليها الانظار بذكائها الفطري الذي اكتسبه من البيئة والتربية وصعاب الحياة .(فحين تسألها المعلمة ” حيموت” من الذي يكتب لك ويحل تمارينك؟ ولاتقتنع عندما أخبرها بأنه لا أحد، وفي أحد الأيام أجبرتني على إحضار أمي التي أخبرتها التي أخبرتها بأنه لا يوجد في المنزل سوانا) ص٣٤
فكانت شخصية ” متوازنة” مقنعة يجمع عليها وعلى شخصيتها من حولها لما تمتلك من صفات وذكاء حاد وهي تلك الشخصية التي رسمت غاية وهدفا ويجب عليها الوصول إليها والعواطف تؤجل حتى لاتعرقل المسير وبلوغ الغاية ( في الصف الخامس أصبحت مسؤولة عن تنظيم إذاعة فصلي ؛ شيئا في داخلي بدأ بالبزوغ يعلن للملأ أنني بنت الشيخ مترك) ص٣٣
وبالفعل تصل غايتها ” تخرجت من كلية احتفلت أمي بتخرجي، كانت ليلة لم يحضر سوى قليل من الزميلات فعلاقاتي محدودة) ص٩٠
وإذا كانت شخصية البطلة “حيموت” هي المرأة التي تمتلك عواطف الحب الجياشة من خلال علاقتها إلا إنها تلك المرأة المتزنة غير المستسلمة والملزمة التي لاتنهزم أمام عواطفها فأمامها غاية أكبر وأيضا هي المرأة المثقفة الشاعرة وهي من جعلت من علاقتها بالكتب أقوى العلاقات وهي الدكتورة والمدنية والريفية الأصيلة ابنة الشيخ ومن خلال الوضعيات والتحولات والثبات فإن الحكي يرسل للمتلقي أن هذه المرأة هي المرأة المثال التي تجاوزت وتخطت اليأس بتحقيق ذاتها لتحقق لنفسها مكانة اجتماعية مرموقة لإيمانها بقدراتها وبغاياتهاو لتعكس صورة عن المرأة في المجتمع ولم تنس الرواية أن تلفت المتلقي أن شخصية تهتم بالمرأة من بنات جنسها فتشاركهن التميز والعطاء ( في أمسية شعرية بحتة نظمتها أحدى الجمعيات المهتمة بالمرأة حضرتها العديد من الزميلات بعد نثرت فوزية بينهن شعرت بحريتي) ص٩٦
وبذلك عكست المضامين السردية من خلال تسليط الضوء عن المرأة أنها تحولت من الاستبداد والتخلف إلى الانطلاق والحرية المتزنة ومن التضييق إلى الاتساع فأصبحت فاعلة مؤثرة لها شبكة من العلاقات المتوازتة والمؤثرة وهو من أهداف التعليم واللافت في الخطاب السردي أنه لم يتناول المرأة بسوء أو بشئ من التقليل من شأنها إلا فيما ندر بل أن الخطاب رسم المرأة الحنونة العطوفة الحكيمة والمعتدلة والمتزنة وهي المرأة المضحية والمعطاءة وهي التي ترفض ممارسات الرجل المستبدة ويتضج من خلال زوجة ” صايل” بل المرأة اجتماعية ومضحية وترغب بالعلاقات القيمية العادلة وترغب بالتطور والتعلم والتحول والتغير مع التمسك بالقيم والعادات الأصيلة
وقد نقلت الأحداث إلى المتلقي ببساطة ومصداقية وفيها التاثير في نفس القارئ ليس فحسب فقد عرج خطاب الرواية على تعدد الزوجات والتعدد العشوائي غير المتزن في الريف وإن كان التعدد في المدينة متواجدا لكنه بمايوافق الفكر ويتشابه مع الروح فالرواية ترفض تعدد الزوجات والذي تتضرر منه المرأة وتكون الضحية كما حدث مع أم البطلة التي لمحت للزواج من الصغيرات.
جاء في الخطاب الروائي الفوارق الاجتماعية مابين اهل الريف والمدينة فأهل البادية متمسكون بعاداتهم وتقاليدهم ولاتتمكن المدنية في تذويبهم فيها يتضح ذلك من خلال رفض سراء رفض زواج ابنتها من سليمان بسبب تأصل البادية في أعماقهم وإن كان ذلك ينم ولاء وطني لكل الوطن من تجذر البادية في أعماق ذات أهلها.
أما إذا تأمل المتلقي المكان، فإنه سيكتشف الأحداث غالبا ماجرت في المكان الصغير المغلق ” بيت الشعر، الخيام” او جرت في فضاء البادية المكان المفتوح وانتقلت من الخيمة وبيت الشعر إلى” بيت الطين الصغير” في فضاء المدينة.
ومما يلاحظ أن العلاقات الاجتماعية في البادية متفاوتة فهي قليلة الحب كثيرة الكراهية والحقد فيها الاستبداد والحقد وثمة علاقات متمزقة ومتحولة فالبادية مثلت لبطلة القصة مكان الخوف والفزغ خاصة بعد موت الأب .( في أخبرتني وسمية أنني سأرى أمي تحت جنح الظلام فقد اتفقت معها ومن تلك الليلة صرت اقترب منها خلسة كل ليلة) ص١٣
وعلى الرغم أن المكان مثل الاضطراب العلاقات إلا أنه مكان الخير والخصوبة بالنسبة للذات( عندما ترسل الشمس أشعتها الذهبية في مداعبة رقيقة لرؤؤس الخيام تكون مثل جارتنا قد انتهت جل أعمالها وعلقت قربة اللبن استعداد للخض)
فمثلت البادية بعد فقد البطلة أبيها الشيخ( مترك) مكان الخوف والفزغ والطغيان والاستبداد بالمرأة و مكان اللاحرية ( تتدلى الذكريات على مخيلتي أشباحا مخيفة وكوابيس تارة أخرى ومحاصرة بالوجوه الشاحبة” صايل، شيعفان، والجمل ملحان)
وهو أيضا مكان الانتماء والولاء المتجذر في الأعماق.( مازلت في أعماقي اقبع في البادية وأشجارها وزهور الخزامى والنفل) ص٦٣
أما المدينة المكان فقد مثلت العلاقات الاجتماعية المتزنة والعلاقات المترابطة بالحب وهي مكان الانطلاق وتحقيق الذات وفيها العواطف الصادقة والعلاقات الاجتماعية الصادقة والمتشعبةز ويتضح من خلال علاقة أسرة ” حيموت”بسليمان وأسرته.
وفي الأخيرة الرواية رواية سيرة ذاتية فيها المصداقية والصدق الفني الذي يجعل المتلقي يظن أن كاتبة الرواية بطلة القصة لما فيها من مصداقية وصدق فني وخيال مرتبط بالواقع ورسم للواقع ببساطة وبلا تكلف وجاءت الخطاطة السردية بلغة مؤثرة حد أن المتلقي يرسم البيئة والمدينة والشخصيات والأحداث ومايمكن أن يؤخذ على الرواية.
– صوت الراوي الواحد من أول الرواية بلا تحولات وتنقلات بين الماضي والحاضر فسارت بمسار واحد من أول الرواية حتى نهايتها .
– العنونة الغرعية في صفحات الرواية أخل نوعا بمضمون ورسالة النص ففيه نوع من الفضح للمضمون
– النهايات السعيدة وكانت النهايات سعيدة بلا تلميح ولاتحير المتلقي.
وهذا لايقلل من فتية الرواية وصراعاتها وتناقض مواقفها وشخصياتها وأمكنتها .

نظرية التناص في الأدب والنقد
تشي كلمة التناص (( intertextualite)) بوجود تداخل أو تفاعل أو تشارك بين نصيين قديمين أو حديثين شعراً أو نثراً باستحضار أحدهما في الآخر , بحيث يستحضر الأديب النص الأدبي القديم السابق ويوظفه في النص اللاحق أو الحاضر , ويكون هذا النص السابق حرفيا كما في التضمين والاقتباس والاستشهاد – سواء أكان بيتاً من الشعر أم جزءاً من بيت , أم مثلاً أم حكمة – , أو يكون أسلوبياً وإيقاعياً كما في الوقوف على الأطلال أو المعارضات أو النقائض أو المحاكاة أو البناء كما في محاكاة المقامات أو يكون مجازياً كما في استحضار الأساطير والقصص الشعبية , وكل هذا يعني أن يستحضر الأديب المعاصر نصاً ممن سبقه بنصه أو بروحه أو بأسلوبه لغاية فكرية أو فنية ؛ لأن النص – كما يقول عبد الله الغذامي – هو إناء يحوي بشكل أو بأخر أصداء نصوص أخرى .
وإذا ما تتبعنا نشأة التناص (( intertextualite)) وبداياته الأولى كمصطلح نقدي نجد أنه كان يرد في بداية الأمر ضمن الحديث عن الدراسات اللسانية , وقد وضح هذا المفهوم أعني التناص عند العالم الروسي ميخائيل باختين , وإن لم يذكر هذا المصطلح صراحة و اكتفى بـ (تعددية الأصوات)، (والحوارية)، وحلّلها في كتابه (فلسفة اللغة)، وكتاباته عن الروائي الروسي (دستوفيسكي) من خلال كتابه (فلسفة اللغة) والتي تدور حول مفهوم الحوارية في النص الروائي , فقد حدد باختين انطلاقا منه ظاهرة تعدد الثقافات في النص الروائي على الخصوص .
ويرى باختين أن الحوارية تتجلى في النص عبر ثلاثة مظاهر هي : التهجين ويقصد به المزج بين لغتين اجتماعيتين داخل ملفوظ واحد , والعلاقات الحوارية المتداخلة بين اللغات وهي التي تتجسد في الحوارات الأيدولوجية والثقافية غير المباشرة , والحوارات الخالصة ويقصد بها الحوار العادي بين الشخصيات الحكائية .
وعنى باختين بالتناص : الوقوف على حقيقة التفاعل الواقع في النصوص في استعادتها أو محاكاتها لنصوص – أو لأجزاء – من نصوص سابقة عليها .
وإذا كان باختين لم يستخدم مصطلح التناص صراحة فقد اعتمد على مفاهيم أخرى تدشن له كالتفاعلية والتفاعلية السيميائية , وتفاعلية السياقات , والتفاعلية الاجتماعية اللفظية , وتتطور هذه التفاعلية ويستوي سوقها عند تلميذته الباحثة البلغارية جوليا كرستيفا حيث أجرت استعمالات إجرائية وتطبيقية للتناص في دراستها ( ثورة اللغة الشعرية ) وعرفت فيها التناص بأنه { التفاعل النصي في نص بعينه } , كما ترى جوليا أن { كل نص يتشكل من تركيبة فسيفسائية من الاستشهادات وكل نص هو امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى } .
وقد خاض في غمار هذا المصطلح بعد كرستيفا الكثير من الباحثين كريفاتير وبارت ودريدا غير أن التناص ظل مطاطيا غير مقنن ولم يكتسب قيمته المنهجية ووضوحه إلا على يد الباحث الفرنسي جيرار جينيت الذي انتقل بالمصطلح انتقالاً عميقا فاعتبره نمطا من أنماط العلاقات غير النصية لذا لم يعد التناص عنصرا مركزيا لكنه واحدة من بين علاقات أخرى يندرج في قلب شبكة تحدد الأدب في خصوصيته , أي تحدد شعرية العمل أو النص .
وإذا كان الشكلانيون الروس قد تنبهوا إلى مفهوم هذا المصطلح بشكل مبسط فإن كرستيفا استطاعت أن تستنبط هذا المصطلح « التناص » من خلال قراءتها لباختين في دراسته لأعمال دستويفيسكي الروائية حيث وضع مصطلحي تعددية الأصوات والحوارية دون أن يستخدم مصطلح التناص . وبذلك تكون الرواية أول الأجناس الأدبية معملاً إجرائيًا لهذا المصطلح دون تسمية ، وتكون ـ أيضًا ـ جوليا كرستيفا عام 1966م أول من استخدم هذا المصطلح قاصدة به (( أن كل نص هو عبارة عن فسيفساء من الاقتباسات، وكل نص هو تشرب وتحويل لنصوص أخرى)) .
ولقد اعتمدت في ذلك على منهج التحليل النفسي جاعلة منه « خطاب الحياة الفكرية والعقلية ومعتبرة إياه نوعًا من الملازمة الجوهرية في ثقافتنا ».
ورغم ذلك فإن كرستيفا انصرفت عن مصطلح التناص فيما بعد وآثرت عليه مصطلحًا آخر هو «التنقلية» ولقد تعددت المفاهيم التناصية وتشعبت المدلولات، غير أن مصطلح التناص ظل حاضرًا عبر جميع الاتجاهات الأدبية الحديثة، وإن تباينت القيمات الدلالية للمفهوم داخل كل اتجاه مع الاتجاه الآخر محاولة من النقاد في تبين جزيئات هذا المصطلح.
ثم التقى حول هذا المصطلح عدد كبير من النقاد الغربيين وتوالت الدراسات حول التناص وتوسع الباحثون في تناول هذا المفهوم وكلها لا تخرج عن هذا الأصل ، وقد أضاف الناقد الفرنسي جيرار جينيت لذلك أن حدد أصنافاً للتناص وهي :
*- التناص أو التناصية , ويقصد به ما جاءت به جوليا كرستيفا ويحدده بعلاقة حضور مشترك متزامن لنصين أو أكثر داخل إطار نصي واحد , ويتم عبر آليات ثلاث محددة وهي : الاقتباس والسرقة والإيحاء . وزاد تيفن ساميول ونتالي غروس آلية رابعة هي : الإحالة .
*- المناص أو محيطية النص أو الملحق النصي , وهو كل ما يحيط بالمتن ويجعل منه متناً / نصاً ويقسمه جيرار جينيت إلى قسمين : الأول :
النص المحيط كالعناوين الجانبية أو التحتية , المقدمات والتمهيد والخاتمة والهوامش .
والثاني : النص الفوقي .
*- الميتانص أو انشراح النص أو الماورائية النصية , ويتمثل في علاقة الشرح والتفسير أو التعليق الذي يربط نصاً بآخر يتحدث عنه دون أن يذكره أحيانا , ويستدعيه دون أن يسميه.
*- جامعية النص ويتمثل في العلاقة البكماء التي تربط النص بجنسه وهي – كما يرى جينيت – تخص القارئ أكثر من الكاتب من حيث تحديد المؤشر الجنسي للعمل حتى وإن كتب عليه مؤشر جنسي محدد كقصة أو رواية أو شعر إلا أنها تظل في تحديدها مرهونة بالقارئ الذي تهيئ أفق انتظاره لتقبل العمل الأدبي .
*- التعلق النصي أو لاحقية النص , وهو ما يشتغل عليه جيرار جينيت أكثر من الأقسام الأخرى ويعني به اشتقاق نص لاحق ويسميه النص ( ب ) من نص سابق عليه في الوجود ويسميه ( أ ) ويتم إعادة إنتاج النص اللاحق عن طريق المحاكاة كمعارضة نص لنص بمعنى كتابة نص قديم برؤية حديثة . أو عن طريق التحويل كتحويل النص من صيغة لأخرى أو من نوع لآخر كالإعداد المسرحي أو السينمائي لنص روائي .
ويتم التحويل هذا بطرق متعددة منها : التحويل الكمي – التحويل الصيغي – استبدال الحوافز – التحويل القيمي . وأشار جينيت إلى أن هذه الأنماط متداخلة يكمل بعضها بعضا ولا ينبغي الفصل بينها ؛ لأنها كثيرا ما تتكامل وتتوحد .
وبعد ذلك اتسع مفهوم التناص وأصبح بمثابة ظاهرة نقدية جديدة وجديرة بالدراسة والاهتمام وشاعت في الأدب الغربي ، ولاحقاً انتقل هذا الاهتمام بتقنية التناص إلى الأدب العربي مع جملة ما انتقل إلينا من ظواهر أدبية ونقدية غربية ضمن الاحتكاك الثقافي .
ونحن وإن قيل إن هذا المصطلح النقدي دخيل على الثقافة العربية والنقدية فإننا نؤكد أن له جذوراً في النقد العربي القديم .
جاء في كتاب تلخيص المفتاح في المعاني والبيان والبديع للخطيب القزويني في فكرة الاقتباس والتضمين والعقد والحل والتلميح، يقول عن الاقتباس هو : { أن يضمن الكلام شيئا من القرآن أو الحديث } . فالذي يظهر من تحديده لهذا المفهوم وجود بذور لفكرة التناص في النقد العربي القديم، من خلال التقاطع الحاصل بين كل من الاقتباس والتناص المباشر، كما أن حديثه عن مفهوم التضمين يبقي جذور التناص لديه، لكن مع اختلاف أساليب تحديد نوعية الأخذ , وذلك أن يضمن الشاعر شعره شيئا من شعر الآخرين , وأشار إلى مفهوم العقد، وهو تنظيم نثر على طريق الاقتباس، أو بمفهوم الحل وهو جعل النظم نثرا، أو إلى مفهوم التلميح الذي يكون بالإشارة إلى قصة أو شعر من غير ذكر مصدر هذا الأخذ، وهنا يتطلب حضور القارئ النموذجي ليستقرئ هذا الأخذ.
ولا نجد هنا مناصاً من الحديث عن قضية السرقات الشعرية وهي قضية تضرب بجذورها إلى أبعد من القرن الثالث الهجري حينما ظهرت قضية اللفظ والمعنى على مسرح النقد , وأول من أشار إليها من النقاد هو ابن سلام الجمحي , نجده ينبه إلى فكرة المعنى الذي تدوّول حتى استفاض وصار كالمشترك فيقول : (( إن امرأ القيس سبق العرب إلى أشياء ابتدعها واستحسنها العرب , واتبعته فيها الشعراء منها : استيقاف صحبه , والبكاء على الديار , ورقة النسيب , وقرب المأخذ , وتشبيه النساء بالظباء والبيض , والخيل بالعقبان والعصي وقيد الأوابد , وأجاد التشبيه .. )) .
وابن سلام بذلك يلمح إلماحة خفيفة إلى أن هناك معاني مبتدعة لأصحابها فضل السبق إليها , ولكنها على مر العصور تناولتها الشعراء فأصبحت كالمعاني المشتركة المتداولة بينهم .
وجاء ابن قتيبة فعرض في كتابه الشعر والشعراء لكثير من القضايا النقدية , وأفاض القول في بعضها غير أنه لم يقف طويلاً عند قضية السرقات , بل أشار إليها من بعيد إشارة تنم عن بعض مقاييسها . فهو يقول : (( كان الناس يستجيدون قول الأعشى :
وكأس شربت على لذة *** وأخرى تداويت منها بها
إلى أن قال أبو نواس :
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء *** وداوني بالتي كانت هي الداء
فزاد فيه معنى اجتمع له به الحسن في صدره وفي عجزه , فللأعشى فضل السبق إليه , ولأبي نواس فضل الزيادة عليه )) .
والمقياس النقدي الذي ننسبه إليه هاهنا هو : (( أنه يجوز للشاعر أن يلم بمعاني السابقين ما دام قد أحسن فيها بالزيادة عليها أو بتأكيدها , وهو بهذا يخرج بالسرقة من دائرة الاتهام إلى دائرة الفن فلا يهم الناقد سبق المعنى أو تأخره , ولكن تهمه الموازنة بين السابق واللاحق لمعرفة الفاضل من المفضول )).
وهذا الأخذ الذي أشار إليه ابن قتيبة هو ما سماه البلاغيون المتأخرون إغارة أو مسخاً , وتكون مقبولة إذا اختص الثاني عن الأول بفضيلة كحسن السبك أو الاختصار أو الإيضاح أو زيادة في المعنى , وأبو نواس قد زاد على الأعشى في المعنى .
ونحن لا نريد أن نقف عند الملاحظات الجزئية التي نجدها في كتاب الطبقات لابن سلام أو كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة , أو عند ما اتهم به الشعراء كجرير والفرزدق , فتلك أخبار تاريخية حظ النقد فيها ضعيف , ولذلك ينبغي أن نعنى بالدراسة المنهجية , وأغلب الظن أن دراسة السرقات دراسة منهجية لم تظهر إلا عندما ظهر أبو تمام ؛ وذلك لأمرين :
1- قيام خصومة عنيفة حول هذا الشاعر , ولاسيما التعصب لمذهب البديع الذي يقوده , ومذهب عمود الشعر الذي يتزعمه البحتري .
2- ثم لأنه عندما قال أصحاب أبي تمام إن شاعرهم قد اخترع مذهباً جديداً وأصبح إماماً فيه , لم يجد خصوم هذا المذهب سبيلاً إلى رد ذلك الادعاء خيراً من أن يبحثوا للشاعر عن سرقاته ليدلوا على أنه لم يجد شيئاً وإنما أخذ عن السابقين ثم بالغ وأفرط .
وأكبر دليل على أن دراسة السرقات دراسة منهجية قد نشأت عن تلك الخصومة هو استعمال ذلك اللفظ سرقات بدلاً من الأخذ عند ابن قتيبة , أو السلخ عند أبي الفرج الأصفهاني .
وكان أول كتاب ألف بهذا العنوان كتاب عبد الله بن المعتز { سرقات الشعراء } ثم تلته كتب أخرى تناولت هذه القضية بالدراسة والعمق , ومنها كتابا عبد القاهر الجرجاني { دلائل الإعجاز – وأسرار البلاغة } .
وعند ابن رشيق في كتاب ( العمدة 2/ 282) ، نجد بوادر مفهوم التناص من خلال حديثه عن باب السرقات وما شاكلها، يقول : (( وهذا باب متسع جدا، لا يقدر أحد من الشعراء أن يدعي السلامة منه ، وفيه أشياء غامضة، إلا عن البصير الحاذق بالصناعة، وأخر فاضحة لا تخفى على الجاهل المغفل، وقد أتى الحاتمي في { حلية المحاضرة } بألقاب محدثة تدبرتها ليس لها محصول إذا حققت كالاصطراف والاجتلاب والانتحال والاهتدام والإغارة والمرافدة والاستلحاق وكلها قريب من قريب , وقد استعمل بعضها في مكان بعض )) ويجب أن نتبين هذه المصطلحات الدالة على أنواع السرقات عنده في ضوء كتابه :
1- الانتحال : وهو أن يأخذ الشاعر أبياتاً لشاعر آخر .
2- الانحال : وهو أن يقول شاعر أو راوية قصيدة ثم ينحلها شاعراً آخر .
3- الإغارة : وهو أن يصنع الشاعر بيتاً ويخترع معنى مليحاً فيتناوله من هو أعظم منه ذكراً , وأبعد صوتاً فيروى له دون قائله .
4- المواردة : وهو أن يتنازل الشاعر عن بعض أبيات له يرفد بها شاعراً آخر ليغلب خصماً له في الهجاء .
5- الاصطراف : وهو أن يعجب الشاعر ببيت من الشعر فيصرفه إلى نفسه .
6- الاجتلاب أو الاستلحاق : وهو اصطراف بيت على جهة المثل أي : على جهة ( الاقتباس والتضمين )
7- الاهتدام أو النسخ : وهو السرقة فيما دون البيت .
8- الاختلاس أو النقل : وهو تحويل المعنى من غرض لآخر .
9- الموازنة أخذ بنية الكلام فقط .
10- العكس : وهو جعل مكان كل لفظة ضدها .
11- الاستيحاء : وهو أن يأتي الشاعر أو الكاتب بمعان جديدة تستدعيها مطالعاته فيما كتب غيره .
ويذكر ابن رشيق بعد ذلك مواضع الأخذ الحسن وهي : 1- اختصار المعنى إذا كان طويلاً . 2- بسطه إذا كان كزاً . 3- تبينه إذا كان غامضاً 4- أن يختار له حسن الكلام إذا كان سفسافاً 5- أن يختار له رشيق الوزن إذا كان جافياً . 6- صرفه عن وجهه إلى وجه آخر .
أما قبح الأخذ عنده فهو : أن يعمل الشاعر معنى ردياً ولفظاً ردياً مستهجناً ثم يأتي من بعده فيتبعه فيه على رداءته .
ومن الطبيعي أن السرقة القبيحة – كما قررها النقاد من قبل – تنحصر في مسح المعاني أو الألفاظ أو الأساليب التي يتناولها الشاعر ممن قبله .
وعقد أبو هلال العسكري في كتابه ( الصناعتين – 217وما بعدها ) بابا سادسا سماه في حسن الأخذ ، أو وقع الحافر على الحافر .
تحدث في الفصل الأول من الباب السادس في حسن الأخذ ” وأنه ليس لأحد من أصناف القائلين غني عن تناول المعاني ممن تقدمهم والصب على قوالب من سبقهم ولكن عليهم إذا أخذوها أن يكسوها ألفاظا من عندهم ويبرزوها في معارض من تأليفهم ولولا أن القائل يؤدي ما سمع لما كان في طاقته أن يقول وإنما ينطق الطفل بعد استماعه من البالغين وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: (( لو أن الكلام يعاد لنفد )) , فصفة الأخذ التي لا يسلم منها أحد أبرزت لنا طريقة اكتساب اللغة عند الطفل، فهو لا يتكلم ولولا سماع الآخرين، فمبدأ الكلام هو استمرارية ولا يمكن له أن يكون من العدمية، فإذا هو تفاعل حاصل بين الناس، فحديثه يميل إلى درجة كبيرة لمفهوم التناص، كما أدلى أبو هلال العسكري في الفصل الثاني من الباب السادس في قبح الأخذ (( وهو أن تعمد إلى معنى فتتناوله بلفظه كله أو أكثره أو تخريجه في معرض مستهجن )) .
وحدد أبو الهلال العسكري في هذا الفصل كيف يكون قبح الأخذ في تناول المعنى بلفظه كله، أو أخذه بأكثره أو إخراجه إلى معنى مستهجن، فمن خلال هذين الفصلين عمل على دراسة فكرة الأخذ التي تكون إما مستحسنة أو مستقبحة، ويبقى المبدع مربوطا بها، فلا يمكن أن يكون إبداعه مبنيا من لا شيء وإنما من ذات اطلعت على نصوص سابقة وأخذت منها ولكن تختلف طريقة الأخذ في تقاطع مع فكرة التناص الذي اقترب من مصطلح الأخذ .
ويتعرض الآمدي لموضوع السرقات من خلال منهجه ﻓﻲ الموازنة بين الطائيين أبي تمام والبحتري فيقول : ( وأذكرُ طرفاً من سرقات أﺑﻲ تمّام، وإحالاته، وغلطه، وساقط شعره، ومساوئ البحتري، ﻓﻲ أخذ ما أخذه من معاني أﺑﻲ تمّام، وغير ذلك من غلط ﻓﻲ بعض معانيه)
وحصر الصيغ والأشكال التي استخدمها ﻓﻲ حديثه عن سرقات أﺑﻲ تمّام فيما يلي : ( الأخذ – السرقة – التبعية – التقصير – الخلط – الزيادة – الادّعاء – التغيير – التعديل – الكشف – الإفساد – التحويل . لكنّ المصطلح الأكثر استعمالاً، هو (الأخذ)، وهو الاسم المُلطّف للسرقات.
ويتحدث عبد القاهر في الدلائل عن فكرة الأخذ ويتناولها من نواحيها المختلفة من وجهة نظر منهجه البلاغي ؛ وهو لذلك يهاجم النقاد الذين يأخذون بظواهر الكلم , حتى إنهم يرون خيال الشيء فيحسبونه الشيء وذاك أنهم اعتمدوا على النسق الذي يرونه في الألفاظ , وجعلوا لا يحفلون بغيره , ولا يعولون في الفصاحة والبلاغة على شيء سواه , حتى انتهوا أن زعموا أن من عمد إلى شعر فصيح فقرأه , ونطق بألفاظه على النسق الذي وضعها الشاعر عليه كان قد أتى بمثل ما أتى به الشاعر في فصاحته وبلاغته إلا أنهم زعموا أنه يكون في إتيانه به محتذياً لا مبتدئاً .
وعبد القاهر هنا يهاجم النقاد الذين قد بالغوا كل المبالغة في ادعاء السرقة والاحتذاء , ونسوا في سبيل ذلك أن الاحتذاء سبيل كل مبتدئ , ولا سبيل سواه لتتفتح موهبته الشعرية , وهو يفسر معنى الاحتذاء عند أهل العلم بالشعر فيقول : (( أن يبتدئ الشاعر في معنى له وغرض أسلوباً , والأسلوب الضرب من النظم والطريقة فيه فيعمد شاعر آخر إلى ذلك الأسلوب فيجيء به في شعره , فيشبه بمن يقطع من أديمه نعلاً على مثال نعل قد قطعها صاحبها ، فيقال : قد احتذى على مثاله )) .
وينكر عبد القاهر على النقاد وصمهم الشاعر بالسرقة ما دام محتذياً , وذلك لأنه لا يفرق بين الاحتذاء والسرقة , كما تبين من تفسيره لمعنى الاحتذاء ؛ ذلك التفسير العلمي السليم الذي يجعل من دراسة السرقات دراسة نقدية فنية لا مجرد اتهام وظن .
ويتناول عبد القاهر هذه الفكرة مرة أخرى فيقول : (( وإذا عمد عامد إلى بيت شعر فوضع مكان لفظة لفظاً في معناه ولا يعرض لنظمه وتأليفه كمثل أن يقول في قوله :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها *** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ذر المآثر لا تذهب لمطلبها *** واجلس فإنك أنت الآكل اللابس
وما كان هذا سبيله كان بمعزل من أن يكون به اعتداد , وأن يدخل في قبيل ما يفاضل بين عبارتين , بل لا يصح أن يجعل ذلك عبارة ثانية , ولا أن يجعل الذي يتعاطاه بمحل من يوصف بأنه أخذ معنى , ذلك لأنه يكون بذلك صانعاً شيئاً يستحق أن يدعى من أجله واضع كلام , ومستأنف عبارة وقائل شعر ذاك لأن بيت حطيئة لم يكن كلاماً وشعراً من أجل معاني الألفاظ المفردة التي تراها فيه , مجردة معرّاة من معاني النظم والتأليف , بل منها متوخى فيها ما ترى من كون { المكارم } مفعولاً به { لدع } وكون قوله : { لا ترحل لبغيتها } جملة أكدت الجملة قبلها , وكون { اقعد } معطوفاً بالواو على مجموع ما مضى , وكون جملة { أنت الطاعم الكاسي } معطوفة بالفاء على { اقعد } فالذي يجيء فلا يغير شيئاً من هذا الذي به كان كلاماً وشعراً لا يكون قد أتى بكلام ثان وعبارة ثانية بل لا يكون قد قال من عند نفسه شيئاً البتة )) .
ويقرر عبد القاهر بعد ذلك أن علة الخلط الذي وقع فيه النقاد ترجع إلى جهلهم يقول : (( وقد علمنا أن أصل الفساد وسبب الآفة هو ذهابهم عن أن من شأن المعاني أن تختلف عليها الصور , وتحدث فيها خواص ومزايا من بعد أن لا تكون , وأنك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل , فصنع فيه ما يصنع الصانع الحاذق إذا هو أغرب في صنعة خاتم وعمل شنف وغيرهما من أصناف الحلي فإن جهلهم بذلك من حالها هو الذي أغواهم واستهواهم , وورطهم فيما تورطوا فيه من الجهالات , وأداهم إلى التعلّق بالمحالات , وذلك أنهم جهلوا شأن الصورة ووضعوا لأنفسهم أساساً , وبنوا على قاعدة فقالوا : إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث )) .
ولا شك أن عبد القاهر قد وصل إلى علّة حقيقية في مشكلة السرقات لم يتنبه إليها النقاد من قبل , فليس الأمر مجرد لفظ ومعنى وإنما هو صياغة وتصوير أيضاً .
ولهذا كان المبدأ الذي أخذ به النقاد في السرقات وهو : { إن من أخذ معنى عارياً فكساه لفظاً من عنده كان أحق به } ليس مبدأ صحيحاً طبقاً لنظرية عبد القاهر , فهو يرد هذا المبدأ على النقاد فيقول : { الاستعارة عندكم مقصورة على مجرد اللفظ ولا ترون المستعير يصنع بالمعنى شيئاً , وترون أنه لا يحدث فيه مزية على وجه من الوجوه , وإذا كان كذلك فمن أين ليت شعري , يكون أحق به ؟ }
ويجمل عبد القاهر فكرته في حقيقة الأخذ طبقاً لنظرية النظم التي نادى بها فيقول : وجملة الأمر أنه كما لا تكون الفضة أو الذهب خاتماً أو سواراً أو غيرهما من أصناف الحلي بأنفسهما , ولكن بما يحدث فيهما من الصورة كذلك لا تكون في الكلم المفردة التي هي أسماء وأفعال وحروف كلاماً وشعراً من غير أن يحدث فيها النظم الذي حقيقته توخي معاني النحو وأحكامه .
فإذن ليس لمن يتصدى لما ذكرنا من أن يعمد إلى بيت فيضع مكان كل لفظة منها في لفظة في معناها أن يستركّ عقله أي : ( يعد ركيكاً متهالكاً ) ويستخف ويعدّ مَعدّ الذي حُكى أنه قال : إني قلت بيتاً هو أشعر من بيت حسان , قال حسان :
يغشون حتى ما تهرُّ كلابهم *** لا يسألون عن السواد المقبل
وقلت :
يغشون حتى ما تهر كلابهم *** أبداً ولا يسلون من ذا المقبل
فقيل : هو بيت حسان , ولكنك أفسدته .
وعلى أساس ما تقدم يجعل عبد القاهر المعنى المتداول بين الآخذ والمأخوذ منه قسمين :
الأول : (( قسم أنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى بالمعنى غفلاً ساذجاً , وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتُعجب , ويكون ذلك إمّا لأن متأخراً قصّر عن متقدم , وإما لأن هُدي متأخر لشيء لم يهتد إليه المتقدم ومثال ذلك قول المتنبي :
بئس الليالي سَهِدت من طربي *** شوقاً إلى من يبيت يرقدها
مع قول البحتري :
ليل يصادفني ومرهفة الحشا *** ضدين أسهره لها وتنامُه
وقول المتنبي :
إذا اعتل سيف الدولة اعتلت الأرض *** ومن فوقها والبأس والكرم المحض
مع قول البحتري :
ظلنا نعود الجود من وعكك الذي ** * وجدت وقلنا اعتل عضو من المجد
وقول معْن بن أوس :
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد *** إليه بوجه آخر الدهر تقبل
مع قول العباس بن الأحنف :
نقلُ الجبال الرواسي من أما كنها *** أخفُّ من ردّ قلب حين ينصرف
وقول جرير :
بعثن الهوى ثم ارتمين قلوبنا *** بأسهم أعداء وهنّ صديق
مع قول أبي نواس :
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت *** له عن عدوّ في ثياب صديق
الثاني : قسم أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى وصوّر , وهذا يدل على أن المعنى ينتقل من صورة إلى صورة ))
ويهتم عبد القاهر بهذا القسم اهتماماً كبيراً – يظهر في إيراده كثيراً من الأمثلة التطبيقية – باعتبار أن القسم الأول ليس مجال دراسة البلاغيين لأنه أمر ظاهر للعيان , ولكن هذا القسم هو الميدان الذي يصول فيه البلاغي ليستخدم أدواته في الحكم على أي الصورتين أجمل من الأخرى ما دام المعنى واحداً .
وعبد القاهر هنا لا يهتم بالبحث عن سارق المعنى من الآخر , ولكنه يحصر اهتمامه في فكرة تصوير المعنى باعتبار أن الشعر صناعة وضرب من التصوير كما سبق أن قرر الجاحظ , واتبعه عبد القاهر في هذا المبدأ يقول : (( واعلم أن قولنا { الصورة } إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا , فلما رأينا البينونة بين آحاد الأجناس تكون من جهة الصورة فكان تبيُّن إنسان من إنسان وفرس من فرس بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك , وكذلك الأمر في المصنوعات , فكان تبيّنُ خاتم من خاتم وسوار من سوار بذلك , ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرقاً عبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا : للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك )) .
ويتناول عبد القاهر مشكلة السرقات في كتابه { أسرار البلاغة } من وجهة نظر علم البلاغة بصفة عامة , وفي كتابه { الدلائل } تناولها من وجهة نظر فكرة إعجاز القرآن خاصة – كما سبق توضيحه – وإن كانت أفكاره في الكتابين متكاملة بالنسبة لمشكلة السرقات .
أما منهج عبد القاهر في دراسته السرقات في كتابه { أسرار البلاغة } تفرق في فصلين يكمل كل منهما الآخر , وهو يجعل المعاني قسمين :
الأول : عقلي : مجراه في الشعر والكتابة والبيان والخطابة مجرى الأدلة التي تستنبطها العقلاء , والفوائد التي تثيرها الحكماء , ولذلك تجد الأكثر من هذا الجنس منتزعاً من أحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – وكلام الصحابة – رضي الله عنهم جميعاً – ومنقولاً من آثار السلف الذين شأنهم الصدق , وقصدهم الحق , أو ترى له أصلاً في الأمثال القديمة والحكم المأثورة عن القدماء فقول أبي الطيب :
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى *** حتى يراق على جوانبه الدم
وقول ابن الرومي :
وما الحسب الموروث لا درّ درّه *** بمحتسب إلا بآخر مكتسب
معنى صريح محض يشهد له العقل بالصحة , ويعطيه من نفسه أكرم النسبة , وتتفق العقلاء على الأخذ به , والحكم بموجبه في كل جيل وأمة , فهذا كما ترى ليس للشعر في جوهره وذاته نصيب , وإنما ما يلبسه من اللفظ ويكسوه من العبارة , وكيفية التأدية من الاختصار وخلافه , والكشف أو ضده .
الثاني : تخييليّ : فهو الذي لا يمكن أن يقال إنه صدق , وإن ما أثبته ثابت , وما نفاه منفيّ , وهو مفتنّ المذاهب , كثير المسالك , لا يكاد يحصر إلا تقريباً , ولا يحاط به تقسيماً وتبويباً , ثم إنه يجيء طبقات , ويأتي على درجات :
فمنه ما يجيء مصنوعاً قد تلطف فيه واستعين عليه بالرفق والحدق , حتى أعطي شبهاً من الحق , وغشي رونقاً من الصدق باحتجاج يخيّل وقياس يصنع فيه ويُعمل , ومثاله قول أبي تمام :
لا تنكري عطل الكريم من الغنى *** فالسيل حرب للمكان العالي
فهذا قد خيل إلى السامع أن الكريم إذا كان موصوفاً بالعلو والرفعة في قدره , وكان الغني كالغيث في حاجة الخلق إليه وعظم نفعه , وجب بالقياس أن ينزل عن الكريم نزول ذلك السيل عن الطود العظيم , ومعلوم أنه قياس تخييل وإيهام لا تحصيل وإحكام , فالعلة أن السيل لا يستقر على الأمكنة العالية , أن الماء سيّال لا يثبت إلا إذا حصل في موضع له جوانب تدفعه عن الانصباب وتمنعه عن الانسياب , وليس في الكريم والمال شيء من هذه الخلال .
وأقوى من هذا في أن يظن حقاً وصدقاً وهو على التخيّل قول مسلم بن الوليد :
الشيب كره وكره أن يفارقني *** أعجِبْ بشيء على البغضاء مودود
فهو من حيث الظاهر صدق وحقيقة , لأن الإنسان لا يعجبه أن يدركه الشيب ؛ فإذا أدركه كره أن يفارقه , فتراه لذلك ينكره ويكرهه إلا أنك إذا رجعت إلى التحقيق كانت الكراهة والبغضاء لاحقة للشيب على الحقيقة , فإما كونه مراداً ومودوداً فمتخيل فيه , وليس بالحق والصدق .
هذا هو تقسيم عبد القاهر للمعاني , وهو في الواقع قد فلسف تقسيم النقاد السابقين للمعاني إلى معنى عام مشترك ومعنى خاص , فأطلق على القسم الأول { المعنى العقلي } وعلى القسم الثاني { المعنى التخييلي } وعلى هذا الأساس ينتفي ظن السرقة عن المعنى العقلي , ولا يكون إلا في المعنى التخييلي , وإن كان عبد القاهر سينفي السرقة عن هذا المعنى أيضاً .
ويعود عبد القاهر فيتناول في فصل آخر تقسيم المعنى إلى مشترك وخاص بطريقة بلاغية فلسفية على غير الطريقة التي اتبعها في الفصل الأول , فهو يجعل الاتفاق بين الشاعرين على وجهين :
الأول : أن يكون في الغرض على العموم , وهذا الاتفاق لا يدخل في الأخذ والسرقة والاستمداد والاستعانة كوصف الممدوح بالشجاعة والسخاء أو حسن الوجه والبهاء , أو وصف فرسه بالسرعة , أو ما جرى هذا المجرى .
الثاني : الاشتراك في وجه الدلالة على الغرض , وذلك بأن يذكر ما يستدل به على إثباته له بالشجاعة والسخاء مثلاً , وهذا النوع ينقسم أقساماً منها :
التشبيه بما يوجد هذا الوصف فيه على الوجه البليغ والغاية البعيدة كالتشبيه بالأسد في البأس وبالبحر في الجود وبالبدر والشمس في الحسن والبهاء والإنارة والإشراق .
ومنها ذكر هيئات تدل على الصفة من حيث كانت لا تكون إلا فيمن له الصفة كوصف الرجل في حال الحرب بالابتسام , وسكون الجوارح وقلة الفكر .
وهذا القسم – أي الاتفاق بين الشاعرين في وجه الدلالة على الغرض – يجب أن ينظر فيه على النحو التالي :
1- فإن كان مما اشترك الناس في معرفته , وكان مستقراً في العقول والعادات فإن حكم ذلك – وإن كان خصوصاً في المعنى – حكم العموم الذي تقدم ذكره , من ذلك التشبيه بالأسد في الشجاعة , وبالبحر في السخاء , وبالبدر في النور والبهاء ..
وكذلك قياس الواحد في خصلة من الخصال على المذكور بذلك , والمشهور به والمشار إليه سواء كان ذلك ممن حضرك في زمانك أو كان ممن سبق في الأزمنة الماضية ؛ لأن هذا مما لا يختص بمعرفته قوم دون قوم , ولا يحتاج في العلم به إلى روّية واستنباط وتدبر وتأمل , وإنما هو في حكم الغرائز المركوزة في النفوس والقضايا التي وُضع العلم بها في القلوب .
2- وإن كان الاتفاق بين الشاعرين في وجه الدلالة على الغرض مما ينتهي إليه المتكلم بنظر وتدبر , ويناله بطلب واجتهاد , وكان درّاً في قعر بحر لا بد له من تكلف الغوص عليه , وممتنعاً في شاهق لا يناله إلا بتجشّم الصعود إليه فهو الذي يجوز أن يدّعى فيه الاختصاص والسبق والتقدم والأولية , وأن يجعل فيه سلف وخلف , ومفيد ومستفيد , وأن يقضى بين القائلين فيه بالتفاضل والتباين , وأن أحدهما فيه أكمل من الآخر , وأن الثاني زاد على الأول أو نقص عنه , وترقى إلى غاية أبعد من غايته , أو انحط إلى منزلة هي دون منزلته .
وممّا تقدم نرى أن عبد القاهر الجرجاني يجعل ما سبق أن سماه المعنى العقلي { اتفاقاً في الغرض على العموم } وما سبق أن سماه المعنى التخييليّ { اتفاقاً في وجه الدلالة } , وكل هذه التسميات ليست إلا محاولة لفلسفة ما سبق أن قرره النقاد من أن المعاني قسمان : ( مشترك عام الشركة وخاص ) .
ثم يستطرد بعد ذلك إلى الكلام على المشترك والخاص من المعاني بقصد تحديد مفهومهما وإبداء رأيه فيهما فيقول : (( واعلم أن ذلك الأول وهو المشترك العامي والظاهر الجلي , والذي قلت إن التفاضل لا يدخله , والتفاوت لا يصح فيه إنما يكون كذلك منه ما كان صريحاً ظاهراً لم تلحقه صنعة وساذجاً لم يعمل فيه نقش , فأما إذا رُكب عليه معنى ووصل به لطيفة , ودخل إليه من باب الكفاية والتعريض والرمز والتلويح فقد صار بما غيّر من طريقته , واستؤنف من صورته واستجد له المعرض , وكسي من ذلك المعرض داخلاً في قبيل الخاص الذي يُملك بالفكرة والتعمل , ويتوصل إليه بالتدبر والتأمل )) .
ومعنى هذا أن عبد القاهر يقرر عموم الشركة في المعاني المجردة فقط , في حين أنه يسلّم بأن الصياغة وحدها هي التي تُخرج هذه المعاني من العموم إلى الخصوص .
وقد سبق أبو هلال العسكري إلى هذه الفكرة حين قرر أن العبرة بالكساء الذي يكسو به الشاعر معناه , ومن ثم اتخذ من الصياغة دليلاً على السرق , إلا أن عبد القاهر قد جعل من هذه الفكرة أساساً ثابتاً للحكم على المعاني , ورفع من شأن الصورة الشعرية حين جعلها أساساً للجمال الفني الذي يبدعه الشاعر فيستحق به المعنى , حتى لو كان هذا المعنى مكرراً مشتركاً , وذلك لأنه قد أتى به كما يقول عبد القاهر : (( من طريق الخلابة في مسلك السحر , ومذهب التخييل , فصار لذلك غريب الشكل , بديع الفن , منيع الجانب , لا يدين لكل أحد ))
ويتناول عبد القاهر بعد ذلك تأثير هذا التصوير الفني الذي يبدع به الشاعر المعنى فيقول :
(( فالاحتفال والصنعة في التصويرات التي تروق السامعين وتروعهم , والتخيلات التي تهز الممدوحين وتحركهم , وتفعل فعلاً شبيهاً بما يقع في نفس الناظر إلى التصاوير التي يشكلها الحذاق بالتخطيط والنقش , أو بالنحت والنقر , فكما أن تلك تعجب وتخلب , وتروق وتونق , وتدخل النفس من مشاهدتها حالة غريبة لم تكن قبل رؤيتها , ويغشاها ضرب من الفتنة لا ينكر مكانه ولا يخفى شأنه )) .
وبإدراك عبد القاهر لهذا التأثير النفسي الذي يحدثه التصوير الفني للمعنى المشترك يصل تقسيم النقاد للمعاني إلى غايته , ويعرف على وجه التحديد المعنى المشترك بين الناس الذي لا يجوز ادعاء السرقة فيه والمعنى المبتدع الخاص الذي ينحصر فيه ادعاء السرق , وإن كان عبد القاهر لا يرى هذا الادعاء بل يجوّز فيه الاختصاص والسبق وأن يجعل فيه سلف وخلف , ومفيد ومستفيد , وأن يقضى بين القائلين فيه بالتفاضل والتباين كما سبق .
والمعنى المشترك الذي يبدع الشاعر في تصويره فيصير خاصاً به , والمعنى المبتدع الخاص الذي يكثر تداوله ويستفيض حتى يصبح مشتركاً , والقسمان الأخيران قد فطن عبد القاهر إلى أهميتهما – وإن كان ابن سلام وابن قتيبة – قد فطنا قبله إلى ذلك المعنى المبتدع الخاص الذي يكثر تداوله حتى يصبح مشتركاً – بحديثهما عن اتباع الشعراء لا مرئ القيس في أكثر معانيه المبتدعة .
ثم أكّد القاضي الجرجاني هذا المعنى أيضاً بصورة قوية ثابتة , على أن عبد القاهر قد استكمل ما فات القاضي الجرجاني والآمدي في دراستهما للمعاني التي هي عماد مشكلة السرقات , وحول دراسة السرقات من دائرة الجمود والاتهام إلى دراسة فنية خالصة للمعاني وتطورها , وتأثر الشعراء بعضهم ببعض إلى سوى ذلك من دقائق فنية تنفي وجود سرقة على الإطلاق إلا أن تكون نسخاً ومكابرة .
وبعد فهذه خلاصة لأفكار الإمام عبد القاهر الجرجاني المتصلة بموضوع السرقات كما جاء في كتابه أسرار البلاغة , وفيما يظهر أنه ألمّ بجميع جوانبها , وأطل عليها من زوايا متعددة , ونحا في دراستها منحى أدبياً خالصاً يدل على ذوق رفيع وعلم غزير وذهن متفتح وبصيرة نافذة في الشعر .
ويبدو أنه قد قال الكلمة الأخيرة في دراسة السرقات لأننا قد لا نصادف بعده ناقداً يستطيع أن يضيف شيئاً جديداً إلا في النادر , بل على العكس من ذلك سنجد البلاغيين قد جمدوا هذه الدراسة حتى أصبحت – تقريباً – آية قرآنية لا يملون تلاوتها .
وبهذه الدّراسة نرى كيف استطاع عبد القاهر الجرجاني (( أن يفلسف دراسة السرقات إلى حد ما، وأن ينقلها من دائرة الاتهام إلى دراسة فنية خالصة للمعاني ينتفي معها وجود سرقة على الإطلاق إلا إذا كانت نسخا , فهو يبرز فكرة الأخذ ويعطى لها سمة القبول من باب أن المعاني تشترك بين الناس وتتداولها العقول ، فهي ليست سرقة وإنما تتبادل صفة العمومية والخصوصية يستطيع أن يمتلكها أي شخص ويدخل ذلك في باب الأخذ، فهذا الأخير نجد مفهومه يقترب بطريقة وبأخرى إلى حد كبير من مفهوم التناص )) .
ويعيد أغلب النقاد العرب المعاصرين إلى السرقات الأدبية وهجاً نقدياً جديداً بعد أن حظيت بهذا الوهج في النقد القديم عند نهوضها كفكرة لها ظروفها وملابساتها أو لعلهم تناولوها في إطار من المفاهيم الأخرى وكأنهم يسعون إلى إعادة زراعة حقل مهجور بآليات حديثة وصالحة لمعالجته إن الآراء التي تناولت السرقات الأدبية لكونها جذوراً أو أصولا للتناصية كان لها من الشيوع ما أوحى أحيانا بتطابق تام بين التناصية والسرقات ويكاد يجمع أغلب من تناول التناصية في علاقتها بموروثنا النقدي على أن السرقات تحمل صلة ما مع التناصية من هنا كانت الحاجة إلى استعراض هذه الرؤى والأفكار في مستوياتها المختلفة 0
ظل النظر إلى السرقات الأدبية وغيرها مما أشار إليه نقدنا القديم بآليات جديدة هاجساً لعدد من النقاد المعاصرين فهم يشيرون إليها بمنظورهم الحديث المنبثق من النظرية الحديثة وتحظى هذه الرؤية بقبول عند أغلب الدارسين مع اختلاف مشاربهم وممن أشار إلى ذلك عبد الله الغذامي الذي عرض لمصطلح التناصية بعد نظرة جديدة يصحح بها ما كان الأقدمون يسمونه بالسرقات أو وقع الحافر على الحافر بلغة بعضهم 0
ويبدو فعل التصحيح المقترح في هذه الرؤية متصلاً بجانبين اثنين أحدهما التحول من الأحكام الأخلاقية التي كانت سائدة ورمت بظلالها على السرقات الأدبية مع كون بعض النقاد القدامى تباعدوا عن ذلك والثاني يتصل برصد ملامح القديم بأدوات حديثة .
ومن أبرز هؤلاء الذين رأوا في السرقات الأدبية شبه نظرية تحتاج إلى إعادة البناء من جديد عبد الملك مرتاض الذي جعلها من أكبر القضايا النقدية التي يجب الاهتمام بها وذلك بعد أن رآها فكرة تحتاج إلى صياغة جديدة وقراءة بأدوات تقنية جديدة وختم بحثه بالإشارة إلى كون التناصية تبادل التأثر والعلاقات بين نص أدبي ما ونصوص أدبية أخرى ومع اتفاق الدعوتين السابقتين للغذامي ومرتاض في كونهما تمثلان اقتراحاً لتحديث السرقات الأدبية إلا أنهما تفترقان في تصوّر كل منهما وموقف كل منهما في النظر إلى السرقات أولاً ومن ثم إمكان التغيير وشموله فقد كان مرتاض مندفعاً إلى ضرورة الإسراع في إيجاد الحل معتمداً على ضرورة الابتعاد عن الخضوع والخنوع .
وأهمية عملية التناص هي التي جعلت الدكتور محمد مفتاح يقول : إنه بمثابة الهواء والماء والزمان والمكان للإنسان فلا حياة له بدونها ولا عيشة له خارجها . فهو أمر محتوم لا غنى عنه للنص الأدبي أراد الكاتب ذلك أم لم يرده , فهو محكوم به عليه رغم أنفه حيث إنه قد يحصل دون أن يكون ذلك بقصد الكاتب بل يقع فيه من خلال مخزونه الأدبي في الذاكرة .
ويشير الدكتور محمد مفتاح أن دراسة التناص في الأدب الحديث قد انصبت أول الأمر في حقول الأدب المقارن والمثاقفة كما فعل عز الدين المناصرة في كتابه ( المثاقفة والنقد المقارن: منظور شكلي) , ثم دخل الباحثون العرب في إشكالية المصطلح نتيجة لاختلاف الترجمات والمدارس النقدية فمحمد بنيس يطلق عليه مصطلح { النص الغائب } ومحمد مفتاح يسميه بـ { التعالق النصي } حيث عرفه فقال (( التناص هو تعالق – الدخول في علاقة – نصوص مع نص حدث بكيفيات مختلفة )) ، ويحدد نوعين رئيسيين للتناص هما :
= المحاكاة الساخرة ويحدد لها مقابلاً في النقد العربي وهو النقيضة .
= المحاكاة المقتدية وتقابلها في النقد العربي المعارضة .
ويقسم آليات التناص إلى التمطيط ومن أشكاله الجناس بالقلب وبالتصحيف , والشرح والاستعارة والشكل الدرامي وأيقونية الكتابة .
ويضع دعامتين أساسيتين يجعلها شرطاً لكل الآثار الوسيطة وهما :
= التوالد والتناسل : الآثار يتولد بعضها من بعض , وتُتناول النواة المعنوية بصور متعددة .
= التواتر : أي إعادة نماذج معينة وتكرارها لارتباطها بالسلف ولقوتها الإيحائية .
ويشير الدكتور محمد مفتاح في كتابه اللاحق “مساءلة النص” إلى التحريف وسوء الفهم الذي اعترى إنجازات الدارسين لمفهوم التناص، ثم بعد دعوته إلى وجوب إدراك ظروف نشأة المفهوم وأبعاده الفكرية، ويقترح درجات ستاً للتناص ، هي :
1- التطابق : أي تساوي النصوص في الخصائص البنيوية وفي النتائج الوظيفية.
2- التفاعل : وهو الامتزاج الكلي أي التفاعل بين نصيين مختلفين زمنياً ونسقياً وسياقياً, والتفاعل يكمن في جعل النص الأصلي قادراً على أن يصنع من تلك النصوص جميعها نصاً واحداً له دلالته ورسائله الخاصة به .
3- التداخل : هو تداخل النصوص السابقة من النص اللاحق في فضاء نصي عام دون تحقق الامتزاج الذي يصعب معه تمييز النصوص الداخلة بل إن كل نص يحتفظ بهويته المرجعية الإشارية وذلك لا ينفي وظيفته السياقية والدلالية التي يؤديها داخل نسيج النص , بل المقصود هنا مدى اكتشاف المتلقي له حيث لا يتسم ذلك بالصعوبة في تفنيد النصوص الداخلة ومن ثم بيان سياقها الذي سيقت منه والذي أدمجت فيه ومدى الجمالية والتوافقية التي قامت إحداثيات تلك النصوص بها داخل جسد النص .
ويبرز التداخل من خلال الاقتباسات والتضمينات , فالتناصات والمقبوسات ليست ملكا للنص إنما هي موجودات تنفعل به وتدخل معه في نسيج دلالي معين تحكمه علاقة تبادلية , فالنص يمنح المقبوسات سياقات جديدة في حين تمنحه هي كل ما تملكه من مقومات جمالية وفكرية ومضمونية .
4- التحاذي : يكون بمحافظة كل نص على هويته في غياب أي صلة بين النصوص .
5- التباعد : إذا كان من الممكن تحاذي نص حديثي ونص قرآني، فإن التباعد يتجلى في مجاورة نكتة سخيفة لآية قرآنية.
6- التقاصي : يقوم على المقابلة بين ثنائيات نصية متغايرة ومتناقضة يضمها الفضاء النصي العام مثل التقابل بين النصوص الدينية و النصوص الفجرة والنصوص العلمية والنصوص الفكاهية والنصوص الحكمية والنصوص الحمقية .
والوجه الأكثر بروزاً للتقاصي نلمحه من خلال البعد الميتانصي (( وهو نوع من العلاقة التي يقيمها النص مع المتداخلة معه , وفي الميتانصية نجد التفاعل يقوم على أساس النقد , أي أن الميتانص نقد للنص المستدعى يقوم به المؤلف , ويكون فيه المتناص متنوعا { سردي – شعري } والميتانص قد يكون نقداً أدبياً وأيديولوجيا أو تاريخياً والعلاقة التي يقيمها مع النص هي علاقة نقدية )) حيث تتجاور النصوص المتناقضة كتابياً { آية + شعر + سخرية +مثل …} ولكنها تتآزر لتعطي صورة عن رؤية المؤلف الذي يتوارى وراء السارد معلناً عن وجهات نظره وانتقاداته لظواهر معينة وقضايا مختلفة يمتد صداها خارج النص
ونشير إلى أن بعض هذه الدرجات يمكن الاستغناء عنها، إذ لا كبير فرق بين التفاعل والتداخل، وبين التباعد والتقاصي . كما يمكن إلغاء درجة التطابق لأنها لا تدخل ضمن التناص كونها لا تتحقق إلا في النصوص المستنسخة.
وقد أضاف النقاد العرب المعاصرون الكثير من الإضافات حول مصطلح التناص ضمن جوهره فعرفه محمود جابر عباس بإسهاب بأنه : اعتماد نص من النصوص على غيره من النصوص النثرية أو الشعرية القديمة أو المعاصرة الشفاهية أو الكتابية العربية أو الأجنبية ووجود صيغة من الصيغ العلائقية والبنيوية والتركيبية والتشكيلية والأسلوبية بين النصين .
وعرفه الدكتور أحمد الزعبي بأنه : أن يتضمن نص أدبي ما نصوصاً أو أفكارا أخرى سابقة عليه عن طريق الاقتباس أو التضمين أو الإشارة أو ما شابه ذلك من المقروء الثقافي لدى الأديب بحيث تندمج هذه النصوص أو الأفكار مع النص الأصلي وتندغم فيه ليتشكل نص جديد واحد متكامل.
وعرفه خليل الموسى بأنه : مصطلح سيميولوجي وتفكيكي معا , يذهب أصحابه وفي مقدمتهم كريستيفا وبارت و جينيت إلى أن أي نص يحتوي على نصوص كثيرة نتذكر بعضها ولا نتذكر بعضها الآخر وهي نصوص شكلت هذا النص الجديد فالكتابة نتاج لتفاعل عدد كبير من النصوص المخزونة في الذاكرة القرآئية , وكل نص هو حتما نص متناص , ولا وجود لنص ليس متداخلا مع نصوص أخرى .
أما الناقد { عبد الله الغذامي} فقد حاول في کتابه { الخطيئة والتكفير} أن يربط التناص ببعض المفاهيم والطروحات النقدية الموروثة ولاسيما نظريات الناقد عبد القاهر الجرجاني في البلاغة النقدية وخاصة فيما يتعلق بمفهوم { الأخذ } وشدة اقترابه من مفهوم التناص الحديث إذ رفض الجرجاني استعمال { السرقة } کما شاعت قبله وبعده .
أما الناقد محمد بنيس فقد اجترح مصطلحاً جديداً التناص أسماه بـ { النص الغائب } علي اعتبار أن هناك نصوصا غائبة ومتعددة وغامضة في أي نص جديد وقد طرح هذا المصطلح کتابيه “سؤال الحداثة” و” ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب” وقد اعتمد أيضاً علي طروحات ” کريستيفا وبارت وتودوروف ” , والتناص عنده يحدث من خلال قوانين ثلاثة وهي : الاجترار، الامتصاص والحوار ويضع بنيس النص المتناص مرجعيات عدة منها: الثقافية والدينية والأسطورية والتاريخية و الکلام اليومي .
وأشار كثير من النقاد العرب القدامى وبعض الشعراء إلى ظاهرة التناص تحت مفاهيم الاقتباس والتلميح و الإشارة… فهذا امرؤ القيس يقول:
عوجا على الطلل المحيل لأننا *** نبكي الديار كما بكى ابن حذام
وهي إشارة إلى أنه ليس أول من بكى على الأطلال، فما فعله غير تكرار واستعادة لفعل شاعر آخر هو ابن حذام . وهنا أيضا بيت لابن زهير يقول:
ما أرانا نقول إلا رجيعا *** ومعادا من قولنا مكرورا
و أيضا إشارة علي بن أبي طالب لولا أن الكلام يعاد لنفذ، وما قاله عنترة في معلقته مستنكرا :
هل غادر الشعراء من متردم *** أم هل عرفت الدار بعد توهم
والمعنى أن الشعراء لم يتركوا شيئا يصاغ فيه الشعر إلا وصاغوه، أي أن الأول لم يترك للثاني شيئا، كما يتساءل أبو تمام : كم ترك الأول للآخر.
ويأتي التناص على أشكال متعددة، منها :
1ـ التناص القرآني : يرد وفق آلية كتابية تتخذ من قوسي التنصيص علامة على الاقتباس النصي من القرآن الكريم ودلالة على اقتطاع جزئي منه دونما أي تغيير في سياقه أو تراكيبه أو تراتبيته .
2ـ التناص والتراث الشعبي : مصطلح شامل نطلقه لنعني به عالماً متشابكاً من الموروث الحضاري والأنماط السلوكية والقولية التي بقيت عبر التاريخ وعبر الانتقال من بيئة إلى بيئة ومكان إلى مكان في الضمير الإنساني وهو بهذا المصطلح يضم الأنماط الأسطورية أو الموروث الميثولوجي العربي القديم كما يضم الفلكلور العربي القولي أو النفعي أو الممارس . وتكون المحاكاة فيه على مستوى اللغة الشعبية، وهذا مما يؤخذ على بعض الأدباء، إضافة إلى الاستفادة، وتوظيف القص الشعبي، والحكايات القديمة، والموروث الشعبي بإيحاءاته وظله على النص الأدبي، لنلمح جزءاً من قصة أو حكاية أو سيرة يدخلها في سياق نصه .
3ـ التناص الوثائقي : وهذا النوع في النثر أكثر منه في الشعر كالسرد والسيرة، فيحاكي النص نصوصاً رسمية كالخطابات والوثائق، أو أوراق أخرى كالرسائل الشخصية والإخوانية؛ لتكون نصوصهم أكثر واقعية.
4ـ التناص والأسطورة : وهي تتشابه مع سابقها من ناحية الاستفادة من التراث، لكنها تختلف من ناحية أن الأسطورة غالباً ما هي موروث؛ لكنه يوناني أو غربي ، وإن كان هناك بعض الأساطير العربية، إلا أنها قلة مقارنة بالغرب .
والتناص نوعان : تناص مباشر( تناص التجلي) أو غير مباشر (تناص الخفاء).
التناص المباشر: لأن العلاقة فيه هي علاقة حضور مشترك بين نصيين أو عدد من النصوص بطريقة استحضارية , وهي في أغلب الأحيان الحضور الفعلي في لنص في نص آخر , فيدخل تحته ما عُرف في النقد القديم بالسرقة و الاقتباس، والأخذ والاستشهاد والتضمين، فهو عملية واعية تقوم بامتصاص وتحويل نصوص متداخلة، ومتفاعلة إلى النص.
ويعمد الأديب فيه أحياناً إلى استحضار نصوص بلغتها التي وردت فيها كالآيات القرآنية، والحديث النبوي، أو الشعر والقصة.
التناص غير المباشر : فينضوي تحته التلميح والتلويح والإيماء، والمجاز والرمز، وهو عملية شعورية يستنتج الأديب من النص المتداخل معه أفكاراً معينة يومئ بها ويرمز إليها في نصه الجديد.
ويحلو للبعض تفريعه بإيجابي وآخر سلبي، ويقصد بالأول إنتاج أفكار قديمة بأسلوب جديد، أما السلبي فهو كالصدى المكرر للنص الذي سبقه.
إلا أن جميع هذه الأنواع تعتمد على فهم المتلقي ذلك أن الثقافة محكومة بسمة التوليد والاستنتاج والتناص وليد التراكمات الثقافية لدى المبدع ، وعلاوة على ذلك تحليله للنص .
أما آليات التناص التي ينبغي أن يعرفها الناقد أو المحلل أو القارئ أثناء مقاربته للنص الأدبي، والتي تساعد ه على استكناه النص وسبر أغواره، فهي وفق الآتي :
*- المستنسخات النصية ( ألفاظ وشواهد وعبارات واقتباسات بارزة…).
*- المقتبسات النصية ( تكون في بداية الرواية أو الفصل أو المتن في شكل نصوص ومقاطع وفقرات موضوعة بين علامات التنصيص تضيء الرواية تفاعلا وحوارا…).
*- العبارات المسكوكة ( أمثال وحكم وعبارات مسكوكة في نسقها اللغوي والبنيوي بطريقة كلية عضوية ومتوارثة جيلا عن جيل مثل : أكلت يوم أكل الثور الأبيض، من جد وجد ومن زرع حصد، راح يصطاد اصطادوه…).
*- الهوامش النصية : يورد المبدع في عمله الإبداعي المتن ويذيله بهوامش إحالية ومرجعية. وغالبا ما توضع هذه الهوامش في أسفل النص أو في آخر العمل، حيث تقوم بوظيفة الوصف والتفسير لما غمض من النص، وما يحمله من إشارات نصية .
*- الحواشي النصية : قد يرفق المبدع نصه بحواش في بداية العمل أوفي نهايته أو في آخره لتفسير النص من خلال تحديد سياقه وإبراز مناسبته أو شرح بعض الألفاظ أو تفسير بعض أسماء الأعلام أو تعيين المهدى له هذا العمل، أو تبيان الدواعي التي دفعته لكتابة النص وتحبيره….
*- الاقتباس ( هو أن يأخذ المبدع القرآن والسنة ويدرجه في كلامه بطريقة صريحة أو غير صريحة…)
*- التضمين ( أن يضمن المبدع كلامه شيئا من مشهور الشعر أو النثر لغيره من الأدباء والشعراء…)
*- المحاكاة : يلتجئ المبدع إلى توظيف المقتبس أو المستنسخ بطريقة حرفية دون أن يبدع فيها .
*- الإحالة : غالبا ما نجد الكاتب يوظف بعض الكلمات أو العبارات التي توحي بإشارات أو إحالات مرجعية رمزية أو أسطورية…..؛
*- المناص : ينطلق المبدع من عمل أو حدث أو فكرة أو مرجع أو مصدر لمبدع آخر فيحاول محاكاته أو نقده وحواره .
*- الاستشهاد : يورد المبدع مجموعة من الاستشهادات التي يضعها بين قوسين أو بين علامات التنصيص للاستدلال والإحالة وتدعيم قوله.
*- الباروديا: هي عبارة عن محاكاة ساخرة يتقاطع فيها الواقع واللاواقع، الحقيقة واللاحقيقة، الجد والسخرية، النقد والضحك اللعبي .
*- التهجين أو الأسلبة: المزج بين لغتين اجتماعيتين في ملفوظ لغوي وأسلوبي واحد، وهذا يعبر عن البولوفونية( التعددية) اللغوية القائمة على تعدد الأصوات واللغات والأساليب والخطابات والمنظورات السردية. وهذا التعدد في الحقيقة يعبر عن التعددية الاجتماعية واختلاف الشخصيات في الوعي والجذور الاجتماعية والطبقية .
*- الحوار التفاعلي : يعد أعلى مرتبة في التواصل مع النصوص والتعالق بها واستنساخها. أي إن المبدع لا يقف عند حدود الامتصاص والاجترار والاستفادة، بل يعمد إلى ممارسة النقد والحوار.
*- المعرفة الخلفية : هي تلك المعرفة التي يتسلح بها قارئ النص اعتمادا على التشابه النصي والسيناريوهات والخطاطات والمدونات، والتي بها يحلل النص ويفككه ويعيد تركيبه من جديد
*- النص الموازي: هو عبارة عن مجموعة من العتبات المحيطة داخليا وخارجيا تساهم في إضاءة النص وتوضيحه كالعناوين والإهداء والأيقون والكتابات والحوارات والمقدمات والتعيين الجنسي…. وعلى الرغم من موقعها الهامشي فإنها تقوم بدور كبير في مقاربة النص ووصفه سواء من الداخل أم الخارج . وبعد فما أروع التعالق ما بين الحاضر والماضي

حينما تصير النخلة توأما
حينما تصير النخلة توأما
قراءة تأملية في قصيدة “أغنيةٌ ما غادرت عشَّ فمي”
للشاعرة السعودية حوراء الهميلي
بقلم الأستاذ:طارق يسن الطاهر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-عرضُ النص:
أغنية ما غادرت عش فمي
شعر/حوراء الهميلي
يُروى عن النخلِ أنَّ اللهَ كلَّمَها
وأنزلَ الوحيَ في هجرٍ وألْهَمَها
ومنذُ ميقاتِه مدََتْ سواعدَها
نحو السماواتِ كي تصطادَ أنجمَها
تصطادُ من غيمةٍ فضيةٍ قمرًا
وتنتقي من بقاعِ الأرضِ أعظمَها
مَن ألهمَ الرملَ أنَّ النخلَ سيدةٌ
عطشى فأجرى لها باللطفِ زمزمَها؟
هل هاجرٌ ألبسَتْها روحَها ظمأً
فهرولَ الماءُ للأعلى لِيخدمَها؟
من ساءل الضوءَ عن أثوابِ عفتها
وهْي التي شابهت في الطهر مريمها
لهفي عليها إلى صحرائِها انتبذتْ
خوفًا
فأمَّنَها الباري وأطعمَها
هزَّتْ جذوعًا وما هُزَّتْ كرامتُها
فالله منذ برى الأكوان أكرمها
هل أعوزَتْها جهاتٌ في مسيرتِها
فاصَّاعدتْ تطلبُ الغيمات سلمها
حطت قوافلها الخضراء
وانتظرت
كل البساتين في الأنحاء مقدمها
حتى الربيع تمشى في مزارعها
مسائلا أي فصل كان موسمها
دلت عذوقا على أكتافها غنجا
شدت على خصرها البني محزمها
قوامها لم يبن من تحت ملفعها
لكن ظل شعاع الشمس جسمها
مشت دلالا فشف النور مشيتها
ولف طوق من السعفات معصمها
هذا الوقار غريب لست أفهمه
من قال نحتاج تفسيرًا لنفهمها
مهما اجتهدنا وأولنا صبابتنا
معشار ما يبلغ القاموس معجمها
لا ليس تدركها الأشعارمتفقٌ
أن القصائد لا تكفي لتنظمها
الله يا شأنها أكبرته بدمي
كبذرة تحمل الأغصان برعمها
شبت عروسا وتحدوها أنوثتها
وأنجبت من بنات النخل أوسمها
لو خيروني بقاع الأرض قلت لهم
هي الضمان وحاشا أن أسلمها
سورت قلبيَ من أسوار ضحكتها
حتى تسمى على الجدران: مغرمها
في القيصرية في حاراتها فرشت
حصيرها جدة تبتاع مرهمها
لكل من يبتغي للجرح عشبته
وكل عين قذتْ تشكو تألمها
ما أقنعتها كنوز الناس في يدها
ما شأنها والعطايا إنَّ درهمها
به ستبتاع للأطفال فرحتهم
ماذا تريد من الدنيا؟تبسمها
إذا همت دمعة مدت موائدها
نادت على الناس: أن ترتاد مأتمها
روائح النخل في أثوابها علقت
لو أعوز الورد أشذاءً تنسمها
تفشي لنا في الضحى أسرار قوتها
تسلقت جذعها العالي لتصرمها
وعبأت جيبها حلوى التمور وكم
من لقمةٍ سارعت ليلاً لتقضمها
وتحت أفيائها صلت نوافلها
من باح للنخل نجواها وعلمها
بالكوت حصنت أحلامي مسورة
فلا كوابيس قد تأتي لتدهمها
فيما جواثا تنام الليل آمنة
من يجرأ اليوم أن يغزو مخيمها
هذا وجديَ عبد القيس حارسها
وكلما اعوجت الأوتاد قومها
من عهد نوح جرى الطوفان
فانتبذت
كل الخليقة لا طود ليعصمها
إلا كهوفًا من الأضلاع مشرعة
آوت مغاراتُها الشماء معدمها
تحنو على كل من ضاعت قوافلُه
ما مرها تائه إلا ويممها
عيونها لم تكن إلا عواطفها
سبحان من في قلوب الناس قسمها
جرهاء ما مسها التاريخ وانتفضت
لم تبد من طرقه المضني تبرمها
تمشي بكل شموخ وهي واثقةٌ
ما أجمل النخل في هجر وأعظمها
ما احتجت غير حنين فوق عش فمي
مستنطق أغنيات غادرت فمها
حطت مواويلها الخضراء في شفتي
فأينعت قبلة ولهى لتلثِمها
كل الأغاني تجلت لي لأنشدها
لم أستطع بعد رؤياها تكتمها
غنيت للحب للأحلام عاشقة
لعلها صادفت يومًا متيمها
فمذ نعومة أظفاري رأيت أبي
كفيه ممدوةً دومًا ليدعمها
في بيتنا نخلة كانت تقاسمني
طفولتي كم أسرت لي لأفهمها
في الصحو كنت أسليها
ألاطفها
في النوم أحسب وجداني مكلمها
أبصرت أمي تربينا سواسية
فقلت في خاطري: هل كنت توأمها؟
هل كنت سابحة في رحم طينتها
أشمها كلما عطر توحمها
أمي التي قاسمتنا طيب مرضعها
لن تفطم الخير من ذاتي وتفطمها
كانت تمشط صبحي في جدائلها
بماء روحيَ شاءت أن تحممها
في العصر ترسل للجيران (نقصتنا)
تمرية ذقت أشهاها وأطعهما
ما خفت من عارض نبضي توهمه
فالله سلم قلبي حين سلمها
حرزت قلبي لما أن نقشت على
عباءتي وشمها حتى أهندمها
متى نمت شوكة في كف أسئلتي
أخرجت مبرد ظفري كي أقلمها
وهمت في غابة الوجدان مبصرة
غزالة ضيعت في النهر ضيغمها
فقلت: إن ضعت فالأحساء بوصلتي
وإن عطشت، روائي كان زمزمها
لها شددت رحالي طفتها ولها
وما تعجلت أشواطي لأختمها!
ــــــــــــــــــــــــــ
-القراءة النقدية:
استمعت لهذه القصيدة من شاعرتها في أمسيات قافلة النخيل التي ضمت مجموعة من الشواعر والشعراء- من بينهم الشاعرة حوراء الهميلي- طافت تلك القافلة بعض مدن المملكة، وعطَّرت مساءاتها بشعر عذب رقيق.
شدَّني النص؛ مما جعلني أبحث عنه مكتوبا، فتواصلت مع الشاعرة عبر حساباتها؛ فوجدتها أريحية التعامل، لطيفة المعشر فزودتني بالقصيدة، وكانت مفاجأتي عندما قالت لي إنها فرغت من القصيدة قبيل صعودها للمسرح بلحظات.
إذن هي قصيدة ولدت مكتملة، فلم تحتج إلى كثير مراجعة، ولا كبير تنقيح، وهذا يوحي بقدرات الشاعرة الفائقة.
القصيدة بعنوان “أغنيةٌ ما غادرت عشَّ فمي” وأنا أتفق مع الشاعرة في أن هذه القصيدة أغنية فعلا – كما أسمتها – أغنية صدَّاحة منغمة منمقة مموسقة، شدَتْ بها الشاعرة حوراء، لكني أختلف معها في قولها أنها لم تغادرها، بل هي قصيدة طافت الأرجاء، وغشت القلوب، ودغدغت المشاعر، وسارت بها الركبان.
“أغنيةٌ ما غادرت عشَّ فمي” هذا العنوان في حد ذاته قصيدة؛ لما يحمله من معنى عميق، وصورة بلاغية؛ إذ شبهت القصيدة بالأغنية مرة، وشبهتها مرة أخرى بالعصفور الذي له عش، لكنه ليس على شجرة، وإنما على فم الشاعرة.
تناول النص علاقة صميمة أنشأتها الشاعرة بينها وبين النخلة، فالشاعرة من الأحساء التي تعد مكانا لنمو شجر النخيل وانتشاره.
علاقة قوية وبها اتحاد ما بين النخلة والإنسان، أنشأتها الشاعرة حتى شخَّصت النخلة؛ فصارت توأما لها:
أبصرت أمي تربينا سواسية
فقلت في خاطري: هل كنت توأمها؟
هذا الاستفهام التقريري الذي ضمَّنته بيتها أعلاه يوحي لنا بأن نجيب بنعم، فالنخلة والشاعرة نشأتا معا، وكانتا متساويتين في تلقي العناية والرعاية بينهما.
فالنخلة فعلا توأم شاعرتنا؛ فقد أبصرتْ أمها تربيهما معا، ورأت أباها يمد كفيه ليدعمها.
وشاعرتنا ترافق النخلة التوأم في كل الأوقات:
في الصحو كنت أسليها ألاطفها
في النوم أحسب وجداني مكلمها
كما استمر الاتحاد الوجداني بين الشاعرة والنخلة حتى في حماية الله لهما:
ما خفت من عارض نبضي توهمه
فالله سلم قلبي حين سلمها
جاءت القصيدة بضمير المتكلم؛ مما يعني خصوصية المشهد ويرسِّخ صدق التجربة.
القصيدة على بحر البسيط ، بتفعيلاته المزدوجة ، وهو بحر رقيق عذب، يتسع لحشد عدد كبير من الصور والمعاني.
وحرف الروي هو الميم المفتوحة التي وليَها هاء وألف، وهي قافية تتطلب إتقانا وحذقًا؛ لأن الشاعرة تضطر لأن تأتي بالأفعال منصوبة؛ لتستقيم حركة الروي، كما في:
“ليدعمَها” في قولها:
فمذ نعومة أظفاري رأيت أبي
والنخل كفاه ممدودة دومًا ليدعمَها
وكذلك “لأفهمَها” في قولها:
في بيتنا نخلة كانت تقاسمني طفولتي كم أسرت لي لأفهمَها
وأن تأتي بالأسماء في موقع النصب كذلك، كما في:
حتى الربيع تمشى في مزارعها
مسائلاً أي فصل كان موسمها
فقد جاءت كلمة “موسمها” منصوبة لأنها خبر كان.
وهكذا في بقية النص.
يبرز التشخيص بشكل واضح، وبصورة جلية في هذا النص؛ إذ تجعل الشاعرة النخلة إنسانا في كل تفاصيلها، إنسانا نشأ معها وتغذى من أمها، ولعبا معا، وناما معا، إنسانا له عين …
عيونها لم تكن إلا عواطفها
سبحان من في قلوب الناس قسمها
ثم تنظر شاعرتنا بنظرة شاملة لانتشار النخل في الأحساء عبر التاريخ فتستعير الأسماء التاريخية للمنطقة، وتبيِّن وجود النخل بها منذ القدم، وتؤكد ارتباطه بتلك الأرض:
“جرهاء” ما مسها التاريخ وانتفضت لم تبد من طرقه المضني تبرمها
تمشي بكل شموخ وهي واثقة ما أجمل النخل في “هجر” وأعظمها
وتبرز الشاعرة فضل النخيل؛ تأثرا بالهدي النبوي حينما شبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بالنخلة ، فالنخل عند الشاعرة يمد خيره للناس، حتى غير الإنسان ينال من خيرها ، هنا صورة جمالية تستعصي على الإحاطة بمضامينها؛ حيث إن العطر أصيل في الوردة، فإن غاب عنها عطرها وفقدته، فالنخلة تعطيها من عطرها عطرا:
روائح النخل في أثوابها علقت
لو أعوز الورد أشذاءً تنسمها
ولو توقفنا قليلا عند دقة الشاعرة في اختيار المفردات التي تخدم فكرتها، وتنسجم مع نسيج النص نجد عجبا، ومن ذلك:
النص تحدث عن النخلة في جميع جوانبه؛ لذا استخدمت الشاعرة عددا من المفردات التي تعد من مكونات النخلة، ومنها: الجذع ، السعفة ، التمرة ، عذوق ، حصير …
كما تناولت مفردات ذات صلة بالنخلة، ومنها: لتصرمها، تقطف …
وبما أن القصيدة عن النخلة فيجدر بالشاعرة أن توظف مفردات الطبيعة بشكل كثيف، فالنخلة جزء أصيل من الطبيعة، وقد بدا ذلك جليا في كلمات مثل:
الخضراء، الربيع، البساتين، المزارع …
ولأن النص يصف رحلة التوأمة بين الشاعرة والنخلة، فلابد أن يكون الزمن حاضرا؛ لأنه الوعاء الذي تمر عبره تلك الرحلة، فنجد كلمات مثل: الضحى، الليل، الصبح، العصر…
وكما برز الزمان، فلم يغب المكان بعبقريته المعروفة؛ فقد جاءت: الأحساء، القيصرية، هجر …
كذلك امتاحت الشاعرة شخصيات دينية، لها قيمتها فنجحت في توظيف قصصها، ومنها: نوح، مريم، هاجر …
برز التناص في القصيدة؛ تأثرًا بالقرآن الكريم، وخاصة مع قصة مريم عليها السلام، وهذا أمر موفق من الشاعرة؛ لأن لمريم صلة بالنخلة، كما في قولها:
هَزَّتْ جذوعًا
وذلك من قوله تعالى مخاطبا مريم: ( وهزي إليك بجذع النخل…)
وأيضا قولها:
لهفي عليها إلى صحرائِها انتبذتْ
خوفًا فأمَّنَها الباري وأطعمَها
من قوله تعالى عن مريم أيضا: ” …فانتبذت به مكانا قصيا”
فأطعمها الله رطبا جنيا، وجعل تحتها سريا تشرب منه…
وكذلك تناص مع قصة نوح وابنه، في قولها:
من عهد نوح جرى الطوفان فانتبذت كل الخليقة لا طود ليعصمها
من قوله تعالى : ( قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء)
كما برز التناص مع الحديث في قولها :
لها شددت رحالي طفتها ولها
وما تعجلت أشواطي لأختمها
مع قوله صلى الله عليه وسلم : ” لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد …”
وتبدع شاعرتنا في توظيف قصة هاجر وابنها إسماعيل، وقصة نشوء بئر زمزم، تفوقت فيه الشاعرة تفوقا عجيبا، لا أظن أن أحدا سبقها على مثل هذه الصورة:
مَن ألهمَ الرملَ أنَّ النخلَ سيدةٌ عطشى فأجرى لها باللطفِ زمزمَها؟
هل هاجرٌ ألبسَتْها روحَها ظمأً
فهرولَ الماءُ للأعلى لِيخدمَها؟
وقد تناصت مع الخنساء في قولها:
قذى بعينيك أم بالعين عوار …
حين قالت:
لكل من يبتغي للجرح عشبته
وكل عين قذت تشكو تألمها
كثرت الأساليب اللغوية في النص، ومنها:
الخبر؛ إذ بدأت به قصيدتها:
يُروى عن النخلِ أنَّ اللهَ كلَّمَها
وأنزلَ الوحيَ في هجرٍ وألْهَمَها
والإنشاء بجميع أنواعه، ومنه الاستفهام الذي ورد بكثرة في النص، ومنه:
هل كنت سابحة في رحم طينتها أشمها كلما عطر توحمها
كما استخدمت أسلوب الشرط الجازم، وغير الجازم في النص في بعض أدواته ومنها: لو، من، مهما…
ومن ذلك:
لو خيروني بقاع الأرض قلت لهم
هي الضمان وحاشا أن أسلمها
وأسلوب التعجب بدا رائعا، وفي موضعه تماما، وذلك في قولها متعجبة من جمال النخل وعظمته:
تمشي بكل شموخ وهي واثقة
ما أجمل النخل في هجر وأعظمها!
وجاء التقديم والتأخير كثيرا، وذلك لبيان أهمية المقدَّم ولغرض التخصيص، ومنه قولها:
في العصر ترسل للجيران (نقصتنا) تمرية ذقت أشهاها وأطعهما
هنا يبدو الزمن أهم من الحدث؛ لأن العصر هو وقت تبادل الزيارات، والمشاركات الاجتماعية؛ حيث ترسل للجيران نصيبهم من التمر الشهي الرطب؛ لذا كان التقديم أولى لإبراز أهمية المقدَّم وهو الوقت.
تراوح النص بين الجمل الاسمية والفعلية، فبرعت الشاعرة في التنويع بينهما، واستعمال كل منهما حسب حاجة المعنى، دون تعنت؛ فالاسمية فيما يخص الثبوت والاستمرار، والفعلية فيما يعني التجدد والحدوث.
فمن الاسمية:
كل الأغاني تجلت لي لأنشدها
لم أستطع بعد رؤياها تكتمها
ومن الفعلية وهي أكثر :
غنيت للحب للأحلام عاشقة
لعلها صادفت يومًا متيمها
وغلبة الأفعال على الأسماء في هذا النص أمر موفق جدا من الشاعرة؛ لأن النص يحكي رحلة صلة بين الشاعرة والنخلة، ويذكر أحداثا وتنقلات، ويُبرز شخصيات كالأب والأم، والشاعرة والنخلة… لذا من الطبيعي استخدام الأفعال بكثرة؛ لتجسد ذلك الواقع المتجدد المتحرك النشط، فبنية القصيدة تعتمد الحوار المثمر بين الشاعرة والنخلة، وبين الشاعرة ونفسها.
صوتيا، فقد تكررت بعض الحروف متحدة المخرج أو متقاربته؛ مما أعطي جرسا موسيقيا، كما ورد في تكرار حرف السين مع الصاد في هذين البيتين:
في بيتنا نخلة كانت تقاسمني
طفولتي كم أسرت لي لأفهمها
في الصحو كنت أسليها ألاطفها
في النوم أحسب وجداني مكلمها
وكذلك تكرر حرف الطاء خمس مرات في بيتين متتاليين :
هل كنت سابحة في رحم طينتها أشمها كلما عطر توحمها
أمي التي قاسمتنا طيب مرضعها
لن تفطم الخير من ذاتي وتفطمها
أما مظاهر الجمال في النص فيعجز عن حصرها العادّ، وحسبنا من قلادة الجمال ما أحاط بعنق القصيدة:
إذ تبرز الاستعارات بكثرة ومنها:
كانت تمشط صبحي في جدائلها
بماء روحيَ شاءت أن تحممها
فقد شبهت الشَّعر بالصبح، وجعلت الاستحمام بماء الروح، ما أبهى تلك الصورة المركبة المتعددة!
ونجد الطباق بمفهوم التضاد الذي يوحي بتوضيح الأشياء، بين الصحو والنوم/ اعوجت وقوَّمها/ عطشت، روائي…
أما الجناس الذي يعني تشابه كلمتين في الشكل واختلافهما في المعنى، ومن فائدته أنه يعطي الكلمات جرسا موسيقيا رائعا يطرب السامع، فقد ورد في قولها:
هَزَّتْ جذوعًا وما هُزَّتْ كرامتُها
فالله منذ برى الأكوان أكرمها
بين هَزَّتْ وُهُزَّتْ …
والبيت نفسه يحمل طباق سلب بين الكلمة المثبتة والكلمة نفسها منفية : هزت وما هزت
رغم كل هذا الجمال الذي يتخلل مسام النص في جميع جوانبه، نجد الشاعرة تتحدث عن عجزها عن الإحاطة بوصف دقيق للنخلة:
مهما اجتهدنا وأولنا صبابتنا
معشار ما يبلغ القاموس معجمها
لا ليس تدركها الأشعار متفق
أن القصائد لا تكفي لتنظمها
قبل الختام، أقول إن النخلة تستحق هذا التوثيق، وهذه التوأمة بينها بين الإنسان، فقد جاء حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن من الشجرِ شجرةً لا يسقُطُ ورقُها وإنها مثلُ الرجلِ المسلمِ قال : فوقع الناسُ في شجرِ البوادي وكنتُ من أحدَثِ الناسِ ؛ووقَع في صدري أنها النخلةُ ؛فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ : هي النخلةُ !
قال فذكرتُ ذلك لأبي فقال : لأن تكونَ قلتَه أحبَّ إليَّ من كذا وكذا)
بقي أن أقول إن من أراد أن يستكمل جمال القصيدة كما ينبغي فليستمع إليها من شاعرتها إلقاءً ، فهي تملك هدوءاً، ونبرات معبرة، وصوتاً واثقا، مترجِمًا جميع المعاني بدقة متناهية، وموحيًا بظلال الكلمات، ومفسرًا مرامي العبارات.

سهرة تذوقية مع تائية الشنفرى
أولاً : القصيدة وتفسيرُ كلماتها :
أَلاَ أُمُّ عَمْروٍ أَجْمَعَتْ فاسْتقَلَّتِ = == وما وَدَّعَتْ جِيرانَها إِذْ تَوَلَّتِ
وقد سَبَقَتْنَا أُمُّ عَمْروٍ بأَمرِها = == وكانت بأَعْناقِ المَطِيِّ أَظَلَّتِ
بِعَيْنَيَّ ما أَمْستْ فبَاتتْ فأَصبحت = == فقَضَّتْ أُمُوراً فاستقَلَّتْ فَوَلَّتِ
فَوَاكَبِدَا على أُميْمَةَ بَعْدَ ما = = = طَمِعْتُ، فهَبْها نِعْمةَ العَيْشِ زَلَّتِ
فيَا جارَتِي وأَنتِ غيرُ مُلِيمَة = = = إِذَا ذُكِرَتُ، ولاَ بِذَاتِ تَقَلَّتِ
لقد أَعْجَبَتْنِي لا سَقُوطاً قِناعُها = = = إِذا ما مَشَتْ، ولا بِذَات تَلَفُّتِ
تَبِيتُ بُعيدَ النَّوْمِ تُهْدِي غَبُوقَها = = = لِجارَتِها إِذَا الهَدِيّةُ قَلَّتِ
تَحُلُّ بِمِنْجَاةٍ مِن اللَّوْمِ بَيْتَها = = = إِذا ما بُيُوتٌ بالمَذَمَّةِ حُلَّتِ
كأَنَّ لهَا في الأَرضِ نِسْياً تَقُصُّهُ = = = على أَمِّها، وإِنْ تُكَلِّمْكَ تَبْلَتِ
أُميْمةُ لا يُخْزِي نَثَاهَا حَلِيلَها = = = إِذا ذُكِرَ النِّسْوَانُ عَفَّتْ وجَلَّتِ
إِذا هُوَ أَمْسَى آبَ قُرَّةَ عَيْنِهِ = = = مآبَ السَّعيدِ لم يَسَلْ أَيْنَ ظَلَّتِ
فَدَقَّتْ وجَلَّتْ واسْبَكَرَّتْ وأُكْمِلَتْ = = = فَلْوْجُنَّ إِنسانٌ من الحُسْنِ جُنَّتِ
فَبِتْنا كأَنَّ البَيْتَ حُجِّرَ فَوْقَنَا = = = برَيْحانِةٌ رِيحَتْ عِشاءً وطُلَّتِ
بِريْحانَةٍ مِن بَطْنِ حَلْيَةَ نَوَّرَتْ = = = لهَا أَرَجٌ، ما حَوْلهَا غيرُ مُسْنِتِ
وبَاضِعَةٍ حُمْرِ القِسِيِّ بَعَثْتُها = = = ومَنْ يَغْزُ يَغْنَمْ مَرَّةً ويُشَمَّتِ
خَرجْنا مِن الوَادِي الَّذِي بيْنَ مِشْعَلٍ= = =وبَيْنَ الجَبَا هَيْهاتَ أَنشَأْتُ سُرْبَتِي
أُمَشِّي على الأَرضِ التي لن تَضُرَّنِي = = = لأِنْكِيَ قوماً أَو أَصادِفَ حُمَّتِي
أُمَشِّي على أَيْنِ الغَزَاةِ وبُعْدها = = = يُقَرِّبُنِي مِنها رَوَاحِي وغُدْوَتي
وأُمُّ عِيَالٍ قد شَهِدتُ تَقُوتُهُمْ = = = إِذا أَطَعَمْتُهْمْ أَوتَحَتْ وأَقَلَّتِ
تَخافُ علينا العَيْلَ إِنْ هي أَكثرتْ = = = ونحْنُ جِيَاعٌ، أَيَّ آلٍ تَأَلَّتِ
وما إِنَّ بها ضِنٌّ بما في وِعَائِها = = = ولكنَّها مِن خِيفِةِ الجُوعِ أَبْقَتِ
مُصَعْلِكَةٍ لا يَقْصُرُ السِّتْرُ دُونَها = = = ولاَ تُرْتَجَى للبَيْتِ إِن لم تُبَيِّتِ
لها وفْضةٌ فيها ثلاثونَ سَيْحَفاً = = = إِذا آنَسَتْ أُولَى العَدِيّ أقْشَعَرَّتِ
وتأْتِي العَدِيَّ بارِزاً نِصْفُ سَاقِها = = = تَجُولُ كَعَيْرِ العَانَةِ المُتَلَفِّتِ
إِذَا فَزِعُوا طارتْ بأَبيضَ صارِمٍ = = = ورامَتْ بِما فِي جَفْرِها ثُمَّ سَلَّتِ
حُسامٍ كلَوْنِ المِلْح صافٍ حَديدُهُ = = = جُزَارٍ كأَقطاعِ الغَدِيرِ المُنَعَّتِ
تَرَاها كأَذْنابِ الحَسِيلِ صَوَادِراً = = = وقد نَهِلَتْ مِنَ الدِّمَاءِ وعَلَّتِ
قَتَلْنَا قَتِيلاً مُهْدِياً بِمُلَبِّدٍ = = = جِمَارَ مِنىً وَسْطَ الحَجِيجِ المُصَوِّتِ
جَزَيْنا سَلاَمَانَ بنَ مُفْرِجَ قَرْضَها = = = بما قَدَّمتْ أَيديهِمُ وأَزلَّتِ
وهُنِّيءَ بِي قومٌ وما إِنْ هَنأْتُهُمْ = = = وأَصبحتُ في قومٍ وليْسوا بمُنْيَتي
شَفَيْنَا بِعَبْدِ اللهِ بَعْضَ غَلِيلِنَا = = = وعَوْفٍ لَدَى المَعْدَى أَوَانَ اسْتَهَلَّتِ
إِذا ما أَتَتْنِي مِيتَتي لم أُبالِهَا = = = ولم تُذْرِ خَالاتِي الدُّمُوعَ وعمَّتِي
ولو لم أَرْمِ في أَهْلِ َبْيِتِيَ قاعداً = = = إِذَنْ جاءَنِي بينَ العمودَيْنِ حُمَّتِي
أَلاَ لا تَعُدْنِي إِنْ تَشَكَّيتُ، خُلَّتِي = = = شَفَانِي بِأَعْلَى ذِى البُرَيْقَيْنِ غَدْوَتِي
وإِنِّي لَحُلْوٌ إِنْ أُرِيدَتْ حَلاَوَتِي = = = ومُرُّ إِذا نَفْسُ العَزُوفِ اسْتَمرَّتِ
أَبِيٌّ لِمَا آبى سَرِيعٌ مَباءَتِي = = = إِلى كلِّ نَفْسِ تَنْتَحِي في مَسَرَّتِي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أجمعت: عزمت أمرها. استقلت: ارتحلت. (2) سبقتنا بأمرها: استبدت واستأثرت به. وكانت: أي فجأتنا بالإبل حتى أظلتنا بها. (3) يعيني: يأسف أن يرى رحيلها ولا حيلة له.
(4) زلت: ذهبت، من قولهم زل عمره: ذهب. (5) مليمة: من قولهم (ألام) إذا أتى مما يلام عليه. تقلت: تبغضت، والتبغض: مقابل التحبب. وقوله: (ولا بذات تقلت) أي: ليست ممن يقال فيها أنها تقلت، فأضاف الفعل على تقدير: ولا بذات صفة يقال لها من أجلها تقلت فلانة. وهذا البيت لم يروه أبو عكرمة.
(6) يقول: لا يسقط قناعها لشدة حيائها، لا تكثر التلفت، فإنه فعل أهل الريبة.
(7) الغبوق: ما يشرب بالعشي. تهديه لجارتها، أي: تؤثرها به لكرمها. إذا الهدية قلت: أي في الجدب حيث تنفد الأزواد وتذهب الألبان.
(8) تحل بيتها: فعل متعد بنفسه، ويعدى أيضا بالحرف. المنجاة: مفعلة من النجوة، وهي الارتفاع.
(9) النسي: الشيء المفقود المنسي. تقصه: تتبعه. أمها، بفتح الهمزة: قصدها الذي تريده. يقول: كأنها من شدة حيائها إذا مشت تطلب شيئا ضاع منها، لا ترفع رأسها ولا تلتفت. تبلت: تنقطع في كلامها لا تطيله.
(10) النثا، بالقصر وتقديم النون على الثاء: ما أخبرت به عن الرجل من حسن أو سيء، يقال نثا الحديث والخبر: حدث به وأشاعه. حليلها: زوجها.
(11) آب: رجع. (قرة) مفعول، وقد وردت تعديته في شعر آخر في اللسان 1: 212 أو هو على نزع الخافض. لم يسئل أين ظلت، لأنها لا تبرح بيتها. قال الأصمعي: (هذه الأبيات أحسن ما قيل في خفر النساء وعفتهن، وأبيات أبي قيس بن الأسلت) , وقد ذكرها الأنباري في الشرح 202.
(12) اسبكرت: طالت وامتدت. (13) حجر: أحيط. ريحت: أصابتها ريح فجاءت بنسيمها. طلت: أصابها الطل، وهو الندى. وإنما قال (عشاء) لأنه أظهر لرائحة الرياحين.
(14) حلية: واد بتهامة، أعلاه لهذيل وأسفله لكنانة، وبطن حلية في حزن، أي أرض غليظة، ونبت الحزن أطيب من غيره ريحا. الأرج: توهج الريح وتفرقها في كل جانب. المسنت: المجدب.
(15) الباضعة: القاطعة، يعني قوما غزاة. حمر القسي: غزوا مرة بعد مرة بعد مرة فاحمرت قسيهم للشمس والمطر. بعثتها: بعثت هؤلاء وغزوت بهم. يشمت: من قولهم (شمته الله) أي: خيبه، و(الشمات) بكسر الشين وتخفيف الميم: الخيبة.
(16) مشعل، والجبا: موضعان. السربة: الجماعة. و(أنشأت سربتي) أي أظهرتهم من مكان بعيد، يصف بعد مذهبه في الأرض طلبا للغنيمة.
(17) لن تضرني: لا أخاف بها أحدا. لأنكي: يقال نكى العدو ينكيه نكاية. أي أصاب منه. الحمة: المنية.
(18) أمشي: إشارة إلى غزوه على رجليه وأنه لا يركب. على أين الغزاة: على ما يصيبني من تعب الغزوة.
(19) أراد بأم عيال تأبط شرا. لأنهم حين غزوا جعلوا زادهم إليه، وكان يقتر عليهم أن تطول الغزاة بهم فيموتوا جوعا، والأزد تسمي رأس القوم وولي أمرهم (أما). وفي اللسان عن الشافعي (قال: العرب تقول للرجل يلي طعام القوم وخدمتهم: هو أمهم) واستشهد الشافعي بهذا البيت. أوتحت: أعطت قليلا، كأقلت. وقد ساق القول عن تأبط شرا بضمير المؤنث مسارقة للفظ (أم)، وقال الأصمعي: (وكنايته عن تأبط شرا كأوابد الأعراب التي يلغزون فيها).
(20) العيل والعيلة: الفقر. أي آل تألت: أي سياسة ساست؟ يقال ألته أؤوله أولا: إذا سسته، وبابه (قال).
(والآل) هو (الأول) قلبت واوه ألفا، ولم يذكر هذا في المعاجم. (وتألت) قال في اللسان 5: 236: (تفعلت من الأول، إلا أنه قلب فصيرت الواو في موضع اللام). ولم يذكره في مادته.
(21) هذا البيت زيادة من منتهى الطلب. ونقله أيضا مصحح الشرح في حاشيته عن المرزوقي. ضن: بخل، وهو بكسر الضاد، والفتح لغة فيه، نقلها اللسان عن ابن سيده.
(22) مصعلكة: صاحبة صعاليك، وهم الفقراء. ورواية اللسان: (عفاهية) بدل (مصعلكة)، على أنها رواية. وقال: (وقيل: العفاهية الضخمة، وقيل: هي مثل العفاهمة، يقال: عيش عفاهم، أي ناعم. وهذه انفرد بها الأزهري، وقال: أما العفاهية فلا أعرفها، وأما العفاهمة فمعروفة). لا يقصر الستر دونها: لا تغطي أمرها، يقول: هي مكشوفة الأمر. لا ترتجي أن تكون مقيمة، إلا أن تريد هي ذاك فتجيء.
(23) الوفضة: جعبة السهام. السيحف: السهم العريض النصل. آنست: أحسست. العدي: جماعة القوم يعدون راجلين للقتال ونحوه، لا واحد له من لفظه. اقشعرت: تهيأت للقتال.
(24) بارزا نصف ساقها: يريد أنه مشمر جاد. العير: حمار الوحش. العانة: القطيع من حمر الوحش، وإنما شبهه بعير العانة لأن الحمار أغير ما يكون، فهو يتلفت إلى الحمير يطردها عن آتنه.
(25) الأبيض: السيف. الصارم: القاطع. الجفر: كنانة السهام، وهو مما فات المعاجم، وإنما فيها بمعناه (الجفير) يعني أنه يرمي بما في كنانته ثم يحارب بسيفه.
(26) الجراز: السيف القاطع. أقطاع: جمع قطع، بكسر فسكون، كالقطعة. والمراد بأقطاع الغدير أجزاء الماء يضربها الهواء فتتقطع ويبدو بريقها. المنعت: مبالغة من النعت، وهو الوصف بالحسن. ولم يذكر هذا الحرف بالتضعيف في المعاجم. وهذا البيت لم يروه أبو عكرمة.
(27) الحسيل: جمع حسيلة، وهي أولاد البقر. شبه السيوف بأذناب الحسيل إذا رأت أمهاتها فجعلت تحرك أذنابها. والنهل والعلل هنا للسيوف.
(28) مهديا: محرما ساق الهدي. بملبد: بمحرم لبد رأسه، أي جعل في رأسه شيئا من صمغ ليتلبد شعره. يريد: قتلنا رجلا محرما برجل محرم. وفي رواية الأغاني (قتلنا حراما مهديا بلمبد) ومثلها في رواية الأنباري في ترجمة للشاعر 198 والخزانة 2: 18 بلفظ (قتلت). جمار منى: أي عند الجمار. المصوت: الملبي. وهذا البيت لم يروه أبو عكرمة.
(29) سلامان بن مفرج: هم الذين أسروه فداء، ومنهم حرام بن جابر قاتل أبيه. أزلت: قدمت.
(30) يريد: هنئ بي بنو سلامان حين أخذوني في الفدية، وما انتفعوا بي. بمنيتي: أي ليس هؤلاء القوم ممن أحب وأتمنى. وقال أحمد بن عبيد: (الرواية) بمنيتي: أي بأصلي وعشيرتي، ومن روى بمنيتي فقد صحف. ورواية أحمد توافق رواية الأغاني ومنتهى الطلب.
(31) الغليل: حرارة العطش، وهو هنا العطش إلى القتل. عبد الله وعوف: من بني سلامان بن مفرج. المعدى: موضع العدو، والمراد ساحة القتال. أوان استهلت: في الوقت الذي ارتفعت فيه الأصوات للحرب.
(33) لم أرم: لم أبرح. العمودين: لعله أراد بهما عمودي الخباء. الحمة: المنية. وهذا البيت رواه صاحب المنتهى ووضعه بعد البيت 32 وجعلهما آخر القصيدة، فأثبتناه هنا لمناسبته لما قبله. ونقل مصحح الشرح أنه ثابت أيضا في نسختي فينا والمتحف البريطاني.
(34) الخلة: الخليل. يطلب من خليله أن يعوده إذا مرض، وذلك أنه متطوح يلزم القفر مخافة الطلب. ذو البريقين: موضع. العدوة: المرة من العدو. يريد أن سرعة عدوه سلاح يشتفي به كرا وفرا.
(35) العزوف: المنصرف عن الشيء. استمرت: استفعلت من المرارة. يقول: أنا سهل لمن ساهلني، مر على من عاداني. (36) المباءة: الرجوع. تنتحي في مسرتي: تقصد إلى ما يسرني .
ثانياً : أضواء على الشاعر :
شاعر جاهلي فاتك صعلوك عدّاء من بني الحرث بن ربيعة بن الإواس بن الحجر ابن الهنو بن الأزد , ويضعه صاحب لسان العرب نقلا عن ابن الأعرابي بين ( أغربة العرب ) .
والشنفرى اسمه وقيل لقب له , ومعناه عظيم الشفه , واسمه ثابت بن أوس الأزدي , وكان يضرب به المثل في العدو , إذ كان أحد العدائين الثلاثة , وهو ابن أخت تأبط شراً , ومن المتوقع أن يكون ميلاده قريباً من عهد الإسلام ذلك أن الشنفرى كان على صلة بشاعر صعلوك أسلم فيما بعد وهو أبو خراش الهذلي فلعل ميلاده كان قريباً من الإسلام إذ أن أبا خراش عمّر وعاش حتى خلافة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الذي انتهت خلافته عام 24هـ .
ومن الثابت أن الشنفرى قد نشأ في أحضان الحركة الصعلوكية فأخذ أخلاقهم وتربى على الخشونة والفتك والسلب المبكر , وغرست فيه مقومات العنف والسخط والغضب وكراهية كل الناس مما أباح لنفسه أن يقتل من يشاء متى شاء وفي أي مكان وزمان شاء لعدم وجود سلطة ضابطة تأخذ الجاني وتعاقبه .
ثالثاً : شعره :
للشنفرى ديوان شعر صغير طبع في لجنة التأليف والترجمة , ومما اشتهر له لامية العرب وهي تصور تصويراً حياً حياة الصعلوك الجاهلي وروحه البدوية الوحشية .
وبجانب هذه القصيدة نجد له قصيدته التائية ولو لم يصلنا إلا تائيته لكان ذلك كافياً في تصوير حياته ومغامراته .
والدارس لديوان شعر الشنفرى والمطلع على شعره بوجه عام يخرج بأن الشعر قيل في غالبه في موضوع : القتل والفتك والتهديد والافتخار بالشجاعة والعدو والغزل والعفة والحكمة والمراصد .
رابعاً : صحة القصيدة :
إذا كانت لامية الشنفرى قد اعتراها بعض الشك ونسبت في بعض الروايات إلى خلف الأحمر فإن قصيدته التائية ثابتة له ولم يطعن أحد من الرواة الثقات في صحة نسبتها للشنفرى , فهي له دماً وروحاً ونفساً ونصاً وقلباً وقالباً وقد رواها أئمة الأدب والرواية دون أن يتعرضوا للشك أوالطعن في صحتها من أولئك الرواة الذين رووها صاحب الأغاني والمفضل الضبي صاحب المفضليات , والشيباني في تمثال الأمثال . وعدد أبياتها ستة وثلاثون بيتاً .
خامسًا : العوامل المؤثرة في شعره :
1- اتصاله بمشاهير شعراء الصعاليك كتأبط شراً وعروة بن الورد شكّل شخصيته الثورية المطبوعة بالقسوة والعنف والتمرد , إذ غرسوا فيه المبادئ الصعلوكية المادية والمعنوية والفنية فاقتربت معانيه وموضوعاته من معانيهم وموضوعاتهم .
2- أثر النظام القبلي في نفسيته فقد ساعدت بلاد الجزيرة الجغرافية من حيث جدب معظمها ووجود الفقر المدقع لانعدام الزراعة أو الأنهار أو المياه وندرة سقوط الأمطار ثم وجود النظام القبلي ورسوخه في نفوسهم من حيث الطرد والخلع والإبعاد والتبرؤ من الخارجين على نطاقه وأعرافه ساعدت كل هذه العوامل على نشوء حركة الصعاليك واتساع خطرها وشمول نفوذها إلى مناطق عديدة داخل الجزيرة إذ كانوا يقطعون الطرق ثم يغيرون على القوافل التجارية ويسلبونها .
3- أثر الفوارق الاجتماعية والاقتصادية على نفسيته فقد لعب الفقر المدقع في حياته دوراً فعالاً في تشكيل حركة التمرد وجعلته يشعر بالنقمة والكراهية والمقت على ذوي الثراء الأشحّاء فعبر بصدق عن هذه الظاهرة .
سادساً : جوّ القصيدة :
قيل : إن السبب في غزو الشنفرى الأزد وقتلهم أن رجلاً وثب على أبيه فقتله , والشنفرى صغير , وكان أبوه في موضع من أهله ولكنه كان في قلة , فلما رأت أم الشنفرى أن ليس يطلب بدمه أحد ارتحلت به وبأخ له أصغر منه حتى جاورت في فهم , فلم تزل فيهم حتى كبر الشنفرى , فجعلت تبدو منه عرامة , وجعل يكره جانبه .
وقيل أخذ الشنفرى أسيراً فداء في بني سلامان بن مفرج , وهو غلام صغير , فنشأ فيهم فلما أساؤا إليه وعلم بحقيقة أمره غضب عليهم وتوعدهم أن يقتل مائة رجل منهم فقتل تسعة وتسعين , وكان ممن قتل منهم رجل يقال له حرام بن جابر قتله بمنى وسط الحجيج حين أخبر أنه قاتل أبيه وأشار إلى مقتله في البيت ( 28 ) , ولعل الرواية الأولى أقرب إلى الصحة .
سابعًا : الأفكار الرئيسية التي تدور حولها هذه القصيدة :
1- مطلع القصيدة وفيه حديث عن الاغتراب ورحيل زوجته أم عمرو ووصف لخروجها من البيت 1- 3 .
2- الندم على فراق حبيبته والتهيؤ لوصفها في البيت 4 .
3- حديث شامل عن عفة وحشمة زوجته وسعادته بها من البيت 5- 11 .
4- وصف حسي نادر لهذه المحبوبة في البيت 12 .
5– وصف ريحها وطيبها وعذوبة حديثها معه من البيت 13-14 .
6– وصف قيادته المثالية لرفاقه الصعاليك في غزوة معهم من البيت 15- 18.
7- وصف حرص خازن الطعام ( أم العيال ) وسياسته الاقتصادية من 19-22.
8- وصف السلاح بكافة أنواعه من البيت 23-27 .
9- حديث عن ثأره من قاتل أبيه من البيت 28-32 .
10- وصف لبيان جرأته وعدم مبالاته بالموت من البيت 33- 34 .
11- حكمة رائعة تختم بها القصيدة 35-36 .
ثامنًا : شرح القصيدة :
** الأبيات من ( 1-4 )
بدأ يتحدث الشاعر عن رحيل زوجته أميمة أم عمرو السريع والمفاجئ , ويستهل مطلع القصيدة بـ ( ألا ) للأهمية وتحقق ما بعدها , إنها تنهيدة نستطيع من صوتها وجرسها تلمس نفسية الشنفرى المفجوعة والمصحوبة بالأسى والحزن والذهول , ويبين أنها قد عزمت على الفراق والرحيل واستبدت بأمرها وأخذت قرارها بنفسها دون أن تخبر زوجها الذي تحبه وتعشقه ويعشقها , وحتى لم تقدر أن تودع جيرانها الذين ألفتهم وأحبتهم فانطلقت تاركة وراءها زوجها حزيناً متحسراً ومعزياً نفسه بأن النعم لا تدوم ومصيرها الزوال , وأميمة واحدة من تلك النعم الراحلة المعدومة إن مشهد الوداع ولحظته الزمنية وما يتبعه منه من آلام أحدث شرخاً كبيراً في كيان الشاعر النفسي دفعه إلى استذكار زوجته الراحلة في بناء علم نفسي جديد يعيش فيه في حالة تواؤم وتوازن .
** الأبيات من ( 5-14)
تتحدث هذه الأبيات الجميلة عن النموذج الأنثوي يظهره في صورة متكاملة الأبعاد للأنموذج الأنثوي ضمن أبعاد ثلاثة : البعد النفسي , والبعد الجسمي , والبعد الاجتماعي فقد نبضت في الأبيات الصفات المعنوية والنفسية .
فزوجته وقور خجول شديدة الحياء عفيفة سمحة حسنة التبعل والأخلاق المثالية والآداب الرفيعة السامية , لا تتناولها الألسن ولا يسقط قناعها أثناء مشيها قد قطعت دابر النظرات والشهوات , ولا تكثر من التلفت حتى لا تحوم حولها وعليها الشبهات والشكوك والطعون والإفك , وإنما تسير في طريقها غاضة بصرها كأن لها في الأرض شيئاً تبحث فيه .
وهي لشدة حيائها فإن الكلام يموت على شفتيها توجز في العرض والطلب وهي حريصة على سمعتها وعلى سمعة بيتها , وتتخذ من ضميرها رقيباً يحاسبها ويجنبها الخطأ واللوم والانحراف هذا من جهة البعد النفسي .
أما من جهة البعد الاجتماعي الذي ركز عليه الشاعر في رسم صورة زوجته فقد اشتمل على السلوك المعرفي في قيمتي الوفاء والكرم فالوفاء قيمة ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى الصعلوك إنه يبحث دائماً عن الوفاء الذي يوفر له الراحة النفسية والطمأنينة والاستقرار .
ومن هنا ركز الشنفرى على وفاء أميمة وحبها له في غيبته وفي حضوره , فهو شديد الثقة والاعتزاز بها فهي تراعي عهده وتصون كرامته وعرضه وإذا آب إليها بعد رحلة أو غارة وقعت عيناه على ما يسعده ويسره .
وهي أيضاً كريمة مع جارتها حسنة المعشر والمعاملة تؤثرهن على نفسها ولو كان بها خصاصة , وفي أوقات الشدة والجدب والقحط تهدي لهن ما تحتفظ به في بيتها من زاد أو لبن وفي وقت بعيد عن الرياء .
وبهذا يركز على الكرم الحقيقي والتكافل الاجتماعي الذي ينبغي أن يهيمن على مجتمع الصعاليك الذي يعاني من الفقر وهنا تكمن قيمة الكرم الحقيقية باعتباره وسيلة لاستمرار الحياة وليس معنىً اجتماعياً . وإتماماً لأبعاد الصورة المثالية التي رسمها الشنفرى لأميمة والتي دفعت الأصمعي إلى القول عن أبيات مقدمة قصيدة الشنفرى : (( هذه الأبيات أحسن ما قيل في خفر النساء وعفتهن )) .
ونرى الشنفرى يتحدث عن البعد الجسمي مضيفاً عناصر جمالية حسية لا نظير لها فهي دقيقة نحيفة جليلة معظمة كاملة في أعضاء جسمها جمالاً وبهاء واكتنازاً وارتواءً وتناسقاً والذي ترغب العين في رؤياه فلو كان اكتمال الجمال داعياً إلى الجنون لجنت هذه السيدة المصونة الجميلة البهية النقية العرض .
وجاءت هذه الصورة وتلك المحاسن لتبين الانفرادية والتميز لها عن غيرها ولتجميل الصورة المعنوية الكلية ، وبعد هذا يذكر أن مجالسة امرأته قد جعلته ينتشي ويثمل حتى لكأن البيت قد شملته ريحانة معطرة منظراً وحديثاً وطيباً ورائحة ولطفاً وعطفاً , كناية عن طيب ريحها ورقة نفسها وكأن الطبيعة شاركتهم الانتعاش والفرحة .
ويستقصى في وصف الريحانة فيذكر موضوعها وهيئتها وفيه بعد جمالي إذ استقى جمال الصورة من البيئة .
**- شرح الأبيات من ( 15-34)
يتحدث الشاعر في هذا القسم عن قصة غزو قام بها الشنفرى ومجموعة من رفاقه وفي طليعتهم تأبط شراً لأخذ الثأر من قاتل أبيه ويتمحور هذا القسم حول دوائر ثلاث :
الفخر بذاته والالتزام بها , والمجتمع القبلي وقوانينه , وآلات الحرب كالسيف والقوس والسهم .
فهو يظهر الجانب الذكوري الفخري { الأنا } متمثلاً في نفسه وصديقه وكيف أنه كان قائداً مثالياً لسرية من سرايا الصعاليك قد خرج من الأمور العاطفية المستقرة إلى حياة التمرد والقيادة والصعلكة وكأنه يبني علاقة بناء جديدة فقد انهدم عالم الحب وبنى عالم القيادة والتمرد .
وذكر أنهم جهزوا أنفسهم للغزو وحملوا القسي الحمر المتعطشة للدم الممهورة بالدم وأنهم خرجوا راجلين قد تعودت أقدامهم على المسير في وهج الشمس وحرارة الرمل بين الوديان والجبال والهضاب نتيجة للغربة التي عشتها والمرارة التي ذقتها والطبقية التي عانيتها والنار المتقدة منذ قتلهم أبي خرجنا مصرين على الجهد والعناء والتعب لتحقيق هدفنا السامي وهو القتل والفتك والسلب والاستيلاء على المغانم والأخذ بالثأر وقد حمل زادهم تأبط شراً ( أم العيال – ثابت بن جابر بن سفيان ) الذي نجح في رسم السياسة الاقتصادية فقد أخذ يقتر عليهم في الطعام خشية أن تطول بهم الغزوة فينفد زادهم ويموتوا جوعاً .
وقد نعته ( بأم العيال ) لأن العرب تقول للرجل الذي يقوم على طعام القوم وخدمتهم هو أمهم .
ومما لا شك فيه أن الشاعر قد أبرز التكامل بين الأنموذجين المثاليين حينما قارن بين الأمين { أم عمرو – أم العيال } فنراه يركز على وفاء وإخلاص تأبط شراً ورفاقه الذين هبوا لمساعدته من أجل الأخذ بالثأر من قاتل أبيه مثلما ركز على وفاء أميمة وإخلاصها في المقدمة , إنه يريد أيضاً عالماً جديداً أوسع قد تحرر من قيود الكبت القبلية .
ثم ينتقل الشاعر إلى الحديث عن الدائرة الثالثة التي تشمل السلاح بأنواعه فيبين أن في جعبته سهاماً عريضة أنصالها وأن أصحابه شجعان شاكو السلاح من رماح وقسي وسيوف وهم يجولون في ميدان القتال كالحمار الذي يطرد الأتن عن أنثاه في كل اتجاه وإذا داهمهم خطر فإنهم يسلّون السيوف من أغمادها وهذه السيوف بيضاء لامعة كأنها قطع الماء في الغدير حادة وهي تتحرك كأذناب الحسيل يمنة ويسرة حين رؤية أمهاتها وتنهل السيوف وتعل من دماء الأعداء وهذه السيوف كالملح ليس في الصفاء ولا في اللمعان فحسب بل الحياة له كالملح تماماً .
ثم يتحدث عن نتيجة الغزوة التي قام بها ورفاقه وبيّن أنهم قتلوا ( حزام بن جابر قاتل والد الشنفرى ) محرماً بمنى وسط الحجيج وساقه هدياً إلى الكعبة وهو بهذا العمل قد بلغ درجة عالية من الفخر والزهو وانتهاك النظم والقيم الاجتماعية والتقاليد المقدسة عند العرب , حيث قتله في مكان اتفقت العرب على قدسيته وزمان أجمعت العرب على حرمته . قال النعمان بن المنذر مناظراً كسرى أنوشروان : (( وأما دينها وشريعتها فإنهم متمسكون به حتى يبلغ أحدهم من نسكه أن لهم أشهراً حرماً وبلدا محرماً وبيتاً محجوباً ينسكون فيه مناسكهم , ويذبحون فيه ذبائحهم , فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه وهو قادر على أخذ ثأره وإدراك رغمه منه فيحجزه كرمه ويمنعه دينه عن تناوله بأذى ))
ولم يبق الأمر عند هذا الحد بل تخطاه إلى إرواء عطشه بقتل عبد الله وعوف من بني سلامان بن مفرج لأنهم أسروه وشاركوا في جريمة قتل أبيه وحرماه حنانه .
ويؤكد أن الموت ليس مفزعاً ولا مخوفاً لديه لأنه مستعد لاستقباله دائما وما يزيد ثباته أنه لن يكون هناك عمات وخالات تبكي عليه فهو يعيش بعيداً عن الناس , حياته قائمة على الصراع والغربة والتمرد .
فالبناء الفخري عند الشنفرى يرتكز على الأنا والتحدي والإرادة الصلبة الناتجين عن شعور البعد عن القبيلة وبما تسببه البيئة القاسية حوله وبما تفرضه عليه الحالة النفسية , كما يرتكز على الاعتماد على السلاح للدفاع عن النفس لإبراز قوته واكتفائه بذاته وأنه حياته الخالدة , ولم يكتف بالاعتماد على الأسلحة المادية والشخصية بل اعتمد على سرعته وعدوه وغزوه كراً وفراً وكأنها تمثل عدم الاستقرار للشاعر .
شرح الأبيات من ( 35-36)
يعود الشاعر في خاتمة القصيدة للتركيز على الأنا وإظهار التحدي , وتبرز ذاتية الشاعر بقوة في الضدية بين حلو ومر وتوضح موقفه من غزوته , إنه يرسم خريطته الدبلوماسية والنفسية مبيناً أنه بين حالين لا ثالث لهما فهو حلو لمن يطلب حلاوته ويحترمه ويجازي الخير بمثله وهو مرّ على من يعاديه ويظلمه ويجازي الشر بالشر . وكأني به يضع القرار بيد الآخر ومنطوقه يفصح عن : أنه ليس لديّ دوافع وشذوذ إلى الصعلكة ولست إمعة حتى أعود إلى ما كنت عليه , لقد فرضت الأحداث والبيئة هذه الصعلكة والقسوة والتمرد عليه .
تاسعاً : أبعادها الفكرية والاجتماعية والتاريخية :
1- لعل أول ما يبهرنا ونحن نقرأ هذه القصيدة الرائعة تلك الصفات المثالية التي تتحلى بها المرأة العربية الأصيلة والمتمثلة في أخلاقها ( العفة والكرم والإيثار وحفظ السر وغض الطرف والحشمة والحياء والتزين للزوج )
2- وللبعد الواقعي في قصيدة الشنفرى حضور واضح فالقصيدة تستمد نسيجها الفكري والمعنوي من خيوط الواقع ومن معطياته وترتبط بالحدث ارتباطاً وثيقاً ذلك لأنها تعبر عن تجربة واقعية حيّة عاشها الشاعر بكل أبعادها على أرض الحقيقة والواقع لا في أودية الخيال أو الوهم فكان قطبها الذي دارت حوله وفارسها الذي عانى تجربة ثأر وقتال شرس اصطلى بناره .
والمتأمل في هذه القصيدة يدرك عمق البعد الواقعي وقوة حضوره فيها من مطلعها حتى خاتمتها , كما يلحظ أن ارتباط الشاعر بهذا البعد قد حد من انطلاق خياله فلم يتح له أن يحلق بعيداً عن أرض الواقع فظلت قصيدته تنبض بروح واقعية قوية وإن لم تخل من وثبات الخيال , وتتجلى هذه الروح الواقعية في :
1- الاهتمام بالإطار الزماني والمكاني : ويتضح ذلك إما من بدء لحظة غضب زوجته وعزمها على الرحيل أو من لحظة تعرضه للطمة أو من بداية تمرده والتحاقه بالصعاليك أو من بداية خروجه من بني سلامان .
ولعله يتضح الإطار المكاني في تلفت أم عمرو – واقفة تحت أعناق المطي مستظلة بها – إلى قومها قبل الرحيل , أو في تذكر بياته بالبيت ومعاشرته لها أو حتى في أرض المعركة .
كذلك نلحظ أن حياة القبائل في العصر الجاهلي وخصوصا أهل البادية تعتمد على الرحيل ، ويتم التحضير للرحيل قبل أيام من موعده ، أو قد يكون الرحيل مفاجئا ، وهذا ما حدث لأم عمرو التي قررت الرحيل دون أن تودع حتى جيرانها ، وكان ذلك جليا في البيت الأول :
ألا أم عمرو أجمعت فاستقلت **** وما ودعت جيرانها إذ تولت
2- ملامح القائد المثالية : نستطيع من خلال قصيدته التائية أن نستكشف ملامحه وصفاته ومعالم شخصيته بصورة كاملة وتبرز في :
القيادة – الجرأة والإقدام – الاستماتة والاستبسال في القتال – الصبر والجهد – الكرم – الفتك – التشفي والتلذذ بالقضاء على الخصم – سرعة العَدْو – الموت في أرض المعركة – توزيع الأدوار في المعركة – المحافظة على السلاح والاعتزاز به – نتيجة المعركة – الإباء .
3- التفنن في تصوير الأسلحة والاعتزاز بها والحديث عن أنواعها كالسيف والسهم .
4- صوّر البيئة البدوية التي يعيشون فيها بكل مظاهرها : الصحراء بشعابها وجبالها وحيواناتها وأشجارها ووقت الغدوة والرواح والمساء والمبات والمغنم .
5- يبين ويتفاخر الشاعر بصفة الكرم التي تصل إلى قمتها عندما تصبح إيثارا وهي صفة يشتهر صاحبها في الجاهلية لما كان يعانيه الإنسان من جوع وفقر آنذاك ، وقد تجلى ذلك في قوله :
تبيت بعيد النوم تهدي غبوقها **** لجارتها إذا الهدية قلت
6- وتستوقفني بعض الإشارات التي تربط بين النص والبيئة والعصر كالإشارة الدينية في قوله :
قتلنا قتيلا مهديا بملبد **** جمار منى وسط الحجيج المصوت
فالمهدي : الذي يقدم الهدي في الحج ، وجمار : يقصد بها الحصى التي يرمي بها الحجاج في منى . ومنها أيضاً قضية الثأر وهي إشارة تربط بين النص وبين بيئة الشاعر التي اشتهرت بتلك الظاهرة وظهرت في قوله :
شفينا بعبد الله بعض غليلنا وعوف *** لدى المعدى وأن استهلت
والإشارة الثالثة :الصعلكة وهي الحياة التي عبر عنها الشاعر في أبياته بل أنه ذهب ليصفها ويفاخر بها ويؤكد الولاء لها :
خرجنا من الوادي الذي بين مشعل *** وبين الجبا هيهات انشأت سربتي
فالشاعر الذي فقد الانتماء للقبيلة وقبل ذلك الأرض جعل رئيس الجماعة في صورة الأم عندما كنى عن تأبط شرا بقوله : أم عيال .
عاشراً : أما آفاقها الفنية :
فقد عاش الشاعر الشنفرى تجربة الأسر والظلم والحرمان واليتم بعمق واستغرقته أحاسيس الانتقام والأخذ بالثأر استغراقاً تاماً فعبر عن تلك التجربة الثأرية البطولية بهذه القصيدة التي جاءت مضمخة بعبق الانتصار وعبير الانتقام نابضة بروح متوثبة متعطشة تستهين بالموت في سبيل تحقيق أشواق الروح وتطلعاتها .
والقصيدة مطبوعة بطابع العفوية والتلقائية في التعبير يقترب بها من درجة البوح ومناجاة النفس , ويضفي عليها ظلالاً من الألفاظ والصور دون محاولة للتأنق أو التصنع .
ولا شك أن قوة نبض التجربة في نفس الشاعر وحيوتها وامتلاءه بها قد ترك أثراً إيجابياً في قيمها التعبيرية وبنيتها الشعرية على السواء فأكسبها تماسكاً وتلاحماً من ناحية وانسجاماً وتدرجاً في المعاني من ناحية ثانية وتجانساً في الأحاسيس والمشاعر من ناحية أخرى .
وقد تمكن الشاعر من وضع قارئه في جوّ نفسي وفكري وشعوري مشحون بالانتقام والثأر والاستهانة بالموت والجراح في سبيله .
وهي وإن تعددت موضوعاتها ترجع إلى أصل موضوعي واحد تتفرع منه فليس التعدد هنا تعدداً في الموضوع وإنما هو تفرع في أغراض الموضوع .
كما تتألق الوحدة العضوية في قصيدة الشنفرى ويتضح ذلك جلياً في مقدمة القصيدة وكذلك في البيتين 27- 28 ,ولذلك تكاد تتحقق القصة بمفهومها النقدي المعاصر .
والقصيدة تنطوي على روح قصصية تسري في أوصالها وإنك لتلمح هذه الروح والعناصر : التشويق والتسلسل المنطقي والخاتمة عبر السرد والرسم مكتملة في تائيته من البيت 13-36 فنحن أمام قصة طويلة أتحفنا بكثرة أحداثها , ومما لا شك فيه أن هذه الروح قد أضفت على القصيدة طابع التشويق ومدته بعنصر الوحدة الموضوعية والفنية .
كذلك تتضح الروح القصصية من خلال عناية الشاعر برسم ملامح وسمات شخصية محبوبته أميمة فقد أحاط بذلك من بداية القصيدة وحتى البيت الرابع عشر .
وتخلو القصيدة تماماً من المقدمة الطللية وهذا أمر طبعي فالشاعر مثلوم ومشغول بالغارة والانتقام ، فليس لديه الوقت الكافي لئن يقف ويبكي لذا خلت القصيدة من المقدمة الطللية .
وعلى الرغم من ارتباط الشاعر بالحدث وبالواقع ارتباطاً وثيقاً إلا أن الشاعر لم يهمل الاعتماد على الخيال ولم يتخل عن التصوير بوصفه وسيلة مهمة من وسائل التعبير عن التجارب الشعورية : فقد صور الشاعر في البيت الثاني رحيل أم عمر التي عملت برأيها ولم تأخذ برأيه في البقاء بصورة وصفية حقيقية وقد وقفت تحت أعناق الإبل مستظلة بها تنظر إلى قومها قبل الرحيل , وهنا يستغل الشاعر ما لصفات صوتي الطاء والظاء في رسم هذه الصورة فصوت الطاء مهموس شديد يجاوب صدى صوته مع التجويف الأنفي ليعطي دلالة ما لهذه الإبل من قوة صامتة تتناسب معها , أما صوت الظاء المجهور الرخو فهو يوحي بالنقاوة والظهور وهو يتناسب مع شعور أم عمرو وهي مستظلة بأعناق الإبل تحميها من حرارة الشمس في تلك الصحراء القاحلة . ومصدر الصورة من البيئة الاجتماعية كالزواج والرحيل وكذلك الحيوانية .
ويشبه محبوبته الحصان الرزان في البيت التاسع وكأنها من شدة حيائها إذا مشت تطلب شيئاً ضاع منها لا ترفع رأسها ولا تلتفت قد حددت وجهتها بمن يبحث في الأرض عن شيء ضاع منه , ويستقي صورته من البيئة الاجتماعية .
وفي البيت الثالث عشر يشبهها بأطيب الروائح وهي تفوح شذى وعطراً في كل مكان , ومصدر الصورة هنا من البيئة النباتية .
وفي البيت الرابع والعشرين يشبه الفرسان في أرض المعركة وهم يجولون في ساحتها كالحمار الذي يطرد الأتن عن أنثاه , ويشبه السيوف بأذناب الحسيل – أولاد البقر – إذا رأت أمهاتها تحرك أذنابها في البيت السابع والعشرين وهو في هذا التشبيه والذي قبله يعتمد على البيئة الحيوانية في استقاء صورته .
وفي البيت السادس والعشرين يشبه السيف في لونه وبريقه ولمعانه بلون الملح وهو هنا يستقي صورته من البيئة الاجتماعية .
ومعظم صوره مادية تدرك بالحواس الخمس : البصرية والسمعية واللمسية والشمية .
كذلك تظهر قدرة الشاعر في ما ابتدعه خياله من صور فنية واقعية حيث يرصد حركة أم عمرو ورحيلها ويرصد لنا أيضاً جو المعركة في صورة حركية فالموت يلاحق الشاعر أو يرقبه ويتحين الفرصة للانقضاض عليه والسيوف تنهل من الدم وتعل , والأشخاص يبكون , وأم العيال تقوم بتدبير الطعام , إنك لتلمح صوراً حيوية متحركة .
كذلك تزهو صورته الحركية السمعية الدينية وسط الحجيج بمنى حينما قدّم غريمه هديا يساق للكعبة الشريفة . ومما لا شك فيه أن استخدامه الرموز الطبيعية والحيوانية والكونية تكشف لنا عن ارتباط الشاعر بمكوناته الرئيسة .
وعاطفة الشاعر المتلونة بين الحزن والفخر وتجربته الشعرية الناجعة جعلته يتقلب بين أحضان المفرادت الشعرية , فكلما كانت التجربة الفنية قوية وحية وكانت العاطفة صادقة وثابتة ومستمرة في نفس الشاعر تأتي الألفاظ وثيقة الصلة بها قادرة على تجسيدها وتفجير ما يتصل بها من حالات وجدانية في نفس المتلقي تمكن الشاعر من توصيل طاقاته الشعورية إلى قارئه , إنها حياة قائمة على التنقل والكر والفر والثأر والاعتزاز بسلاحه رمز بقائه وسر خلوده , ويمكننا أن نتلمس المعجم اللفظي من خلال المحاور الآتية :
1- ألفاظ الحزن والفراق والوداع تتفجر في قوله : { ألا أم عمرو , أجمعت , فاستقلت , ودعت , جيرانها , أظلت , بعيني , أمست , باتت , أصبحت , فواكبدا , أميمة , طمعت , نعمة العيش , فيا جارتي }
2- ألفاظ الحشمة والعفاف والجمال المعنوي وتبرز في قوله : { غير مليمة , ولا بذات تقلت , ولا بذات تلفت لا سقوطا قناعها , تهدي غبوقها لجارتها , الهدية , تبلت , عفت , جلّت , بمنجاة , آب قرة عينه , ظلّت }
3- ألفاظ الجمال الحسي الطاهر وتتراقص في قوله : { فدقت واسبكرت وأكملت , الحسن , بريحانة , نوّرت , لها أرج , الجنون بجمالها }
4– ألفاظ حربية تنم عن فروسيته وتبرز في قوله : { باضعة , حمر القسي , يغزو , خرجنا , حمتي , أمشّي الرواح والغدوة , وفضة , سيحف , العَدِيّ , اقشعرت , فزعوا , طارت , أبيض صارم حسام , سلّت جفرها النهل والعل , القتل , الجزاء , الزلل , غليلنا , شفينا , استهلت , ميتتي وحمتي , نفس العزوف }
5– أسماء الأماكن والأعلام والحيوان والنبات والجماد والزمن وكل هذه تصور حياته وتطوراتها وتقلباتها بكل أبعادها نلتقط من القصيدة ما يسعف صدق التجربة من مثل : { الأرض , الوادي , البيت ومشعل والجبا والمعدى والعمودين وجمار منى وسط الحجيج , ذو البريقين , أم عمرو , أميمة , النسوان , الجن والأنس ، أم العيال , سلامان بن مفرج , عبد الله وعوف , أعناق المطي , كعير العانة , الحسيل , بريحانة , الغدير , الملح , الطلّ , القسي , الوعاء السيحف , الساق , الحسام , فأمست وأصبحت وباتت , بعيد النوم , عشاء , رواحي وغدوتي } .
وترقص القصيدة على البحر الطويل , حيث استقصى الشاعر جلّ معانيه واستطاع البوح عما يكنّه من خلاله فالبحر الطويل يعطي إمكانيات للسرد والبسط القصصي والعرض الدرامي وهو يعكس قوة الإيقاع ورصانة الأداء وفخامته , وله رنة موسيقية قوية تناسب معاني التغني بجلالة الحدث وفداحة الرحيل والثأر فجاءت القصيدة قوية الإيقاع رصينة الأداء مناسبة للحدث .
وتسهم القافية التائية في كشف تجربة الشاعر ومعاناته فالتاء حرف انفجاري مهموس وبهذا نجد أنفسنا أمام صفة قوية هي الانفجار وصفة ضعف هي الهمس تقابلان علامتي الرجل الذي يمثل القوة والمرأة التي تمثل الضعف على الترتيب لترسيخ ذلك الجو من الصراع بين طرفين داخل الذات , ومن أجل مزيد من الإحساس بمرارة هذا الصراع واستنفادة طاقة الشنفرى وقوته جاء الروي مهموساً .
ثم إن حرف التاء قد هيمن على القصيدة وامتد على جسدها بكاملها وشكل العمود الفقري فيها وهو يرمز في الوقت نفسه لأميمة زوجته الذي ذكرها مرتين بالاسم ومرتين بالكنية وفي ذلك الذكر انكسار وتذلل وشدة وحسرة وخضوع .
وتمتاز القصيدة بنغمها الموسيقي الداخلي الرائع ومرد ذلك إلى نجاح الشاعر في اختيار المفردات وترتيبها وما يتبع ذلك من حركات الإعراب والمد وعليه فقد وفق الشاعر أيما توفيق في التعبير عن خلجات نفسه وذبذبات مشاعره وتتراىء لنا هذه النغمات الموسيقية المتساوية ذات الدلالات الصرفية في مثل قوله :( أمست فباتت فأصبحت – فدقت وجلّت –جمعت – استقلت – تولت أكملت – ودعت – خرجنا – بتنا قتلنا – شفينا – جزينا – جيرانها – غبوقها – قناعها – بيتها – حليلها – غليلنا – أي آل تألت – حلاوتي – عدوتي – عمتي – منبتي ..)
كذلك تلحظ أن الشاعر قد أكثر من استخدام المدود والألفاظ الممدودة وتلمس قوله : ( فوا كبدا ، آب مآب ) وغيره تجد أنها تعبر عن الندم والتفجع والتحسر على زوال النعمة وطول المعاناة وعمق الالتياع وعظم المصاب وفداحته , حقاً لقد كانت أصوات المدود شبيهة بالموسيقا التصويرية التي ترافق الحركة .
ويستخدم الشاعر التضعيف المكرر لإكساب المعنى طاقة إضافية فقوله : ( أمّ – ودّعت – استقلّت – تولت – فقضّت – حلّت – ظلّت – قرّة – وقّت واسبكرّت – جنّ ) استخدمه لإظهار لوعته وغربته وتقلقل حياته وعدم استمرارها وإبراز محبو بته في صورة مثالية , وفي قوله : ( أمشّي – أقلّت ظنّ ) إبراز للمعاناة والتحمل والجهد , وفي قوله : ( سلّت – علّت – المصوّت – اقشعرّت – ملبّد – قدّمت – هنّى – مسرّتي ) إظهار للفخر والزهو والطرب .
ويعد التكرار إحدى الوسائل الفنية التي أحسن الشاعر استخدامها , ومما يعطي التكرار أهميته الفنية وقيمته الجمالية أن يكون اللفظ أو العبارة المكرران وثيقي الصلة بالتجربة الشعرية وبالحالة النفسية التي يصدر عنها الشاعر ذلك لأن التكرار في حقيقته إلحاح على جهة هامة من العبارة ذا وظائف دلالية كالتقرير مثلاً أو نفسية كالبوح بالشكوى أو موسيقية إيقاعية وقد جاء التكرار على مستويات منها :
مستوى الإيقاع ونوع الكلمة نحو : ( فدقت وجلّت واسبكرّت وأكملت , تبيت ، بيت ، بيوت ، وهنّىء وهنأتهم أبي آبى مباءتي , الجوع وجياع , وقتلنا قتيلاً ) , أو تكرار الكنية والعلم نحو ) أم عمرو , أميمة ) . أو تكرار الظرف نحو : إذا للتوكيد ولما يستقبل من الزمن أو على مستوى الدلالة فقد كرّر دلالة ( حلو ) في بناء ( حلاوتي ) وكأني به يريد أن يؤكد على أن يتمتع بسهولة المعاشرة وإن كان هذا يتعلق بشرطية المراد من هذه الصفة لذلك كرر الكلمة على أنها تقرير لهذه الفكرة , ولم يعد الشاعر إلى تكرار المقابل لهذه الدالة في الشطر الثاني وكأنه بهذا التكرار يفيد أنه سهل المعاشرة أكثر مما يقابلها من سوء المعاشرة
قوله : تحل بمنجاة من اللّوم بيتها *** إذا ما بيوت بالمذمة حلّت
ويعتمد الشاعر في مدح أميمة التي ذكرها على عقد مقارنة بين وقوع اللّوم وأثره في بيتها وفي بيوت غيرها وخط الموازنة يبدأ وينتهي من تكرار دالة { يحل } بينما يثبت تأثيره إذا حلّ ببيوت غيرها ومن هنا كشف الشاعر عن مدى قوة التكرارية بهذه الموازنة التي تعطي الشيء ونقيضه .
وتظهر غلبة بعض الأصوات وسيادتها داخل القصيدة وكأنه يعمد إلى هذه الأصوات ويقصد إليها قصداً وذلك لما يرى لها من أهمية خاصة في التعبير عما يجيش في نفسه والتركيز عليها من ناحية وللأثر المرجو في نفس المتلقي من ناحية ثانية وهذه الأصوات { الراء اللام الميم التاء الصاد الطاء الظاء } لها خاصية الوضوح السمعي والظهور والتعبير وكذلك حرف الفاء لما فيه من الإحاطة الدائمة والرحيل المستمر وما تحدثه من إيقاع موسيقي يتناسب وجو الشاعر التمس هذا في قوله : { فباتت فأصبحت فقضّت فاستقلت فولت }
ويفرض على القصيدة رفضه التام لهذا الرحيل ولهذه الحياة ولهذه الصعلكة حينما يتنهد ويعزف قيثارته على الحرف الصوتي { لا } فلا لكل ما يعيقني .
وتضفي ياء المتكلم إيقاعاً داخلياً يسهم في تعميق الإحساس بما يتعرض له الشاعر من خطر القتل ولوعة الحنين والفراق وديمومة الحب . إنها وسيلة للتعبير عن الحالة النفسية التي يعيشها .
ويستخدم الضمير ( نا ) في مثل قوله : { شفينا , جزينا } ؛ للزهو والطرب والفخر والتعظيم وإعلان أن الجميع غاضبون لأمر الشنفرى وأن المصاب جلل واحد فكان التنفيذ من الجميع , وفي قوله : سبقتنا لعظم الأمر .
وتطالعنا بعض الظواهر البلاغية كالتصرّيع في البيت الأول لجذب انتباه السامع ولإحداث كثافة موسيقية مؤثرة ولأنها تحرك الإحساس بالقافية في نهاية البيت قبل الوصول إليها .
ويمد جناس الاشتقاق القصيدة بلون آخر من التنويع في إيقاعاتها الداخلية أتاحه تكرار الأصوات في الألفاظ التي يجمع بينها جناس الاشتقاق فضلاً عما يعبر عنه ذلك من تأكيد المعاني والأحاسيس المرتبطة بالألفاظ المتجانسة تأمل الكلمات التالية : { جُنّ وجّنت , وتحل وحلت , وهنىء وهنأتهم , قتلنا قتيلاً , بريحانة ريحت } وكل هذه المفردات توحي بالزهو والانتعاش .
كذلك تطالعنا المقابلة في قوله :
تحل بمنجاة من اللوم بيتها *** إذا ما بيوت بالمذمة حلت
ولا يخفى عليك ما في البيت من كناية عن عفتها فقد نفى اللوم عنها بأن نفاه عن بيتها الذي تقيم فيه , وذلك يستلزم نفي اللوم عنها , وقد عبر في البيت بـ ( يبيت ) دون يظل لأن الليل مسرح الفجور وانتشار المقابح .
وفي قوله : { نعمة العيش } كناية عن أميمة وفيها من إيحاءات السلب والفقدان ما يلهب عاطفة الشاعر , وفي قوله : { أعناق المطي } كناية عن الرحيل وفيها ما يضرم نيران الفراق والوداع عنده .
كذلك نجد التضاد في حياة الشنفرى حياة الاستقرار والسعادة والاطمئنان مع زوجه أميمة وحياة الصعلكة والتمرد والقتل وهذا يعطينا وفرة وافرة من حياته وتطوراتها وعلاقاتها بالبيئة والحدث اقرأ إن شئت : ( أمست وأصبحت ويغنم ويشمت أكثر وأقلت رواحي وغدوتي القتل والجزاء والحلو والمر والخالة والعمة )
كذلك استطاع الشاعر أن ينتقل بين معانيه بسلاسة فائقة فتراه يحسن التخلص في البيت الحادي عشر والخامس عشر , ويستخدم الالتفات ولا شك أن الانتقال من صيغة من صيغ الكلام إلى أخرى يحقق أكثر من غاية فنية فهو يضفي على القصيدة عنصر الإثارة والتشويق كما يلقي أضواء كاشفة على الحالة النفسية والشعورية للشاعر فقد يؤثر التعبير بصيغة الغائب لأنها تحمل دلالة على بداية انتقال ذاته من واقعها الراهن إلى غدها المجهول , وقد يعبر به دلالة على حب أميمة وجيشانه العاطفي تجاهها كما في البيت الثاني , وقد يلتفت من المنفصل إلى المتصل كما في البيت الخامس لشدة ارتباطه بها وجذبه لها كلما حاولت البعد عنه .
ويستخدم التقديم ففي قوله : { إذا ما أتتني منيتي لم أبالها } قدّم الضمير ليؤكد المراد من أن هذه الحالة تنحصر في شخصه وهي حالة الموت , فالموت واقع لا محالة إلا أن الآثار المترتبة عليه متعلقة بالشاعر فقط فهو يشير إلى أنه إذا مات لا يبالي مع علمه بموقف أهله منه لذا يقرر أن أهله لن يبكوا عليه لأنه لن يجد أحداً يبكي عليه .
وكذلك تقديم الخبر في قوله : { بريحانة , ولها وفضة } للقصر والخصوصية ليخرج المتلقي من مفهوم التعميم والكلية , وتقديم الحال في قوله { تحل بمنجاة } للاهتمام .
ويحذف اسم كان في البيت الثاني والثالث في أربعة مواضع للتقرير والإفادة بتجدد الأزمنة وتقلبها .
وتجد الاعتراض في قوله : { ألا لا تعدني – إن تشكيت خلتي – شفاني } . وفي قوله : { وأم عيال – قد شهدت – تقوتهم } . وفي قوله : { تراها – كأذناب الحسيل صوادراً – وقد نهلت} , ولا يخفى عليك سرّ هذا الاعتراض فإما أن يكون تنويهاً بشأن المخاطب أو تقريراً أو إيغالاً أو نحو ذلك .
وقد يؤثر التعبير بصيغة الغائب لأنها تحمل دلالة على بداية انتقال ذاته من واقعها الراهن إلى غدها المجهول , وقد يعبر به دلالة على حب أميمة وجيشانه العاطفيتجاهها كما في البيت الثاني , وقد يلتفت من المنفصل إلى المتصل كما في البيت الخامس لشدة ارتباطه بها وجذبه لها كلما حاولت البعد عنه .
* وبعد فمهما يكن من أمر فإن شعر الشنفرى خاصة وشعر الصعاليك عامة يظل لوناً متميزاً من ألوان الشعر الجاهلي في ارتباطه الوثيق بالبيئة الصحراوية التي تعتبر مصدراً هاماً من مصادر صورهم وأخيلتهم ومعجمهم اللفظي , وهذا ما نلمحه من غرابة وخشونة وقوة سبك وانتقائية مطبوعة بأسلوب بعيد عن الصنعة والغرابة والتكلف .
* لقد استطاع الشاعر من خلال رسمه لنموذجين عبر صيغة جمالية توشحت بقالب قصصي فني مميز أن يكشف عن تصوره لطبيعة المجتمع المتكامل الذي يتوق إليه الصعاليك ويركز على القيم والمزايا المعنوية الغائبة في مجتمعه , ويبرز صراع الذات في سبيل رغبتها في تطويح سلطة الاضطهاد من أجل بناء حالة تصالح متكافئة بينه وبين المجتمع .
* ولعله من الوضوح بمكان أن هذا التحليل قد قام على اقتناع تام بأن العلاقة بين النص وقائله من ناحية والظروف المحيطة به من ناحية ثانية علاقة جدليّة ووثيقة ؛ فالنص لا بد أن يحمل بعض طوابع شخصية قائله , وبالتالي فإن دراسة النص أسهمت في الكشف عن جوانب من شخصية القائل , كما أن التعرف إلى القائل وإلى العوامل التي شكلت شخصيته الفنية تسهم في إضاءة النص واكتناه أسراره .
ولذا فإن هذا التحليل لا يعيرالدعوات الحديثة التي تروّج لنظرية موت المؤلف وبتر النص عن سياقه التاريخي والاجتماعي وعن جميع الظروف المحيطة به بدعوى فنية النص أو إطلاقه من قيود الزمان والمكان , فما النص في أي تحليل له إلا ثمرة طبيعية لكثير من العوامل التي تسهم في إنتاجه وفي مقدمتها قائله وسياقه التاريخي وإطاره الاجتماعي .
30/ 7/ 1437هجرية – أحد رفيدة .