- 17/05/2022 plore The Services
- 27/04/2022 guestbloging
- 25/04/2022 ” بين رمضانين “
- 22/04/2022 bloggingaboutanything
العين القارئة [ 65 ]

اهتزاز العطر
الحفلة بدأت وبدأ الجو يتعطر معها.. سحابات مكتظة من العطور ترفعها إلى أعلى أصوات المغنيات والدفوف وتسافر في الجو الراقص..
وقفتِ العذراء وسط الساحة تؤدي أجمل الرقصات وعرفتُ بغريزتي التي لا تخطيء أنها البادئة فأخذتُ أحثها: دعي هذا الجسد الذي ينتج العطر يهتز أكثر.. رجي الأرض برقصك وفرغي عطرك على السجاد الأبيض.. اتركي شعرك يثور ويسافر في الفضاء المعطر.. حين تدورين في ساحة الرقص يبتدئ مرضي فأدور حول بيت الرقص.. عندما أحسكِ ترقصين ترتج أضلعي.. تتقوس.. يختل ترتيبها في صدري ويضطرب جسدي ينتج العرق والتبغ.. وأرجلي تُفرغ على الإسفلت الخوف.. بثي الفرح الذي يمتلئ به صدرك المهتز إلى أعين الغيورات.. ارحمي أكف حاملات الدف من رقصك فأياديهن ساخنة سخونة أجساد المرضى..
أنا لا أستطيع حمل السيف والرقص به في الحلقة.. قد يخونني وأقتل به.. حتى العصا العمانية قد تسقط من يدي وتدوسها أقدام الرجال..
أنا لستُ رجل حرب.. لم يُعدّني أبي إلا للحب والكرم.. ألا تعرفين أنني مثل أبي لا أتوسط الحلقة؟ أقف مع الصف أو خلفه متفرجاً..
لم يدعُني أحد للحضور إلا رقصك الذي لا أراه.. ودمي الذي يختضّ أكثر وأنا بعيد عندما أتخيلك ترقصين.. ما زلت أدور حول البيت والرجال وحدهم يرقصون وفكرة التنكر بزي امرأة والدخول لأراك فكرة ملعونة.. أبي علمني أن أكره المتشبهين.. وماذا لو فعلت وتم اكتشافي؟ هل تتوقفين عن الرقص احتجاجاً؟ هل ستفضحينني وأطرد كطفل مشكوك في بلوغه؟!!
هذا الدوران المرض وحده يفضحني.. أو تدرين ماذا قال أبي لهم حين حلّ الضيوف وفشلوا في العثور عليّ لاستقبالهم؟ قال: ستجدونه عند بيت الرقص يدور!! هل دار أبي مثلي من قبل؟ هل أستطيع سؤاله عن الدوران؟ عن فاعليته؟
هذا الرقص الذي لا يتكرر في أي بقعة من بقاع الأرض ممن تعلمتيه؟ أمن هيجان الخليج أم من ثورانه؟ من اضطراب موجه أم من غصون أشجار واحاته إذا داعبتها الريح؟!! ارقصي.. دعي عطر جسدك ينتشر في الجو فقد يصل إلى أنفي وأنا أدور في الخارج.. اطلبي من المغنية أن تغني أغنية طويلة ليستمر رقصك.. فإن توقفتِ عن الرقص توقفتُ أنا عن الدوران وسقطت.. قد يقول لك سقوطي على الإسفلت مكباً على وجهي: إن هذا الرقص يجب أن يكون لي وحدي.. وحدي أنا من بين كل الرجال الذين يرقصون في الخارج والذين لا يرقصون.. هل تشعرين الآن باختضاض دمي وأنت ترقصين؟ ستثرثر أفواه العجائز عن رقصك صباح الغد.. وستهمس الطالبات في مدارسهن عن رقصك والمعلمات يشرحن الدرس.. وسيتحدثن في الفسح براحة أكثر.. وأنا.. ماذا أقول عن رقصك؟ سأقول رأيتها وبادلتها الرقص على طريقة أبي.. عندما أنهاني الدوران حول البيت قال لي أبي والضيوف يستمعون: إذا رقصت العذراء خُطبت وإذا رقصت المطلقة لُعنت.. لم يشمل أبي الأرامل والمتزوجات بحكمته، ولكن عينيه كانتا تقولان لي شيئا وتخفيان أشياء كثيرة.. أبي يمارس الحكمة دائما أمام الضيوف.. لا يمارسها معي وحدي أبدا.. تُرى هل يخاف من أسئلتي؟ أم يريد أن يشهد الضيوف على تلقيني حكمه؟ أبي يا من أدميت قدميك دوراناً.. أنت تعرف أنني شهدتُ جميع أعراس أصحابي ومن هم في مثل سني ولم يبقَ إلا أنا فلِمَ لمْ تقل لي شيئاً؟! أكنت تعرف أن العذراء الراقصة هي السبب وأن شقائي يكمن في جسدها الذي ينتج عطراً.. في طهارتها التي تجعلني أدور كشحاذ حول بيتها؟!!
أبي أيها العاشق الطيب.. لم لا تدعني أجلس مع أصدقائك؟ كم كرّةً طردتني من المجلس بعينيك؟ هل كنت خائفا من أن يقولوا لي شيئا عن دورانك؟ وإذا دخلتُ عليكم بالشاي والقهوة لماذا توقفون ضحككم الجماعي وتطأطئ رأسك؟ ولماذا تمنعني من صب الشاي والقهوة؟ وهم لماذا يساعدونك بعبارات مستهلكة: اذهب لتذاكر دروسك أفضل لك..؟!!
وأنتِ أيتها العذراء الراقصة.. متى تكفين عن الرقص للنساء وترقصين لي وحدي؟ ألا تعرفين أن الرقص يعبر عن الحب؟ تعالي نقضي العمر رقصاً وغناءً.. خدعوكِ بقولهم رقص العذراء أفضل.. فالعذرية بعد الثلاثين تفقد معناها ولا يبقى إلا أطلال ذلك المعنى..
ظللتُ أدور حول البيت أمنع قدوم أي رجل حتى لا تتحقق حكمة أبي..
***

قراءة تذوّقية لسّينيّة البُحُتُريّ
*= يقول المعري : (( أبو تمام والمتنبي حكيمان وإنما الشاعر البحتري , وقال بعضهم : إن البحتري أراد أن يشعر فغنى )) ونعم ما قيل , ذلك لبعده عن التعقيد والتعمق في الفلسفة , ما جعل شعره كالجدول الرقراق سلساً سهلاً ممتنعاً ينحدر إلى الأسماع …
*= هو الوليد بن عبيد بن بحتر يكني بأبي عبيدة وبأبي الحسن , اشتهر بالبحتري , ولد في خلافة المأمون عام 206هـ في بلدة منبج في الشام بين حلب والفرات وتوفي فيها سنة 284هـ مخلفا شعراً في أغراض مختلفة من مديح وعتاب واعتذار وشيء من فخر وهجاء وللذة شعره وروعة موسيقاه وغنائيته , أستشهد ببعض قصائده , يقول في مدح الفتح بن خاقان :
بلونا ضرائب من قد نرى *** فما وجدنا لفتح ضريبا
هو المرء أبدت له الحادثات *** عزماً وشيكاً ورأياً صليبا
تنقل في خلقي سؤدد *** سماحاً مرجى وبأساً مهيبا
فكالسيف إن جئته ضارباً *** وكالبحر إن جئته مستثيبا
فتى كرم الله أخلاقه *** وألبسه الحمد برداً قشيبا
ويقول متغزلاً بغادته الفاتنة :
كم ليلة فيك بت أسهرها *** ولوعة في هواك أضمرها
وحرقة والدموع تطفئها *** ثم يعود الجوى فيسعرها
يا علو عل الزمان يعقبنا *** أيام وصل نظل نشكرها
بيضاء رود الشباب قد غمست *** في خجل ذائب يعصفرها
مجدولة هزها الصبا فشجا *** قلبك مسموعها ومنظرها
ومن روائعه قصيدته التي يعتذر فيها للوزير الفتح بن خاقان ويستعطفه :
أكذب ظني بان قد سخطت *** وما كنت أعهد ظني كذوبا
ولو لم تكن ساخطاً لم أكن *** أذم الزمان وأشكو الخطوبا
ولو كنت أعرف ذنباً لما *** كان خا لجنى الشك في أن أتوبا
سأصبر حتى ألاقي رضاك *** إما بعيدا وإما قريبا
أراقب رأيك حتى يصح *** وأنظر عقلك حتى يثوبا
وله رائعة في وصف الذئب يقول فيها :
وليل كأن الصبح في أخرياته *** حشاشة نصل ضم افرنده غمد
تسربلته والذئب وسنان هاجع *** بعين ابن ليل ما له بالكرى عهد
أثير القطا الكدري عن جثمانه *** وتألفني فيه الثعالب والربد
وأطلس ملء العين يحمل زوره *** وأضلاعه من جانبيه شوى نهد
له ذنب مثل الرشاء يجره *** ومتن كمتن القوس أعوج منأد
طواه الطوى حتى استمر مريره *** فما فيه إلا العظم والروح والجلد
سما لي وبي من شدة الجوع ما به *** ببيداء لم تحسس بها عيشة رغد
كلانا بها ذئب يحدث نفسه *** بصاحبه والجد يتعسه الجد
عوى ثم أقعى فارتجزت فهجته *** فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد
فأوجزته خرقاء تحسب ريشها *** على كوكب ينقض والليل مسود
فما ازداد إلا جرأة وصرامة *** وأيقنت ان الأمر منه هو الجد
فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها *** بحيث يكون اللب والرعب والحقد
فخر وقد أوردته منهل الردى *** على ظمأ لو أنه عذب الورد
ونلت خسيساً منه يوم تركته *** وأقلعت عنه وهو منعفر فرد
وأروع منها قصيدته في وصف البركة , يقول :
ميلوا إلى الدار من ليلى نحييها *** نعم ونسألها عن بعض أهليها
يا دمنة جاذبتها الريح بهجتها *** تبيت تنشرها طوراً وتطويها
لا زلت في حلل للغيث ضافية *** ينيرها البرق أحياناً ويسديها
تروح بالوابل الداني روائحها *** على ربوعك أو تغدو غواديها
يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها *** والآنسات إذا لاحت مغانيها
بحسبها أنها في فضل رتبتها *** تعد واحدة والبحر ثانيها
ما بال دجلة كالغيرى تنافسها *** في الحسن طوراً وأطواراً تباهيها
*= إنّ أهم حدث مرّ بالبحتري في فترته الأولى من حياته اتصاله بأبي تمام , وكان أبو تمام شاعراً مشهوراً وكان له مجلس في حمص يجلس فيه ويجتمع إليه شباب الشعراء ليستمعوا إلى شعره ويعرضوا عليه أعمالهم الفنية , وفي أغلب الظن أن البحتري التقى بأبي تمام لأول مرة في هذا المجلس وكان قد وفد إليه ليعرض عليه شعره فأنشده قصيدته التي مطلعها :
أأفاق صبٌّ من هوًى فأفيقا *** أم خان عهداً أم أطاع شفيقا
وأعجب أبو تمام بهذه القصيدة , فلما انفض مجلسه دعاه إليه وقال له : أنت أشعر من انشدني . والدارس لحياة البحتري يستطيع تقسيمها إلى ثلاث مراحل : المرحلة الشامية الأولى تبدأ منذ ولادته في منبج وتستمر خمسة عشر عاما وفي هذه المرحلة كان البحتري يتكون شاعراً وأهم حدث مرّ به فيها هو اتصاله بأبي تمام .
ثم المرحلة العراقية التي تبدأ منذ رحيله عن الشام إلى بغداد وتستمر قرابة خمسين سنة حتى غادر العراق عائداً إلى منبج , وقد شهدت هذه المرحلة أشد فترة في حياة البحتري الفنية ازدهارا وخصباً وعطاء ونظم فيها أكبر مجموعة من شعره وتردد في على فارس وعلى الحجاز وعاد في أثنائها عودته الأولى إلى منبج .
ثم المرحلة الشامية الثانية التي شهدت البحتري شيخاً مترفاً غنياً يعود إلى منبج ليقضي بقية حياته فيها .
*= اعترافه لأبي تمام بالأستاذية :
يرى البحتري أن أبا تمام هو الأستاذ والرئيس ولا ينكر أنه هو الذي أخذ بيده في عالم الشعر وقرع له أبواب الخلافة حتى أصبح البحتري شاعر بلاط الدولة العباسية عشرات السنين وقد كانت له المنزلة العالية والمكانة الرفيعة , يقول مجيباً أناساً زعموا انه أشعر من حبيب أبي تمام : ( والله ما ينفعني هذا القول ولا يضر أبا تمام ووالله ما أكلت الخبز إلا به ولوددت ان الأمر كما قالوا ولكني والله تابع له آخذ منه لائذ به نسيمي يركد عند هوائه وأرضي تنخفض عند سمائه ) وكان أبو تمام قد أوصاه بوصية ساهمت في قوة شاعريته وعلو مكانته , جاء فيها : ( يا أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم واعلم أن العادة جرت في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر وذلك أن النفس قد نالت حظها من الراحة وقسطها من النوم . وإن أردت التسبيب فاجعل اللفظ رقيقاً والمعنى رشيقاً وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة وقلق الأشواق ولوعة الفراق فإذا أخذت في مدح سيد ذي أياد فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه وابن معالمه وشرف مقاصده ونضد المعاني واحذر المجهول منها وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الزرية ولتكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجساد وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك ولا تعمل شعرك غلا وأنت فارغ القلب واجعل شهوتك إلى الشعر الذريعة إلى حسن نظمه فإن الشهوة نعم المعين وجملة الحال ان تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين فما استحسن العلماء فاقصده وما تركوه فاجتنبه ترشد إن شاء الله ) قال البحتري : ( فأعملت نفسي فيما قال فوقفت على السياسة ) لقد كان من نتائج هذه الصلة أن أصبح البحتري تلميذا لأبي تمام الذي تعهده بالوصية والنصيحة حتى تخرج عليه وظل صنيعة لأبي تمام يردد صداه ويترسم خطاه وحبيب يرشده ويعضده لأنه طائي مثله حتى قال له يوماً : ( أنت والله يا بني أمير الشعراء غداً بعدي ) فصدق وأصبح البحتري بعد وفاة أبي تمام سائراً لشعر طائر الذكر إماماً في الأدب والقريض
*= جاء شعره فصيحاً جزلاً سلساً واضح الأسلوب لا غموض فيه ولا تعقيد فقد اختار الشاعر الألفاظ المستعملة وابتعد عن الألفاظ الحوشية المستكرهة واستعمل البديع بحكمة وحسن تصرف فلم يجر الغموض إلى معانيه , ولم يفرط فيه إفراط أبي تمام , ولم يبالغ في استخدامه ولم يتعمق في أغواره , كما أن شعره في أغلبه موجز غير مطول يقول :
والشعر لمح تكفي إشارته *** وليس بالهذر طولت خطبه
ولهذا صار للبحتري طريقة خاصة به في العذوبة والسهولة والفصاحة مع الجزالة فتن بها معاصريه , ولعل من أعظم الميزات أن شعر البحتري يسمى سلاسل الذهب لتناسبه , وعذوبته وجماله , وهذا يدل على أن شعره يمتاز بصفات قل أن توجد عند أغلب الشعراء فهو كما قيل : موسيقى عليم بالنغم عنده لون من ألوان التكرار يحمده له النقاد هو التكرار النغمي الذي يعلن قدرته على التنغيم والترنم والاستمتاع بموسيقى التفعيلات وإظهار الانسجام بينها وبين لفظ البيت وكلماته المؤلفة .
يقول الآمدي : ( وليس الشعر هند أهل العلم به إلا حسن التأتي وقرب المأخذ واختيار الكلام ووضع اللفاظ في مواضعها وان يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله , وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له وغير منافاة لمعناه , فإن الكلام لا يكتسي البهاء والرونق إلا إذا كان بهذا الوصف وتلك طريقة البحتري ) ويقول أيضاً : ( إن شعر البحتري صحيح السبك حسن الديباج وليس فيه سفساف ولا ردئ مطروح ولهذا صار مستويا يشبه بعضه بعضاً ) . ويقول أيضاً : ( البحتري أعرابي الشعر مطبوع على مذهب الأوائل وما فارق عمود الشعر ) فجدد في المعاني وحافظ على الألفاظ والأساليب .
*= انحصرت ثقافة البحتري في الثقافة العربية القديمة ولم يتصل بالثقافات الأجنبية المتعددة التي اتصل بها أبو تمام , وإن تسرب إلى شعره شيء منها لاتصاله الوثيق بأبي تمام , كما نلاحظ ان البحتري أشد تعلقاً بالحضارات من تأثره بالثقافة العقلية وذلك لأن البحتري كان يؤمن بأن الشعر لا يمكن أن يكون صناعة عقلية تقوم على المزاوجة بين العقل والشعور أو الامتزاج بين الفن والثقافة كما كان عند أبي تمام , وإنما كان يؤمن بأن الشعر عملية فنية تعتمد على العاطفة والشعور ولا صلة لها بالمنطق ولا دخل للثقافات فيها , لأن الغاية من الشعر عنده جمالية فحسب , وهو يصرح بمذهبه الفني في هذه الأبيات التي يقول فيها مدافعاً عنه :
كلفتمونا حدود منطقكم *** والشعر يُغني عن صدقه كذبه
ولم يكن ذو القروح يلهج *** بالمنطق ما نوعه وما سببه
والشعر لمح تكفي إشارته *** وليس بالهذر طولت خطبه
*= والاستعارة عند البحتري تختلف تمام الاختلاف عن الاستعارة عند أبي تمام فهي ليست أكثر من تلك الصورة المألوفة التي نعرفها في الشعر العربي القديم , تلك الصورة التي تعتمد على التشبيه .
والجناس عند البحتري لا ينتشر انتشاره عند أبي تمام ولا يختلط أو يمتزج بعنصر التصوير الذي كان أبو تمام يعتمد عليه اعتماداً كلياً كبيراً في تشخيص معانيه وتجسيم صوره .
أما اللون البديعي الذي أفرط فيه البحتري إفراطاً غير عادي فهو الطباق , فالبحتري مفتون باستخدام الطباق ونشره في شعره فتنة شديدة ليثير في جوه تلك المفارقة الفنية التي تضفي عليه جمال الأضداد حين تجتمع – ولكنه مع ذلك – لم يصل إلى ذلك البدع الرائع الغريب الذي وصلت إليه { نوافر الأضداد } عند أبي تمام وإنما هو طباق ساذج بسيط لا تعقيد فيه ولا تعب ولا عناء ولا مشقة , لا يعدو وضع لفظة في مقابل لفظة . وكأنما كان البحتري يعتمد في صياغته على تداعي المعاني فإذا ذكر الأبيض تداعى الذهن إلى الأسود وإذا ذكر الضحك تداعى إلى الذهن البكاء ولعل هذا هو الذي جعل الدكتور شوقي ضيف يطلق عليه طباق الذاكرة وهو طباق نستطيع ان نرى صورة منه في قوله :
مني وصل ومنك هجر *** وفيّ ذل وفيك كبر
وما سواء إذا التقينا *** سهل على حلة ووعر
قد كنت حراً وأنت عبد *** فصرت عبداً وأنت حر
أنت نعيمي وانت بؤسي *** وقد يسوء الذي يسر
وأما عمق الفكرة وطرافة الصورة وغرابتها فأمور لم يعرفها البحتري ولم يفكر فيها لأن مادتها العقلية لم تتوافر لديه , وأدواتها الفنية ظلت بعيدة عن متناول يديه . والبحتري شديد الحرص على اختيار ألفاظه وانتقائها بحيث تتلاءم مع الموضوع يقول :
وبديع كأنه الزهر الضاحك *** في رونق الربيع الجديد
ومعان لو فصّلتها القوافي *** هجّنت شعر جرول ولبيد
حزن مستعمل الكلام اختيارا *** وتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدركن *** به غاية المرام البعيد
فهو يعلن في هذه الأبيات أن مذهبه في صياغة شعره اللغوية يعتمد على حسن اختيار اللفظ السهل القريب الذي يشبهه بزهر الربيع الضاحك الجميل والذي يعبر عن المعنى مهما يكن بعيدا من أقرب سبيل . ولذلك نلاحظ في أكثر شعره أن الغرابة اللفظية تختفي تماماً لتحل محلها الناقة والرشاقة والجمال .
*= وهناك شيء آخر يميز أسلوب البحتري سجله له القدماء والمحدثون وهو تلك الموسيقية التي يرتفع رنينها في شعره ارتفاعا ربما لم يعرفه الشعر العربي إلا عند الأعشى صناجة العرب . وتقوم الموسيقى في شعره على أساسين : تنسيق ألفاظه وتوزيعها موسيقيا , ثم مطابقة هذه الألفاظ من الناحية الصوتية للمعاني التي تدل عليها .
يقول ابن الأثير في المثل السائر : ( نساء حسان عليهن غلائل مصبغات وقد تحلين بأصناف الحلي ) فكأن من يقرأ شعر البحتري يشعر أنه أمام مواكب من العذارى الجميلات تخطر أمامه أو كأنه في معرض من معارض الجمال الفاتن .
*= وإذا كانت قصيدة عمورية لأبي تمام قد اختطت للشعراء من بعده منهجاً جديداً وهو المديح الحربي والزخرف العقلي فإن قصيدة الإيوان للبحتري كانت منهجاً فريداً وفتحاً جديداً في الأدب العربي ذلك هو البكاء على الحضارات والممالك الزائلة .
*= والوصف عنده وسيلة وأداة من أدوات التعبير الشعري عن خلجات وهواجس تضطرب بنفسه , ولم يقف بالوصف عند الطبيعة وإنما تعداه إلى القصور فوصف الكامل ووصف الإيوان ووصف البركة ووصف البرق ووصف الذئب .
وامتاز الشاعر بالوصف الحسي والخيالي , فالحسي هو الذي يتناول المحسوسات فيصورها بصورة رائعة يرسمها كما يراها ويشاهدها , همه اكتشاف التشبيه الذي يشخص بين مشهدين مختلفين وهذا مثل وصف المدن والقصور والحيوانات .
وأما الوصف الخيالي فهو النظر إلى ما وراء المحسوسات فهو لا يقف عند ما يراه بل يتعداه إلى إيجاد أشياء يفتحها خياله أمامه بحيث يجعل المرئيات أساساً لغير المرئيات ويولد من المحسوسات صوراً مجردة يرسمها للناس تأملات وذكريات وهذا النوع لم يهتم به الشعراء القدماء , ونجده بدعاً جديداً ماثلاً عند شاعر الوصف البحتري في وصف إيوان كسرى .
أولاً : القصيدة . انظر : الديوان1/ 190-194
1 صنت نفسي عما يدنس نفسي *** وترفعت عن جدا كل جبس
2 وتماسكت حين زعزعني الدهـ *** ـر التماسا منه لتعسي ونكسي
3 بلغ من صبابة العيش عندي *** طففتها الأيام تطفيف بخس
4 وبعيد ما بين وارد رفه *** علل شربه ووارد خمس
5 وكأن الزمان أصبح محمو *** لا هواه مع الأخس الأخس
6 واشترائي العراق خطة غبن *** بعد بيعي الشآم بيعة وكس
7 لا ترزني مزاولا لاختباري *** بعد هذي البلوى فتنكر مسي
8 وقديما عهدتني ذا هنات *** آبيات على الدنيات شمس
9 ولقد رابني ابن عمي *** بعد لين من جانبيه وأنس
10 وإذا ما جفيت كنت جديرا *** أن أرى غير مصبح حيث أمسي
11 حضرت رحلي الهموم فوجهـ *** ـت إلى أبيض المدائن عنسي
12 أتسلى عن الحظوظ وآسى *** لمحل من آل ساسان درس
13 ذكرتنيهم الخطوب التوالي *** ولقد تذكر الخطوب وتنسي
14 وهم خافضون في ظل عال *** مشرف يحسر العيون ويخسي
15 مغلق بابه على جبل القبـ *** ـق إلى دارتي خلاط ومكس
16 حلل لم تك كأطلال سعدى *** في قفار من البسابس ملس
17 ومساع لولا المحاباة مني *** لم تطقها مسعاة عنس وعبس
18 نقل الدهر عهدهن عن الـ *** ـجدة حتى رجعن أنضاء لبس
19 فكأن الجرماز من عدم الأنـ *** ـس وإخلاله بنية رمس
20 لو تراه علمت أن الليالي *** جعلت فيه مأتما بعد عرس
21 وهو ينبيك عن عجائب قوم *** لا يشاب البيان فيهم بلبس
22 وإذا ما رأيت صورة أنطا *** كية ارتعت بين روم وفرس
23 والمنايا مواثل وأنوشر *** وان يزجى الصفوف تحت الدرفس
24 في اخضرار من اللباس على أصـ *** ـفر يختال في صبيغة ورس
25 وعراك الرجال بين يديه *** في خفوت منهم وإغماض جرس
26 من مشيح يهوى بعامل رمح *** ومليح من السنان بترس
27 تصف العين أنهم جد أحيا *** ء لهم بينهم إشارة خرس
28 يغتلي فيهم ارتابي حتى *** تتقراهم يداي بلمس
29 قد سقاني ولم يصرد أبو الغو *** ث على العسكرين شربة خلس
30 من مدام تظنها وهي نجم *** ضوّأ الليل أو مجاجة شمس
31 وتراها إذا أجدت سرورا *** وارتياحا للشارب المتحسي
32 أفرغت في الزجاج من كل قلب *** فهي محبوبة إلى كل نفس
33 وتوهمت أن كسرى أبرويـ *** ـز معاطي والبلهبذ أنسي
34 حلم مطبق على الشك عيني *** أم أمان غيرن ظني وحدسي
35 وكأن الإيوان من عجب الصنـ *** ـعة جوب في جنب أرعن جلس
36 يتظنى من الكآبة إذ يبـ *** ـدو لعيني مصبح أو ممسي
37 مزعجا بالفراق عن أنس إلف *** عز أو مرهقا بتطليق عرس
38 عكست حظه الليالي وبات الـ *** ـمشتري فيه وهو كوكب نحس
39 فهو يبدي تجلدا وعليه *** كلكل من كلاكل الدهر مرسي
40 لم يعبه أن بز من بسط الديـ *** ـباج واستل من ستور المقس
41 مشمخر تعلو له شرفات *** رفعت في رؤوس رضوى وقدس
42 لابسات من البياض فما تبـ *** ـصر منها إلا غلائل برس
43 ليس يدرى أصنع إنس لجن *** سكنوه أم صنع جن لإنس
44 غير أني أراه يشهد أن لم *** يك بانيه في الملوك بنكس
45 فكأني أرى المراتب والقو *** م إذا ما بلغت آخر حسي
46 وكأن الوفود ضاحين حسرى *** من وقوف خلف الزحام وخنس
47 وكأن القيان وسط المقاصيـ *** ـر يرجعن بين حو ولعس
48 وكأن اللقاء أول من أمـ *** ـس ووشك الفراق أول أمس
49 وكأن الذي يريد اتباعا *** طامع في لحوقهم صبح خمس
50 عمرت للسرور دهرا فصارت *** للتعزي رباعهم والتأسي
51 فلها أن أعينها بدموع *** موقفات على الصبابة حبس
52 ذاك عندي وليست الدار داري *** باقتراب منها ولا الجنس جنسي
53 غير نعمى لأهلها عند أهلي *** غرسوا من زكائها خير غرس
54 أيدوا ملكنا وشدوا قواه *** بكماة تحت السنور حمس
55 وأعانوا على كتائب أريا *** ط بطعن على النحور ودعس
56 وأراني من بعد أكلف بالأشـ *** ـراف طرا من كل سنخ وأس
*= ثانياً : بيان المفردات :
( جدا : عطاء , جبس : لئيم جبان فاسق , تماسكت : تجلدت , النكسة : عودة المرض بعد البرء , البلغ : جمع بلغة وهو ما يتبلغ به من العيش , وارد رفه : الوارد : الذي يرد الماء متى شاء . والرفه من العيش : الطيب اللين , العلل : ورود الماء ثانية . الخمس : من أظماء الإبل , وهي أن ترعى ثلاثة أيام وترد الماء في الرابع وتشرب في الخامس . لا ترزني : رازه جربه . مزاولا : محاولا . الهنات : جمع هناة أي داهية , والمراد صعبة ذات شماس ومراس وآبيات : ممتنعات . شمس : عنيدة . ابن عمي : قيل : الراهب عبدون بن مخلد , وقيل الخليفة المتوكل . القبق : جبل يسمى الآن جبال القوقاز . خلاط ومكس : مدينتان . أبيض المدائن : أحد قصور كسرى , المدائن : اسم لعاصمة الفرس في العراق . عنسي : ناقتي , محل من آل ساسان : مكان باه آل ساسان , وهو ملوك الفرس آخر الملوك بعد دخول الإسلام إلى بلاد فارس .
الجرماز : الإيوان العظيم . أخلاقه : بلاه .لا يشاب : لا يخلط . اللبس : الاختلاط والإشكال وعدم الوضوح . مواثل : قائمات . يزجي : يسوق . الدرفس : راية الفرس . الخفوت : السكوت . الجرس : الصوت أو خفيه . مشيح : المقبل بحذر وجد . عامل الرمح : صدره . المليح : المحاذر خوفاً . السنان : نصل الرمح . يغتلي : يتعاظم . تتقراهم : تتبعهم
أنطاكية : مدينة شمال سوريا انتصر فيها الفرس على الروم عام 540م . ارتعت : خفت , أنوشروان : هو كسرى الأول , ورس : زعفران .
لم يصرد : لم يقلل . أبو الغوث : ابن البحتري يحيي . خلس : اختلاس . مجاجة الشمس : شعاعها . أجدت : أحدثت وجددت . المتحسي : المتجرع جرعة بعد جرعة . كسرى ابرويز : حفيد كسرى انو شروان . معاطى : يعاطيه الشراب يعني يشاربه . البلهبذ : من كبار المغنيين عند الفرس . الحدس : التوهم . الجوب : الخرق . الأرعن : الجبل ذو الرعن . وهو أنف يتقدم الجبل . الجلس : الجبل العالي . الكلكل : الصدر . مرسى : ثابت . مشمخر : طويل عال . رضوى : جبل بالمدينة المنورة . قدس : جبل بنجد . فلائل : جمع فلالة وهي الشعر المجتمع . البرس : القطن . النكس : المقصر عن غاية النجدة والكرم أو الرجل الضعيف . ضاحين : في الضحى . خنس : متأخرين . يرجعن : يرددن الصوت بالغناء . حوء : سمرة الشفه . لعس : جمع لعساء . وهي الجارية التي بها سواد مستحسن في الشفه . السنور : كل سلاح من حديد . حمس : شجعان . أرياط : قائد الجيش الذي غزا اليمن . الدعس : الدوس والطعن . السنخ : الأصل والمنبت . والأس : أصل كل شيء .
*= مناسبة القصيدة :
لم يذكر الرواة سبباً واضحاً لنظم هذه القصيدة ولكن الشاعر ضمن قصيدته علتين لذلك : الأولى : في أول القصيدة وهي هروبه وفراره من الهموم والأحزان لاستبداله العراق بالشام , ولنبو ابن عمه وجفاه إياه مما جعله يلجأ إلى بقايا الإيوان يتناسى الهموم ونلاحظ هذه العلة في البيات الأربعة الأولى .
والثانية : يذكرها في نهاية القصيدة حيث بكى الإيوان وليست الدار داره ولا الجنس جنسه , وما ذلك إلا لأن لأهله نعمى عند أهله حين أيدوا أهل بلاده عندما أغار الأحباش على اليمن حيث انتصر كسرى لها , فهو يرثي دولة الفرس ومجدها الزائل وهذا في أبياته الستة الأخيرة وأما من ذهب إلى أن القصيدة نظمت في مدح المتوكل ووزيره الفتح فبعيد لأننا لا نجد أي إشارة أو تلميح إلى ذلك . ولا صحة أنها نظمت عقب مقتل المتوكل مباشرة , فالمحققون على أنها نظمت بعد هذا الحادث بثلاث وعشرين سنة أي سنة 270هـ .
*= قال أبو هلال العسكري في كتابه المعاني إن الصولي قال : سمعت عبد الله بن المعتز يقول : لو لم يكن للبحتري إلا قصيدته السينية في وصف إيوان كسرى فليس للعرب سينية مثلها وقصيدته في البركة { ميلوا إلى الدار من ليلي نحييها } واعتذاراته في قصائده إلى الفتح بن خاقان التي ليس للعرب بعد اعتذارات النابغة إلى النعمان مثلها , وقصيدته في مدح أحمد بن دينار التي وصف فيها ما لم يصفه أحد قبله أولها { ألم تر تغليس الربيع المبكر } ووصف حرب المراكب في البحر لكان أشعر الناس في زمانه فكيف إذا أضيف إلى هذا صفاء مدحه ورقة تشبيهه .
*= شرح الأبيات من ( 1- 10 )
هذه المقدمة غير التقليدية طراز جديد من الشعر لم تألفه القصيدة العربية من قبل ترابطت عناصرها ودارت أبياتها حول محور ذات الشاعر العميقة ونفسه المأزومة من خلال التركيز على النفس في البيت الأول من خلال الترديد والتكرار , فهو يفخر ويشكو ويتحدث عن نفسه المترفعة . ولتوضيح هذا التصاون والترفع قدم لوصفه هذا الإيوان بمقدمة بدأها بالتبرم والشكوى وقرنها بالاعتزاز ومقاومة الدهر وحوادثه التي عدت عليه تطوح به يمنة ويسرة وتضربه بعنف لتكسر عزيمته وتلين عريكته لكنه ظل متماسكا صامدا متجلداً أمام هذه المصائب التي انقلبت عندها المقاييس فارتفع اللئيم وانخفض الكريم , لا يتزعزع ولا يترنح ولا يقبل الوضاعة يعيش عيشة الكفاف مهما اشتدت عليه أزمات المحن وبلايا الزمن فلا يحاولنّ أحد أن يختبرني بعد هذه المصيبة فأنا لا زلت على قديم عهدي ذا هنات آبيات على الدنيات شُمس .
والشاعر يشكو جفاء ابن عمه له بعد أن كان لين الجانب , ويتحدث عن همومه وأحزانه التي عصرت فؤاده ذلك لأنه استبدل وبغباء وخسارة العراق والتي كنّى عنها بالشراء بالشام وطنه والتي كنّى عنها بالبيع فجاء سفره إلى طلول الإيوان تفريجا لكربته وتسلية لفرط حزنه وترفيها عن نفسه , وعساه – أعني الإيوان – أن يتجاوب معه نظراً لما أحسه من تشابه بين واقعه النفسي وواقع الإيوان , لذلك نراه يسقط ما يدور في نفسه على ما وجده من آثار بالية بقيت من الإيوان .
بروز الفعلين صنت وترفعت في مفتتح مصراعي مطلع القصيدة إيذان بالرفض واستعلاء على الفعل تفسيري بالإذلال , ولعل متسائلاً يجد في المصراع الثاني تكراراً للأول والتكرار توكيدي لكنه هنا يؤدي وظائف أخرى أهمها أنه يفسر الأول , ويفصله ويزيده عمقاً ذلك لأن صيانة النفس دالة على إحاطتها بما يعزل عنها ما يسيء إليها .
وفي هذا إشارة إيمائية إلى التعزل والانقباض والتراجع والانحسار والضعف فهي حركة ارتكاسية أفقية , أما الترفع فدال على حركة أمامية استعلائية فوقية .
والمتأمل في ما صانت الذات الشاعرة عنه نفسها سيجدها تصوّنت عما يدنسها , أي إنها كانت سيصيبها الدنس لولا تصونها , أي إنها كانت سيصيبها الدنس لولا تصونها , فهي في موقع المفعولية . أما الترفع فكانت فيه الذات الشاعرة في موقع المفعولية .
وفي كلتا الحالين المفعولية والفاعلية ارتدت الذات إلى داخلها واستمدت قوتها للتصون من رفض الاستجداء فكلاهما ارتقاء .
*= الأبيات من ( 11 – 17)
يفتتح رحلته إلى الإيوان { المعادل الموضوعي } بعد أن قدّم بالأزمة والموقف الشعوري بهذين البيتين وهما الرباط بين المقدمة والموضوع :
حضرت رحلي الهموم فوجهـ *** ـت إلى أبيض المدائن عنسي
أتسلى عن الحظوظ وآسى *** لمحل من آل ساسان درس
فيرى أنه لما حضرته الهموم تاقت نفسه إلى التنفيس عن كُربها فتوجه إلى أبيض المدائن ممتطياً ظهر ناقته القوية ليتسلى وينسى همومه ويعزيها بما أصاب ذلك الصرح الشامخ ما يخفف عنه وطأة الحزن .
حقاً إنها رحلة تفارق الرحلة المعهودة في الشعر العربي فالشاعر العربي العاشق القديم يقف على أطلال محبوبته فيبكي ثم يرحل على ظهر ناقته يعبر بها الفلوات واصفاً إياها , متوسلاً بها لإظهار معاناته .
هذا حاله , أما حال البحتري فلم تستغرق الرحلة عنده بيتاً واحداً , فهو يحضر راحلته ويمضي إلى الإيوان دون أن يذكر لنا شيئاً عن راحلته , وكأنه يريد أن يحتفظ بمادة الوصف للإيوان لا أن يفرغها في الراحلة والطريق .
ويقف أمام هذا الإيوان الضخم المرتفع وكانه لم يبن بناء بل هو جبل نُقب من إحدى جهاته حزيناً حين يتذكر بناته وساكنيه وينظر إلى ارتفاعه فيراه لارتفاعه يضعف العيون إذا نظرت إليه وهو لاتساعه وكثرة ما فيه من جوار وخدم وحاشية خال موحش مقفر تلفه الكآبة بعد أن كانت تميس في حللها متمتعة بعيشة ناعمة نقل الدهر عهدهن عن الجدة حتى رجعن أنضاء لبس .
ثم يتحدث عن الأطلال والمنازل العربية , فلولا انحيازه لقومه العرب لأقر بعجزهم أن يصنعوا مثل هذا الأثر الباقي , إنه مفتون ومغرم بحضارة الفرس وهو مع هذا لا يريد إثارة الأحقاد حينما يلمح إلى الفوارق بين العرب والفرس ولكنه يُظهر أثر الإيوان في نفسه :
حلل لم تكن كأطلال سعدى *** في قفار من البسابس ملس
ومساع لولا المحاباة مني *** لم تطقها مسعاة عنس وعبس
*= الأبيات ( 18- 50 )
يتابع البحتري وصف القصر وما فيه وما حوله فيذكر الجرماز وهو بناء كان عند أبيض المدائن , تهدم وزال أثره وبات موحشاً قفراً لا أنيس ولا ونيس , قد تصدع بنيانه وصيرته الليالي مأتماً قاتماً بعد أن كان سكن الملوك وبعد أن كان يحيا فرحة أعراس دائمة , والشاعر يرى أن ما بقي من آثار الجرماز حقيق بأن ينبئنا عن عجائب القوم وما كانوا عليه من قوة ومجد .
والبحتري عندما يصور الجرماز لا يكتفي بنقل الظاهرة التي أمام عينيه بل يحاول أن يستقرئ المعني الذي يختبئ وراءها , فالجرماز لم يعد كما كان بل تغيرت أحواله وأصبح رمزاً أو معنى فرآه منهدماً فأدرك معناه وغشيه بالشعور الإنساني فتراءى له أن ثمة مأتماً غير مشاهد , ينوح من بين تلك الأعمدة ويصور لنا مشهداً شاخصاً على جدران الجرماز ذلك هو مشهد معركة انطاكية الذي هو جزء من الجرماز كما أن الجرماز جزء من قصر المدائن وهنا نلحظ الربط والتسلسل في هذا الوصف .
*= ثم يرسم لوحة كلية ناطقة مرسومة على جدار القصر إنها صورة أنطاكية تحكي وقائع قصة حرب بين ملك الفرس أنوشروان وملك الروم , وهي صورة رائعة دقيقة يحسبها الرائي حقيقية وأنها في ساحة القتال وقلّ أن يخطر بباله أنه أمام صورة جدارية مرسومة على حائط رسمها الخيال . وهو يقدمها بجزئياتها فيصف هيئة الجنود المقاتلين ولباسهم العسكري الأخضر والأصفر بينما قائدهم أنو شروان يسوق الصفوف وينظمها تحت رايته قد لبس ثوباً أخضر واعتلى صهوة جواده الأصفر تملؤه العظمة والزهو والقوة .
وما تركيزه على هذا الدرفس – العلم المقدس – إلا دلالة تتجاوب مع نفسية الشاعر الذي يستجلي عظمة الفرس بالذات .
ولم يفت البحتري أن يصور لنا حالة الجنود المتعاركين وما هم عليه من صمت وأصوات خافتة منهم من يهاجم عدوه برمحه فيطعنه , ومنهم من يقي صدره من الأسنة بالترس .
وهو يراهم جد أحياء وإن لم يسمع لهم صوت وعراك لأن في وضعهم ما يدل على اكتفائهم بالإشارة كالخرس لا ينطقون , ولكنه لا يلبث أن يعود إلى نفسه فيتذكر أنه أمام صورة مرسومة على حائط ثم يغلب على حسه فيرتاب فيما يشاهد فيمد يده ليتحسس هذه الصورة للتأكد أهي حقيقة أم هي ضرب من الخيال .
وينتقل الشاعر من وصف المعركة إلى الحديث عن تلك الكأس التي ناولها إياه ابنه أبو الغوث فاصطبح بها في الإيوان وهو ينظر إلى العسكريين , وتلك الخمر فريدة تشبه النجم أو مجاجة الشمس , وعندما دارت الخمر برأس البحتري توهم أن كسرى نديمه والبلهبذ أنيسه .
البنية الجوهرية في هذه القصيدة ممثولة في قوله :
حلم مطبق على الشك عيني *** أم أمان غيّرن ظني وحدسي
فالبيت عاج ضاج بكل ما في القصيدة من تحولات إذ تكثفت فيه اللحظات الثلاث : الطرفيتان ؛ ما كانت الذات عليه , وما آلت إليه مع كل ما تختزنه من هواجس ومخاوف , والظرفية الآنية الممثلة للحظة الحرجة .
والبيت إلى ذلك يختزن الانقلاب في كل شيء في واقع الذات التي آلت من القصر إلى الفقر ومن الترف إلى الشظف ومن الأمن إلى الدعة والرعب والفاقة ومن الإقامة المطمئنة إلى الترحال . وفي التقلب في اللحظة نفسها : هل يكون ما حدث صحيحاً واقعاً أو أنه مجرد وهم ستنجلي عنه العينان برهة ؟ إنه الحلم المطبق فالعينان لا تريان شيئاً سواه لكن الشك لا يترك مجالاً لطمأنينة . وتسير الذات الشاعرة من الحلم إلى الأماني ومن الشك إلى الظن والحدس اللذين يتغيران فلا يثبت بهما شيء ولا يثبتان هما على شيء .
الذات الشاعرة في القصيدة واقعة تحت وطأة ثلاث حالات تتناهبها وتملك عليها أمرها , هي :
ما كانت عليه قبل انقلاب الحال { القبلية }
ما آلت إليه بعد الانقلاب { البعدية }
ردُّ فعلها على الانقلاب { الظرفية الآنية }
ويعود إلى وصف الإيوان بعد أن شرب الخمر فيخلع عليه الصفات الإنسانية فيصوره شخصاً حياً تمزقه الكآبة وكأنما هو أليف غاب عنه أنس أليفه فالتاع لمفارقته وغيابه , أو زوج محزون لفراق عروسه فانعكست أيامه ولياليه , بل لقد انعكست ليالي هذا الإيوان فغربت عنه كواكب السعد وأطلت عليه كواكب النحس ولكنه ظل شامخاً قائماً يبدي الصبر والتجلد رغم ما فعله الدهر به إذ أناخ بكلكله عليه وجثم فوقه فرأى الذل بعد العز حين استلت منه ستور الدمقس وبسط الديباج فهو كالغانية الحسناء التي لم يزدها العري إلا بهاء وجمالاً .
وتتماهى الذات الشاعرة مع الإيوان يقول :
وكأن الإيوان من عجب الصنـ *** ـعة جوب في جنب أرعن جلس
يتظنى من الكآبة إذ يبـ *** ـدو لعيني مصبح أو ممسي
مزعجا بالفراق عن أنس إلف *** عز أو مرهقا بتطليق عرس
عكست حظه الليالي وبات الـ *** ـمشتري فيه وهو كوكب نحس
فالإيوان تجسيد رمزي للذات الشاعرة وكونه كالجوب في جنب أرعن جلس تمثيل رمزي آخر لكون البحتري مستنداً في وجوده – قبل انقلاب الحال – إلى مركز الخلافة والسلطة وتظني الكآبة في الديوان هو عينه تظني الكآبة في الذات الشاعرة لكل من يراهما { الإيوان والبحتري } وكون الإيوان مزعجاً بفراق إلف كان يؤنسه هو نفسه كون الذات الشاعرة مزعجة بفراق إلاّفها الذين عزّ أنسهم , والرهق الذي يبدو على الإيوان هو الرهق الذي بدت عليه الذات الشاعرة بتطليق عرس { حياة } تحبها وتتشهاها .
والليالي التي عكست حظ الإيوان فبات المشتري – وهو كوكب سعد – كوكب نحس هي نفسها الليالي التي عكست حظ البحتري من سعد إلى نحس . إن سريان البنية الجوهرية في الوحدات التركيبية يدل على عمق إحساس الذات الشاعرة بمأساتها ورغبتها الملحة في تجاوز تشظياتها وانكساراتها .
ويتراءى القصر للشاعر مشمخراً عالي البناء تعلوه الشرفات كأنها رؤوس جبال رضوى وقدس يكسوها البياض وكأنها فلائل من القطن مجتمعاً بعضها إلى بعض وينال هذا المنظر إعجاب البحتري إلى درجة أنه لا يدري أو من صنع الإنس للجن أم من صنع الجن للإنس .
ويستمر البحتري في وصفه للإيوان فينطلق به خياله إلى عالم إلى غير منظور فإذا الرسوم الهامدة في التراب تنفض التراب عنها فتتحرك وتنبعث وتضج حولها الحياة وينقله خياله إلى ماضي هذا الإيوان فإذا بمجالس اللهو تعقد وإذا بالوفود مزدحمة بالأبواب متلهفة للمثول أمام صاحب التاج والجواري من كل صنف تغص بهن الغرف والمقاصير وكأنما فارقه ساكنوه أمس أو أمس كان اللقاء والفراق .
ثم يفصح بعد هذا عما ألم بهذه الديار من سرور دائم وفرح مستمر ولكن الدهر ما لبث أن انقلب فأصبحت منازلهم وديارهم كأن لم تكن ويرى أن من واجبه أن يعينها بسفح الدموع عليها .
*= ختام القصيدة ( 51- 56 )
قد أفرغ البحتري همومه بهذه الدموع التي انهلت على عظماء التاريخ فيذكر لنا السبب الثاني الذي دفعه إلى البكاء على مملكة الفرس وتاريخهم , وعلى الرغم من أن الدار ليست داره والأهل ليسوا أهله والجنس ليس بجنسه إلا أنها وقفة وفاء لأناس سبقوا الفضل ووقفوا مع قومه في شدتهم حينما استنجد ملك اليمن سيف بن ذي يزن بكسرى أنو شروان لطرد الأحباش الذين غزوا اليمن فأسرع إلى تلبية رغبته . ثم ما كان من عون في قيام الدولة العباسية وتشييدها , وما رافقها من ازدهار الحضارة العربية .
*= الصورة والحواس :
تكشف القصيدة في مجملها واللوحة في تفاصيلها عن سيطرة الموقف على وجدان الشاعر بكل أبعاده خاصة حين يستوقفه المشهد الحربي الذي تحكيه لوحة انطاكية ( نحس بالحركة الحافلة بالحياة في قوله : المنايا ماثلة على أهبة الاستعداد للانقضاض والاختطاف , يزجي الصفوف , يختال , عراك الرجال , مشيح , يهوي , مليح بترس , جد أحياء ) . فإذا بالعنصر اللوني يغلب عليه انطلاقا من حاسة البصر والتركيز على العناصر المرئية في الصورة من خلال الزي العسكري لكسرى فارس . ثم الانتقال إلى الملمح السمعي منها من خلال أصوات الأنين والاستسلام لدى جند الروم ثم زحام ذلك المشهد الحركي الذي تحكيه الصورة بين مدافع ومهاجم من الجند مع التركيز على سلاح كل فريق وطريقة أدائه .
ثم عودة إلى المشهدين البصري والسمعي واصطناع اللقاء المفزع بينهما من خلال إشارة الخرس . ثم استجماع لكافة الحواس التي يتوجها بحاسة اللمس حين يتتبع بيديه معالم الصورة وكأنه يريد أن يفصل في المسألة هل هي واقع أم مجرد خيال .
وخروجاً من أزمته وحيرته وساحة قلقه يحاول تجاوز الموقف عن طريق المشهد الخمري الذي يميت من خلاله كل تلك الحواس لعله يعيش واقعا آخر تهيئه له الخمر في نشوة سكر تنجيه من أهوال ما يرى ويسمع ويحس وعندئذ تتعدد صور الحوار وصيغه بين جمع المثلين في الحلم والأمنية ثم الظن والحدس مع محاولة دائبة لاستيعاب الزمن مهما تعددت جوانبه وتباعدت فتراته فهي محاولة لاختصاره أو تغييب الذات عن الحقيقة المؤلمة ومن ثم يأتي حديث الخمر بمثابة ترجمة فعلية لموقف نفسي مضطرب عاشه الشاعر حائراً ممزقاً بين الشك واليقين او الحقيقة والخيال أو الوهم والواقع فلعله من خلال الخمرية ينجح في تجاوز المحنة الأليمة التي ساقها إليه قدره .
*= الشاعر يتوقف عند الزمن عبر مصطلحات مختلفة لا يكاد يبين منها سوى خوفه وفزعه من مواجهته تتوحد دلالتها النفسية ويتشابه إيقاعها إلى مدى بعيد , ابتداء من حوار الشاعر المتكرر حول لوحات الماضي ومشاهد الحاضر , وهو تكرار ينهض به بناء على اختيار المدقق للصور , ذلك أن الموقف يستدعي هذا الاختيار المحدد لشرائح التجربة حتى تسير في نسق واحد متقارب يكشفه توقف الشاعر عند الزمن عبر مصطلحات مختلفة لا يبين منها سوى خوفه وفزعه من مواجهته سواء ما تحدث عنه تحت مصطلح { الدهر } أو ما أشبهه من بقية مصطلحاته ( الأيام والزمان – البلوى – الخطوب – الهموم – الليالي ) والتي تحكي تعلقا بموقف الشاعر بين التخاذل والتزعزع والتعاسة والانتكاسة وما أصابه من المس ودوافعه إلى محاولة التسلي والتعزي إضافة إلى حيرته إزاء ما تعكسه حواسه المختلفة من صور هذا الواقع المرير ومشاهد الماضي الكئيب الذي لم يتبين منه على مستوى الصورة سوى الخفوت وإغماض الجرس وإشارات الخرس حتى بدا صريع الضياع بين عزاء النفس من خلال أي من الزمنين الماضي والحاضر على السواء .
وتبقى المساحة التاريخية للنص مرهونة في جانب منها بالواقع العنصري الذي لم يجد الشاعر بدا من التعرض له وكأنه يحاول تبرئة نفسه من أن يتهم في عروبته فراح يعرض لدوافعه ويحكي أسرار اندفاعه إلى الإيوان بالذات من منطلق نفسي خالص لا يعرف موازاة ولا مخادعة مما ينفي عنه تهمة التورط في الشعوبية وتبرئة نفسه من شبهة الاتهام .
*= ثنائية الطباق والمقابلة :
يمثل أول الثنائيتين الحال التي آلت إليها الذات الشاعرة , والآخر يجسد ما كانت عليه , وتتراءى هذه الثنائية في القصيدة عبر لوحات فنية متباينة , يقول :
وبعيد ما بين وارد رفه *** علل شربه ووارد خمس
الثنائية الجوهرية هنا تتجلى بين { وارد الرفه – وارد الخمس } فالإبل التي يخلّى بينها وبين الماء لترده متى شاءت وكيف شاءت تمثيل رمزي للذات الشاعرة في حالها القبلية إذ كانت قريبة من المركز { السلطة – الخلافة } تعيش رغد الحياة . والإبل التي تُلْحى عن ورود الماء مقيدة بأن يأذن لها الولي في الورود بعد أربعة أيام من ورودها السابق لترد في الخامس تمثيل رمزي لحال الذات الشاعرة بعد أن انقلبت أمورها وأصبحت شريدة طريدة تلحى عن الورود خائفة ناجية بنفسها ؛ أي للذات التي فقدت كل شيء بعد أن ملكت كل شيء .
وغير خاف أن الصفة المشبهة { بعيد } دالة على عمق الهوة بين الحالين رغد العيش والأمن وشظفه والرعب . كما أن التركيب { علل شربه } اللصيق بوارد الرفه دال على عمق إحساس الذات الشاعرة بالفقد وألمها بانقلاب الحال .
وتمتد الثنائية الجوهرية التي جسدت انقلاب حال الذات واردة الرفه إلى واردة الحمس لتنطلي على المنازل والديار ذلك المكان اللصيق بالشاعر إذ هو مصدر هواجسه وإحساسه العميق بالتغير والدثور يقول :
حلل لم تكن كأطلال سعدى *** في قفار من البسابس مُلس
ومساع لولا المحاباة مني *** لم تطقها مسعاة عنس وعبس
نقل الدهر عهدهن عن الجدة *** حتى رجعن أنضاء لبس
ومع التماثل الصوتي الجمالي في { عنس وعبس } وما فيها من جمال فإنهما تمثلان ثنائية الجنوب والشمال فأولاهما قبيلة قحطانية يمانية وأخراهما قيسية عدنانية شمالية عرفتا بالعزيمة والشدة والبأس وهي ثنائية تبدو استكمالية .
والثنائية المهمة هي التي يبرزها البيت الأول بما تمثل من حال تلك الديار المقفرة وما فعله الدهر بها حين قلب حالها عن الجدة إلى البلى تلك الحال في عهدها الأول تتماهى معها الذات الشاعرة في حالها الأولى وما انقلاب الدهر عليها ونقله لعهدها عن الجدة لتعود أنضاء لبس سوى تمثيل رمزي في العمق لانقلاب الدهر على الذات الشاعرة كذلك .
ولا يختلف الأمر مع الجرماز عنه مع الحلل تتماهى الذات الشاعر مع الجرماز تماهياً يشي باستمدادها العظمة منه . واستشعارها هيبة الموقف إذ عبرت به قبل ولوجها الإيوان . غير أن امتداد الثنائية يزداد عمقاً وتجلياً كلما تحركت الذات الشاعرة في المكان أفقياً وصولاً إلى الإيوان وكلما تراكم البناء الشعري امتداداً صوب الغاية الكبرى من تشكيل اللوحان النظمية النوعية المنبنية على الثنائية الجوهرية .
إن مراكمة الطباقات والمقابلات ينبغي أن يسير أفقياً وفق الامتداد في المكان وعلوياً رأسياً في العمق من حيث الكثافة والإبلاغ والبلاغة , وهكذا تتدرج الطباقات والمقابلات في الوضوح والعمق لتصبح أجلى وأقرب إلى تجسيد الحالة التي تعيشها الذات الشاعرة نتيجة انقلاب حالها ويتدافع ههنا بلغ صبابة العيش وورد الرفه والحلل ذوات الجدة ليبلغ هذا التدافع أوجه في العرس والأنس الذي كان كما يتدفق تطفيف الأيام البخس وورد الخمس وأطلال سعدى وأنضاء اللبس ليبلغ التدفق كتلته الصلبة في المأتم وبنية الرمس { القبر } إنه الامتداد الأفقي الذي يراكم عمودياً ليبلغ مداه وذروته والإخلال الرامز لإحساس الذات الشاعرة بالوحشة والانقطاع والعزلة دليل انقلاب الحال :
فكأن الجرماز من عدم الأنس **** وإخلاله بنية رمس
لو تراه علمت أن الليالي **** جعلت فيه مأتماً بعد عرس
وتتصاعد البنية الجوهرية بالحال الطباقية وبالتركيبة المقابلية لتنكشف في الغاية عن تفصيل عظيم الأهمية في الانقلاب إنه التنويع الأخير للثنائية الجوهرية وهو في هذه المرة جاء مكثفاً تكثيفاً مدهشاً يجمع ثنائيات عديدة فضلاً عن أنه هُيّئ له بما جعله ذا أثر عميق في الذات الشاعرة بما يسرّي عنها . لكنه يؤثر في المتلقي أيضاً بما يكشف الذات أمامه عارية من كل سبيل تُخي بها شكواها الجليلة من تقلب الدهر واصطبارها الذي اضطرتها عليه الأيام .
وإذا كانت الأيام تصيب الخلق جميعهم بتطفيف بُلغ صبابات العيش عندهم وتجود أحياناً وتحرم أخرى كما يُرى من حال الإبل حين تجود السماء أو تصيب السنة بورود الرفه أو ورود الخمس , وإذا كانت الديار تتقلب الرياح بها وتُبلي جدتها الأحوال وكذلك الثياب والحلل التي تزول جدتها وتخلق وتبلى وإذا كان البناء المحكم المشهود بحسن صنعته يُهجر ويصبح موحشاً بعد أن كان عامراً , إذا كان هذا كله أمراً مقبولاً يعهده البشر جميعاً في حلهم وترحالهم , وتقلب الأحوال بهم من غنى إلى فقر ومن خصب إلى جدب ومن فرح إلى حزن فإن العبرة التي تنال من هذا استشفافا ولمحاً قد تنال يقيناً واعتباراً حقاً حينما ينظر في أحوال من كان لا يظن به انقلاب الحال . ولعل إيوان كسرى الذي ضرب به المثل والذي عرفه العرب جيداً يكون غاية في تجسيد الثنائية التي تعيش الذات الشاعرة غمارها وتسعى حثيثاً للخروج من ربقتها لتتخلص من أزمتها .
*= روافد ساهمت في نضج التجربة :
*- الألفاظ : شاعت في القصيدة ألفاظ الكآبة والحزن والمعاناة فجاءت مكثفة متزاحمة معبرة كاشفة عن معاناته الكامنة في نفسه من مثل : (( التعاسة والدنس والنكس والنحس والأخس والغبن والوكس والبلوى والمس والهموم والأسى والدرس والخطوب والرمس والمأتم والمنايا والخفوت والجرس , وإشارة الخرس والفراق والليالي والدهر وكوكب النحس والأيام وشك الفراق ومحاولة التعزي والتأسي )) . كذلك نرصد ألفاظا حكت أحداث الماضي وكشفت لنا عن صدق تجربته ونضوجها , كالأنس واللين والعرس والعجائب والعمران والصبابة .
*- وساهمت كذلك التلاوين البلاغية في إبراز كآبة الشاعر ومعاناته النفسية يطالعنا :
= التشبيه في قوله : { رجعن أنضاء لبس – كأن الجرماز بنية رمس – ومدام نجم أو مجاجة شمس – كأن الإيوان جوب – يتظنىّ مزعجاً بالفراق أو مرهقاً بتطليق عرس , وصورة الإيوان كائنا حيا وأنه بعد ما استلت منه ستور الدمقس والحرير غدا كالغادة الحسناء بعدما نزع عنها البؤس ما كانت ترتدي من ثياب وحلي فصارت متجردة لا يزيدها تجردها إلا جمالا وحسنا } .
= والاستعارة في قوله : { بُلغ من صبابة العيش – كلاكل الدهر , تطفيف الأيام , وهوى الزمان , وحضرت رحلي الهموم , والإيوان يتظنى , ويزعج ويرهق , واشترائي العراق – بيعي الشام } والكناية في قوله : { بات المشتري ..كوكب نحس } , والمجاز المرسل وعلاقته المحلية حضرت رحلي الهموم .
= والمحسنات البديعية كالطباق { صنت ويدنس وتماسكت وزعزعني وتذكر وتنسي و خافضون وعال مشرف ومأتم وعرس وروم وفرس ومصبح وممسي وأنس وجن }
= والمقابلة : { الصيانة والدنس , والترفع والذل , والتماسك والزعزعة والعيش المرفه وحياة الضنك , والبيع والشراء والجديد والبالي , والإصباح والإمساء , والذكر والنسيان والمأتم والعرس }
= ولجأ البحتري إلى التصريع في مطلع سينيته فجاء إيقاعا متوازنا جميلا يجعل النفس في مواجهة اللئام وكونها في مطلع القصيدة دليل على حب المواجهة والتأسي .
= ويشدنا التجانس الصوتي في قوله : ( نفسي في البيت الاول , وتماسكت والتماسا وتعسي ونكسي في البيت الثاني , وأتسلى وآسى في البيت الثاني عشر , وذكرتنيهم وتذكر في البيت الثالث عشر , والأنس ورمس في البيت التاسع عشر ) .
= وأعطى التكرار القصيدة تلك النغمة الرتيبة الهادئة سواء أكان عن طريق المجانسة كقوله : { طففتها وتطفيف , وبيعي وبيعه , وعنس وعبس , ومشيح ومليح , وجوب وجنب وكلكل وكلاكل } أو في تكرار اللفظة نفسها كقوله : { نفسي نفسي والأخس الأخس , الخطوب الخطوب , إنس لجن , وأول من أمس وأول أمس , والدار داري والجنس جنسي } أو تكرار حرف التشبيه { كأن } الذي ورد ثماني مرات .
= وجاءت كثرة صيغ الجموع كالأيام وآبيات والدنيات والهموم والمدائن والحظوظ والخطوب والعيون وحلل وأطلال والليالي والمنايا مواثل وكلاكل … لتنبئ عن تزاحم وتكاثر واحتشاد واختلاط الأشياء والمشاعر في عمق الشاعر .
= وكذلك صيغ الأفعال جاءت لتفيد التحول والتغير : نقل الدهر عهدهن , غدون , وجعلت , فهناك انتقال من حال إلى آخر وكذا حال الذات الشاعرة قد انتقلت من حال إلى حال ..
*- واعتمد البحتري على الصيغ الصرفية كالأفعال المزيدة وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على المبالغة في الجهد والفعل من مثل : ( صنت على فعلت , وترفعت على تفعلت , أتسلى أتفعل , وتماسكت على تفاعلت , فوجهت : فعللت , وأذكرتنهم : أفعلتنهم , وتتقراهم : تتفعلهم , وتوهمت تفعلت …)
*- وسر التقديم في قوله : { حضرت رحلي الهموم } حيث قدم المفعول به على الفاعل وأخر المفعول به في الشطر الثاني لأنه أراد أن يخص كلمتي الهموم وأبيض المدائن بالاهتمام والعناية والتنبيه فالهموم هي التي قادته إلى أبيض المدائن .
*= ولعبت الموسيقى دوراً رائعاً في كشف تجربته حيث تراقصت أنغامه الحزينة على البحر الخفيف ذي الموسيقى الخافتة الهادئة والذي يناسب جو الأطلال الموحشة في فضاء مدينة مهجورة لا تُسمع فيها الأصوات لكنها تُرى , كذلك يناسب حالة الكآبة والحزن والخشوع ..
وقد اعتمد الشاعر أيضاً في هذا الخفوت على أمور عدة , منها : قافية السين والتي تكررت مائة مرة في القصيدة , فجاءت مهموسة هادئة رقيقة لأن الشاعر وإن كان حزينا مهموما فهو مستسلم هادئ , وجاء السين مكسورا معبرا عن انكسار نفسية الشاعر وما يتخلجها من هموم وضعف فجاء الصوت موحيا بالمعنى خادما له .
وسبب تكراره ليس لأنه حرف الروي بل تكرر لأنه المفتاح الصوتي في القصيدة كلها ففي مطلع القصيدة يتكرر خمس مرات فهو المكون الإيقاعي الأول والصوت المنتظم الفاضح لصيرورة المعنى . ونجده عبر الأبيات وفي آخر الأبيات وفي هذا دليل على أن الإيقاع لا يتوقف عند المستوى العمودي بل جمع بين المستوى العمودي والأفقي .
لقد حضر حرف الصفير في البيت الأول بالسين أربع مرات وبالصاد مرة واحدة وقد تجمعت أصواته في الصدر ولم يظهر منه في العجز إلا صفير الروي . وصدر الطالع أول مصراع يفتح في وجه القارئ وفيه أولى لبنات البناء والأداء التي تحقق اللقيا بينه وبين الشاعر فينعقد بينهما رباط محكم سيحرص الشاعر على تواصله بتكثيف الصفير وتصوير التأزم في أواخر أبيات القصيدة بالروي . والصفير أول صوت وآخر صوت سمعناه من الطالع وهو أيضاً آخر بيت سمعناه من الصدر فمنه كان البدء وإليه كان الانتهاء وقد سمعناه في حشو الصدر أيضاً .
ثم الحروف الموافقة لهذا الخفوت كالشين والصاد والزاي . كذلك تجاور اللفظتين المتوائمتين إما ترادفاً تجنيساً وإما طباقاً كما في قوله : { تعسي ونكسي , عنسي وعبس , والأخس الأخس والجنس جنسي , وسنخ وأس , وظني وحدسي , وجن لإنس , وحو ولعس } .
*- العاطفة :
وهذه القصيدة التي صدرت عن قلب مكلوم وهمس حزين تتسم بعاطفة إنسانية صادقة , فالشاعر حين راودته هذه الأفكار وتمثلت لمخيلته هذه المناظر لم يملك إلا أن يشارك الأطلال البكاء على مجدها الزائل ونجمها الآفل وإن كان عربي لا تربطه بالفرس صلة فليست الدار داره ولا الجنس جنسه ولكنه جبل على حب كل عظيم والإعجاب بكل شريف . ولذا نقول إن العاطفة فوارة وصادقة وعميقة وسامية وثابتة فالعربي يتمثل بغير العربي والحي يعطي من حياته للجماد والجماد يمنح من صلابته للإنسان والشاعر يضفي على موصوفاته من وجدانه فتغدو مرآة صادقة لحالته النفسية .
*= وسينية البحتري الرائعة تتشابه أفكارها وصورها وبعض المعاني والسياقات اللفظية مع رائعة أخرى تلك هي قصيدة الأسود بن يعفر النهشلي التي مطلعها :
نام الخلي وما أحس رقادي *** والهم محتضر لدي وسادي
من غير ما سقم ولكن شفني *** همٌّ أراه قد أصاب فؤادي
حتى يقول : فإذا وذلك لا مهاة لذكره *** والدهر يُعقب صالحاً بفساد
إذ لا يخفى ما بين الواقع النفسي لكلا الشاعرين من أوجه التشابه وملامح الالتقاء حيث تكاد المحاور التصويرية تلتقي وتتفق تبعاً لاتفاق طبيعة التجربة التي دارت حول ماض يكثر كل منهما البكاء عليه وبين حاضر يضيق به إذا قورن بنعيم الماضي وسعادة الحياة فيه .
وتكاد المعادلات الموضوعية تتشابه ذلك أن إيوان كسرى الذي اتخذ منه البحتري ( معادله ) يعد أثرا فارسيا عريقا جار عليه الزمن ( الدهر – المعادل ) حتى حطمه وهدّمه مما يجعله شبيهاً بآثار آل محرق وإياد , وما صوره الأسود من معالم قصورهم أو ما تبقى منها في الخورنق والسدير ذلك أن مشهد الخراب يظل مسيطرا على كل من الشاعرين متسقا مع الحالة النفسية له .
الشاعران اتخذا من المقدمة مشجباً يعلق عليه همومه وآلامه وراح يصب من خلاله غضبه على الزمن . وتبقى لوحة تصوير الخمر مسلك هروبي يتمنى كلاهما أن يتجاوز به حاضره وأن يعود عبر حواجز الزمن إلى الماضي بما شهده من حيوية الشباب ورونقه .
وكلاهما يستوقفه مشهد الرحيل حتى راح يصور في قصيدته من منطق الحزن والكآبة فما كان الرحيل عند كل منهما إلا إيذاناً بمزيد من الاكتئاب والتشاؤم وهو رحيل لا يجد فيه الشاعر رفقة إلا همومه التي تكاد تزاحمه على ناقته .
*= وختاماً يتضح من هذا العرض أن القصيدة تشكل وحدة مترابطة العناصر متصلة الأجزاء فقد وفق البحتري في وصف إعجابه بالإيوان وبعثه من جديد ورسم شعوره وهو امام أطلاله الدارسة كما أدهش الشاعر معاصريه بهذا الوصف الخيالي الرائع الذي لم يعهدوه من قبل وهو البكاء على الممالك الزائلة لأن عواطف الشعراء كانت عواطف فردية فكان الشاعر يبكي وجده ويندب الرسوم ويتوجع للأطلال إذ لم يهتم العرب ببكاء الممالك والتفجع لما يحل بالشعوب على أنهم لم يغفلوا عن ذكر ما طوى الدهر من حضارتهم كما تغنوا بما كان لأسلافهم من مدنية وإن خلطوا ذلك بالتحسر على ما درس من معالم اللهو والتحزن لما عفا من ملاعب الشباب كالسود بن يعفر النهشلي ومتمم بن نويرة ولكنها لا تمثل الوقفات الفنية التي تشد إليها الرحال كوقفة البحتري عند رسوم الإيوان فأتى بما لم يأت به غيره من الشعراء مما جعل النقاد يشهدون ويشيدون بعبقريته التي قامت على قوة الخيال ودقة التصوير وبراعة الوصف .
والقصيدة تمزج بين القديم والجديد حيث تختلط مظاهر البداوة بمظاهر الحضارة الجديدة فمن ذكر الأطلال والبسابس والناقة والرحل إلى ذكر القصور والشرفات والدمقس والديباج والحرير .

تأملات في نص (بين بين) للشاعرة:هند النزاري
تأملات في نص (بين بين) للشاعرة:هند النزاري
النص
————–
تَـنـازَعَ فــي أفــقِ الـهوى الـقلبُ والـفِكرُ
فـلـلـنّارِ مـــا تَــحـوِي ولـلـريـحِ مـــا تـــذرُو
ولــي مــن كــلا الـخَـصمين بــوحٌ مُـطوَّلٌ
بِــصــمــتٍ وإفـــصـــاحٍ وأحــلاهُــمـا مُـــــرُّ
فـمـا زلــتُ أحــدُو الآهَ فـي كـلِّ عَـاشقٍ
يُــزلـزلـهُ الـمَـغـنَـى ويَـلـهـو بـــه الـشِّـعـرُ
ومــا زلــتُ أسـتـدعى الــرُّؤى كــلَّ لـيلةٍ
ومـــا زالَ لـــي فــي كــلِّ تَـهـويمةٍ سِــرُّ
ولـكـنـني أُخــفِـي عـــن الـقـلبِ مــا بــه
فــيُـدنـيـهِ إغـــــواءٌ ويـــنــأَى بـــــه زجْـــــرُ
تُــجــرِّؤُهُ الــبَـلـوى عــلـى الــبـوحِ بُــرهـةً
ونَــــجـــواهُ آثـــــــامٌ وأشـــجــانُــهُ كُـــفـــرُ
فــيَـقـتـاتُ بــالـصـمـتِ اعــتــزالًا وغــربــةً
فـحـيـلـتُـهُ الــسّــلـوى وقــانـونُـهُ الــصَّـبـرُ
وقـــد يـتـحـدَّى الــكـونَ بـالـنـبضِ بـيـنـما
تَـــطـــوفُ بـــــه الــدنــيـا وآفـــاقُــهُ قَـــبــرُ
فــإن دَاهَـمَـتْ أشـتـاتَهُ هـمـسةٌ مَـضى
على حدِّ سيفِ الصّحْوِ يهذِي به السُّكْرُ
أقــــولُ لــــه يــــا أيــهــا الــغِــرُّ مــــا لــنــا
عـلـى هــذه الأفـكـارِ فــي عـصْـفِها أمْـرُ
وأنــسَـى الـــذي خَـوّفـتُـهُ مــنـه عـنـدما
يَـعِـنُّ عـلـى بـالِ الـهوى الـطَّيُّ والـنَّشْرُ
فــيَــزرعُ فــــي رَوعِــــي الـحـنـينَ لـعـلّـنا
نــجُــرُّ الــصَّــدى تِـيـهًـا فــنـرْوَى ونـخـضَـرُّ
ويَــعـتـادُنـي سِـــحــرُ الـتّـثـنـي كــأنّـنـي
بُـــنـــيّــةُ عــــشـــرٍ لــلــتـغـاريـدِ تَـــنــجَــرُّ
وحـيـن يـرانِـي فــي سِــوَى مــا ادَّعـيْتُهُ
تـــعــاوده الــشــكـوى ويــغـتـالـه الـــــوِزْرُ
ويــســألــنـي هــــــلَّا نُــصــلِّــي تَــقِــيَّــةً
فــيــأخُــذنـا شَــــفـــعٌ ويُــرجِــعُـنـا وِتْــــــرُ
ويـــــدرِي الـــــذي لاذَتْ بــــه مُـبـهـمـاتُنا
عــن الـصّـبحِ أم عـن سَـائقِ الـليلِ نَـزْوَرُّ
شَــــتـــاتٌ مَــرامــيــنـا خُــــــواءٌ دُروبُـــنـــا
مَــلامــحُــنــا تــــيــــهٌ وآفـــاقُـــنــا قَــــهـــرُ
نَــعــيـشُ لــنــرفُـو كـــــلًّ يـــــومٍ ثـقـوبَـنـا
وتَـفـتـقُها ذكـــرَى حـكـايـاتِ مـــنْ مَـــرُّوا
وحــيـن تَــمـادَى فـــي خِــداعِـي بَـتـرتُهُ
وفــي حَــالِ فِـقدانِ الـرَّجَا يَـحسُنُ الـبَتْرُ
ووجــهِـي تَـخـطَّـاني لِـتـضلِيلِ خَـطـوَتِي
وقــد جَــالَ فــي أنـحـائِهِ الأمــنُ والـذعرُ
تُــحـدِّثُـنـي عـــنــه الــمَــرايـا فـتـخـتـفـي
حـقـيـقـتُهُ إن طــــافَ قـسْـمـاتِـهِ الـمَـكـرُ
ويــرجِــعُ لــــي مـسـتـسـلِمًا إثْـــرَ آهـــة
تـنـاهتْ إلــى الأحْـداقِ واجـترَّها الـصَّدرُ
تَــقــرَّبَ مــنــي حــيـن ضَــجَّـتْ جــراحُـهُ
وتـــــاهُ بــعـيـدًا حــيــن ســاومَــهُ الــكْـبـرُ
أعــيـدي إلـــيّ الـرشـدَ يــا رَبَّــةَ الـهَـوى
فَـنـجـمَةُ أوهــامـي كــبَـا دونــهـا الـفَـجـرُ
تَــنــاوبَـتِ الأيَّـــــامُ تَـــرعــى سَــديـمَـهـا
دهــورًا وفــي أعـمـاقها لـلأسـى سِـفْـرُ
وأنــهـكَـنِـي ركــــضُ الــمَــداراتِ حــولـهـا
فـغـادَرْتُ فـوضـى الـليلِ والـوجهَةُ الـخِدرُ
فَــكــان أنِ اســتـدعَـتْ خُــطــايَ رَبــابــةٌ
ورَاودنـــي عـــن تَـوبـتِي الـطّـبلُ والـزّمـرُ
ودنـــــدنَ عُــشــاقٌ بــقـربـي فَـصـفَّـقَـتْ
لــهــم آخــــرُ الأحــــزانِ والـلـوعـةُ الـبِـكـرُ
تَـمـاديـتُ فـــي الـتّـهويمِ؟! أدري وإنّـمـا
هــي الأمـنـياتُ الـبـيضُ والـنُّـقطُ الـحُـمرُ
ونـــحــن نُــغــنّـي لـلـمـسـافـاتِ بــيـنـهـا
فـيـغـتـالـنـا شَـــطــرٌ ويــجـتـازُنـا شَـــطــرُ
ومَـــن تَـمـلـكُ الأمـــواجُ مِــجـدافَ قـلـبِـهِ
أســيــرٌ لــهــا مَـهـمـا ادَّعـــى أنـــه حُـــرُّ
-مدخل:
لما وقف ابن رشيق القيرواني أمام نتاج الشاعر البحتري؛ أدهشته طلاوته البيانية؛ وحلاوته الفنية؛واسترعت انتباهه تلك الرشاقة التعبيرية التي اتسمت بها تجاربه الشعرية ؛فأثنى عليه بهذا القول الدقيق :-
«البحتري أملح الناس صنعةً؛ وأحسن مذهباً في الكلام ؛يسلكُ فيه دماثةً؛ وسهولةً مع إحكام الصنعة؛ وقرب المأخذ؛ ولايظهر عليه كلفةٌ؛ ولامشقة»
ولاأغالي إذا قلت إنَّ هذا الوصف الدقيق يمتد إلى النابهين من الشعراء والشاعرات في أصقاع الأرض؛والشاعرة هند -في ضوء ما اتسمت به تجاربها الشعرية الأخَّاذة من عناية فائقة؛وتجرد تام لبناء القصيدة؛وطبع مكين يستحثها على الإتقان في صناعتها؛فضلاً عن مَلَكتها التصويرية الصادقة؛وأدائها اللغوي البارع ؛وتماهيها الملحوظ مع مضامين تجاربها الفنية؛ تقف في طليعة شاعرات العصر ..
-النص وأجواؤه:
_________
اتخذت الشاعرة مسلكها الفني في هذا النص؛ منطلقةً من أعتاب “البينية” -إن صحَّ التعبير- في اصطناعها عنوانها الظرفي :(بين بين)؛؛وتبدَّتْ فيه الشاعرة وهي في حلبة مشحونة بالتوتر والانفعال يحيطان بها من كلِّ زاوية؛ إزاء مواجهة حادة
شهدتها تحاورا؛وتفاعلاً؛ وتنازعاً ؛وأملتْ عليها كما يقال “أن تضع النقاط على الحروف”؛وهي تتلمس وجهتها الصحيحة؛معيدةً النظر في طبيعة الشتات النفسي؛والصبوات الحسية التي تقابلها ؛وتكمن لها في الأماني البراقة؛والخيالات المتواردة للعين في الصور المتحركة؛وما إلى ذلك .
نحن إذن أمام تجربة شخصية ؛التقى فيها الفكر والوجدان في بوتقة الفن الجمالي كمايلتقي الخصمان ؛يغاضب كلُّ منهما الآخر؛ويريد لنفسه الهيمنة
المطلقة على مقاليد الذات الشاعرة..
وماهي إلاَّ هنيهة حتى انبلج صوت الشاعرة في امتشاق ريشتها الوصفية ؛والمضي الموضوعي بها في استقصاء جوانب الصراع العاصف ؛وانعكاسات ذلك على واقعها النفسي؛ومرصدها العقلي المتبصر؛ وفقاً لسلسلة من المشاهد الحيوية ؛كما في (حدائها للآه؛واستدعاء الرؤى؛وإضمار القرارات الواعية؛ومتابعتها الدقيقة للأطوار القلبية ؛وملاحظتها لمواطن السيطرة الخفية والمرئية )؛ ممثلةً في (نجاويه الآثمة؛واقتياته للصمت؛وتحدي الكون بنبضه؛وما شابه ذلك من ممارسات استعلائية تدخل في صميم الإغراء والإغواء القائمين على قوَّة الجذب؛
إذ ذاك تعلن الشاعرة وثبتها -على الشبهات والاحتمالات ؛ومحاولة ردع هذا القلب المتمادي في غلوائه؛والمتفنن في زخرفة العواطف الوهمية؛ودفْعها باتجاهات غير مأمونة العواقب ؛إلى درجة أنه يكاد يحجب عنها سبل الهداية والتقوى والإنابة- فتعلو نبرتها ؛ويعتريها نوعٌ من الغضب المزلزل؛ فتصدح قائلةً:
أقول له يا أيها الغرُّ مالنا
على هذه الأفكار في عصفها أمر !
مايلبث هذا القلب الغائص في بحار المطامع الآنية؛واللذَّات العابرة ؛والتسويفات الناعمة : (أن يزرع في روع الشاعرة الحنين الممض؛مصوراً لها في سياق الإغراء؛ مشاهدها الطفولية الحالمة؛منتقياً لهامرحلة: (بُنية عشر)؛
ويمضي مستغرقاً في تسويلاته اللاهية؛وطرائقه الزاهية ؛حتى يستشري خطره على الشاعرة؛وتضيق به ذرعاً ؛ هنالك يأتي القرار الحاسم من لدنها صاعقاً؛على حدِّ قولها:
وحين تمادى في خداعي بترتهُ
وفي حال فقدان الرجا يحسنُ البتر!
وتأتي تداعيات ذلك الإجراء الطبي الواعي؛عكس ماكانت ترمي إليه الشاعرة؛إذ لم يقطع البتر حبل الغواية تماماً ؛(وأين يمضي هارب من دمه؟!
فإذا هذا القلب الجريح مستسلم بين يديها؛لائذٌ ببابها ؛وإذا هو يتقرب إليها تقرَّباً حميماً في مقام الملاطفة ؛”وطلب اللجوء”؛ وإذا هو يطالبها بقضية عزله عنهامستجدياً؛وذلك بأن تعيد إليه رشده المفقود؛وصوابه الذي انسلخ عنه!
لكنَّ الشاعرة -وهي الجرحى بذلك التحامل المرير على وجيب قلبها- قدأصدرت قرارها ؛و”لاتَ ساعة مندم- وتمَّ لها أن تضرب صفحاً عن هواجسه المُعذبة؛وهدهدات ألاعيبه ومكائده ؛وأن تتجاوز الأسلاك الشائكة ؛مستأنسة بصوت العقل؛باتجاه منعطف آخر ؛تغشاه مسحة من ندم دفين على نحوٍ ما ؛وذلك من خلال استدعاء بعض مواقفها كما في هذه الشجون الملتهبة: (تناوب الأيام الضبابية عليها؛التمادي وراء التهويمات المزخرفة؛العكوف على الأمنيات البيضاء؛والتماعاتها الهشَّة؛ وتخطي (النقط الحمر)؛إزاء الغفلات التي كانت تنسج لها الأغلال الخفية..
ولما أحسَّت الشاعرة أنَّها ليست وحدها ؛أمام تيار العواصف العاتية؛وفي ميادين الصراع الوجودي ؛بل الكلُّ معها في الخندق نفسه؛بمعزل عن العبر والعظات ؛قد أصمَّ أذنيه؛غير عابيء ؛بكرِّ الليالي والأيام؛ وغير مكترثٍ بتوالي الأحداث الجِسام؛واحتشاد المخاطر به ؛هنالك أطلقت صوتَها التقريري الشمولي بقولها:-..
(ونحن نغني للمسافات بينها
فيغتالنا شطرٌ ويجتازنا شطر)
ولعلَّ الغناء للمسافات وهو تعبير ابتكرته الشاعرة فيما أعلم ؛بصبُّ في مجرى الآمال النابضة بالحياة؛واستشعار مذاق السنوات الحالية الطعم في أكمام تلك الآمال الباسمة؛لكنَّ مباغتةً ما سرعان ما تعصف بهذا النعيم السادر ؛تكون مقترن بحركة الزمن ؛ومندسة في الأعمار نفسها ؛ فتكون النتيجة الحتمية :(فيغتالنا شطرٌ ويجتازنا شطر)؛ شطران متعاقبان يتخذان إطار الثنائية؛يمكن أن يندرجا في مضمار(الموت الحياة)؛(الخوف والأمن)؛(الهلاك والنجاة)؛ وماشابههما من مفارقات..
ويأتلق صوت الحكمة في الختام بقولها:
ومن تملك الأمواج مجداف قلبه
أسيرٌ لها مهما ادَّعى أنَّه حرُّ).
وفي النص عناصر فنية لاعداد لها؛ وظواهر أخرى تستدعي الوقوف عندها ملياً؛ لاستكناه مكنوناتها؛وسبر أغوارها ؛مما لايتسع لها المجال الآن؛ ولعل في الإضاءة هذه جانباً من تسليط الضوء على روح التجربة ..
تحياتي للشاعرة القديرة قيثارة المدينة؛ شاعرة المطولات الفاخرة؛واللغة الرصينة؛والاستقصاء المدهش🌷

البناء الدلالي في شعر أميرة صبياني
في الغالب ما تكون الدلالة هي المعبرة عن الإيحاء الشعوري للنفس الناطقة وهي التي تهيء الذات للتعبير عن ماهية الأشياء المبهمة في سياقات النص وإذا كان التعبير الأدبي منطوقا فمن البديهي أن تتسرب الى خبايا الإدراك التصورات المعادلة للشعور وأن تتوجد النفس البشرية بما هو آت من الروح من هنا نقول أن الإدراكات المسيرة بالإيماء تتخذ بعدا ميتافيزيقيا إلى جانب الذات كون الوجدان مبهم التصور في الذات والروح معا وكون الإشعارات الآتية من الذات تخاطب الروح بلغة يفهمها وعي السامع وإذا أدركنا ذلك فمن الطبيعي أيضا أن ندرك ما هو آت من الشعور المخبأ في حفيظة الملقي وإن نستلهم إدراكات متنوعة من خلال وعيه المنطوق وعليه تساوق الروح بين ما هو آت من الشعور وبين ما هو مدرك بالسليقة الطبيعية للناطق من ذات المنطوق.
وإذا كانت التصورات المرئية من خلال الشعر تتالى في خضم التعبير المنطوق فإن إدراك الشعور مهمة وعي السامع الذي يتصور الإحساس بموجب اللفظ المهيأ بقرينة إدراك استشعاري يمازج بين البوح المنطوق وبين الأثير الآتي من الذات في الروح الملقية الهامها الى عالم التصور الخارجي للناطق وهذه هي الدلالة الإيحائية للإلهام المنطوق والرمز التعبيري للمادة المقروءة شعرا أو نثرا هذه الدلالات كلها يمكن أن نسميها بالدلالات الميتافيزيقية المركبة مع عامل آخر هو التأثير المبطن في الذات الصاغية أو التعبير الحامل رؤى الفكر المتسرب من الذات الناطقة.
وفي هذه الوقفة يشدني وبقوة إبداع شاعرة من الشاعرات اللاتي جسدن رؤى الفكر الإنساني تجسيدا يتراوح بين معمول الذات وحفيظة الإدراك الطبيعي للشعور بمعادلاته الإيمائية وبفنه المبتكر بطريقة دلالية موحية مؤثرة في الذات والروح معا هي الشاعرة أميرة صبياني التي لا تقف بالمرئي عند تصور واحد بل تجعل من الإيحاء الدلالي مساقا الى الذات بطرق معبرة عن الروح منشأها التفاعل الروحي بين الشعور والذات الناطقة ما يجعل من إبداعها الشعري أثيرا واحيا قوامه الشعور والوجدان وهي هنا أي الشاعرة أميرة تمتاز بالتصوير الدلالي المركب في أعمالها الشعرية وبالإيحاء المبهم للرؤى المخفية كون أحادية الذات من ملفوظها مهيأة لتصورات شتى وكونها تواكب الذات في تعبيرها الشعوري عن ماهية الأشياء وهنا وقفة تأملية متمعنة في إبداعها الشعري المهيأ للإدراك كما إن الشاعرة هنا تمتاز بالسمو المعرفي لماهية الشعور المكافئ للروح كما إن لها لغة موحية في الضمير المرئي الذي يتجاوز النظرة التأملية لمسار الرؤى والأفكار الآتية من أعماق الروح.
كما إن الشاعرة اميرة تمد آفاقا واسعة للمدلولات اللغوية بشقيها المبني والمجازي وتكيف المعمولات الإيحائية بتنظير محض إذ تكثف التقمصات الروحية وتستدرج الآني الى ما وراء الحضور كما إنها تجعل من الدلالة مشافهة روحية تتوغل بها في أعماق الإدراك من أمثال ذلك ما تسربه منطقا بقولها من ديوان لا تقرؤوني:
أمْطَرْتُ مِنْ لَهَبِ الإِحْسَاسِ قَافِيَتِي
فَذابَ سَعْدِي على أَنَّاتِ باكيتي
وَرُحتُ أجمعُ أنفاسَ الجِرَاحِ على
جمرٍ من البوحِ مَلْفُوْفًا بِأوردَتِي
عَانَقْتُ من لَوْعَةِ الأشْعَارِ غِلظَتَها
وَبُحْتُ بالحُزْنِ حتى أَقْفَرَتْ لُغَتِي
ضَيَّعْتُ عُمْرًا بأحلامِ الشبابِ وفي
مَجَاهِلِ الوَهْمِ قَدْ أَطْلَقْتُ أشرعتي
إذ تهيء الشاعرة المدلول المغيب للذات ليراوح بين النفس والشعور وتمد جسرا للألفة بين ما هو آت وما هو مستحضر في الوجدان كون التمثيل التنظيري في هذا النص يقوم على بيان الوجهة الذاتية للروح ما يجعل من المسافة بين حدي التمثيل بالغة الإدراك بمعمولاتها المخفية في النفس لذلك استوطنت في الذات رؤى مدركة مقابل الدلالة التصويرية التي تتسرب حيثياتها من منطوق المعنى بينما تقابلت الصور الإدراكية بمعمولاتها المهيئة للتشبيه ما جعل من الحدس مهيأ لولوج الذات إليه.
بينما في قصيدة (فصول متناقضة) من ديوان (بعثرة طين) تجعل الشاعرة أميرة من الدلالة اللغوية مجازا يكتنف التمثيل تراوح بينه وبين الفكرة المهيمنة بطريقة تقمص إيمائي يدرك بالشعور ويوائم بين مد اللغة وبين التصوير المكتنف لحقيقة الوعي ما جعل من المنطوق مستلهما اشارات رمزية يجلي المبهم من التصور ويزيح عتمة المباغتة الإدراكية ويفتح أفقا واسعا للتخيل يستقطب اشعارات الذات ويناغم الحدس بطريقة تمثيل مؤطر بالرؤى المتخيلة ما هيأ الذات للتماهي مع المدركات التعبيرية والاكتفاء بالشعور كما تقول الشاعرة في القصيدة:
أنا وروحي المُتْرَفةْ
أسيرُ في كلِّ الفصولِ أنتشي
بالأمنياتِ المُرهَفَةْ
ودفتري ملونٌ بالرملِ بالهجيرِ
بالصقيعِ بالزهرِ الذي ينتابني لأقطِفَهْ
أُمَرِرُ الفصول في شعري الذي
أنهكتُهُ زوابعًا تجتازُ حُسنَ الزخرَفةْ
شعري الذي لقَنْتُهُ أنايَ حتى أعرِفَهْ
متى أفُك معصمي من سطوةِ البوحِ الذي يحتالُ كي لا أكشِفَهْ؟
متى يغيبُ آسِري مُستصحِبًا تَأَفُفَهْ؟
متى متى أفرُّ من دوامَتي ؟
متى أكونُ المُنصِفَةْ ؟
إذ وطنت الشاعرة الإبهام مقابل الحضور المكثف للروح وألمحت الى مدلول الوعي بطريقة استقصاء للرمز فالشعر يقام عليه حدي التكافؤ بين ما هو منظور للذات وبين ما هو مستبطن في المخيلة فتتبعت الشاعرة مسار الولوج إلى النفس وساوقت بين مدلول اللغة وبين ما هو ضمني مكيف في الوعي من هنا نشأ التصور المجازي لإدراك الذات ما جعل من التمثيل ضمني الحركة حيث استقصت بأسئلتها المدرك الذاتي للروح مسربة حيثيات مجازية تفهم من خلال الإلماح التنظيري للوعي.
بينما في قصيدة (إليه وحده) من ديوان ( لأنك الله) توحد الشاعرة الملفوظ باتجاه الخالق وتتقمص مدركا دلاليا يتمثل باستحضار الذات ويشافه التجليات الرفيعة المبنية على أعتاب الروح فتنوع الشاعرة من حدة لغتها بين المنظور التمثيلي للروح وبين مسار التجلي كما هو قولها:
ما كان ضوءُ البَرقِ مصباحِي الذي
يرعى انكشافَ الليل في فَلَوَاتِي
نفسي وداجي التِّيهِ مَرْكَبُ سَطْوتِي
وسُدودُ حجبي عن عيونِ صِفاتِي
فَعَلامَ أَحْفِرُ جفوةَ الأرواحِ في
أُنْسِي وأُغلِقُ بِالهوى نَفَحَاتِي؟
مفتاحُ إشراقِ الجوانِحِ في يدي
وعلى انْشِراحِ الرُّوحِ عَذْبُ فُرَاتِي
إذ أومأت الشاعرة الى النفحات الروحية واستحضرت تجليات شتى باتجاه البوح وناغمت بين مدرك التجلي وبين المثول الروحي وهنا قمة التهيؤ الإدراكي للنفس باتجاه الخالق سبحانه وتعالى.
بينما في قصيدة ( القدس بوابة النور) من ديوان (من أجل من) فقد عمدت الشاعرة الى استقطاب المفردة التمثيلية التي تصور المدرك التخيلي على إنه ذات يسترسل في الوجدان ويحيل المنطوقات إلى إيماءات دلالية تواكب التصور المرئي للشعور وهنا التفاتة رائعة من قبل الشاعرة تجر الحدس إلى ما وراء الذات وتستنطق المبهمات من التصورات المرئية وتوائم بين مدلول اللغة وبين معمولات الإدراك وتستنطق المبهم من التخيلات مقابل الحضور المكثف للروح التي تتماهى مع المكان الأرض بصيغتها التعبيرية المجازية بوابة النور تقول الشاعرة من قصيدتها:
في ذِمَّةِ اللهِ يامَهدَ الأمانِ فما
لِلظُلمِ حُكْمٌ بِسَحقِ الطُّهرِ أو سَبَبُ !
ياجَنَّةَ الطُّهرِ ياقدسَ الجلالِ متى
كانت بِحُرمَتِكِ الآثامُ تُرْتَكَبُ ؟
في عُمقِ جُرحِكِ أرضَ الأبرِيَاءِ طغى
جيشُ الظلام وَأَجْرَتْ نَزفَكِ الخُطَبُ
متى تشدَّقَ بالوعدِ الكذوبِ فمٌ
من منطقِ السُّحتِ بالبغْضاءِ ينتَعِبُ ؟
بينما في قصيدة ( في القلوب تربعك) من ديوان (استثناءات) توغل الشاعرة بالحدس المكافئ للروح وتجعل من المرئي مبهما في الذات وتحشد اللغة بتكثيف دلالي رائع ومجازات فائقة التأثير عن الذات تحيل المدركات التعبيرية الى مدركات إيمائية تستنطق المد الروحي وتغيم بدلالاتها المرئية على الشعور فتمازج بين ما هو مستلهم بالفطرة وبين ما هو مدرك بالتعبير الثنائي للروح والذات معا والشاعرة أميرة صبياني في هذه القصيدة تستشرف أفق البوح وتناظر المبهم لغة وإدراكا إذ تمد مساحة تعبيرية لشروق الذات في خضم المدركات المجازية بتوغل رائع في الحفيظة الإدراكية للبوح كما هو قولها:
اضحكْ فهذا الفجرُ حُبٌّ ضَوَّعَكْ
وضياءُ روحِ الطَلِّ يَرْسِمُ أرْوَعَكْ
غَنِّ الْجمالَ بأروعِ العزفِ انتظرْ
كي يستقرَّ على الغيومِ لِيسمَعَكْ
لاشكَّ أنَّ الحبرَ بالسِّحْرِ انتشى
والمُغرياتُ الحورُ أسطُرُها مَعَكْ
والذكرياتُ السُّودُ بيَّضَ رجْعَهَا
همسٌ يُعطِّرُ في ابتهاجٍ مَطلَعَكْ
ارسمْ بِبَسْمَتِكَ السلامَ على النَّدى
وانثُرْ على الآفاقِ سِرًّا رَجَّعَكْ
أزْهَرتَ في كل الحقولِ وأينَعَتْ
عيناكَ تنقشُ في القلوبِ تربُّعَكْ
والشاعرة أميرة صبياني من الشاعرات اللائي يجسدن الحدس ويمثلن البوح بطرق موحية ويرسمن المعاني التعبيرية بدلالات فائقة الشعور وفي أكثر من قصيدة من قصائدها في دواوينها الشعرية تستنطق الدلالة المرئية كتعبير محض عن الروح وتستغرق إيماءاتها الرمزية النصوص كحد يجتاز الوقفة الآنية للتعبير ويمتثل المدركات ويستخلص الشعور كما إن للشاعرة أميرة لغة سلسة عذبة محملة بالدلالات الرمزية التي تتجاوز الآن إلى ما وراء الحدس الزمني وإلى ما وراء الشعور.
–

المائــــدة
قدحان، شمعتان، خمر وعسل وبيض سمك، فجل وجرجير وريحان، أظافر، عظمة حُقٍ لرجلٍ ميت، وفرخ دجاجة مريض، وسمّ ثعبان نهري، كتاب شمس المعارف، ونجمة تضيء في السماء الأولى، هي لا تأتي، وهم يأتون إلى المائدة من فوق سطوح البحار، ومن المقابر، والخرائب، وكهوف الجبال، وهو يطلسم والدخان يظلل وجهه المتعب:
سكروش مسمشوش أربدوش نسمشوش
سكروش مسمشوش أربدوش نسمشوش
حضروا، اتخذوا مقاعد للسمع والطاعة، تهيأوا للتسخير، قال لهم ورغيف الخبز الأسمر أوشك أن يبرد في يده: انشدوني ما قاله ملوككم فيها من شعر.
قال البري: تلا عليّ شاعرنا الملك جمروش، وقد عاش ثلاثمائة عام، وأدرك مولدها في العقد الأخير من عمره الآتي:
حديدة بنت ماوية عليها صوغ جدتهـا
أبوها ساكن البدع وأمها شيخة النعيرية(*)
وروى جدي أزبدوش عن جده سمسوس، وقد عاش مائة وخمسين عاماً، وأدرك صباها الآتي:
ارفع الصوت يزمي لك جميل الحلايا
لا تشوف العلم وتصير نفسك ردية(**)
(*) شعر منسوب إلى الجن، والبدع والنعيرية أسماء أماكن في شرق
(**) شعر منسوب إلى الجن
زفر ونفث، وعقد العقد، وزاد في المائدة حتى أمست: سبع خرزات زرق، دم فتاة فاسد، بول طفلة، شعر رأس وعانة من امرأة عاقر، أربع عشرة إبرةٍ بيضاء، حافر حمار، أحرف مقلوبة لآية قرآنية، مني ذكر، وقرأ الطلاسم والغضب يوقف شعره:
بسبسوس نمنوس أرننوس نسنسوس
بسبسوس نمنوس أرننوس نسنسوس
ثم هددهم بالحرق، ورسم لهم مراده قائلاً: ضعوه لها في قاع بحر مظلم لا يعبث بمائه أتباعنا، ولا تسكنه قبائلكم، أو ادفنوه في قبر طري، أو اسكنوه رأس طير كثير الهجرة والترحال لا يعشعش في رؤوس الأشجار، ولا يضع بيضه في أخاديد الجبال، وستأتي.
قال الأرضي: وقفتُ سنين عديدة على عتبات الفروج، ومنعت حمل نسائكم من رجالكم، فاعفني من هذه المهمة.
قال السماوي: ركبنا ذكراً فوق ذكر وأنثى فوق أنثى حتى وصلنا السماء السابعة، واسترقنا السمع، وأحرقتنا الشهب، فانظر غيري ومن هو أقوى مني.
قال البحري: سكنت الأرحام، وأزهقت الأرواح الصغيرة في شهورها الأولى، اطلب مني أي شيء، إلا الإتيان بحديدة.
أجحظ عينيه، ومدّ عصاه الغليظة نحوهم وطلسم بطلاسم الحرق:
يخموخ جفشوخ خمخوخ نخنخوخ
يخموخ جفشوخ خمخوخ نخنخوخ
توسلوا إليه حين بدأت آثار الحرق تظهر على أجسادهم، خافوا التراب والماء، فقالوا باكين بصوت واحد: كيف ندخلها وهي لا تحزن، لا تغضب، لا تفرح كثيراً، إنها أكثر تحصيناً من قصورنا المرمرية ؟!
قال لهم بعدما ارتخى: ادخلوها من فتحات جسدها التسع، أنتم ثلاثة، وهي واحدة، والبري يبقى هنا ينشدني ما قاله ملوككم فيها من شعر حتى تأتوا بها.
قال الأرضي: هي في طهر دائم!
قال السماوي: إنها لا تكف عن الاستعاذة منا ومنكم!
قال البحري: مساماتها مغلقة، حتى على الفاتنين من خلقكم!
قال لهم وقد ازداد رخاوة وحزناً: إليكم قرباني الأخير: عظمة حق لرجل ميت من معاطن إبل في نجد، وفرخ دجاجة مريض فقس في غابات أفريقيا، وسم ثعبان نهري لم يغادر أنهار الصين، وأظافر رجل قاتل من سجن في أصفهان.
قالوا في صوت واحد: أردنا أن ننكحها فلم تفتح فخذيها لنا!
فتح صفحة جديدة في كتاب شمس المعارف لما فزع من قولهم الأخير، ليبحث لهم عن طلاسم حرق جديدة، وحين وجدها اختفت النجمة المضيئة من السماء الأولى، فصفعوه على وجهه، فأصبح أعمى، وأخضر رغيف الخبز الأسمر، ويبس الفجل والجرجير والريحان، وهاجم النمل الأسود العسل وبيض السمك، وبقي من المائدة: خمر، وقدحان، وشمعتان…

ماذا يحصل في أوكرانيا ؟!
مضى شهراً كاملاً ونحن ـ جميع العالم ـ ننام ونصحى عبر نشرات الأخبار ـ المحلية والعالمية وكل وسائل الإعلام القديمة والحديثة ـ على أخبار الحرب في أوكرانيا ! التي أشغلت أحاديث مجالس الساسة ومجالس النخب الثقافية الخاصة ، وأشغلت مجالس أهل الوعظ الديني المحلي بالبحث والعودة لأحلام غابرة تم تفسيرها كنذير لحدوث هذه الحرب ، وأنها قاعدة وشرارة لقيام الحرب العالمية الثالثة ونهاية العالم ! ، وأشغلت مجالس العامة في كل مكان يجتمعون به للحديث مع بعضهم عن اثارها الاقتصادية والأمنية عليهم لدرجة الشجار فيما بينهم عن من يملك المعلومة الصحيحة المطلقة عنما يحدث في أوكرانيا ، وأسبابه ، والمتسبب به ؟! والفضل للقرية الكونية الموحدة وفضائياتها التي تنقل وتبث لهم أخبار العالم أول بأول على الهواء مباشرة وعلى مدار الساعة . ومن أجل ذلك قررت كتابة هذا المقال وبهذا العنوان.. وكتبت في مقدمته : (إذا أردنا أن نعرف ماذا في أوكرانيا ؟ فيجب علينا أن…؟!)* ، وقبل الاسترسال لإكمال بقية المقال قطع عليّ حبل أفكاري رنين هاتفي المحمول ورقم واسم زوجتي الظاهران على شاشته..
رديت عليها وطلبت منها دقائق معدودات حتى أكمل كتابة هذا المقال لكي اتفرغ لها ، ولمشاوير مقاضي شهر رمضان القادم علينا بعد أيام قلائل ، وحرمتنا جائحة كورونا من التبضع له في العامين الماضيين ، ورجعت بعدها لجمع شتات أفكاري المتفلتة لكتابتها دون شعور بالوقت إلى أن فقت على رنين هاتفي ، وزوجتي تصرخ في أذني بلا مقدمات : (لي ستين دقيقة جالسة انتظرك في بيت أهلي عشان نروح نقضي وحضرتك ولا هامك شيء ؟.. والآن أنا رايحة (تاكسي) للسوق.. وحضرتك إذا فضيت وقررت تجيلي اتصل عليّ وأقول لك عن مكان ؟.. ولا أقول لك : خليك مع (خرابيطك) أحسن.. وأنا مثل ما رحت أرجع للبيت).. وأقفلت الاتصال دون أن تسمع مني كلمة واحدة !.. ليتعكر مزاجي عن التفكير وأتوقف لوقت غير محسوس عن الكتابة إلى أن هدأ ضجيج أفكاري رجعت أكتب : (إذا أردنا أن نعرف ماذا في أوكرانيا ؟ فيجب علينا أن نعرف ماذا في روسيا ؟!).. ليقطع عليّ حبل أفكاري اتصال أحد الأصدقاء لنذهب حسب اتفاق مسبق بيننا لأمسية ثقافية..
رديت عليه ورحت في هستيرية ضاحكة وهو يضحك معي ويسألني عن سببها ؟.. إلى أن هدأت وسألته : تذكر المسلس السوري الكوميدي : (صحي النوم) ، أيام الأبيض والأسود ؟.. فقال : نعم أذكره.. ولكن أيّ حلقة تقصد ؟.. وما علاقته بموعدنا الليلة ؟!.. فرجعت للضحك وهو لا يشاركني هذه المرة إلى أن سمعته يقول لي : ستخبرني بالموضوع ؟ ولا أقفل الاتصال ؟!.. حينئذ توقفت عن الضحك ، قائلا : يا أخي أقصد حلقة الممثل نهاد قلعي ـ يرحمه الله ـ وشخصيته الشهيرة (حسني البورظان) ، وهو يمثل دور كاتب صحفي ويريد يكتب مقال مقارنة عن الاقتصاد في إيطاليا والبرازيل ، وذهب لفندق صحي النوم وأجر فيه غرفة من أجل كتابة المقال في هدوء وصفاء ذهن ، وغريمه اللدود بالحلقة وكل المسلس (غوار الطوشي) ، الممثل دريد لحام ، حين لاحظ اهتمام حبيبته الزائد مالكة الفندق (فطوم حيص بيص) ، الممثلة نجاح حفيظ ـ يرحمها الله ـ وبتوفير الهدوء والجو المناسب للكاتب (حسني البورطان) ، أفتكر ـ غوار ـ أنه جاء يخطفها منه ، وقام يحيك له المقالب الكوميدية من أجل تطفيشه لمغادرة الفندق وإبعاده عن حبيبته ـ (فطومة) ـ ، فكلما بدأ (حسني البورطان) كتابة مقاله بـ : (إذا أردنا نعرف ماذا في إيطاليا ؟ فيجب علينا نعرف ماذا في البرازيل ؟ وإذا أردنا نعرف ماذا في البرازيل ؟ فيجب علينا أن نعرف ماذا في إيطاليا ؟) . وقبل لا يكمل الكاتب (حسني البورظان) كتابة بقية المقال ، يقوم (غوار الطوشي) باختلاق مقلب له يعكر مزاجه ويمنعه من إكمال كتابة المقال إلى أن ينتهي به ـ (بالكاتب حسني) ـ الحال في أحد المقالب بالدخول إلى السجن بتهمة الشروع في القتل لـ(بائع الخضار) المتجول الذي أحضره (غوار) لينادي على بضاعته بالغناء بصوته المرتفع في الشارع تحت شباك غرفة الكاتب (حسني البورظان) ، لتنتهي الحلقة والأحداث والمقال لم يكتمل !. والليلة يا صديقي العزيز حصلت معي نفس أحداث حلقة الكاتب (حسني البورظان) في كتابة هذا المقال ، وكلما شرعت في كتابة المقال ؟ يردني اتصال يعكر عليّ مزاجي ويخرجني من أجواء إكمال كتابته !..
قام صديقي وقطع الاتصال بيننا دون ابداء أيّ ردة فعل أو تعليق ! وتعكر مزاجي ، وعجزت عن إكمال كتابة بقية مقال : ماذا يحصل الآن في أوكرانيا ؟!
*- كاتب وقاص سعودي .
*- مسلس كوميدي سوري كان يبث في بداية الثمانيات الميلاية بالأبيض والأسود على القناة السعودية .

قراءة تحليلية لقصيدة «إلى جارة الوادي»؛للشاعرة :هند النزاري.
في «مطالعات» الأستاذ العقاد رحمه الله ؛”عن الشعر ومزاياه” ؛يبسط الحديث في هذه القضية قائلاً:
«إنَّ القصيدة ينبغى أن تكون عملاً فنياً تاماً، يكمل فيها تصوير خاطر أو خواطر متجانسة، كما يكمل التمثال بأعضائه؛ والصورة بأجزائها؛ واللحن الموسيقى بأوزانه؛ بحيث لو اختلف الوضع؛ أو تغيرت النسبة؛ أخلّ ذلك بوحدة الصنعة وأفسدها.
فالشاعر المطبوع معانيه بناته، فهن من لحمه ودمه، وأما الشاعر المقلد فمعانيه ربيباته فهن غريبات عنه وإن دعاهن باسمه، وشعر هذا الشاعر كالوردة المصنوعة التي يبالغ الصانع في تنميقها ويصبغها أحسن صبغة ثم يرشها بعطر الورد، فيشم منها عبق الوردة، ويرى لها لونها ورواؤها، ولكنها عقيمة لا تنبت شجرًا ولا تخرج شهدًا، وتبقى بعد هذا الإتقان في المحاكاة زخرفًا باطلًا لا حياة فيه.
ألا وإن خير الشعر المطبوع ما ناجى العواطف على اختلافها، وبث الحياة في أجزاء النفس بأجمعها كشعر هذا الديوان»
ولقد ترامى إليَّ ذلك الشعور سواء بسواء ؛ حين أُتيح لي أن أطَّلع على بعض قصائد الشاعرة القديرة هند النزاري؛ خلال ما أثرت به ملتقيات الأدب هنا وهناك ؛وبدا لي أنَّها حين يوافيها الإلهام الشعري لايكون “خاليَ الوفاض “أبداً؛ ولايكون غريباً على أجوائها ؛ولامتطفلاً على ملكتها الشعرية الدفاقة؛فبينها وبين الشعر الرصين ؛قد تعاطفت الأرواح؛ وتآلفت المشارب؛عبر مسيرتها الإبداعية الطويلة.
ومما تمخضت عنه علاقتهما المتينة هذه القصيدة التي بين يديَّ الآن ؛المنضوية تحت عنوان.«إلى جارة الوادي».
ومن أول وهلة يتبادر إلينا -من وحي العنوان- أنَّ الشاعرة في توظيفها الحرف (إلى) ؛بصدد رسالة ما ؛توجهها إلى «جارة الوادي»؛ فما قصتها إذن مع جارة الوادي؟!ومن تكون جارة واديها هذي التي ألحَّتْ على مخيلتها؛ وشدَّتها إليها ؛ فلم تجد بُدَّاً من أن تصدع بالأمر لتبادرها من المطلع بقولها:
أَعِيدِي نُوَاحَ الأمسِ يا جَارَةَ الوادِي
فَصَبُّ بَني حَمدانَ في حَيِّنَا شَادِ!
وعلى الفور ستجد الشاعرة من يجبهها بقوله إنها استعارت تركيب: “جارة الوادي”؛من أمير الشعراء شوقي في قوله الذائع الصيت:
يا (جارة الوادي) طربتُ و عادني
ما يشبه الأحلام من ذكراك
مثلتِ فى الذكرى هواك و فى الكرى
و الذكريات صدى السنين الحاكي
وأنها حين أومأت إلى (صبِّ بني حمدان)؛ إنما كانت تعني أبافراس الحمداني ذلك الشاعر المُفلق؛ الشجاع الأبي ؛-ولم يفتها -والحالة هذه- تردد لفظة “جارتا”في نصه الذائع الصيت؛على أنه هو ذاته سبق شوقياً في العزف على وتر (حسن الجوار) بقوله النابض بالحياة:
أَقولُ وَقَد ناحَت بِقُربي حَمامَةٌ
أَيا جارَتا هَل تَشعُرينَ بِحالي؟!
مَعاذَ الهَوى ماذُقتِ طارِقَةَ النَوى
وَلا خَطَرَتْ مِنكِ الهُمومُ بِبالِ
أَتَحمِلُ مَحزونَ الفُؤادِ قَوادِمٌ
عَلى غُصُنٍ نائي المَسافَةِ عالِ؟!
أَيا جارَتا ما أَنصَفَ الدَهرُ بَينَنا
تَعالِي أُقاسِمكِ الهُمومَ تَعالِي.
ومن نافلة القول أنه لم يغب عن الشاعرة أيضاً ؛نداء امرىء القيس في قوله:
أجارتنا إنَّ الخطوب تنوب
وإني مقيمٌ ماأقام عسيب
أجارتنا إنَّا غريبان هاهنا
وكلُّ غريبٍ للغريب نسيب
فإن تصلينا فالقرابةُ بيننا
وإن تصرمينا فالغريبُ غريب
أجارتنا مافات ليس يؤؤب
وما هو آت في الزمان قريبُ!
وأقول لاغضاضة على الشاعرة في هذا الاستخدام الفني الموحي ؛ولها فضل التوشية ؛إذ اتجهت بالتركيب الموروث وجهتها الفنية المستقلة؛وعيَّنت الجارة المقصودة تعيينا عصرياً ملائماً للتجربة؛ ومطابقاً لواقعها ؛بواسطة الرمز والتلميح؛ لاالتصريح!
إنَّ سماءً واحدةً؛وأرضاً مشتركة؛ربطتها بجارة واديها على هذا النحومن التجانس الودي ؛لتؤكد أنه من المستحيل أن يتولد بعد ذلك جفاء؛ أو مراء ؛أو أنانية أوماشابه ذلك من خصومات ؛وإنها أيضاً ليست بالبكماء ؛بل إنها تفهم عنها لغتها ونوازعها النفسية ؛وتدرك منها مباشرة مرامي التعبير وطرائقه؛لاسيما وقد تبينتْ لديها قبل ذلك طبيعة الشاعرة ؛وبعض أسرارها وخصوصياتها ولذلك طاب للشاعرة أن تشفَّ معها في التعبير بالعتاب ؛طالبةً إليها غضَّ الطرف؛وإلتماس الصفح إزاء مايبدر منهامن ملامٍ تصبُّه عليها لاشعورياً ربما ؛وعليها عندئذٍ أن تهدهد غضبها ؛وأنْ تُجاريها مجاراة ودِّيةً لاخبث فيها ولاالتواء؛ فيما لو عصفت بمنطادها الريح ؛وذلك عندما يبلغ بها الغضب مبلغه الحاد
ومن العتاب تقيم الشاعرة حواراً بينها وبين جارتها ؛تبثُّ فيه بعض قراراتها السابقة المتعلقة بها ؛وذلك ابتداء من مرحلة “تركها الأرض غريبة” ؛وانسياقها في رحلة التهويم “مِن نَادٍ ظَعينٍ إلى نَادِ”؛
هنالك وفي خضمِّ هذه الشجون المتتابعة التي ألمَّت بها ؛ لم تكن سوى جارة واديها مؤنستها والملاطفة لها ؛عندما “أُسقط في يدها”؛ورأتْ مالم يدر في حُسبانها أن تراه من صور ؛أثارت غيرتها أوقلقها وقتذاك ؛ففاضت بلواعجها على ماسنرى في هذا المقطع التصويري الجيَّاش :
ولِي عَتَبٌ يا حٌلْوَةَ الشَّدْوِ فَاقْبَلي
مَلامِي وجَارِيني إذا ازْوَرَّ مُنطادِي
فإني تَرَكْتُ الأرضَ تَحتِي غَرِيبةً
وهَوَّمْتُ مِن نَادٍ ظَعينٍ إلى نَادِ
وأنتِ التي آنَسْتِهِ حِينما شَدَا
لِغَيْرِي وغَنَّى الحُبَّ مَن زَادُهَا زَادِي
وقَاسَمْتِهِ الأشْجَانَ وارْتَحْتِ قُربَهُ
وأعْرَضْتِ لمَّا حَانَ في البَوْحِ مِيعَادِي
فَمِنْ أجْلِ تَاءٍ تَقسِمُ الكأسَ بَينَنَا
تَعَالَي لِيحْكِي هَمَّهُ الخَافِيَ البَادِي؟!
وإذا كانت الجارة عند الشعراء السابقين ؛لاتعدو أن تكون رمزاً لطائر الحمام المعروف؛أوالقماري؛يطرزون به مقطوعاتهم على سبيل المواساة ؛أو التسرية عن النفس ؛فإنها عند شاعرتنا اتخذت أصباغاً زاهية برَّاقة؛وأنماطاً لغوية ثرية توفرتْ لها؛فاستطاعت أن ترسم للمتلقي لوحة إبداعية تشيع فيها روح المواءمة؛ ولطافة البوح ؛وحلاوة الإفصاح؛وتعزز إلى جانب ذلك متانة العلاقة الحميمية القائمة بينها وبين جارة واديها؛ومايشهد محيط العلاقة من خلافات؛ ونزاعات؛وما إلى ذلك .
فهي-ووفقاً لما يمليه النص -أي جارة الوادي- امتازت بالعديد من الخصائص والمقومات الفريدة ؛ترجمتها الشاعرة واصفة إياها: بأنها الحرُّة الطليقة في فضاءات الله؛تطير كيفما تشاء بمحاذاة الغواياتِ؛ترمقها ؛ولاتقع في أوحالها ؛وإليها يبثُّ الشاكي أحزانه ومواجده؛وعلى عاتقها يقع عبء نقل رسائل المحبين ؛على مرِّ السنين ؛وبهديلها الناعم الآسر يستغني مرضى الغرام ؛والمتعبون في الأرض عن المصحَّات؛وتشدُّد الأطباء؛ بما في ذلك الزوَّار جميعاً ؛كما في (كلّ آسٍ وعوَّاد).
بعد تلك النعوت الاستثنائية الفريدة التي خلعتها على جارة واديها ؛تبدأ شاعرتنا في شحذ انتباهها؛وانتباه المتلقين إلى “صاحبها الهيمان في سجن صبره”؛كما لو أنها تستدرُّ عطفها عليه وإشفاقها تجاهه ؛مشيرة في هذا السياق إلى صُحبته الطويلة الانفرادية للأشواق القلبية التي تنيخ ببابه ولايمكنه الانفصال عليها ؛ولاعن عذاباتها المتغلغلةبين جوانحه؛ وعكوفه على أشجانه الدامية يرسلها في الآفاق من حوله ؛متخذاً من شجرة اللغة الباسقة مستقرَّاً لايبرحه ؛ومن ارتشافه من ينابيعها الثرَّة ؛واقتياته من قطوفها اليانعة مصدر حياة وخصوبة ونماء ..
فهو نتيجة مغادرة الجارة له؛وتركه وحيداً لايلوي على شيء ؛يعيش طقساً قاحلاً خاوياً ؛ممثَّلاً في نافذة داره المطلة على أجواء الفراغ والركود ؛ومزماره المعطل على طاولته ؛ المستغرق مثله في دوائر العطش مما لحق به من إهمال ..
وفي استرسال الشاعرة في تصويرها هذا المغني الأسطوري ؛وفنائها فيه؛مدعاة لتساؤل الجارة :ماسرُّ هذا الولع العجيب؟!
وقبل أن تبدي الجارة سؤالها؛عن طبيعة هذه المحبة الأسطورية؛تبادر الشاعرة بتوضيح نوعية الولع المهيمن عليها ؛دحضاً للمزاعم والظنون الخاطئة ؛مستعينة في ذلك بلغة النفي ؛على هذا النحو :
(ولم يَذكرِ اسْمي في أغانيهِ إنّما
أعلِّمُ نفسي الغوصَ في بَحرهِ الهَادِي)
(وشَكواهُ ذِكرى من فُؤادي تَناسَلَتْ
هُيامًا له فيما مضى بعضُ أمجادِ)
تنفي الشاعرة ورود اسمها في أغانيه؛دفعاً للالتباسات؛ وتثبتُ أن سرَّ هيامها واستغراقها هذا يكمن في محاولة تعليم نفسها كيفية مسايرته في بحره الفني الرائق الهادي؛فهي لاتكتفي بالنزر اليسير من درر هذا البحر؛بل تطمح إلى ماهو أبعد ذلك وهو الغوص التام في بحاره الهادئة ؛ثمَّ إنَّ مضامين شكواه في أنَّاته التي يرسلها كلما جنَّ عليه الليل ؛واستبدتْ به الوحدة بأشباحها الغازية؛بالنسبة لها ذكرى عزيزة التصقتْ بفؤادها المترع بالهيام له؛وهو هيامٌ له كينونته الخاصَّة؛وذو رحمٍ ماسَّة ببعض أمجادها القديمة!
-بعض الظواهر الفنيَّة:
بإعادة النظر كرَّة أخرى إلى أبعاد النص -وهي متعددة ومتنوعة ؛وتحتاج لوقفة أطول وأرحب فضاءً- ؛أركِّزُ هنا فقط على بروز بعدين بارزين ؛ متناظرين “متقابلين” ؛هما :بعدا:
الخطاب ؛والتكلم .
ويلاحظ عنصر الخطاب من المطلع “أعيدي”
ويتوالى ذلك صريحاً ومضمراً على سبيل المثال: (وأنت تحاذين؛تنوبين؛تروين؛تكفين؛تمضين؛صاحبك؛
و(مذ غادرته ؛فلاتنبشي؛قاسمتِ؛ارتحتِ؛ أعرضتِ )الخ
وفي الآن نفسه تجلى صوت الشاعرة واضحاً جلياً بل ومدويَّاً كما في هذا العزف الباهر الشجي القائم على العنصر الذاتي في ضمير (ياء المتكلم)؛و(تاء الفاعل):
وإني على ما بي (توشَّحتُ غُربتي)
وأمّلتُ نفسي ثم (أرسلتُ أورَادي)
(وسَاومتُ غاياتي) لتحدُو (وَسِيلتي)
(وثَبتُّ )في أرضِ الغِوايات (أوْتادي)
(يقسِّمُني )لحنٌ (ويجمعُني) صدًى
وما ثَمَّ من يعنيهِ (جَمْعي) و(إفْرَادي)
فلا تَنْبِشي للصِّدقِ قَبرًا فإنَّنا
نَعيشُ على أوْهَامِنَا مُنذُ آمَادِ
تُكَرِّرُنا الأيامُ إذ ما تَواتَرَتْ
على قَلْبِ مَسْجُونٍ يُغَنِّي لِأصفَادِ!
ويلاحظ هنا ألواناً من الصور المونقة؛معتمدة على فنِّ التشخيص والتجسيم؛أجمل الحديث عنها إجمالاً:
-جعلتْ الغربة وشاحاً لها؛ودارتْ بينها وبين الغوايات -أياكان نوعها- مساومات “مواجهات جدلية” ؛أخضعتها الشاعرة لتكون حاديةً وسيلتها في الحياة ؛فكأنها أبصرت الغاية -“المجهولة بطبيعة الحال”- التي تطمح في الوصول إليها قبل الإقدام على تحديد الوسيلة الممكنة؛ رأتها؛وقاست مسافاتها؛ وعرفت أسرارهاالكامنة؛ ومخاطرها المحتملة ؛وتراءت أوتادها المثبتة الناطقة بزكانتها؛ ووعيها؛ وقدرتها كالأعلام في أرض الغوايات؛لاتخطئها العين.
وهناك لحنٌ شجي يصافح مسمعيها؛ يؤثر في كيانها ؛فيشطرها أجزاء -دلالة على الانتشاء المتمثل في حشد طاقتها الكليةباتجاه النغم ومصدره-؛ثم سرعان مايعيدها “صدى مرنان” إلى استجماع ماتبعثر من انفعالها النفسي؛وهتافها الوجداني .
وفجأة وهي في خضم حديثها الذاتي تبرز هذه الالتفاتة المقصودة التي تنبىء عن عمق درايتها بالحدث وتفاصيله ؛وسلامة تفكيرها من الشطط أوالزلل ؛ساقتها في لون يميل إلى السخرية قليلاً ؛من خلال تجسيد حيثية الصدق -وهو معنوي- ؛وتشبيهه بجثة ميت-وهو حسي- ؛بقولها :
فلا تَنْبِشي للصِّدقِ قَبرًا فإنَّنا
نَعيشُ على أوْهَامِنَا مُنذُ آمَادِ
تُكَرِّرُنا الأيامُ إذ ما تَواتَرَتْ
على قَلْبِ مَسْجُونٍ يُغَنِّي لِأصفَادِ!
وفي البيتين برز ضمير(نا)المتكلمين؛ للدلالة على العموم ؛ وبدا عنصر الالتفات عند الشاعرة-أي الانتقال من ضمير المخاطبة؛ إلى جماعة المتكلمين في قولها”إننا”؛ناصعاً ساطعاً ؛وهي بإشارتها الدقيقة هذه تضعنا أمام حقيقة مؤسفة؛مفادها ؛أنَّ الصدق هذا الخلق النبيل أو حتى مايسمَّى بالصدق الفني على مستوى الإبداعات ؛بات في واقعنا التجاري المُتخم بالأوزار ؛أندر من الكبريت الأحمر كما يقال ؛وهذا الافتقار الموجع للصدق؛ أفضى بنا إلى التردي في غياهب الأوهام ؛ومزالق العماية والتيه..
إلى جانب هذا العيش الوهمي ؛وجدنا أنفسنا مستلسمين لطاحونة الأيام؛في دورتها المكررة ؛وتعاقبها المهلك؛شأننا شأنُ الراسف في قيده؛القابع في زنزانته ؛تتساوى عنده الأيام في رتابتها؛ومامن حيلة يواجه بها هذا التمزُّق الداخلي الذي يفتك به ؛يوماً بعد يوم ؛ سوى قطع الأوقات المريرة بشيء من الغناء تنفيساً عن اضطرابات مشاعره السوداء المضطرمة في أعماقة؛وعن لواعجه الحبيسة في جسده المتهالك.
ويبدو للمتأمل أن الشاعرة هنا ؛وجدت نفسها أمام مواجهة يمكن أن توصف بالناريَّة؛ فرضتْ عليها أن تكشف النقاب عن بعض الجوانب القاتمة التي اصطدمت بها؛
إنها تخوض قضيةً أقرب إلى أن تكون (افتئاتاً واستبداداً) على طبيعتها ومنهجها الحيوي ؛ قضية تباينتْ فيها وجهات النظر تبايناً حادَّاً؛ فترتب على ذلك أن انهالت عليها التأويلات السقيمة كاللهب المتطاير ؛بهدف قص أجنحتها؛ووأد طموحاتها ؛ لذلك جاءت البراهين مكثفةً جداً؛واتسمت بعلو النبرة ؛
كما تلألأت في القصيدة النزعة “الذاتية” على نحو لافت ؛على سبيل “البيان والتبيين”؛ في مقام إماطة الأذى؛ والترفع عن السفاسف ؛وانصاعت لها وسائل التعبير اللغوي ؛انصياعاً انسيابياً.
تأكيداً منها على النزاهة الشاملة التي تتمتع بها وتأتلف معها؛وعلى المصداقية التي جعلتها لباساً لها في كلِّ اتجاه تنويري تسعى إليه؛لتقيم في أرضه ؛وتحت سمائه.
وباختصار(وفقاً للمتعارف عليه):-
قصيدة وجدانية محكمة النسج؛ جزلة الألفاظ ؛بعيدة الأغوار ؛عميقة الدلالات ؛مترعة بالشحنات الانفعالية؛أخذت نصيبها الوافر من الأسلوبين الإنشائي والخبري؛ وفيها إيماءات ذكية ساخرة لاذعة؛ حسب مقتضيات الموقف ؛فوق ما اتسمت به من “غضبة هندية” سرى بريقها في النص بأسْره..
-نهاية المطاف:
وبعد :فهذه دندنةٌ اجتهادية؛ لاأزعم أنها أحاطتْ بعناصرالنص الفنية الأخاذة؛ إحاطة السوار بالمعصم ؛وحسبي أنني حشدت طاقتي لمحاولة السير على درب القراءة التحليلية؛
وذلك جهد المقل ..
مع عاطر التحايا والتقدير لشاعرتنا القديرة “قيثارة المدينة”؛ وأهنئها من الأعماق على شاعريتها المرهفة و قلمها السيال؛ ولغتها المشرقة المدهشة؛واستقصائها العجيب لتجاربها المتميزة في عالم الإبداع الشعري.

رؤية تحليلية لـ “الرقص بالكلمات في مساحة للرقص”
أتناول هنا رؤية تحليلة لنص نثري قصير، لكنه ماتع جدا ومكتنز بشتى صنوف الجمال، ويضم كل تكنيكات الكتابة ،النص للكاتبة السعودية جوري العبدالله.
النص:
مساحةٌ للرقص
أشدُ روحي إلى الأعلى،
تتدحرجُ فكرة على امتداد جذعي
أركلها بقدمي،
تطير في الهواء،
وأضحك..
…..
تراني في الاتجاه الخامس
أهدهدُ رعشةَ شفاه الياسمين،
ويروني في يديك تفاحة..!
…..
يجدر بنا أن نمتطي صحو هذا المساء،
ونفقأ عين البعد،
فالعيون ياحبيبي لاتعشق الغياب..!
جوري العبدالله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرؤية:
تتكئ الكاتبة على نفسها، وتصعد بروحها ،فتراودها فكرة ، لا تقبل بهذه الفكرة ، فتبعدها عنها ، ثم تضحك، ربما لانتصارها على هذه الفكرة ،وتنحيتها بعيدا عنها.
ثم تعقد مقارنة بين رؤيتها للأشياء، ورؤية الآخرين للأشياء، ولها أيضا .
فهي تكون مرنة مطيعة ،لا تتمرد على حبيبها ، فهكذا الذوبان في الآخر ، فهي في يديه تفاحة يقلبها كيف شاء.
ثم ترجو أن تكون مع حبيبها دائما ، لا يصيبهما الفراق ، ولا يأتيهما البعد ؛ فتستحث حبيبها – وهنا تدعو للجهد الجمعي معه وليس بمفردها – ليفقآ – هي وحبيبها – عين البعد ، حتى لا يعد مبصرا ؛ فلا يأتيهما مرة أخرى ؛ فعيونهم لا تطيق بُعدا ولا فراقا ولا غيابا.
العنوان “مساحة للرقص “أعطى النص حيوية ومنحه نشاطا فاعلا ، فهناك “مساحة” ضاقت أو اتسعت لا يهم ، المهم أنها مساحة ، فيها مجال للتحرك ،وهناك “رقص” ، وحسبها من كلمة توحي بالحركة ، وتفعيل كل أجزاء الجسم.
وامتد العنوان لينقل عدوى الحركة الحميدة للنص ، فكان النص حيا متحركا ،وليس جامدا .
الفكرة العامة في هذا النص ربما مطروقة وهي وصف لحظات الرقص ، لكن تناول الكاتبة جاء غير نمطي ، وغير مطروق ،فقد سبقت الأوائل ، وأتت بما لم يستطيعوه .
طالما هناك فعل “رقص” فلابد أن نلمح إشارات واضحة للمكان ومنها : الأعلى ، الاتجاه الخامس / تقابلها إشارات للزمان ، ومنها المساء.
النص محتشد بالصور، مفعم بالجمال ،ومن ذلك الاستعارات في :
تتدحرجُ فكرة ؛ إذ جسَّدت المعنوي، حين جعلت الفكرة وهي شيء معنوي غير محسوس جعلته محسوسا يتحرك ويتدحرج ، وهنا شبهت الفكرة بالكرة ،وحذفت المشبه به، ورمزت إليه بشيء من لوازمه وهو ” تتدحرج”.
كذلك : نمتطي صحو هذا المساء
عندما يقرأ المتلقي ” نمتطي ” يخطر على ذهنه امتطاء الجواد ، فهنا تمتطي صحو ، وليس صهوة كما هو مستخدم ، فهنا تأتيك بالجديد المبتكر الذي على حد علمي لم يسبقها عليه أحد .
وكذلك ونفقأ عين البعد ، وغيرها كثير …
استخدمت الكاتبة مفردات رقيقة ورشيقة وموحية ، وذات ظلال ، وليست مفردات مكررة ، ووظفت كل كلمة في مكانها الصحيح ؛ بحيث تكون المفردة قادرة وحدها – وليس غيرها -على تأدية المعنى المطلوب منها ، في اتساق تام مع رصيفاتها.
فالكلمات متسقة مع المضمون الحركي للنص ، فتدل على الحركة هي أيضا ، ومنها : تطير، أركل ، أشد ، تتدحرج ، أهدهد …
من عناصر الحركة في النص اختلاف الضمير ، فالكاتبة تستخدم ضمير المتكلم المفرد مرة مثل : أشد ، أركلها ، يروني … ثم تنتقل لضمير المتكلمين الجماعة : بنا ، نمتطي ، نفقأ
مما أعطى النص روح البقاء ، وكسر الرتابة والملل.
كما برعت الكاتبة في المفردات وتوظيفها ، كذلك برعت في التراكيب والعبارات ، ومن ذلك الجدة والطرافة في تعبيرها : الاتجاه الخامس ، فهو- كالبعد الثالث – شيء مميز ومختلف وخارج عن المألوف ، فكلنا يعلم الاتجاهات الأربعة ، لكن جوري تفرِّع لنا اتجاها خامسا ؛ لتوجد هي فيه.
النص فيه طابع التكثيف والتركيز، كان من الممكن لجوري أن تبسط لنا فكرتها في مقال طويل أو قصة طويلة أو رواية ، ولكنها آثرت التكثيف ؛ لذا جاءت المعاني مركزة ، والعبارات محددة والكلمات متقنة راقصة .

دراسة أسلوبية في مقالات الأستاذة سحر علوي الشيمي
إنها الكاتبة المتفردة الأستاذة سحر علوي الشيمي، تمتلك جميع عناصر و مقومات المقال المتكامل، ظللت أتتبع كتاباتها، واستمر معي الاندهاش الممزوج بإعجاب بتلك المقالات؛ لأني وجدت فيها نمطاً مختلفاً للكتابة.
أجريت هذه الدراسة عبر المنهج الأسلوبي الذي يتناول النصوص من خلال عدة مستويات، هي:
- المستوى الصوتي.
- المستوى الصرفي.
- المستوى النحوي.
- المستوى الدلالي.
- المستوى البلاغي.
وستتداخل هذه المستويات عندي في التناول، ولن أفْصِلَها فصلاً حاداً، وسأركز على أهمية كل مستوى ودوره في الفهم الأعمق للنصوص.
لي قناعة تامة أن الكاتب إذا وفق في اختيار عنوان كتابه أو عنوان مقاله، أو الشاعر إذا وفق في اختيار اسم ديوانه أو اسم قصيدته، سيكون المتلقي منجذباً حتماً للمضمون؛ لأن العنوان هو بريد المضمون، إذ يسحب معه فكر القارئ، ويشد معه انتباه المتلقي.
هذا الأمر وُفقت فيه الكاتبة السعودية سحر الشيمي، ولا عجب فهي خريجة الأحياء الدقيقة، فقد كانت دقيقة في اختيار عناوين لمقالاتها التي تربو عن المئة.
العنوان عند سحر الشيمي يتميز بمميزات قلما تتوافر لدى كتاب آخرين، ومنها:
– الجناس بين كلمات العنوان.
– قلة الكلمات ما بين كلمتين إلى ثلاث غالباً.
– توافق العنوان مع المضمون.
ونستطيع قياس ذلك من خلال نظرة سريعة لعناوين مقالاتها، وهذه بعضها على سبيل المثال:
– نبادر ونغادر.
– تقدر فلا تغدر.
– فُتات الالتفات.
– هشاشة الشاشة.
– للوصول أصول.
– نوح البوح.
– غيْمُ الهِيم.
– عابق عالق.
– بريق وبل ريق.
هذه العناوين المتجانسة بلغت الحد الأقصى في المستوى الصوتي، فتكرار بعض الحروف المتقاربة المخرج أو المتحدة المخرج يعطي نغماً موسيقياً، وجرسا منغماً، يجعل القارئ ينسجم مع النص، وهذا يبدو جلياً في تكرار بعض الحروف، مثال لذلك: تكرار حرف الهاء في سطر واحد سبع مرات، في الجملة التالية:
قد ينتهي بالهوس الذي يؤدي إلى هاوية الانهيار للمنبهر، وهو ظاهر.
تأنقت الأستاذة سحر الشيمي، وتألقت في اختيار العنوان، ولكن لم تتوقف عند ذلك، فكانت تقدم مضموناً رائعاً، ومحتوى مدهشاً؛ وتتميز مقالاتها بعدة مميزات تجعلها صالحة للبقاء وقابلة للاستمرارية، ومنها:
سلامة اللغة، ورصانة التراكيب، وجزالة العبارات، والاقتباس من القرآن الكريم ومن الحديث النبوي، وتوظيف النص المقتبس ليخدم الفكرة، ويدعم المحتوى، والتسلسل المنطقي للأحداث مع الالتزام بصرامة ضوابط فن المقال، من مقدمة وعرض وخاتمة.
ولها قدرة فائقة في براعة التخلص؛ إذ تنهي فكرة، وتسلمك لأخرى، دون هوة في المعنى، ولا فجوة في المضمون؛ إذ تتسلسل الأفكار رقراقة، وتنساب سلسة.
اقتباسات سحر القرآنية والحديثية مميزة؛ لأنها تنهل من معين دراستها العليا في المعهد العلمي العالي للقرآن والسنة، فكان التوظيف موفقاً، وكان النص المقتبس في مكانه تماماً، ويخدم الغرض.
أما من حيث موضوعات المقالات، فكلها موضوعات حياتية، تمس المجتمع، وتناقش قضاياه، فيحس القارئ أنها منه وله؛ فيطلع على تلك المقالات، ويدرك أن الكاتبة فعلاً بنت مجتمعها، لم تنفصل عنه، ولم تترفع عن همومه، بل خاطبت قضاياه.
لم يكن تناولها سطحياً، وإنما كان تناولاً عميقاً، فيه تشخيص للمشكلة، وبيان أسبابها، والتنفير من نتائج تفشي هذه الظاهرة أو تلك؛ لينفر المجتمع منها ثم تضع الحلول الملائمة.
تفتح سحر نافذة أمل للمغبونين والمحرومين، وتبين لهم أن الحياة قصيرة مهما طال ليل الألم، فصبحُ الأمل قريب؛ هنا تقول -في مقالها الذي عنوانه: على قدر انكسارك يتسع قصرك -: “ولكن.. رغم ذلك جمعوا فتات هذه الكسور، وصنعوا بها قصوراً في نهاية طريقهم”، ثم تقول: “وهذا لا ينحصر على الحياة الدنيا، وإنما أيضاً لقصر الآخرة. وعلى قدر الانكسار بين يدي الله في كل حاجاتك في دنياك وآخرتك، يتسع قصرك، وتحوز أمنياتك”.
مقدمات مقالاتها تذكرني بما يسمى في نقد الشعر ببراعة الاستهلال، فالكاتبة بارعة أيما براعة في استهلال وبدء مقدمات مقالاتها، تحسن التمهيد، وتجيد استدراج القارئ بهدوء إلى صلب الموضوع، فهي تتنوع في بداياتها، وربما تبدأ مقالها بمقولة مأثورة من التراث العربي، أو بعبارة لأحد الأدباء كما فعلت حينما بدأت مقالها المسمى “غيم الهيم” بعبارة للدكتور علي الطنطاوي: “ليس في الناس من لم يعرف الحب، وليس فيهم من عرف ما هو الحب”.
كما أجادت في مقدماتها، فقد أجادت ختام مقالاتها، وهنا أذكر مقولة الكاتب الأمريكي آرنست همنحواي، حين قال: “إنني أجتهد في صياغة خاتمة رواياتي؛ لأنها آخر عهد بالقارئ، ولو كانت الخاتمة مميزة، فسيضطر القارئ لقراءة رواية أخرى لي”.
وقد تختم الأستاذة سحر بعض مقالاتها بدعاء حيناً، وبنصيحة أحياناً، نموذج للدعاء حينما ختمت مقالها المسمى: “عابق عالق”، دعت قائلة: “اللهم استعملنا ولا تستبدلنا، فلتبق عابقاً بذكراك، عالقاً بشذاها على مر الأزمان”.
ولكن ما شدني هو أنها تختم أحياناً بسؤال بدون إجابة؛ حتى تترك للقارئ مجالاً، وهذا من النهايات المفتوحة التي تجعل الكاتب يضع القارئ شريكاً معه في الإبداع، ومن تلك النهايات التي وردت في خاتمة مقالها “انبهار فانهيار” قولها: “فهل لنا من حكمة؟!”.
كما تناولتْ في مقالاتها عدداً من الموضوعات المسكوت عنها؛ مثل الجفوة الأسرية بين الأزواج، وذلك في مقالها “ميزان بلا اتزان”، وشخَّصت المشكلة، وبيّنت خطورة انتشارها، وشرحت كيفية التعامل معها، ووضعت خارطة طريق للأزواج؛ حتى يستقيم وضع الأسرة، وحمّلت كلًّا من الزوج والزوجة مسؤوليته، ولم تمِل لجانب دون آخر، فلكل منهما دوره المهم، وكان تناولها متسقاً مع مقدمة المقال، حينما تحدثت عن العدل الذي ذكرت آلته؛ وهي الميزان، وذلك في عنوان المقال.
برعت الكاتبة في التلاعب بالاشتقاقات اللغوية للكلمات، واستغلت هذا الثراء الذي تتمتع به اللغة العربية خير استغلال، ومن يتابع العلاقات بين الاشتقاقات في اللغة العربية، وكيفية الوصول إلى المعاني الكامنة، يعرف كيف يجعل القارئ يشعر بمتعة الاستنتاج، حين يفهم النص بصورة أوضح وأعمق، فنجد اسم الفاعل في: هاوية، ظاهرة، متدرجة…، واسم المفعول في: محمود، ملهوف…، والمصادر في: انهيار، إصرار…
أما دلالياً فنجد الكاتبة برعت في استخدام الكلمات التي فيها انزياح دلالي عن معانيها إلى معانٍ أخرى؛ مما يعين القارئ على فهم مقصد الكاتبة، وتبيُّن خفايا النص، وتكريس اللغة الأدبية.
وهنا عبارة فيها عدد من الكلمات التي انزاح معانيها دلالياً؛ لتحمل معاني أخرى إضافية: “فلنعتنِ بصفحات كتابنا، وسقي أزهارنا؛ لتثمر ويفوح شذاها”.
أما من حيث المستوى البلاغي فنجده يتداعى في مقالاتها من غير تكلف، مما يجعل بعض المقالات تتحول، كأنها قصيدة شعرية؛ لما احتشدت بها من صور بلاغية بجميع أنواعها، ومن ذلك:
– الجناس في عناوين المقالات؛ مما يعطي العنوان جرساً موسيقيّاً، ومن أمثلته: أسير كسير، فُتات الالتفات، هشاشة الشاشة… وغيرها كثير في معظم العناوين، وفي غير العناوين مثل: الآلام والآمال…
– الاستعارات التي تكثر في نصوصها، ومنها: بحر الهوى، ومرسى المودة…
– الطباق: وهو الجمع بين الكلمة وضدها، ومن فوائد هذا التضاد توضيح المعنى، ويكثر الطباق في مقالات سحر، مما جعل المعاني واضحة بيِّنة، ومن ذلك: بسيط ــ كبير / مادي أو معنوي / فرح وحزن…
– السجع: وهو توافق أواخر الحروف في نهايات الكلمات، مما يعطي جرساً موسيقياً، ومنه: هل خير وإحسان، أم شر يتبعه سخط وحرمان؟ وأيضاً: ويفوح شذاها، ولا تطول يد النسيان ذكراها.
– كما يكثر الترادف، وهذه سمة مهمة، ومن فوائدها تأكيد المعنى، وهي دلالة على ثراء المخزون اللغوي للكاتبة، ومن ذلك: المشاعر، الأحاسيس / الهوى، الحب / المأمول، المنشود…
– يبدو التأثر بالقرآن واضحاً في كتابات سحر، إذ تقفز بعض العبارات التي سحبتها من نص الآيات إلى نص المقالات، ومن ذلك قولها: هباء منثوراً، وفيه تأثر بقوله تعالى: (… فجعلناه هباء منثوراً) الفرقان: 23.
ومنه أيضاً قولها: أوجد الله الإنسان من العدم، ولم يكن شيئاً مذكوراً، وفيه تأثر بقوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) الإنسان 1.
– وللكاتبة عبارات –من رصانتها– بلغت مبلغ الحكم، ومنها: الآلام تصنع الآمال، وكذلك: ومن حمل الثقال يصنع الرجال…
أما من حيث المستوى النحوي؛ فالظواهر النحوية ليست حلية للنص، وإنما لها دور مهم في خلق المعاني، ويتعاضد المستوى النحوي مع المستويات الأخرى ضمن سياق النص لإبراز المعاني التي يريدها الكاتب؛ إذ تنوع الكاتبة في مقالاتها بين الجملة الاسمية والفعلية، ولكلتيهما ميزات في اللغة؛ فالاسمية تدل على الثبوت والاستمرار، والفعلية تدل على التجدد والحدوث.
فمن البدء بالاسمية قولها: للحب محطات ومواسم متدرجة يمر بها الإنسان، وكذلك: العدل اسم من أسماء الله وهو الإنصاف… ومن الفعلية قولها: أوجد الله الإنسان من العدم، وكذلك: ولا تكن إمّعة في الانبهار بكل شيء… وهذا التنويع يدل على قدرة الكاتبة، كما يدل على حرصها على شد انتباه المتلقي.
وكذلك يكثر لديها تكرار الأفعال أو الأسماء، أو غيرها من الأبواب النحوية؛ مثل: التقديم والتأخير، والوصل والفصل، وبناء الجمل… وغير ذلك.

قراءة في نص “مقام العاشقين” للشاعر معبر النهاري
ماذا يمكن للشاعر المسلم أن يكتب شعراً في موضوع أجلَّ وأسمى من الحديث عن سيد المرسلين، وخاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؟
هنا تتقاذف الشاعر ناحيتان: ثراء الموضوع من جهة، وخطورته من جهة أخرى، فالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ذو شجون، ولا حدَّ له، وكذلك قد يتخوف الشعراء من طرقه؛ لأن الإحاطة به تستحيل، ولأن شعراً في موضوع كهذا يتطلب الإلمام بكل أدوات الشعر.
هذا ما امتلكه شاعرنا الكبير معبر النهاري، فقد ارتقى هذا المرتقى وكان قادراً؛ لأنه يعرف عمَّن يتحدث، فكان ذا بضاعة غير مزجاة، تمكِّنه من سبر غور هذا الموضوع القيم.
لذا تجده يستحث قريحته ، ويستنهض همة شعره؛ حتى يُعِدَّ الطاقة التي تمكِّنه من ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم:
يَا شِعْرُ رَونِقْ كُلَّ طُهْرٍ عَابِقٍ أهْرِقْ دُمُوعَ الْقَلْبِ يَا مُضْنَاهُ.
برز مدح النبي صلى الله عليه وسلم منذ فجر البعثة، فتميز فيه حسان بن ثابت وكعب بن زهير وعبد الله بن رواحة وغيرهم رضي الله عنهم جميعاً.
وكان من حماية الله لنبيه أن أبطل مفعول مَن هجاه صلى الله عليه وسلم، فحفظ لنا التاريخ شعر مدحه، ولم يحفظ ما قاله ابن الزبعري وأمثاله في هجائه صلى الله عليه وسلم، فقد كفاه الله المستهزئين كما وعده.
نصطحب معنا بردة كعب بن زهير وبردة البوصيري وبردة شوقي؛ لنصل لرائعة معبر، فهي لا تقل عنهن جمالاً وألقاً ورصانة.
بدأ الشاعر قصيدته بالحديث عن مقام العاشقين الذي لا يشبهه شيء، وأن اللغة تقف عاجزة، والشفاه تظل حيرى، والبيان يبقى معطلاً عند الحديث عن هذا المقام السامي.
ثم يستلهم مادحي النبي صلى الله عليه وسلم: كعب بن زهير وحسان بن ثابت رضي الله عنهما، فهو يرى أن قصيدته في مدحه صلى الله عليه وسلم استعصت على الإتيان، وغلقت الأبواب، ولم تتح له النفاذ إليها.
ويقارن شاعرنا الحائر بين حاله وحال العشاق الذين أشعلوا فتيل حروفهم، وهو سامرٌ مع ضيائه صلى الله عليه وسلم.
ثم ينطلق لسرد بعض الأماكن التي شرفت بمروره صلى الله عليه وسلم من السلام، وغار حراء…
ثم هطل بوح القصيدة عليه بعد أن استعصت، كما قد هطل البوح المقدس عندما أفاض رُواه عليه الصلاة والسلام.
ثم يمزج الشاعر بين نفسه وبين أحداث عظيمة استلهمها من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وبرز كأنه عاصرها أو كأنها حدثت الآن، وهو يشهدها.
وتمضي القصيدة بنا عذبة الكلمة، رقيقة العبارة، عميقة المعنى، سلسة السرد، منسابة الأحداث.
وأما على المستوى البلاغي: فقد مزج شاعرنا بين الأسلوبين الخبري -الذي كان هو الغالب- والإنشائي الذي يأتي حيناً ويغيب، حسب الاحتياج؛ ليجذب المتلقي، ويمكِّنه من الانتباه، ويلفت نظره، ويمنحه طاقة التشويق.
فمن الإنشائي: الاستفهام في قوله:
مَاذَا يُقَالُ؟! وِذِي (حَلِيمَةُ) وَالشَّذَا صِنْوَانِ قَدْ رَبَّاهُ يَا رَبَّاهُ!
ومزج شاعرنا ببراعة بين نوع من الإنشاء الطلبي “الاستفهام” ونوع من الإنشاء غير الطلبي “التعجب” ببراعة فائقة في بيت واحد، حين قال:
مَا لِي بِبَابِ الْقَبْرِ أَصْمُتُ فَجْأَةً للهِ هَذَا الْقَلْبُ مَا يَغْشَاهُ!
وكذلك الجناس، وهو من الحلى اللفظية؛ إذ يعطي الكلمات جرساً موسيقياً، ويوهم القارئ بتكرار الكلمة، ولكنهُ يفاجئهُ فيما بعد باختلاف المعنى مع تشابه اللفظ، ومن ذلك في نص شاعرنا جاء به تاماً في قوله:
رَبَّاهُ يَا رَبَّاهُ..
رباه الأولى من التربية، ورباه الأخرى نداء للرب عز وجل، وحتى النداء يخرج لأغراض بلاغية، ومنها التعجب والاندهاش.
وكذلك جاء الجناس الناقص في: هداه، هواه…
وهناك العديد من الصور البلاغية؛ كالاستعارة التي احتشدت في النص فأعطته بهاء وعمقاً وخيالاً خصباً؛ ومنها:
قَدْ أَسْرَجَ الْعُشَّاقُ زَيْتَ حُرُوْفِهِمْ.
ومن الاستعارات أيضاً:
وَتَلَعْثَمَتْ شَفَةُ (الْكَمَنْجَةِ) دَهْشَةً.
وفي: أطْرَقَتْ نَجْوَاهُ.
وغيرها كثير…
كما تطل علينا الثقافة الدينية التي يتمتع بها الشاعر، والتي تتمثل في الاقتباس، ومن شواهده في النص:
قَدْ جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْقَصِيْدَةِ حَامِلاً.
وهذا مقتبس من قوله تعالى:
(وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) يس: 20.
وأيضاً:
قَدْ غَلَّقَتْ رُوحُ الْقَصِيْدَةِ بَابَهَا.
من قوله تعالى: (وغلقت الأبواب…) يوسف: 23.
وكذلك يقتبس من الحديث الشريف: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، فيقول:
دَعْنِي أُمَسْجِدُ فِي ذُرَاهُ مَشَاعِرِي مَا بَيْنَ مِنْبَرِهِ إلى مَأْوَاهُ.
وكذلك الترادف، وغرضه تأكيد المعنى، ومنه: الضياء – سناه، وكذلك أنادم – أسامر…
والقصر في قوله: مَا كَانَ إِلَّا النُّورَ.
وغير ذلك..
وأما على المستوى الصوتي: فنلحظ تكرار بعض الحروف، فقد تكررت بعض الحروف في بيت واحد، وفي شطر واحد أحياناً؛ مما أعطى النص بُعداً موسيقياً رائعاً، يمتع الأذن، ومنه حرف الصاد -وهو من حروف الصفير- في:
قَدْ جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْقَصِيْدَةِ حَامِلاً.
وبرز حرف صفير آخر مكرراً وهو حرف السين في:
فَطَفِقْتُ أَقْبسُ مِنْ ضِيَاءِ سُجُوْدِهِ هَدْيًا أَدُسُّ الرُّوحَ فِي ذِكْرَاهُ.
والطاء في:
أَنَا فِي رِحَابِ الطُّهْرِ مَحْضُ طُفُولَةٍ.
كما أورد كلمات تتضمن معنى صوتياً؛ ومنها الكمنجة والنوتة….
وعلى المستوى النحوي: فقد تنوعت الجمل بين الاسمية والفعلية، ومعلوم أن الجملة الاسمية تدل على الثبوت والاستمرار، والفعلية تدل على الحدوث والتجدد.
فمن الاسمية قوله:
هَذَا (الْمَقَامُ) وَمَا لَهُ أَشْبَاهُ.
ومن الفعلية:
فهَمَى عَلَى وَجَعِ التَّخَاطُرِ خَافِقِي.
وقد كانت الكلمات والتراكيب مستخدمة في مكانها؛ بحيث تتفاعل نحوياً مع بقية المستويات.
ونوّع شاعرنا بين الأفعال بأزمانها الثلاثة؛ مما جعل الزمن عنده متحركاً حياً، وليس جامداً ميتاً.
واتبع الشاعر أسلوب التقديم والتأخير، الذي جاء في مكانه، وحقق أغراضه، ومنها: الاهتمام والاختصاص، وتمكن بقدرة فائقة من ذلك، حسب مقتضيات الوزن ومتطلبات المعنى، ومنه:
لِيَذُوبَ نَبْضًا في مَقَامِ غِنَاهُ.
وأما على المستوى الصرفي: فقد استخدم الشاعر معظم المشتقات، ومن ذلك:
اسم التفضيل في “أقصى”، واسم الفاعل في “حاملاً”، والمصدر في “نبض”، واسم المفعول في “المقدس”…
كما تنوعت الأفعال ما بين المجرد مثل: سار، والمزيد، ومنه تهاطل، وكل زيادة في المبنى كانت تعطي زيادة في المعنى، لا يتوافر بدونها.
وتميز شاعرنا بقدر من الاشتقاقات والتصريفات في كلمات لم ترد كثيراً في اللغة؛ إذ اقتحم -باقتدار- تلك المجاهل اللغوية المعقدة، ومن ذلك قوله: “فُردِس” في:
مَا كَانَ إِلَّا النُّورَ فُرْدِسَ آيةً مِنْ كُلِّ طُهْرٍ قَدْ بَرَاهُ اللهُ.
وكررها بصيغة أخرى “فردست”، حين قال:
فَرْدَسْتُ فِي أَثَرِ (الْبُرَاقِ) جَوَارِحِي وَسَكَبْتُ دَمْعِي فِي (بَقِيعِ) حِمَاهُ.
ويذكرني ذلك ببيت الشاعر الكبير البردوني حين قال:
مُذ بدأنا الشوط جوهرنا الحصى بالدّمِ الغالي وفردسنا الرّمال.
ومنه أيضاً اشتقاق الفعل تكوثر من اسم الكوثر في قوله:
بَلْ كُنْتُ قَلْبَ (النَّبْعِ) يَضْحَكُ تَالِيًا سُوَرًا تُكَوْثِرُ لِلصَّدَى رَيَّاهُ.
وأيضاً اشتقاق الفعل: أمسجد في قوله:
دَعْنِي أُمَسْجِدُ فِي ذُرَاهُ مَشَاعِرِي.
وأما على المستوى العروضي: فقد بدأ الشاعر قصيدته ببيت مصرع، والتصريع: هو أن يجانس الشاعر بين شطري البيت الواحد في مطلع القصيدة، أي: يجعل العروض مشبهاً للضرب وزناً وقافية؛ كما في البيت الأول من قصيدة شاعرنا:
هَذَا (الْمَقَامُ) وَمَا لَهُ أَشْبَاهُ ثَمِلَ (الْبَيَاتُ) وَأَطْرَقَتْ نَجْوَاهُ.
انتهج شاعرنا في قافيته رويَّ الهاء المضمومة، وما قبلها ممدود، وهي قافية صعبة تذكِّرني بلزوميات المعري، ولا يستطيع كثير من الشعراء الالتزام بها خاصة في قصيدة طويلة كهذه.
فحرف الهاء، هو حرف مهموس رخْوٌ، مخرجه من أقصى الحلق، فأتى بالهاء الأصلية في نهايات بعض الأبيات مثل: الله… وبهاء الضمير في غيرها مثل: مأواه، شذاه…
نظم شاعرنا قصيدته على بحر الكامل التام بتفعيلاته الست، وجاءت بعضها سليمة، وبعضها فيها إضمار، وهو تسكين الثاني المتحرك، حيث إنَّ تفعيلة “متَفاعلن” تصبح “متْفاعلن”، وهو زحاف حَسَن.
وأما دلالياً: فقد تميزت مفردات القصيدة بالأبعاد الدلالية التي تعبر عن ثراء اللغة، وتبين قدرة الشاعر الفائقة على توسيع المعنى، فكثير من الألفاظ انزاحت لتعبر عن غير معناها المتعارف عليه؛ ومنها: أفاض، عكف، أدس…
وهناك ظاهرة تفوق فيها شاعرنا، وهي ذكر الأسماء في الشعر، فذلك أمر صعب جداً؛ لأنه يحتاج إلى مهارة فائقة، تجعل الشاعر قادراً على تذويب الاسم –رغم جموده- داخل النص الشعري، دون أن يكون هناك نشاز، وهذا ما تمكَّن منه شاعرنا، فأكثرَ من إيراد أسماء الناس والأماكن، دون أن يحس القارئ بنتوء في المعنى.
ومن أسماء الناس: آمنة، حليمة، كعب، حسان…
حينما تحدث عن مرضعته حليمة السعدية، والشرف الذي حظيت به:
مَاذَا يُقَالُ؟! وِذِي (حَلِيمَةُ) وَالشَّذَا صِنْوَانِ قَدْ رَبَّاهُ يَا رَبَّاهُ!
ومنه أيضاً:
لَا (كَعْبَ) يُسْعِفُنِي بِبُرْدَةِ شِعْرِهِ كَلَّا وَلَا (حَسَّانَ) فِي مَغْنَاهُ.
وهنا يشير للشاعر كعب بن زهير الذي جاء مادحاً ومعتذراً، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألبسه بردته، فسميت قصيدته بالبردة، ومنها قوله:
نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول.
ومن أسماء الأماكن: الحجاز، البقيع، السلام…
حين قال:
وَسَكَبْتُ دَمْعِي فِي (بَقِيعِ) حِمَاهُ.
اختار شاعرنا كثيراً من قصص سيرته صلى الله عليه وسلم؛ ومنها حادثة شق الصدر، حين قال:
شَقَّتْ مَلَائِكَةُ الضِّيَاءِ فُؤَادَهُ لِيَرَى الْوُجُودُ مِنَ السَّنَاءِ مَدَاهُ.
وقصة الجذع الذي حنَّ إليه:
مَاكُنْتُ إِلَّا (الْجِذْعَ) يَشْهَقُ جَوْفُهُ مَا كُنْتُ إِلَّا (الطَّيْرَ) فِي شَكْوَاهُ.
وكذلك قصة الغيمة التي ظللته:
قَدْ سَارَ وَالْغَيْمَاتُ تَحْرُسُ خَطْوَهُ وَفُؤَادُ (آمِنَةَ) الْحَنَانِ رُوَاهُ.
وكان ذكر هذه الحوادث في القصيدة طبيعياً غير متكلف.
ثم تناول جانباً مهماً؛ وهو ضرورة التعرف على هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو هدي شعاره التسامح والمحبة والحنان والعطف والرحمة:
لَمْ يَعْرِفِ النَّاسُ الْحَنَانَ وَلَا دَرَوْا أَنَّ التَّسَامُحَ فِي الْحَيَاةِ هُدَاهُ.
وأخيراً -وبعد كل هذا الثراء- تجدني أعجب من تساؤل الشاعر الذي يرى بيانه معطلاً، وقد أتى بهده الخريدة الرائعة في مدحه صلى الله عليه وسلم:
مَاذَا أَقُولُ وَذَا الْبَيَانُ مُعَطَّلٌ وَالصَّمْتُ يَطْحَنُ مُهْجَتِي بِرَحَاهُ.
فكيف ببيانك إن لم يكن معطلاً؟!
أدعو الله أن يكون هذا النص شفيعاً لك يوم القيامة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رقة الكلمة ودقة السبك وعمق المعنى قراءة في قصيدة “إنها دول” للشاعر شادي الساحل
الأستاذ الشاعر إبراهيم جعفري، رقم صعب في عالم الشعر، أحسنَ حينما اختار معرفاً لاسمه: “شادي الساحل”، فهو يشدو لنا بجميل شعره، ويتحد مع الساحل والبحر في مفرداته، إنه شاعر كبير، يطوِّع الحرف، وتلين لديه قناة الكلمة، وتخضع أمامه العبارات، وتنقاد له الصور.
قصيدته “إنها دول” نص مدهش بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني، وتبدأ الدهشة من العنوان، وتستمر إلى نهايته، ولا تنقضي بعد القراءة، فتظل مسيطرة على القارئ إلى حين.
يبدأ النص بتقرير ما يراه الشاعر ملائماً لفكره ورأيه وقناعته؛ حيث يعمل على توصيف بعض المعاني من خلال رؤيته الخاصة، فيتحدث عن الشوق والهوى والحب، والمنى برؤيته هو…
ثم يخاطب “هنداً” ويستعيد ذكراها التي ما غابت عنه، حتى لو وُئِدت تلك البسمة، ثم يمزج بينه وبين الطبيعة في تماهٍ رائع؛ حيث يطربه الموج، ثم يسأله، ثم يبعث قصيدته بين خيوط الشمس، والطيور تشدو وتحلق، ويظنها تحتفل رغم ما بها من الحزن والألم ، ثم يقرر حقيقة أن الحياة تمضي كما أراد لها الله، والأيام تدول بين الناس، فيفتح –لنا وله- نافذة أمل بأن الغياب ليس دائماً؛ لأنها دول:
حياتنا تتهادى في أعنّتها فيا غياب: رويداً إنها دولٌ.
تنوعت الأساليب في القصيدة بين الخبر والإنشاء، وذلك يعطي النص قدراً من التشويق، وكسر الرتابة، ودفع الملل.
وكان الخبر هو الأكثر استخداماً في النص، ومنه:
الشوق لهفة روحٍ والمنى أملٌ والحب رعشة قلبٍ والهوى شُعَلُ.
فمن الإنشاء ورد الأمر في قوله:
دع الدموع لعينٍ لا تفارقها كأنها فرضتْ، والعين تمتثل.
ومزج -ببراعته المعهودة- بين الإنشاء والخبر في بيت واحد، وهذه قمة القدرة اللغوية والبراعة البلاغية التي يتمتع بها شاعرنا:
يا هل ترد ليَ الأيام بسمتها؟ غاب الصباح وحالتْ دونهُ السبلُ.
فالشطر الأول إنشاء، والثاني خبر.
وهنا أيضاً:
وكنت أسمع عزف الموج يطربني فأين عزفك يا أمواج والجملُ؟
ولكنه بدل بينهما؛ فالشطر الأول خبر، والثاني إنشاء.
وأما من حيث المفردات؛ فالنص وظفها في إطارها السليم؛ مما جعلها قادرة على حمل المعنى، متسقة مع بقية المفردات، فأكثرَ الشاعر من ذكر الكلمات الدالة على الطبيعة، وهي أمر محبب في الشعر، ومنها:
البدر، الشمس، الغيمة، الطير، الموج…
فكانت جميع مفرداته موحية بمعانيها، وتحمل ظلالاً أخرى إضافية، يمكن للمتلقي استكناه ما يقصده الشاعر وأكثر.
ومن حيث العبارات والتراكيب والجمل: فقد نوع شاعرنا بين الجمل الاسمية والفعلية، ووضع كلاً منها في مكانها الصحيح، فالاسمية يستخدمها حيث أراد الثبوت والاستمرار:
ذكراكِ ما فتئتْ يا هند تُجهدني يا بسمةً وُئدتْ والشوقُ يحتفلُ.
والفعلية –وهي الغالبة؛ لأن نصه حي متحرك متمدد متجدد- حيث قصد التجدد والحدوث، ومنها:
بعثتُ بين خيوط الشمس قافيتي لعل طيف حروفي نحوها يصلُ.
القصيدة من بحر البسيط، وجاء هنا في حالته التامة بأربع تفعيلات في كل شطر، وهو بحر ثنائي التفعيلة، أو ما يسمى بالبحور الممزوجة:
مستفعلن فاعلن، أربع مرات موزعة على الشطرين.
أما الروي: فقد اختار شاعرنا حرف اللام المضمومة، واللام –كما هو معروف- من حروف الذلاقة، فمن خصائصها: قدرتها على الانطلاق من دون تعثر في تلفظها، وتتسم بمرونتها، وسهولة النطق بها.
وتزخر القصيدة بالصور الشعرية بكل أنواعها الجمالية؛ مما أكسب النص بُعداً جمالياً، يكتب له الخلود بسبب دهشة القارئ وإمتاعه، ومن ذلك:
الاستعارة في “حاكَ الغيابُ” في قوله:
حاكَ الغيابُ ثياباً لي لألبسها حتى الشموع لدور الشمس تنتحلُ!!
وكذلك في: “بسمةً وُئدتْ”، في قوله:
ذكراكِ ما فتئتْ يا هند تُجهدني يا بسمةً وُئدتْ والشوقُ يحتفلُ.
وما أروع هذه الصورة:
وكل غيمة بُعدٍ سوف تمطرنا وصلاً وكل عليلٍ منه يغتسلُ.
فالغيمة في زمن التنائي تمطرنا -لا ماء- وإنما “وصلاً”، يجمع المحب بحبيبه، ويشفي العليل؛ إذ يغتسل منه.
ويأتي الطباق: وهو التضاد الذي يجمع فيه الشاعر بين المعنى وضده؛ مما يبرز المعنى، ويزيده وضوحاً، وذلك في:
بُعد، وصل.
يبقى، رحلت… وغيرها كثير.
والمجاز المرسل في:
بعثتُ بين خيوط الشمس قافيتي لعل طيف حروفي نحوها يصلُ.
حيث ذكر “قافيتي” وهي جزء، وأراد الكل، وهو قصيدته.
ويبرز الجناس: وهو إيراد كلمتين تتشابهان في الحروف، وتختلفان في المعنى، والجناس يعطي النص بُعداً موسيقياً جميلاً بذلك الجرس الصوتي، ومن الجناس:
الطير، الطيور.
بسمة، بسمتها.
كما يكثر الترادف في النص؛ مما يؤكد المعنى، ومن ذلك ما ورد في البيت الأخير:
حياتنا تتهادى في أعنّتها فيا غياب: رويدًا إنها دولٌ.
بين “تتهادى” وهي فعل، و”رويدك” وهي اسم فعل بمعنى تمهل، وهما بمعنى واحد.
بلاغة الشاعر فاقت الوصف؛ حيث برز التناص في قصيدته، وكان بارعاً فيه حد الإتقان؛ حيث استغل معنى لشاعر آخر، لكنه لم يقتبسه، ولم ينسخه، وإنما نسج على معناه؛ “فالمعاني مطروحة في الطريق” كما قال الجاحظ، ومن نماذج التناص في القصيدة، يقول شاعرنا:
تشدو الطيور ترانيماً فتسعدنا والطير مرتجفٌ قد صابه الوجلُ
يبكي ونحسب أن السعد أنطقه! وهل يفسر ما يشدو به رجلُ!!
إذ يتناص مع أبي صخر الهذلي:
وإني لتعروني لذكراك هزّةٌ كما انتفض العصفور بلّله القطْرُ.
ومع:
ولا تحسبوا رقصي بينكم طربًا فالطيرُ يرقصُ مذبوحًا من الألمِ.
وهناك تناص ختم به قصيدته، حيث قال:
حياتنا تتهادى في أعنّتها فيا غياب: رويداً إنها دولٌ.
وذلك يشبه قول الشاعر:
دع المقادير تجري في أعنتها ولا تبيتن إلا خالي البال.
والتأثُّر بالقرآن يبدو جلياً في شعر شادي الساحل، ومنه في هذا النص قوله:
أغمضتُ عيني والأحلامُ تسكنُها وارتدَّ طرفي والأحلامُ تنهملُ.
وهو تأثر بقوله تعالى: (… قبل أن يرتد إليك طرفك…) النمل: 40.
وكذلك في العنوان “إنها دول”، عنوان القصيدة، وفيه تأثر بالغ بالقرآن الكريم، في قوله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) آل عمران 140.
وأما صوتياً: فقد برزت في النص موسيقاً داخلية، وذلك من تكرار حروف ومقارباتها في المخرج في بيت واحد، ونلحظ ذلك في تكرار حرف العين والغين في الأبيات الثلاثة الأخيرة:
دع الدموع لعينٍ لا تفارقها كأنها فرضتْ والعين تمتثل
وكل غيمة بُعدٍ سوف تمطرنا وصلاً وكل عليلٍ منه يغتسلُ
حياتنا تتهادى في أعنّتها فيا غياب: رويداً إنها دولٌ.
وكذلك تكرار حرف السين:
يبكي ونحسب أن السعد أنطقه! وهل يفسر ما يشدو به رجلُ؟!!
والشين في:
الشوق لهفة روحٍ والمنى أملٌ والحب رعشة قلبٍ والهوى شُعَلُ.
لم يرتكب شاعرنا أية هنات لغوية، ولا موسيقية، حتى التي يعدها بعضهم خطأ ، فتجيزها الضرورة الشعرية، بحجة ضبط الوزن؛ إذ يجوز -هنا- للشاعر ما لا يجوز لغيره، حين صرف “ترانيم ” وهي ممنوعة من الصرف؛ لأنها صيغة منتهى الجموع:
تشدو الطيور ترانيمًا فتسعدنا والطير مرتجفٌ قد صابه الوجلُ.
وهكذا كنا في سياحة مع قصيدة سليمة المبنى، عميقة المعنى، محكمة السبك، رقيقة الألفاظ، بديعة الصور.

قراءة في نص “تجاويف حلم” للكاتبة السعودية بدور بن سعيد:
قرأت –صدفةً- نصاً بديعاً للأستاذة القديرة بدور بن سعيد، وأنا يستهويني النص الجميل، ويستوقفني المعنى العميق، إنه نص يقف في أعلى درجة من درجات سلم النثر الفني، ويجاور أول درجة من درجات الشعر، نص رائع مكتنز بكل جمال.
النص دائري في أحداثه وتسلسله؛ إذ عادت الكاتبة إلى نقطة البدء؛ إذ بدأت وهي في مفترقي حيرتها، وانتهت عند مفترقي حيرتها، حتى في العبارات فقد بدأ النص بالخطى الثقيلة، وانتهى بالخطى الوئيدة.
أحكمت الكاتبة نسج نصها، وأجادت سبك فكرتها، ولم يوجد في النص أية ثغرات، وليس فيه أي خلل، ولا فجوات، فهو نص محكم رصين، فكل كلمة تؤدي دورها في مكانها، وتُسلمُك للتي تليها، وكل تركيب يحقق مقصوده، ويوصلك لما بعده.
تدهشك الكاتبة باستخدام “غير المألوف” من العبارات، فالجميع يقول: أقف في مفترق طرق، ولكنه عند بدور ليس مفترق طرق، وإنما مفترق حيرة، فكأن كل الطرق تؤدي إلى حيرة.
كذلك تغيِّر الكاتبة –بحكمة بالغة- طبيعة الأشياء، فالقطب الشمالي لم يعد متجمداً، والساعة لم تعد بها أرقامها التي تشير للوقت.
الوردة هي بطلة النص، فهي الهدية القيمة في فصل الشتاء، وهي التي زرعتها الكاتبة في مفترق حيرتها، وهي التي يزرعها الزارعون ثم يخسرون، وهي التي انبلجت أساريرها، وهي التي تُركت على الطاولة تثمينا لدور الطاولة في تقبل ما دار عليها من عبث.
لغة النص لغة شعرية رقيقة موحية، تضاهي أبلغ القصائد لغة،
من حيث المفردات الرقيقة والتراكيب الجزلة.
أما الصور البلاغية في النص فلا تحصى، وحسبي منها:
الاستعارات مثل:
نسج رداء الأمل.
أفيض بماء الصبر.
جمر الأرق.
تضحك شموس الضحى.
وكذلك التشخيص؛ حيث جعلت الطاولة كأنها إنسان يعاني ما يعانيه الإنسان حين قالت: “عرفاناً للطاولة التي تحملت عبثهم في الليلة السابقة” وهذا قمة الاتحاد بين الإنسان والمحيطات به من جمادات.
ويبرز التجريد، حيث جردت من نفسها شخصية أخرى وقالت: “إنها سئمت توبيخها، فمنحتها وردة”.
يوجد كذلك الطباق الجميل والتضاد الرائع بصورته كطباق إيجاب بين “الشروق والغروب”، أو كطباق سلب في “لينطفئ ولا ينطفئ”؛ مما أعطى المعاني وضوحاً.
ويظل النص يحمل القارئ لمشاركة الكاتبة حيرتها، وهي في مفترق حيرتيها بين العودة لارتداء ثوب الأمل، والبقاء حيث هي دون قدرة على التحرك؛ وذلك لثقل الخطى.
والحيرة السائدة في النص منطقية وطبيعية؛ لأن عنوان النص وهو تجاويف حلم، فالتجاويف متشعبة ومتعددة المسارات، ومختلفة الطرق، ولا تدري أي الطرق يمضي بك للمخرج الآمن.