- 24/04/2023 شدو الأعياد
- 24/12/2022 كلية العلوم الإنسانية ونادي أبها الأدبي يحتفيان باليوم العالمي للغة العربية
- 08/10/2022 الأديبة عنبر المطيري على مأدبة التوقيع
- 25/09/2022 مساء المفاخر الفاخرة للوطن
العين القارئة [ 110 ]

نظرةُ طائرٍ إلى قصيدة«مِلَّةُ الشَّيْطَان»؛للشاعر:دغيثر الحكمي

_______________________
_القصيدة:
عَلَى حُرَقٍ
أَهُدُّ رَصِيْفَ إِحْسَاسِيْ
وَأَحْرُثُ نَارَ أَنْفَاسِيْ
وَأَخْرُجُ مِنْ دَهَالِيْزِيْ
إِلَى المَسْدُوْدِ فِيْ الآتِيْ
أُنَاوِرُ طَارِقَ الأَبْوَابِ بِالمِزْلَاجِ
يَدْفَعُنِيْ إِلَى عُمْقِيْ
يَمُدُّ لِسَانَهُ المَفْتُوْقَ
نَحْوَ قَصِيْدَةٍ عَذْرَاءَ
يَلْعَقُ مُرَّ أَوْجَاعِيْ المُقِيْمَةِ
فِيْ وَرِيْدِيْ
يُفَكِّرُ خَارِجَ الصَّنْدُوْقِ
يَحْبِكُ خُدْعَةً
يَطْغَى
يَكِيدُ
يُجَاوِزُ المَعْقُوْلَ
لَا يَخْشَى وَلَا يَأْسَى
بِخَيْطِ الشَّمْسِ لَا يُكْسَى
يُرَتِّلُ مِلَّةَ الشَّيْطَانِ
فِيْ سُوْقِ الفَسَادِ
وَإِنْ يَزِدْ يَنْقُصْ
عَلَى قَدْرِيْ المَجِيْدِ
أُلَمْلِمُ مَا تَشَظَّى بَيْنَ خَيْبَاتِيْ
وَأَرْحَلُ فِي احْتِمَالَاتِيْ
أَصَدُّ عَنِ المُصِيْبَةِ فِي العَقِيْدَةِ
لَسْتُ أَدْرِيْ
كَمْ سَأَحْمِلُ مِنْ خَسَارَاتِيْ؟!
أَتَحْمِلُنِيْ ابْتِهَالَاتِيْ؟!
مَتَى سَأَعُوْدُ مِنْ ذَاتِيْ؟
إِلَى أَيِّ المَدَى تَجْرِيْ انْطِفَاءَاتِيْ؟!
وَلَكِنِّيْ الأَعَزُّ عَلَى الحَقِيْقَةِ
حِيْنَ كَانَتْ مِنْ عَبَاءَاتِيْ
فَكَيْفَ إِذًا سَيَكْسِرُنِيٍ
خَذُوْلٌ مِنْ بَعِيْدِ؟!
_______________________
-التأملات:
وقفةٌ مع عنوان القصيدة:
الملّة كما في القاموس:
الشريعةُ أو الدِّينُ، كمِلَّةِ الإِسلام والنصرانية، وهي اسمٌ لما شَرَعَ اللهُ لعباده بوساطة أَنبيائه ليتوصلوا به إِلى السعادة في الدنيا والاَخرة.
فإذا كانت ملة الدين الحنيف بهذه النزاهة؛فإنّ (ملّة الشيطان)تؤول بمن ينضوي تحت لوائها إلى الخُسران المُبين..
لابدّ إذن-والحالة هذه- أن ينشأ صراع دام ؛تتسع فيه الهوَّة ؛بين الإنسان (ذو الفطرة الصالحة النقيَّة)؛والشيطان (ذو الطرائق الاحتيالية الماكرة).
وهذا ما ستعرض له القصيدة في معانيها المتتابعة ؛وأفكارها المحتدمة المنصبَّة على أنَّ الشاعر الإنسان ؛عندما يتسلح بالمعرفة الواعية؛ والبصيرة النافذة ؛ستكون له الغلبة على نزوات الشيطان وألاعيبه؛وحبائله ..
ولست أعدو الحقيقة إذا قلت إننا هنا أمام قصيدةٍ عذراء المعاني والمباني؛قصيدة تتجلّى فيها أوجاعُ شاعرها وهي مقيمةٌ في وريده النابض بالحياة؛ووجدانه المزدحم بالأسئلة الشائكة…
قصيدةٌ ائتلق فيها صوت الشاعر ؛وهو يخوض معركة الوجود ؛غير هيَّاب ولاوجلٍ من المخاطر المحتملة ؛فرأيناه يعدُّ العُدَّة لافتضاض(المسدود في الآتي)؛ وذلك بواسطة إمعانه الفكري في الزمن القادم المتسربل بأردية الغيب.
ولمسنا -عبر تراكيب لغته- (مناورة الآخر الشبيهة بالمكابدة الجسيمة-إذ تتمثل في (طارق الأبواب )؛وهو(يمدّ لسانه المفتوق)؛فلا يخرج الشاعر من وراء ذلك بطائلٍ يذكر في المواجهة الأولى.
وعلى الرغم من تفكير ذلك الطارق (خارج الصندوق)؛ وهو تفكير يشي أو يوحي بمعنى أدق بالاستنارة والوعي والحصافة ؛إلاّ أنه يتمخض عن كائن طاغٍ مريد مستبدّ ؛آل به جبروته؛فارتكس به في (تراتيل شيطانية)؛ينشدها في(سوق الفساد).
_______________________
-الإطار العام للنص؛وبعض أدواته:
-بُني النص-فيما أرى- على ثلاثة مقاطع وجدانية الطابع ؛تآزرتْ جميعها في تشكيل التجربة الشعرية؛ورسم ملامحها..
-يستخدم الشاعر لغة التلميح المكثّف-وهو يرصد شظايا الخيباتِ المتتالية ؛ورحيله في الاحتمالات المستقبلية المُبهمة ذات الصلة بمطامحه ؛وبطولاته .
هذه المحاور وما إليها ؛تقف إزاءها سلسلة من الأسئلة الوجودية المضطرمة في أعماق الشاعر؛تتصدرها رغبةٌ عارمة؛ تتساءل عن زمن العودة من الذات ؛”متى سأعود من ذاتي”؟!
-يستشفُّ من هذا النصّ العميق؛مضامين أخرى؛لعلَّ أبرزها:
-أنَّ الخساراتِ من أجل العقيدة شرفٌ الإنسان المؤمن ؛ولله الشاعر القائل:
إِذا أَبقَتِ الدُنيا عَلى المَرءِ دينَهُ
فَمافاتَهُ مِنها فَلَيسَ بِضائِرِ!
-وأنَّ الشيطانَ المريد بما عُرف عنه من مكر وخداع وضلال مبين ؛شأنه شأن الساحر (ولايفلح السَّاحر حيث أتى).
وهناك المزيد من الرؤى والأفكار مما لايتسع المجال لتناولها في هذه العجالة..
___________
-بعض ظواهر النص الفنية:
-جانب اليقظة عند الشاعر واضحٌ وضوحَ الشمس؛في تراكيب النص إجمالاً؛وأعني باليقظة :المزج بين النظرة العقلانية والعاطفية؛بمقادير متساوية..
-يحشد الشاعر عدة كلمات مضافة إلى (ياء المتكلم)؛من مثل:
إِحْسَاسِيْ/أَنْفَاسِيْ
دَهَالِيْزِيْ/عُمْقِيْ/أَوْجَاعِيْ/وَرِيْدِيْ/ قَدْرِيْ/خَيْبَاتِيْ/احْتِمَالَاتِيْ/خَسَارَاتِيْ/ابْتِهَالَاتِيْ/ذَاتِيْ/انْطِفَاءَاتِيْ/عَبَاءَاتِيْ
وذلك يؤكد سيطرة القلق على الشاعر من ناحية؛وطموح الشاعر المتقد في أعماقه من ناحية أُخرى؛إلى دحض الأباطيل والسخافات وقمعها ؛وهو في ذلك كله يستمد طاقات المواجهة من الذات الواعية؛عاقداً العزم على تجاوز الخيبات ما أمكن ذلك.
-اتكاء الشاعر على الفعل المضارع على نسقين اثنين:المتكلم؛وضمير الغائب؛كما في هذه الكلمات:
أَهُدُّ /أَحْرُثُ/أَخْرُجُ/أُنَاوِرُ/يَدْفَعُنِيْ/يَمُدُّ/
يَلْعَقُ /يُفَكِّرُ/يَحْبِكُ/يَطْغَى/يَكِيدُ/يُجَاوِزُ..الخ؛وذلك أكسب التجربة حضورها الزمني ؛وواقعيتها؛وحدَّتها.
-تتراوح تعبيرات النص في استخدام الأسلوبين :الخبري والإنشائي ؛بما يشي بحالة الشاعر النفسية ؛وتطلعاته البعيدة..
وهناك المزيد من الرؤى والأفكار مما لايتسع المجال لتناولها في هذه القراءة العجلى..وفي الختام:
أحيي شاعرنا القدير على هذه السبيكة؛ وأحيي إنجازاته الإبداعية عموماً ذات المذاق الخاص..
_______________________

(( جدائلُ الصمتِ ))
شعر/إبراهيم مسير المباركي
________________________
-تقديم :
محمد الأمير
وكما تتدفق المياه الرقراقة؛وكما تتفتح الورود في خمائلها ،وبساتينها المونقة ؛يطلُّ علينا الشاعر القدير:إبراهيم مسير المباركي؛بمعزوفةٍ أطلق عليها (جدائل الصمت)؛وهو عنوان حيويٌّ برَّاق ؛استثمر فيه الشاعر فنّ الاستعارة استثماراً بارعاً؛وأفسح لخيالاتنا مجال الطلاقة الرحبة؛ في أن تتلمّس نوعية الصلة المعقودة بين (الجدائل والصمت).
هذه الجدائل المستقرّة في أصداف الصمت المطبق ؛المستغرقة في بحار الحيرة البركانية- إن صحَّ التعبير-سرعان ما تتفجر ينابيعها؛وتتشكل لبناتها في أُطر زاهية قائمة على تراكيب لغوية متينة؛ورؤى فنيّة مشعَّة؛تنطوي على غربة روحيةٍ قاتلة؛فرضتْ على الشاعر ضرورة الكشف عنها؛والمواجهة الباسلة؛وفقاً لمقتضيات الموقف الحاسم الذي هو بصدده؛وطبيعته الصاخبة.
إنّنا هنا-كما أسلفت- أمام غربةٍ روحية مؤججةٍ؛ تلفح نيرانها المستعرة كيان الشاعر؛وتستلب منه صفاء النفس وهدوءها المنشود وطمأنينتها المأمولة .
لاريب إذن أن تتمخض تلك النيران المندلعة عن سلسلة مؤاخذاتٍ لاتكتفي بمجرد الوقوف السلبي على الحِياد؛أو أن يضرب الشاعر عن وخز أشواكها الحادَّة صفحاً؛وإنَّما أملتْ عليه ذهنيته المتقدة؛ووعيه المتزن أن يعمد إلى تصحيح المسار ؛وتسوية وعثاء الطريق؛ما أمكن ذلك؟!
أبعد هذه الإخفاقات المشهودة ؛والانهيارات المتتالية؛يحسن بالشاعر السكوت؟!
إنَّ ما يشهده صُنَّاع الجمال؛وذوو النباهة في مآلات المشهد الشعري العام؛بل وفي ميادين التواصل الإنساني ؛من هبوطٍ واضح ملموس ؛في مستوياتٍ عدَّة لعلَّ أبرزها:اختلاط الأوراق ؛وغياب الأصوات الجادَّة؛واتساع مساحات الأوهام والآثام ؛وما إلى ذلك من خواءوإسفاف ملحوظين ؛لمما يستدعي التصدّي والمواجهة وإعادة المياه إلى مجاريها كمايقال..
وما الشأن إذن في لغة هزيلة؛وهياكل خاوية؛وأساليب فجَّة ملتوية؛تمطرنا ليل نهار بصنوفٍ لاآخر إليها من (الوهم والآلام والجدَل السفسطائي العقيم)؟!
-وماظنكم في من يخالف الفطرة الإلهية ؛ويشق “عصا الطاعة”؛أو”يقلب ظهر المجنّ” على النواميس الكونية؛والأعراف الذوقية ؟!
غيداء حسناء تستحيل -بين عشية وضحاها- رجلاً؛بل مسخاً شائهاً !!
مما حدا بالشاعر إلى أن يقول في نبرةٍ عالية:
(هذا الغثاءُ الَّذي يسْتَنْسِخُ البطلا)
إنَّ ملامح ذلك الغثاء لتتبدَّى في التكريس المحموم لتسمية الأشياء بغير أسمائها؛وإعلاء منازل الأقزام دون أدنى اكتراث!
ومع مايبدو من قتامةٍ سائدة؛ومشاهد مضطربة في إيماءات الشاعر؛ ومضامين قصيدته ؛إلا أنَّه لم يسقط في وهاد اليأس؛ودركات السأم ؛بل ظلَّ على العهد به؛متشبثاً بروح التفاؤل ؛قرين الحلم ؛ مشحوذ البصر والبصيرة ؛كما في هذا البوح الآسر:
آماليَ الخضرُ ما زالتْ هنا حلُماً
يُرتّبُ البيدَ والأمواجَ والسُّبُلا!
وختاماً أبادر إلى القول إنني لست
في مقام النقد أو التقويم القائم على استشفاف خلجات الشاعر؛ومحاولة تجليةِ أبعاد تجربته الفنية للعيان؛وإنما لذلك مجالٌ آخر؛وغاية ما كنت أسعى إليه هنا هو تقديم قصيدة شاعرٍ نابه ؛دقيق الشعور؛مرهف الإحساس؛غيور على لغة الضَّاد والقيم النبيلة؛يقظ الفكر؛وحسبه أنَّه استوعب رسالة الفنّ الأصيل؛وأدرك مهمة الشاعر الحقيقية؛وتقبلوا تحياتي🌷
_______________________
-القصيدة:
أستغفرُ اللهَ ، آفاقي هنا لغةٌ
تستمطرُ الوهمَ والآلامَ والجدَلا
ينأى بها الليلُ آثاماً وأضرحةً
والعاكفونَ كوجهِ التيهِ مُرْتَحَلا !
جدائلُ الصمتِ في أعناقهم عشقتْ
هُوجَ الرياحِ.. فصارتْ غِيدُهم رجلا
تجذَّرَ الخوفُ في أفواههم فَنَمَا
هذا الغثاءُ الَّذي يسْتَنْسِخُ البطلا
شمائلُ الرَّملِ لا..لا.. لم تعُدْ وطناً
يُحدِّثُ النّجمَ والأمجادَ والطّلَلا
ياغربةَ الرُّوحِ … والظلماءُ موغلةٌ
تساقط النورُ من عينيكَ بلْ أفَلا !
أيرتديكَ الدُّجى والفجرُ مابَرِحتْ
أضواؤُهُ تبعثُ الآياتِ والأملا ؟
مضى بكَ الحبُّ ياقلبي أتحملهم ؟
يارحلةَ الصبرِ في أطيافِ مَن رحلا
آماليَ الخضرُ ما زالتْ هنا حلُماً
يُرتّبُ البيدَ والأمواجَ والسُّبُلا
آمنْتُ أنَّ بقائي لونُ قافيتي
والعاثرون همُ بَوحي الَّذي قُتِلا!

يا ذا الطموح الملائكي؛ اِقرأ
على عادة بعض قُرّاء الكتب تعجبني خُلاصاتٌ، في الروايات خاصةً، يستوفيها كُتَّابُها بحصافةٍ ورهافة، ويلقاها قارئُها كامنةً متأهِّبةً مُسدَّدةً، فتكون بلحظةٍ كمثل يدٍ ابتهلَ إليها آرتور رامبو في فصل في الجحيم؛ «وماذا أقولُ عن اليد الصديقة!»
تراكُم المعارف والخبرات شرطٌ لنشوء الحضارة ودوام ازدهارها، ولَطالما لاحقَ مُعلِّمون تلاميذَهم بمقولةٍ لاعِنة؛ «عَلِّم في المتْبلِّم يصبح ناسي» تعبيراً عن خيبة أملهم وجهودهم المهدورة في تعليم مَن هم غير مستجيبين للتعلُّم ومراكمة المعارف. وما ابتعد نجيب محفوظ عن هذا المحتوى، في أولاد حارتنا، لـمّا كتبَ عبارةً صارت مُقتطفاً شهيراً؛ «ولولا أنّ آفة حارتنا النسيان ؛ما انتكسَ بها مثالٌ طيب. لكن آفة حارتنا النسيان»!
وأتت فيها لكنْ الاستدراكيةهذه حادةً جارِحةً تُغلِّظ معنى خيبة الأمل الأكيدة.
ويكتبُ عبد الفتّاح كيليطو في والله إنّ هذه الحكاية لَحكايتي؛ «في الحب، ومثل ذلك في الأدب، يجب ألّا تعرفَ الكثيرَ؛ ذلك أنّ كل حُب وكل كتاب هو تجميعٌ لِقطعٍ انتُقيَت اعتباطياً»، وكان قد كتب قبل ذلك في أنبئوني بالرؤيا؛ «حتى في قضايا الحب؛ التزكيّة ضرورية!» وهذا الأخير هو قولٌ مثيرٌ جارِحٌ أيضاً؛ فلا قِبل للنفوس الحالمة بفظاظة التزكيّة التي تُصادِم الرومانسيةَ وتكايد تيّاراتِها التحتيّة الماورائية الحلوة، إلا أن هذه التزكية تُستساغ وتُعاش بواقعيتها في سياق الحوادث المرويّة بالكتاب، ومن أصل الحادثة التي خَلَّقت هذا المقتطف يمكن إلحاق اشتراطات لإجازته على وجه العموم؛ إذْ يتوجّب، مثلاً، أن تكون مثل هذه التزكيّة مُخبّأةً في سياقٍ موازٍ، مُستشَفَّةً وكأنها رميةٌ عفوية شاردة في ذاتها، ويكون الشعورُ بصدقها أكيدا.
تحظى أعمالُ نجيب محفوظ بانتقاءاتٍ عديدة تُؤخذ كمقتطفات أو خُلاصات، يعملُ بعضُها عملَ وسائل التنمية البشرية، من بينها هذا المقتطف الشاعري، الذائع، الذي اختتم به الكاتب رواية الحرافيش؛ «فقال له قلبُه: لا تجزع فقد ينفتح البابُ ذات يوم تحيةً لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة».
أحسبُ عبارةَ “براءة الأطفال”، بهذا المقتطف المواسي، شائعةً إلى حدٍ يسمح، لدواعٍ إبداعية، باستحسان الحرص على اجتناب استعمالها، بل قد يلزم أيضاً الاحتراسُ، هوناً ما، إزاء التعميم المطلق لمفهوم “براءة الأطفال” والتسليم به جزافا.
ولعل أكثرية الذين قرأوا هذه العبارة الختامية للحرافيش قد فهموها على الوجه الذي كان قد انتواه لها مؤلِّفُها، ويبدو لي أن المعنى الذي قصده هو أن الباب الموصَد قد ينفتح، على غير انتظار، تحيةً وتقديراً وإحساناً ومكافأةً لطائفةٍ من البشر، حدَّدها هو بقوله: “الذين يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة”.
ولعلنا جميعاً قادرون على فهم معنى براءة الأطفال، لكن ما معنى طموح الملائكة!
لو أنّ الملائكة قد استحقوا ملائكيتَهم ومقامَهم السامي الفريد لأسبابٍ فإنّ أولها هو خلوُّهم من الطموح؛فليس هنالك، في رأيي، ما يمكن أن يُسمى بـ”طموح الملائكة” إلا إذا كان طموحهم المقصود هو تفانيهم الكامل في تأدية وظائفهم الملائكية من استقامةٍ وتلبيةٍ وما إلى ذلك.
لكن قد يكون المعنى الذي أراد الكاتب التعبيرَ عنه هو، ببساطة: “الطموح الفردي -لأشخاص هذه الطائفة- إلى إدراك وبلوغ المستوى الأعلى من النقاء والطُّهر والسَّويَّة بحسب المعيار المتجذِّر في الوجدان العام لمفهوم الملائكية”، لكن ما أوسع الفارق بين معنى طموح شخصٍ يرغب في الوصول إلى الملائكية ومعنى طموح الملائكة!!
ويبدو لي أن نجيب محفوظ كان قد أراد، على الأغلب، لمسةً شعرية لخاتمة الحرافيش. وفي أعراف هذه الشعرية؛ حين تتوسَّط “واو العطف” عبارتيْن متماثلتيْن في التركيب تتهيّأ لهذه الواو حقوقٌ وسُلطةٌ مُستمدَّة من العبارة التي تأتي قبلها تُبْسطها على العبارة التي تأتي بعدها، بُغية إرساء توازنٍ وانسجامٍ هما المؤهِّليْن إلى تحقيق مثل هذه اللمسة الشعرية، ومثال ذلك “واو العطف” الكائنة بين عبارتيْ “براءة الأطفال” و”طموح الملائكة”، المتماثلتين في كونهما كليهما “مضاف ومضاف إليه”، وهذا يعني أن أُسسَ تأويل عبارة “براءة الأطفال” تحكم، بالضرورة، تأويلَ عبارة “طموح الملائكة”.
وفي هذا المقتطف يتحقّق التوازنُ الموسيقي اللغوي بين “براءة الأطفال” و”طموح الملائكة”، بينما لا يقابله ولا يسانده توازنٌ في ناتج المعنى على يمين وعلى يسار واو العطف.
التوازن المقصود بين المعطوف والمعطوف عليه يستلزم أن تكون التخريجات اللغوية والتأويلات الممكنة متماثلة على الناحيتين، فإذا قِيل إن الشخص الذي سوف يُفتح له الباب يتسم بـ”براءة الأطفال” أي بالبراءة التي يتميّز بها شخوص الأطفال، فينبغي تطبيق القياس نفسه بخصوص “طموح الملائكة”، فيُقالُ إن الباب سوف يُفتح للشخص الذي يتسم بالطموح الذي يتميّز به شخوص الملائكة، وهذا معنى منعدم؛ حيث لا طموح للملائكة، وما من فرصةٍ، في ظنّي، لتأويلٍ آخر لعبارة “طموح الملائكة” ذلك أنّ ما يحكم الأمرَ هنا هو التأويل الأول والوحيد والمباشر لعبارة “براءة الأطفال”.
قد يشي شيوعُ هذا المقتطف، شيوعاً مقترناً بفهمِه على وجهه المراد له، بوجود مؤلفاتٍ يسندها حظُّ طيب، وما من فضلٍ عليها لأحد، إذْ يتوفّق قراؤها في الوصول إلى لُب المقصود منها دونما استرابة مهما ابتعد الكاتبُ عن التعبير الدقيق المراد لفكرته، ولَربما يحدث العكسُ أيضاً لمؤلفاتٍ أخرى، ولا حيلة لأحدٍ في ذلك. وعلى أية حال تستحقُ العباراتُ التي تصير مقتطفاتٍ أن تتملّك كلٌّ منها فرادتَها التامة التي تصونها من الاجتراء عليها وتهشّ عنها التزيُّد وتستبعدها من التنميط. فإذا افتُقِدت منها الفرادةُ، بحتميتها وحرفيَّتِها ودِقتها، أمكنَ المماحَكة عليها واقتراح البدائل لها، ولا يعود ثمة ما يحميها من إسداء تبديلاتٍ وتعديلات، ولربما استُمِيل القارئُ أكثر لو أن خاتمةَ هذا المقتطف كانت قد جاءته على تحريفٍ مثل: «بصبر المكروبين؛وتواضُع الأنبياء» أو «بأُثرة الأمهات ؛ودماثة القانعين»،،، إلخ.
على أية حال فالمسألة في مقتطف نجيب محفوظ تتعلّق ببابٍ ينفتح فجأة من تلقائه، كُرمى للمصطفين المقترنين بأسمى الشمائل، وهو في هذا يختلف عن أبوابٍ مُغلقة ينبشها ويطرق عليها عبد الفتّاح كيليطو، وهي أبواب عُرِفت بوجوب الامتناع عن فتْحِها، غير أن مفاتيحها -على الرغم من بقائها مطوَّلاً بأيادي الآخرين العاديين- تقع في أيدي الفضوليين، غير المتحوِّطين ولا المكترثين بالتحذير، ممن لديهم اجتراء ويحفِّزهم شغفٌ ويستجيبون لإغواء المجهول ويتمادون حتى ليختلط عليهم الشوفُ والعماء؛ مثل حسن البصري في ألف ليلة وليلة.
والبابُ إنْ ينفتح فليس يُعرَف أهو خيرٌ أم شرٌ ذاك الذي يتأتّى منه، ذلك أنّ الخير والشر متضافران متداخلان متفاعلان، وليسا على طرفيْن، فما يجيء من الباب، الذي انفتح بعد طول إغلاقٍ، هو عقابٌ مثلما هو مكافأة. ثم إنه مكافأة مثلما هو عقاب. ولَئن استظهرَ نجيب محفوظ في رواية الحرافيش خبايا حرافيشَ ودراويش وتكايا وأناشيد وفتوات وعركاتٍ حسمتها النبابيتُ في الحواري والساحات، فقد دأبَ كيليطو على استكناه أسرار حرافيشِه وفتواتِه ودراويشِه من كُتّابٍ وصعاليك ودارسين وشعراء، عبر الزمان، في روايتيْ أنبئوني بالرؤيا ؛ثم في والله إنّ هذه الحكاية لَحكايتي، وكان عنده خبر عركاتِهم التي لا زالت أصداءٌ منها قيْدَ السجالات؛ وقد لا يكون ثمة انقطاعٌ بين قصص شهريار؛ وابن خَلِّكان والجاحظ ؛وابن رُشد؛ والتوحيدي والمعرّي؛ وقصص عاشور الناجي؛ وفرج الجبالي؛ وجُعلص؛ وحسونة؛ والحاجري ؛والقُللي؛وليس من غضاضةٍ في أن يتناظرَ عراكُ حارات الحسينية والعطوف وبولاق مع سوابقِه في ألف ليلة وليلة والإمتاع والمؤانسة ومثالب الوزيريْن وكليلة ودمنة ومقامات الحريري وكُتبٍ غيرها منحولة وكُتبٍ ملعونة ومشؤومة.
ومن كيليطو أُرفِقُ مقتطفاً صِيغ مرتيْن هو؛ «لا يجوز الحديثُ عن كتابٍ إلَّا لِمَن يستطيع كتابتَه»، وقد كتبَ كيليطو هذه العبارة، باللغة العربية مباشرةً، في روايته والله إنّ هذه الحكاية لَحكايتي، وسبقَ له أنْ كتبَ مثيلتَها، بالفرنسية، في روايته أنبئوني بالرؤيا، وتُرجِمت العبارة إلى العربية على هذا النحو: «ليس جديراً بتأويل عملٍ أدبيّ؛ إلا القادرُ على كتابته».
في روايته أنبئوني بالرؤيا، استخلص كيليطو فكرةً جوهرية من حكاية عطّاف، الواردة في بعض طبعات ألف ليلة وليلة، ويُحكى فيها أن الخليفة هارون الرشيد قام من نومه في إحدى الليالي منقبضاً ،فأمر باستدعاء جعفر، الوزير، الذي جاءه مسرعاً واقترحَ عليه، لمداواة الحال، مطالعةَ كتابٍ، فجيء له بكُتبٍ، تناول منها واحداً عتيقاً، وفتحه عشوائياً على صفحةٍ وراح يقرأ بعينيه، وسرعان ما انتابه الضحكُ حتى انفلت الكتابُ من يده، ثم عاد فأمسكه وقرأَ في صفحةٍ أخرى فاغتمَّ وجهُه وغلبه البكاء. !
كان جعفر يشهد، مُتعجِّباً، تحوُّلَ الخليفة من الضحك إلى البكاء، حتى إنه، لإشباع فضوله، اجترأ على الاستفسار من أميره؛ إلام كان الضحك؟ ومِم كان البكاء؟ لم يستسغ هارونُ خلوَ الاستفهام من الوجاهة ومن المبرِّر، فصدمَ وزيرَه بغضبٍ مفاجئٍ محتدم، وأجابه مُهدِّداً وآمراً إياه أن يجلب له مَنْ لديه القُدرة على استشفاف سبب ضحكه وسبب بكائه، ويستطيع، من تلقائه، أن يعرف الكتابَ من أوله إلى آخره، وإلا ضربَ عُنقَه!
هل كانت حكاية عطّاف، في ألف ليلة وليلة، هي منشأ هذه الفكرة التي بالمقتطف؟
يومئ كيليطو، في أنبئوني بالرؤيا، إلى مصدرٍ أقدم هو سِفْر دانيال بكتاب التوراة، ويُحكى فيه أن الملك البابليّ “نبوخذنصّر”، الذي عاش قبل ميلاد المسيح بستة قرون، حَلمَ أحلاماً أزعجته وطيّرت عنه نومَه، فأمرَ باستدعاء المجوس والسحرة والعرّافين والكلدانيين، فجيء له بهم، فقال لهم: «قَدْ حَلَمْتُ حُلْمًا وَانْزَعَجَتْ رُوحِي لِمَعْرِفَةِ الْحُلْمِ»، فأجابوه: «أَخْبِرْ عَبِيدَكَ بِالْحُلْمِ فَنُبَيِّنَ تَعْبِيرَهُ»، فأجابهم: «قَدْ خَرَجَ مِنِّي الْقَوْلُ: إِنْ لَمْ تُنْبِئُونِي بِالْحُلْمِ وَبِتَعْبِيرِهِ، تُصَيَّرُونَ إِرْبًا إِرْبًا وَتُجْعَلُ بُيُوتُكُمْ مَزْبَلَةً. وَإِنْ بَيَّنْتُمُ الْحُلْمَ وَتَعْبِيرَهُ، تَنَالُونَ مِنْ قِبَلِي هَدَايَا وَحَلاَوِينَ وَإِكْرَامًا عَظِيمًا. فَبَيِّنُوا لِي الْحُلْمَ وَتَعْبِيرَهُ»، وبعد جدالٍ أجابوه: «الأَمْرُ الَّذِي يَطْلُبُهُ الْمَلِكُ عَسِرٌ، وَلَيْسَ آخَرُ يُبَيِّنُهُ قُدَّامَ الْمَلِكِ غَيْرَ الآلِهَةِ الَّذِينَ لَيْسَتْ سُكْنَاهُمْ مَعَ الْبَشَرِ»، فلم يتقبّل منهم قوْلهَم؛ «لأَجْلِ ذلِكَ غَضِبَ الْمَلِكُ وَاغْتَاظَ جِدًّا».
وبحسب رواية الحكواتي الشامي، المسمّى “نهَى” في رواية أنبئوني بالرؤيا، الخبير بحكايات ألف ليلة وليلة، فإن الملك شهريار، بعد أن أتمّت شهرزادُ الألفَ ليلة وليلة في حكْي الحكايات له، استدعى كُتَّابَ مملكته وطلبَ منهم كتابةَ كل تلك الحكايات، بحذافيرها، التي حكتها شهرزاد له وحده، في تمام غيابهم! وكاد شهريار أن ينكِّل بهم، على صِراط نبوخذنصّر وهارون الرشيد، لولا أن شهرزاد تدخّلت وأحضرت الألفَ كتاب التي هي المصادر الأصلية لحكاياتها الليلية، ويومئ كيليطو؛ «الكتابُ المطلوبُ كتابتَه كان مكتوباً سلفاً». إنّ نبوخذنصَّر، ومن بعده هارون الرشيد، ومعهما شهريار، استحقوا أن يغتاظوا، ويغضبوا، بيقينٍ وبداهةٍ، على العرّافين الذين طلبوا التبيينَ وتسوَّلوا إمدادَهم بمعرفةٍ كان من المتوجِّب عليهم، بمقتضى قُدراتهم في المعرفة، أن يلتقطوها بأنفسهم ويحوزوها.
ولأن نبوخذنصّر كان مقتنعاً بعدالة مطلبه، فقد بدأ رجالُه في تقتيل المغضوب عليهم، إلى أن جاءه واحدٌ منهم هو دانيال فأخبره بكل تفاصيل الحلم، ومن ثَم بتأويله!
إنّ ما أتاه دانيالُ لَمُبهر، وعلى الرغم من إعلانه بأنّ معونةً إلهية قد آزرته في مسعاه فلقد برهنَ على أن نبوخذنصّر لم يكن مُشتطّا؛بل كان المطلبُ العسير امتحاناً نزيهاً عُقِد للعرّافين فيتسنّى للجدير منهم أن يُبرِز صَكَ جدارته.
وكان نبوخذنصّر وهارون الرشيد يتحرّيان مَنْ ذا الذي بمقدوره أن يعطيهما التأويلَ الصادق الصائب، لأنهما كانا يبتغيان ضمان قوْل الحقيقة ووصولَ الرسالة الصحيحة الآتية إليهما من غَيْبٍ، يريدان اجتناب الخديعة، يخشيان التضليلَ ويتحسّبان من الكذب والغش والتدليس وأساليب المواءمة والتزييف والتنميق وتلفيق التفاسير وتدبيج التأويلات المتلاعَب بها من قِبل أولئك العرّافين الأسلاف الذين أُنيط بهم ولادة القارئِ الناقِد الشاعر الرائي البصير العارِف الملعون الموصوف من لدن آرتور رامبو.
وما الكتابُ، واقعياً، إلا ما قرأه فيه قارئُه؛ يخُطُّ الكاتبُ فإذا المكاتيبُ بلا وجودٍ إلى أن يقرأها قارئٌ، وإذا هي بلا وجودٍ على النحو الذي أراده لها كاتبُها إلا أنْ يقرأها قارئٌ حقيقيٌّ، من طِينة دانيال هذا الذي أبانَ أنّ مَطلبَ نبوخذنصّر وهارون الرشيد لم يكن متعسِّفاً، وأن يقينَ غضبِهما كان مُبرَّراً، وبداهةَ سخطِهما كانت سديدة. لقد تبوأَ دانيالُ مهمتَه قارئاً وكان ذا عبءٍ جسيم. وإذا كانت مثل تلك الأعباء هي من أنصبة القارئ؛ فما بالنا إذاً بعِبء الكاتب، وما العبءُ في غاية الأمر إلا صنوٌ للطموح في أفضل معانيه. !
ولئنْ سعى دانيالُ، بطموح الملائكيين، وراء معرفته واستشفّها، فلا عزاء ولا مناص لـمَن لا يرومُ معرفةً ولا يطلبها ولا يريدها، لكنما تدخله هي من حيث لا يدري، وتسكُنه إلى الأبد بسطوتِها الغامضة، فحين اقتيدت آنتيجوني، في مسرحية سوفوكليس، إلى القبر الصخري لِتُدفَن فيه وهي حيّة تنفيذاً لعقوبتها، قالت إنها لا بد أن تموت شابةً، وإنها قد عرفت بذلك في كل عمرها، وإنها لم يكن لها أن تمنع نفسَها عن هذه المعرفة. ومسألة آنتيجوني هي مسألة معرفة، لا هاجس ولا إحساس. وكذلك كان رامبو قد كتبَ في رسالة إلى أهله، حين كان في عدن؛ «عرفتُ منذ زمنٍ بعيد أني لن أعيش حياةً أشقى من حياتي هذه».!
ولَكأن كتاب كليلة ودِمنة كان على تجاوبٍ مع مسألة ضرورة الاستيثاق من نزاهة التأويل، ففي باب (إيلاذ وبلاذ وإيراخت) يأتي هذا الكتابُ بمثالٍ صريح عن التلاعب في التأويل حين يحكي حكاية الملك “بلاذ” الذي نام ذات ليلة «فرأى في منامه ثمانيةَ أحلامٍ أفزعته، فاستيقظَ مرعوباً، فدعا البراهمة، وهُم النسّاك، ليعبِّروا رؤياه، فلما حضروا بين يديه قصَّ عليهم ما رأى، فقالوا بأجمعهم لقد رأى الملكُ عجباً فإنْ أمهلَنا سبعةَ أيام جئنا بتأويله. قال الملكُ قد أمهلتُكم!فخرجوا من عنده ثم اجتمعوا في منزل أحدهم وائتمروا بينهم». لم يتحرّز الملكُ فأنبأَ العرّافين البراهمة برؤياه وأطلعهم على سريرته، وبدافع الرغبة في الثأر والانتقام اتفقَ أولئك البراهمةُ على اصطناع تأويلٍ موافقٍ لهواهم ومصالحهم وتقديمه إلى الملك من أجل حَضِّه على أن يقتل زوجتَه المحبوبة الملكة “إيراخت” وابنَه الأثير لديه “جوير” ووزيرَه الوفي الحكيم “إيلاذ” وسائر أحبائه وخُلصائه، قاصدين إهلاكَ الملك ومُلكه ومملكته بمقتضى تأويلهم الزائف الذي أوعزوا به، لولا أن الملكَ تدراكَ الأمرَ فاستجاب إلى التأنّي ولم يمتثل إلى وسْوسة أولئك المؤوِّلين مُرتاباً في مزاعمهم، ثم أسندَ التأويلَ إلى الحكيم “كباريون” فوافاه بما هو حق وصِدق.
كان كيليطو قد ابتدأ خطّاً، في روايتيْه، بإعلانه؛ «ليس جديراً بتأويل الرؤى إلا القادر على الإنباء بها»، ثم «ليس جديراً بتأويل عملٍ أدبيّ إلا القادر على كتابته»، ثم «لا يجوز الحديثُ عن كتابٍ إلَّا لِمَن يستطيع كتابتَه». أفلا يُوجد فارقٌ، إذاً، بين “مَن يجوز له الحديث عن كتاب” و”مَن له جدارة القيام بتأويل كتاب”، بصرف النظر عن أنهما كليهما غير مرخّص لهما بالتصدّي للكتاب -محل الحديث أو التأويل- إلا إذا أثبتَا قدرةً على إنشائه من العدم، شأنهما في ذلك شأن مؤلِّف الكتاب؟ وهل من المستقَر عليه أن يُحسَب الحديث، عن كتابٍ، في مستوى أقل من مستوى تأويله؟ الإجابة التي قصدها كيليطو غير مفضوضة، غير أن المتحدِّثَ عن كتابٍ، المستحِق لحيازة هذه الصفة، لا يرضى -قطعيّاً- بأي حديثٍ، لنفسه ولسامعيه، إلا بعد أن يكون قد تمَّم تأويلاتِه وتنقيباتِه وتقليباتِه في الكتاب المعنيِّ وأعاد إنشاءَه، والمذهل هو أنه لا يحتاجُ إلى النظر في الكتاب من الأصل؛ فالمقولة مُثبَتة: «يكفي تصوُّر كتابٍ لكي يُوجَد»، بحسب ما جاء في أنبئوني بالرؤيا.
المتكتِّمون الغاضبون، من أمثال هارون الرشيد ونبوخذنصّر وشهريار، الذين أصرّوا على عدم إباحة النَّص، أبانوا عن أنّهم موكولون للذوْد عن المكاتيب بكل صنوفها، وصيانتها من عبث الحائمين ممن لم تُختبَر أمانتُهم في حذْق المكتوب ولم تُوُثَق بعدُ بجدارتهم في إدراكه، وكان دانيال هو أصلُ القارئ المشتهَى لكل كاتب، والمستعمِلُ الأمثل للكتاب، والدليلُ على أن القارئ ذا الجدارة ليس غير موجود، وعلى الرغم من نُدرة هذا القارئ فقد أُرسِيَ مبدأٌ مَحسومٌ للتعامل معه به، لا تَلطُّف فيه ولا تملُّق، بل صرامة تُحاذي العدائية. وبعدُ؛ فإن الذي يحتويه كلُّ كتابٍ هو، بعد كل تريُّثٍ، ضحكٌ وبكاء، على شاكلة المكتوب العتيق الذي تَداوى به هارون الرشيد ليلةَ أرقِه، وأمّا القارئ، سليل دانيال، فعساه يفتح بابَ الضفّة الأخرى، ويتقبّل بوداعةٍ أن يُسأل سؤالُها: اقرأ لي ما لم يُكتب؛ فما أنتَ بقارئٍ يا ذا الطموح الملائكي!

✍️أضواء على نصّ:-( على هامش أنثى )؛للشاعر القدير جبران قحل.
-النصّ :
( على هامش أنثى )
أريدُك أنثى
بي تؤثِّثُ
روحَها
وتبذُرُني
عطرا
يُزكِّي
سفوحَها
فتقطِفُ لي
من وردها
لأفوحَها
وتقرَؤُني
لغزا
يُثيرُ
طموحَها
ويُغري
على قوس
السؤالِ
وضوحَها
ليفضحَ
أسراري التي
لن تبوحَها
******
أريدُك أنثى
كي تشِيدَ
صروحَها ..
تُرَوِّضُ
في إيقاع
طيشي
جموحَها
وتغسلُ
في شريان
ضوئي
جروحَها
وتهجُرُها
نحوي
فتنسى
نزوحَها
__________________
-وقفة مع العنوان:-
لحرف الجر على عند علماء النحو معاني عديدة ؛أبرزها الاستعلاء: ويكون الاستعلاء حقيقياً نحو قوله تعالى : (وعليها وعلى الفُلكِ تُحملونَ)
أو معنوياً نحو قوله تعالى : ( الرجال قوَّامون على النساء )
وقد يكون الاستعلاء على ما يقرب من المجرور (أي ليس المجرور ذاته) ويقصد به المجازي، نحوقوله تعالى: (أو أجد على النار هدى).
ويلاحظ أن شاعرنا في عنوانه المختار هذا ؛عمد إلى الاستعلاء المعنوي ..
ولكن الذي يتبادر إلى الأذهان لماذا الحفاوة بلفظة (هامش) على وجه التحديد؟! أهي مجاراة -أسرَّها الشاعر -لكتاب (على هامش السيرة) الذائع لعميد الأدب العربي ؟! أيكون في الهوامش مالايكون في المُتون؟! ولماذا أضافها إلى كلمة (أنثى)؟!
هذه التساؤلات وما إليها واردة في ذهن المتلقي لامحالة؛وهو على أعتاب نصٍّ مكثف مغاير للأنماط الشعرية المألوفة؛ نصٍّ لغوي برز إلى حيِّز الوجود متشحاً رؤية الشاعر الأُحادية؛وتصوراته الكونية؛
والمراد بالْهَامِش في المعجم : ذلك الجزء الخالي من الكتابة حول النص في الكتاب المطبوع أو المخطوط
واللفظة عبارة عن اسم فاعل من همَشَ؛وإذا قالوا على هامش الأمر؛ أرادوا معنى خارجًا عنه أو بمعزل منه،
ومن ذلك قولهم فلانٌ يعيش على الهامش: أي أنه منفرد غير مندمج في المجتمع؛ومن ذلك قولهم :”عَلَى هَامِشِ الْأَخْبَارِ” ؛ بمعنى التَعْلِيق عَلَى مَا وَرَدَ فِيهَا.
فإذا تجاوزنا الحرف (على)؛ إلى التركيب الإضافي التالي له ؛وهو (هامش أنثى)؛وجدنا أنفسنا أمام لفظتين مفردتين جاءتا بصيغة التنكير ؛ومنهما انبثقت فائدتا “التعريف والتخصيص”؛ على حدِّ تصورات النحاة؛ وفي ضوئهما أشرقت شمس القصيدة ؛ وائتلقت أبعادها وعناصرها على ماسنرى في السطور التالية..
______________
-أجواء النص:-
ولما كانت لفظة (هامش) تعني حاشية الكتاب؛كما أسلفنا ؛فإنها في استخدام شاعرنا خرجت عن سياقها المتعارف عليه ؛وحملت إلينا إيحاءً فنيا مختلفاً مفاده أنَّ شاعرنا هنا ؛استعار لأنثاه صورة كتاب أثير لديه؛ ؛وعلى هامشها أي “في المساحة الممكنة للتحدث إليها”؛ قرر ترجمة مطالبه المحتدمة في أعماقه؛ كاشفاً لها عن الآلية التي تجذبه إليها؛وعن العديدمن ملامح الحسن المعنوي والحسي؛مما يقع تحت إرادة الأنثى وحدها..
وفي ثنايا هذا الكشف الجمالي تجلَّتْ رؤيته الكونية الإنسانية لطبيعة العلاقة الجوهرية التي تربطه بهذا العالم السحري ؛وذلك في ضوء المعطيات والإشارات التي ألمح إليها؛على ماسنرى في أبعاد النص وأسراره ..
استهلَّ شاعرنا نصَّه بقوله:
أريدُك أنثى
بي تؤثِّثُ
روحَها
وفي هذا الاستهلال القائم على لغة الخطاب؛ تبرز للمتلقي جوانب معينة؛ لعلَّ أبرزها أن الفعل المضارع المقرون بكاف الخطاب؛أكد لنا حيوية المشهد؛وحرارة اللقاء؛وكأنه بهذا البوح العقلاني ؛ بصدد إجابتها عن سؤالها المطروح عليه ضمنياً :كيف تريدني أن أكون؛ لأنال إعجابك؛ وأحتلَّ عرش فؤادك ؟!
ولم تكن إرادة الشاعرشهوانية حسية دونجوانية؛بل أسمى من ذلك وأبعد مرمى ؛فهو يريدها في مقام غير مبتذل بأي حال من الأحوال؛وذلك بأنْ تجعله لروحها أثاثاً حريرياً ناعماً؛ تحطُّ عليه ساكنة وادعة متى شاءت ؛وتستدفىء به من زمهرير الشتاء؛ وتحتمي به من قيظ النهارات وهجيرها؛ومن أعاصير الحياة؛ وتياراتها المختلفة.
ويمضي شاعرنا في شرح تفاصيل مشتهياته أو تطلعاته؛ عاطفاً مطلباً آخر على ماسبق ؛ وفيه تتجلى صورة عميقة الدلالة؛بقوله:-
وتبذُرُني
عطرا
يُزكِّي
سفوحَها
العطل يستحيلُ بذوراً ؛
ويلاحظ هنا أن َّالتركيب قام على ركيزتي التعبير بالفعل المضارع المستقبلي ؛بمثابة (الفعل والنتيجة) إن جاز التعبير :(وتبذُرُني
عطرا)؛والآخر(يُزكِّي
سفوحَها)؛
والمعنى الأوَّلي : يريد لها أن تجعل منه بذوراً ؛لاتكون نفحاتها إلا عطرية؛ لاتجيد غرسها في تربته الوجدانية إلاهي وحدها ؛ وسيتمخض عن ذلك الإجراء “تزكية السفوح “المتعلقة بها وحدها.
وللفظة سفوح عدَّة دلالات في اللغة ؛ من بينها “الصخور اللينة”؛والمناطق السفلى من الجبال؛التي تغلظ؛ فيسفَح فيه الماءُ؛جارياً هنا وهناك..
وغايةُ ما استطعتُ استشفافه -بملاحظة العلاقة بين التزكية والسفوح ؛وتوظيف الشاعر لهما؛ ومن خلال الاستئناس ببعض ما للتزكية من دلالات في اللغة؛
تبعاً لقولهم: زكِيَ الشَّيءُ :(إذانما وزاد)؛أوقولهم : زَكِيَتِ الأَرْضُ إذا خَصُبَتْ؛أو قولهم:”زَكِيَ الشَّبابُ” ؛إذا عاشَ في نَعيمٍ مقيم-
هو أنَّ وكْد الشاعر في بناء هذه العلاقة؛ يدور في فلك تنمية أسباب السعادة؛والرخاء؛ والصفاء؛ والبهجة في أعماقها ؛بحيثُ إنَّ سفوحها “مايصدر عنها من هفواتٍ ومآخذ”؛لاتكون عقبة كأداء في مسيرة الحياة المشتركة؛ولايكون التوقف عندها ؛مجالاً لتفاقم الخلافات الحادَّة؛ أو مدعاة للسجالات الهشَّة العقيمة..
على أنَّ ذلك العطر المبذور من جهتها هي بعناية واهتمام ؛من شأنه أن يبعث السعادة الغامرة لها في المقام الأول ؛ وسوف يساهم في تنمية أمانيها المنشودة؛ وتطلعاتها المستقبلية الكبرى؛ كرافدٍ هام لها في مسالك الحياة ومنعطفاتها الشائكة..
ومن التزكية المشار إليها ؛ستأتلق الخصوبةُ في أرقى معانيها؛ويخضرُّ كل شيءٍ تقع عليها العين ؛ومن ثمَّ يتسنى لها أن تقوم بمايلي:
فتقطِفُ لي
من وردها
لأفوحَها
ويتضح هنا أنَّ في قطفها لبعض ورودها وتقديمها له ؛ناتجاً معنوياً آخر؛إذ إنَّ ذلك القطْف لايعدُّ آلياًجامداً؛خالياً من المشاعر ؛بل يعني للشاعر نفسه أنْ يتنسَّم آيات الجمال المنبعث منها في كل آن؛ فهو إذن ممتزج بها؛وبورودها..
ويتابع شاعرنا رسم لوحة مشهد حيوي آخر؛متساوقٍ مع هواجسه ؛ومرئياته القريبة البعيدة؛مشهد يحضر فيه الفعل القرائي بقوله:-
وتقرَؤُني
لغزاً
يُثيرُ
طموحَها
قراءةٌ من جانبها/لغز كامن في المقروءات /إثارة مستنبطة/طموح
يمثل الشاعر هنا كسطور من كتاب ما؛ لهذه الأنثى الاستثنائية؛سطورٍ تبدو كلغزٍ مبهم عسير ؛ويريد لها أن تفكَّ طلاسم لغزه المتواري خلف تلك السطور؛لمافي ذلك من إثارة لطموحاتها ؛وتعزيز لهواجسها النفسية الطامحة؛ وثقتها بنفسها؛ أمام الغوامض من الأشياء والصعوبات التي ستواجهها.
ويمضي شاعرنا خاتماً مشاهد (الإرادة) التي انطلق منهافي النص ؛ومجسداً صورة اللغز المشار إليه آنفاً ؛بقوله:-
ويُغري
على قوس
السؤالِ
وضوحَها
ليفضحَ
أسراري التي
لن تبوحَها
وهنا يُلاحظ ملمح الإغراء المستمد من اللغز الذي شرَعت في قراءته آنفا وفقاً لتصور الشاعر ؛ إذ هو لغزٌ يتمظهر لها في تسنُّمه (قوس السؤال)؛ولديه مهمة استحثاثية تنأى به عن العبث والشكلانية ؛مهمة يمكن وصفها بدعوة إلى إعمال العقل؛ وإخضاع الأحداث للتفكير الهادىء المتزن ؛ومن شأن تحريض اللغز مناطق الوعي ؛ومراكز القوى الكامنة ؛أن يكون بمثابة الكاشف الأوحد أسرارالشاعر العميقة لها؛على نحو إنساني رقيق ؛بحيث تصبح هذه الأسرار بمنزلة أسرارها التي تضنُّ بها عن البوح للآخرين ممن لاتأمن مكائدهم ؛ولاتطمئن إلى مقاصدهم؛لامن قريب؛ولا من بعيد..
******
ويستأنف شاعرنا مقطعه الجديد المتصل بالفكرة الجوهرية الأولى ؛وذلك بتكرار المطلع نفسه:(أريدُك أنثى)على سبيل التأكيد ؛بيد أنه يمخر عباب اللغة غائصاً؛ومستقصياً؛وداعماً شرطه الأساسي ؛بوشائج أخرى من المعاني المستقبلية الموَّارة ؛فهو يقول:-
أريدُك أنثى
كي تشِيدَ
صروحَها ..
تُرَوِّضُ
في إيقاع
طيشي
جموحَها
وهنا نلاحظ كما أسلفت رؤى جديدة في مواصفات الأنثى التي يريدها؛ممثلةً في تشييد البنايات السامقة؛كمافي (تشيد صروحها ) ؛وذلك لايكون إلاَّ إذا أخلصت نيتها؛وأعملت تفكيرها ؛وأتقنت فنون العمران بمعناه الواسع المتعدد ؛عن علم ودراية ونباهة وحسن تدبير.
وهي في ضوء الانفتاح المترسخ في قرارة نفسها ؛لايحسن بها أن تضرب صفحاً عن ينابيع النهضة التي تحيط بها من كلِّ الجهات ؛ومسؤوليتها منوطةٌ بها تجاه ذاتها ؛وتجاه من يستنيرون رسالتها ؛وهي وشقيقها الرجل على حدٍ سواء في هذه المهمة النبيلة.
ومن المطالب المفترضة في أنثى شاعرنا ؛خاصية (الترويض) ؛فهو محتاج إليها أنْ تحتمل نزواته وصبواته أيَّا كانت؛وكما تقوم بتهذيب طباعها الجامحة مستنيرةً بمصباح حكمتها؛عليها إذن أن تفعل ذلك معه سواء بسواء؛ وذلك من أجل استمرار الحياة ..
ويختم شاعرنا نصه المكثف؛ بالعزف على وتر حميمي مرنان؛يتسم بالخصوصية المؤلفة بينهما ؛وذلك بقوله:-
وتغسلُ
في شريان
ضوئي
جروحَها
وتهجُرُها
نحوي
فتنسى
نزوحَها
فهو يريد لها أن تتجاوز آلامها؛وأسقامها وأتراحها جميعاً ؛وذلك بأن تغسلها كما ؛يُغسل الجسدُ الآدمي بالنهر الجاري؛ أوبالماء الصافي؛ أو كما تُغسل الثياب من الأدران:فتعود بيضاءَ ناصعةً؛كأنْ لم يمسسها غبار؛وذلك يتأتَّى لها بواسطة استلهام ضوئه القلبي الدائم الإشراق؛ومن هذا التمازج بين روحيهما على مسرح الحياة أتيحت لها منافذالإفصاح إليه بمكنوناتها الخفيَّة؛وأوجاعها المؤرقة؛وسينبثق من هذا التآزرالمطلق ما أطلق الشاعر عليه هجراناً إليه ؛استناداً إلى قوله: (وتهجرها
نحوي ).
وهو يضمن لها -في بثَّها هذا المعبِّر عنه بلفظة(جروحها) ؛وقد اتجهت إليه اتجاهاً كلياً في مقام الشكوى والمطارحات الودِّية؛ الخلاص التام ؛والتحرر من تلك القيود الوهمية ؛وأنها بالتأكيد ؛(ستنسى نزوحها)؛وذلك في المستقبل القريب لا البعيد..
ولعلَّ المراد بالنُزُوح هنا الاغتراب النفسي؛أو الشعور بالمعاداة المستفزَّة التي تشهدها هذه الأنثى؛أوتلك ؛فهي إذا همَّت بممارسة طقوسها المحببة إليها في وضح النهار ؛اصطدمت بالعديد من العراقيل المصطنعة؛ولامعدى من أن ينطوي النزوح أيضاً على سلسلةٍ من العواطف المتسلطة عليها نتيجة مايمرُّ بها من مواقف مثقلة بالانكسارات؛والإحساس بالاضطهاد؛والدونية ؛ والتهميش؛ وما إلى ذلك..
______________
-نهاية المطاف
هذه وقفة يسيرة حاولت فيها إماطة اللثام عن نص شاعرنا المختلف جبران الزمن الجميل” المطبوخ على نارٍ هادئة”-وفقاً للغة اليوم- ؛ومحاولة تقريبه إلى الذائقة المعاصرة ؛وهو نصٌّ عميق قام على الأسلوب الخبرى ؛ وتبلورت فيه سمات الفن الخالص ؛ وكان بودي أنْ أتعرض لبعض الظواهر الفنية التي حفل بها النص؛ لولاخشية الإطالة والإملال؛ولستُ أدري مع ذلك كله أأصبت الهدف؛أم جانبت الصواب؛ وعزائي أنها محاولة اجتهادية استكشافية في أول الأمر وآخره..
أشكر شاعرنا المرموق؛ والقرَّاء الكرام ؛مع الاعتذار عمَّا سيصادفه البعض من زلاَّت والتواءات ونتوءات زاغ عنها البصر؛لم أفطن إليها ؛وذلك جهدُ المقل؛والحمد لله من قبل ومن بعد..

جلاء الأشواق ..
دراسة نقدية في تجربة الشاعرة المغربية :سميرة فرجي
بقلم:نسرية اكروساي-المغرب
____________________
يصعب الحديث عن الشعر دون الحديث عن الترجمة، ترجمة لواعج النفس وما يعج بها من ألم وأنين وفرح وسعادة، كما لا يمكن الحديث عن الترجمة في غياب الاختلاف لأنه منبع الترجمة ومرتع لعبها، إذ نترجم لنبدد الاختلاف إلى درجة انجلائه.
ولعل هذا ما حاول إيصالنا إليه الشاعر والدكتور أحمد هاشم الريسوني في مجرى حديثه عن “الائتلاف والاختلاف في الشعر العربي المعاصر بالمغرب”:
«إن الشعر في جوهره، هو ذلك الجدل القائم بين الشفاهية والكتابية، إنها حدود مبنية أساساً على الاختلاف، وعلى الصورة الأصلية ونسختها النقيضة. ويبدو أن خطواتنا الآن، منسجمة في الكشف عن ضدها الذي يمحوها، وهي بذلك تضمن التآلف المختلف، الذي يحقق مشروعية ارتباط المنهج بالموضوع»
وإذ يطالعنا كتاب الدكتور والشاعر حسن الشريف الطريبق في مدخل كتابه “القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة بين الغنائية والدرامية” بالحديث عن معالم هذه القصيدة «الشعر القائم على الموروث في مكوناته وخصائصه وأسس تركيبه. والشعر الحريص على التحليق في الآفاق البعيدة والباحث عن الجديد، بصورة أو بأخرى».
نستشف بأن الشعر المعاصر يستمد كيانه من كوكبة الثنائيات والمتناقضات والائتلافات الحاملة للاختلافات، وكأن كلا منهما لا يستطيع المضي قدما إلا بوجود الآخر، فتمسي الحداثة امتداد الأصالة شرط التطور، تماما كما نحت تعريف مفهوم الحداثة الشاعر المسرحي الدكتور حسن الطريبق حين قال عنها أصالة متطورة.
وإذا مررنا بالتجربة النسائية المعاصرة تحديدا نجدها لا تخرج عن هذا المقام. فنقف وقفة إجلال وتعظيم لمن لقبت بخنساء المغرب وأسهمت في نظم شعر الكرامات والافتتان بالذات الإلاهية الشاعرة أمينة المريني صاحبة التجربة الناضجة المختمرة في الشعر العمودي الذي تجاوزت فيه قصائدها التسعين بيتا.
قصيدة “قد كنت”:
ولا العيـون التي في وثبها رشأ
وفين وعدا ووعد العينِ ذباح!
ولا الشموس على الغمازتين دجى
تسيل من صحوها في الرقص أقداح!
عصرتُ هذا البهاء الشهد من زبدٍ
كيف البهاء من الصلصال ينداح !
ولكن نجد نداء التجديد بنبرة أعلى صوتا في شعر سميرة فرجي وهي شاعرة من مواليد مدينة وجدة، حاصلة على الإجازة من كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة محمد الأول بوجدة بالمملكة المغربية، حاصلة على شهادة الأهلية في المحاماة، وهي محامية مقبولة لدى محكمة النقض، وعضو بالنقابة الحرة للموسيقيين المغاربة.
شاركت في عدة ندوات فكرية ومهرجانات أدبية مغربية وعربية، ونشرت دواوينها داخل المغرب وخارجه.
“صرخة حارك” “رسائل النار والماء” “مواويل الشجن” “رسالة للأمم المتحدة”. ودواوين أخرى قيد الطبع.
تم تناول دواوينها بالأبحاث والدراسات من طرف عدد من نقدة العيار الثقيل بالمغرب وخارجه كعباس الجراري.
ترجم شعرها إلى اللغة الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والأمازيغية والألمانية والتركية والأندونيسية.
توجت الشاعرة يوم 17 أبريل 2017 بسيدة العام في حفل كبير نظمه مجلس مدينة فاس وجمعية بوابة فاس بالعاصمة العلمية للمملكة المغربية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة.
كما توجت بتاريخ 2 مارس 2019 بلقب سيدة الشعر العربي من طرف المركز الأكاديمي للثقافة والدراسات المغربية والشرق الأوسطية والخليجية والنادي الجراري.
حملت إذن هذه المقالة على عاتقها مهمة تحديد تجليات الأصالة والتجديد في شعر سميرة فرجي، وأول هذه التجليات: العتبات.
باعتبار العنوان العتبة الأولى لولوج النص الأدبي، فقد حمل على عاتقه مهام ووظائف عدة أهمها وظيفة المطابقة L’identificationالتي تصل أهميتها إلى درجة يمكن الاستغناء بها عن باقي الوظائف، وهي مكانة سامية يبوئها جيرار جينيت بقوله: “هي أهم وظائف العنوان التي تستطيع تجاوز باقي الوظائف”.
لجأت الشاعرة إلى المطابقة في عناوين مسرحياتها مطابقة تنفي كل سريالية، أو تأويل، أو حفر، في طبقات العنوان، وتحميله ما لا يطيق لفهم تلميحه وتلويحه. بل كان التطابق مع واقع حال الشاعرة، وما تعج به روحها من لواعج، وأنين.
تمزج سميرة فرجي بين الجرأة والرقة وبين القوة والحنين وبين البطولة والضحية، إذ تراها تارة بثوب اللبؤة في العرين تجلد بالسوط كل من سولت له نفسه محاولة النيل من كبريائها وكرامتها، ثم تنزع ثوب الجبروت لنراها ترق إلى حبيبها حتى تكاد تظهر كظهر فراشة تستجيب لمداعبة الرياح أينما هبت.
ما زلت أرفض أشواقي وأقبلها
كأنني قشة في كف إعصار!
إنه الصراع الأبدي الذي تعيشه الأنثى بداخلها بين ما يمليه القلب والروح، وبينما يفرضه العقل والمنطق.
وإذ تحضر وظيفة المطابقة، فإننا ننفي وجود نمط الجمل المضادة L’antiphrase وهو حمل العنوان أطروحة مضادة للعمل الأدبي، أي ما يغيب في عناوين قصائد الشاعرة، وتحضر بالمقابل الوظيفة الوصفية للعناوين كما أسماها جيرار جينيت: “وهي وصف النص انطلاقا من إحدى خاصياته إما موضوعاتية أو إخبارية، سأسمي إذن هذه الوظيفة المشتركة وظيفة العنوان الوصفية“.
تظهر الوظيفة الوصفية في عناوين القصائد وهي حال عاشقة تعاني أشكالا من الشجن “وجع الحنين” “على وتر الجنون” “موال الشجن”.
لعل صرخة المخاض، الذي تعيشه الشاعرة سميرة فرجي، المعلنة عن الانشطار بين قوتين من قوى الطبيعة، هي ما نكتشفه عند قراءتنا عنوان ديوانها “رسائل الماء والنار” فقد خصصت الشاعرة أساليب الأمر لقصائد الشطر الأول من الديوان “رسائل النار” “افهميني، قولوا لها، ارحل!، تحرر!“، كأنها تأمر النار، التي بداخلها نتيجة الضنى وفرط الوجد، بالانجلاء والتبدد، حتى تستطيع “رسائل الماء” التي تحتل عنوان الشطر الثاني من الديوان النزول بردا وسلاما على قلب الشاعرة، فتكون بلسما لجراحها، لذلك طبع رسائل الشطر الثاني أسلوب النداء كي تكون منقذتها من الحرّ الذي تعيشه، “يا أعذب الناس“.
عند النظر في ديوان “مواويل الشجن” لاحظنا أن عناوين القصائد يكمل بعضها بعضا، فمثلا عندما عنونت أول قصيدة لها في الديوان ب “موال الشجن”، جعلته بصيغة المفرد، لتستهل بذلك الديوان وتنهي بـ “موال الروح”، وما موال الروح سوى شجن.
ورغم الارتياع، الذي يعتري فؤاد الشاعرة والذي تفصح عنه عناوين الديوان “ما السر؟!” “أخاف!”، “طيف”، وهو خوف المحب على محبوبه، الذي ما ينفك يتخلص منه العاشق حتى يتسربل داخل روحه كما يتسربل الدم بعد قطع الرقاب، إلا أن ذلك الخوف وتلك الرهبة ما إن ينالا من ذات الشاعرة حتى تفاجئ متلقيها بما يعزز قوتها وكرامتها، فتنهال على محبوبها بأفعال الأمر “قل أي شيء” “ارجع“، لأنها تعبر عن رفضها الخنوع والانحناء، وإن قطعت أوصالها اشتياقاً، فتعلن قائلةً “ارجع” ،فأنا “لن أعود” ،و”لن أخطو الخطوة الأولى” فتترجم بذلك “مكابدة امرأة“، وإن كانت “في حضرة الوله” و”وجع الحنين” و”على وتر الشجون” تغني وتشهد بأنها لحبيبها ولا لغير سواه، إلا أنها تنهي القصة برمتها متخذةً قرارها بالرحيل واللاعودة إذ تقول “تفارقني وأرضى بالفراق”.!
إن بوح فرجي يضمن كل ما يجعل للقصيدة العربية التقليدية وهجها ونضارتها، كما أكد على ذلك عميد الأدب بالمغرب الدكتور عباس الجراري، فتجد في شعرها رسائل تربوية وأخلاقية، بل حكما ومواعظ:
فما كل ما يسبي تخاله لؤلؤاً
وما كل نجم في سمائك يسطع
ولا صدأ من غاب عنك بريقه
ولا ذهب من في عيونك يلمع!
كما نجد بلاغة الألفاظ وجزالتها واغترافها من الشعر الجاهلي مما يؤكد إيمان الشاعرة بالقدماء دون صم الآذان عن التجديد والحداثة، ما يؤكد ذلك أصوات الشاعرة الغنائية التي زاوجت بين “إثارة الأهواء (الباطوس) والإقناع العقلي (اللوجوس) وإثارة الإعجاب (الإيتوس)“،لإقناع القارئ العربي وإمتاعه في الآن نفسه، وتجاوز وظيفة تأثره إلى تغيير موقفه (وهو ما يؤكده ديوان “رسالة إلى الأمم المتحدة) – وهذا ما تصبو إليه الوظيفة الحجاجية – إزاء القضية أو الدعوى، وهذا ما يفسر هيمنة بلاغة “التفخيم” و”التعظيم” و”الهيبة” داخل المتن الشعري في بنية التشبيه مثلا.
أنا جبل بأوجاعي وصعب
بأن تجثو الجبال لتبلغيني
أنا كالنار أبعث من رمادي
وحمق إن سعيت لتخمديني
وسجني كالعرين به الضحايا
وفرسان الهوى من كل لون
إن لحت وقتا في سماه فإنني ————
شمس الضحى فيها، طلعت لتأفلي![11]
إن تشبيه الشاعرة نفسها بالنار تارة وتارة أخرى بالجبل ليحكي قصة قلب كالأسد وهو ما يؤكد وصف سجنها بالعرين، كذلك عندما شبهت نفسها بالشمس فهي تحرق كل شيء لكي لا يبقى أثر إلا نورها الساطع.!
نزعت الشاعرةُ إذن في هذا التشبيه إلى إثارة استحسان المتلقي لها كبطلة محتفى بها، لذلك جاءت التشبيهات البلاغية خاضعة لأسلوب التزيين نظرا لقيمة المشبه ونفاسته، كما تسمو هذه التشبيهات إلى تحريك عاطفة المتلقي فتحضر وظيفة التأثير والتأثر.
ومن الأمثلة الكاشفة عن تعامل الشاعرة فرجي مع الوجه الأسلوبي المتحقق في السياق، الطباق: “فذكر أحد المتضادين أو المتقابلين ينبه الذهن لإدراك المتضاد أو المتقابل الآخر حتى إذا ذكر أدرك العقل صورته على غاية الوضوح فكذلك الانفعال المصاحب لذكر أحدهما يهيء النفس لمزيد التأثر من الانفعال المصاحب لذكر الآخر“[12].
فبلاغة المقابلة بين الحياة والفناء تتمثل في التأثيرين العقلي والعاطفي، فهي حجة عقلية لأنها تستدل على المعنى وتحمل على توضيحه وإدراجه بناء على وضعه في حالة تضاد، وهي حجة عاطفية لأن هذا التضاد أو التقابل بين الضدين يصبح إحدى الوسائل التي تحرك أهواء الحب والميل إلى الطرف الأول والكراهة والنفور من الثاني. وهذا ما يؤكده البيت الأخير الذي ذكرناه، إذ نجد أن الشاعرة تروم بهذا الطباق (طلعت لتأفلي) ضرورة التحبيب والترغيب في سحر الشاعرة لقوة جبروتها وحسن جمالها، والنفور والابتعاد عن غريمتها.
كما تظهر المقابلة في قول الشاعرة:
لكنه الحب أشقاني ودللـه ليمزج الشهد بالأشواك، أواه![13]
ففي شقاء الشاعرة دلال محبّها، وفي الشوك الذي تجرعت مرارته شهد غارق هو فيه. فتحط الشاعرة من شأن عشيقها الخائن لترسمه لنا كإنسان عديم المروءة والشهامة والإخلاص، في الوقت الذي تفانت فيه هي في وفائها.
فهيا اعترفْ للعاشقين وقل لهم أنا في الهوى لما فديتك بعتني![14]
فضلا عن بلاغة المقابلة فإن “التقديم” مؤشر أيضا لإثارة الانفعالات وإحدى الوسائل اللغوية والخطابية التي تصنع بلاغة الانفعالات في الكلام، وقد استخدمت الشاعرة هذا اللون البلاغي بشكل ملفت في جميع دواوينها، ولا ننكر مدى الإثارة التي تجعلها تتأثر وتؤثر في المتلقي، الذي نجحت في استمالته في وقت عمت فيه قوالب شعرية تنأى عن العمود، وقضايا اجتماعية عامة لا تسبر أغوار الذات، فبوح الشاعرة يخترق الأفئدة دون استئذان ويدغدغ المشاعر ويجتاح الوجدان.
وسمعتُ يا بحر الأسى أشجاني تشكو جراحاً حرها أضناني[15]
تعمدت الشاعرة تقديم “حرها” لما للفظ من أثر كبير في نفس المتلقي، إذ تهيج مشاعره لاستمالته، فتحقق بهذا التقديم والتأخير وظيفة استحضار الموضوع في ذهن المتلقي للتصديق به، وهو ما لا يتحقق مع التقديم الذي تنحصر وظيفته في الإخبار الذي يفتقر إلى التحقيق والتصديق.
وهدف فرجي هو جعل المتلقي العربي يصدق دعواها ويرأف بحالها لأنها مظلومة، فتحقق بذلك الوظيفة الحجاجية.
لقد جاءني في الليل طيف ملثم
وبين يديه قلبه يتكلم[16]
أنا العاشق الولهان جئتك شاكيا وفي أضلعي نار الهوى تتضرم[17]
فقلت له: ويحي لماذا فضحتني وجئت كما المجنون حولي تحوم[18]
أما خفت من عين الرقيب وإخوتي؟ فلو خبروا بالأمر، ظهرك يقصم![19]
ولتحقيق التأثير الجمالي المنشود نرى الشاعرة تنوع في الأسلوب والمعاني والأبنية اللغوية وغيرها: “فالتنويع والتفنن خطة بلاغية تناسب المبدأ الذي بنى عليه المؤلف مفهومه للبلاغة وهو الاقتصاد على القوة المتأثرة للمتلقي، وعدم تحميلها فوق طاقتها، فهذه القوة في حاجة إلى ما يجدد نشاطها ويدفع عنها الملل الذي يسرع إليها“[20].
ولا تستغني شاعرة الوجدان عن عماد الشعر العربي وهو الوصف.
أنى لهم أن يسعفوا قلبي الذي خبر العنا أو يخمدوا تحناني[22]
ماض على حجر الزمان نقشه وجراحه أقوى من النسيان[23]
————-
طال الجفا وكلانا اليوم خافقه يستل قسوته من صلب أحجار!
أما علمت بأن الشوق يجذبني
إلى ديارك سرا مثل تيار!
لكنه الكبر مثل السوط يجلدني جلداً ويسبق خطوي رغم إصراري[24]
وتستعمل الشاعرة أسلوب المدح متغزلة بمحبوبها، فالانتقال من صورة إلى صورة في سائر ما يأخذ به من ضروب الهيئات الكلامية، لا يطيل في شيء مما يأخذ به من الوصف ولا يكثر من موالاة معنى بعينه من معاني المدح.
فأنت هلال بهي السنا
وإني خلقت لكي أكْلمَك
أنوّر ظلك مثل ضحى
وأنت تنوّر كل الفلك[25]
إن متن الشاعرة ليستجيب لما عرفته آخر التطورات في علم البلاغة فيما يسمى بالبلاغة الموسعة التي أحرقت الحدود الفاصلة بين بلاغة الإمتاع وبلاغة الإقناع كما لم ترسم حدوداً واضحة المعالم بين النثر والشعر.
والمتأمل في أول ديوان صدر لها، وآخر قصائدها التي مازال يجري تجميعها في ديوان واحد، ليحسن تقييم التطور السريع الذي طال متن الشاعرة، فهي لا تخدر جمهورها أو تمنحه الحبوب المهدئة في شعرها، وإنما هي حمالة رسائل توعوية تحمي بها بلدها وشعبها.
وتصرخ في وجه الظلم أيضا في شعرها الغنائي الذي ربما يظهر للعيان غارقا في الذاتية والوجدان، إلا أننا نرى في الشاعرة صوت المرأة العربية التي تصارع من أجل البقاء وفرض ذاتها بكل أنوثة ورقة، والصمود في وجه الرجل وبطشه وظلمه إذا ما حاول المساس بالذات الأنثوية، وما يدفعه إلى ذلك سوى خوفه من قوتها فيربكه ذلك ويزعزع ثقته بنفسه فلا يتردد في رفع السلاح في وجهها.
هنا نسجل تقاطع الذاتية مع الموضوعية، فأي ذاتية تظل للشاعرة وهي تتحدث باسم آلاف النساء اللواتي يعانين الخطب نفسه.؟!
وإن كانت الشاعرة تميط اللثام عن نفسها الجياشة وتطلعنا على ما يخالج صدرها من لواعج وأنين فإنها تسربل بذلك الحنين وتلك اللواعج قضايا فكرية مهمة، وهذا ما يسمى بالموقف الأدبي وهي الدرجة التي يصل بها الشاعر إلى مرتبة المؤثر الحقيقي في المجتمع.
ولعل تأثر الشاعرة بتراثها ليظهر ليس فقط في البناء العمودي وإنما كذلك في ذكر بعض الأعلام التاريخية التي رسختْ أسماؤها في عالم العشق والهيام.
وحين ترى دمعي السخين تخالني عبيلة تبكي أو بثينة تخشع
كما يظهر ارتباطها بالتراث كذلك من خلال اقتباسها من أشعار امرئ القيس.
فقلت له ويحي لماذا فضحتني وجئت كما المجنون حولي تحوم؟!
أما خفت من عين الرقيب وإخوتي؟
فلو خبروا بالأمر، ظهرك يقصم!
فقال: أنا لا أعرف الخوف في الهوى ومهما تفشى سرنا لست أحجم
فإن حطموا قلبي فأنت مكانه وإن أحرقوا جلدي فوصلك بلسم
ولو أذهبوا عقلي بحبك أهتدي وإن أرهقوا روحي فصوتي أرحم!
وهذا اقتباس من قصيدة امرئ القيس حيث قال:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي!
قريض فرجي كالبنيان المرصوص، منمق، منحوت نحت التماثيل، يضرب أعشار الخيال، يخرق أفق انتظار المتلقي، يغازل الظواهر الطبيعية، يشنف الآذان المرهفة التي تستلذ جمال البوح، قريض ينم عن سليقة في غاية التميز، يقر بولائه لوطنه وعروبته ولغته.
لقد جددت الشاعرة فرجي بيعتها للقصيدة العربية القديمة الأصيلة المتينة المحافظة على جزالة اللفظ وفصاحته.
لم تكتف فرجي بسجيتها بل أضافت إليها تفتقا ومساحات جديدة ليتسع أفق إبداعها: “إن كل إبداع هو في آن، ينبوع وإعادة نظر: إعادة نظر في الماضي وينبوع تقييم جديد“.
إن تكبيلها بالولاء العقائدي للشعر القديم ليظهر في معظم قصائدها، إلا أن هذا لم يأسر الشاعرة أو يحصرها في الزاوية، بل استنبتت من تراثها أجمل المعاني والقيم واستطاعت تحيينها في واقع ربما قد صار في حاجة ماسة إلى ملامسة هذا التراث والعودة إليه، فلا نرى في محافظتها على القصيدة العربية القديمة إلا زيادة في الإبداع وتصريحاً مباشراً يعلن عن الظواهر السياسية والاجتماعية المدانة، كما لا نلمس التصنع الذي طالما اتهم الشعر العمودي به، فلا نجد الشاعرة ترسف في أغلال الشكلية والصنعة، بل فجرت طاقة جديدة متحررة مضيئة تضمن لها البقاء.
استطاعت فرجي طرح رؤاها بقوام القصيدة الرشيق، وشكلها الإيقاعي المنغوم، أن تهب الحركة النفسية من إيقاع الكلمات ومقاطعها فتمسي القصيدة سمفونية تصل بين النفس والكلمة.
إن ملامح القدرة الشعرية عند الشاعرة كافية لمنحها التفرد والتميز المنشودين في وقت ربما أصبحت فيه القصيدة العربية تحلق في عالم المنثور والتفعيلي، ففرضت نفسها قلبا وقالبا معلنةً فتح باب الإبداع على مصراعيه محافظةً على رنين القدماء وأشكالهم، واعية بمواقف الحياة التي تهم جماهير الشعب وعيا عميقا، فقد ظلت مشاكل أمتها السياسية والاجتماعية لصيقة بأعصابها ودمها إلى آخر بيت نظمته.

تأملاتٌ في قصيدة:(إجهاشةُ قلب)؛
تأملاتٌ في قصيدة:(إجهاشةُ قلب)؛للشاعر:شيخ بن علي صنعاني*
____________________
-النص :
أَلَا فَسَلُو الْمُدَامَةَ عَنْ مُصَابِيْ
عَنِ الْأَمَلِ الْمُضَمَّخِ بِالْسَّرَابِ
عَنِ الليْلِ الَّذِيْ أَمْسَىْ جَرِيِحًا
وَ أَنْجُمُهُ الْثَّكَالَىْ فِيْ انْتِحَابِ
سَتُنْبِيكُمْ كُؤوسُ الْوَجْدِ عَنِّيْ
وَ تُرْسِلُ بَعْضَ نَزْفِيَ لِلْتُّرَابِ
وَ تَنْثُرُ مَا تَوَارَىْ حِينَ جَاءَتْ
مُدَلَّلَتِيْ كَعِطْرٍ فِيْ كِتَابِيْ
أُجَاذِبُهَا الْغَرَامَ بِكُلِّ صِدْقٍ
وَ تَمْنَحُنِيْ الْعَذَابَ ، فَوَا عَذَابِيْ
عَشِقْتُ أَرِيجَهَا سِحْرًا تَوَالَىْ
عَلَىْ رِئَةِ الْجَمَالِ مَدَىْ اغْتِرَابِيْ
فَكَانَتْ مِثْلَ رَاحٍ زَادَ نَفْحًا
مِنَ الْشَّفَتَيْنِ طُوِّقَ بالرّضَابِ
مَدَدْتُ لِخَمْرِهَا كَأْسِيْ ، أَشَاحَتْ
بِخَدٍّ شَعَّ أَفْقَدَنِيْ صَوَابِيْ
فَأَجْهَشَ خَافِقِيْ فِيْ كَفِّ إِلْفٍ
بِسَيْفِ الْهَجْرِ قَدْ طَعَنَ اقْتِرَابِيْ
وَ نَاحَتْ أَحْرُفٌ ضَمَّتْ فُؤَادِيْ
أَقْامَتْ مَأْتَمًا ، عَزَّتْ مُصَابِيْ
____________________
-وقفةٌ مع عنوان القصيدة:
المدخل الفنِّي لعالم القصيدة هو عنوانها الذي ارتآه الشاعر؛وهو هنا عبارة عن مفردتين جاءتا مركَّبة تركيباً إضافياً؛تبعاً لما يُسمى في علم النحو (إضافة نكرة إلى نكرة)؛وغايتها( (التخصيص).
والذي يعنينا أن هذا القالب الفنى؛اشتمل على عدِّة معاني إيحائية؛أهمُّها
أن قلب الشاعر أثخنه الولهُ والانتظار؛وأرَّقته لواعج الحنين؛فلم يجد بُدَّاً من أن يجهش بالبكاء هنا وسيلته في ذلك الأنَّات الحائرة؛والآهات الحادَّة.
ولمَّا كانت العينان وحدهما؛أوعية العبرات؛والمدامع المنسكبة؛وهما ملاذ الشاعر في حركة الكون وسكونه؛ وسلواه في مواجهة أمانيه المتجهمة؛ومطالبه الممتنعة؛ فإن ذلك الموران من شأنه أن يهبط على القلب المضرَّج بالأسى؛ويشعل بين جوانحه سعيرَ الصبابة، وضغطها العاصف المستمرّ؛وقديماً قال الشاعر:(فإنَّ البعضَ من بعضٍ قريب).
بيدَ أن لغة (بكاء القلب) وجيشانه لاتعدُّ من المحسوسات المرئية ؛بل هي فعلٌ معنويٌّ صِرف مستترٌ عن الأنظار تماما ؛ووحده الشاعر ؛صانع التجربة ؛يملك القدرة على ترجمته في إطار تراكيبه اللغوية المعبِّرة عن خلجاته المحتدمة في أعماقه.
ومما هو شبيه باستعمال شاعرنا أننا نلحظ في أبياتٍ للشريف الرضي صورة (القلبِ المتلفَّت)؛وكأنَّه كيانٌ قائم بذاته ؛وذلك في قوله:
وَتَلَفَّتَت عَيني فَمُذ خَفِيَتْ
عَنها الطُلولُ (تَلَفَّتَ القَلبُ).
وتجدر الإشارة إلى أن
الشاعرالأمير عبد الله الفيصل رحمه الله أصدر ديواناً شعرياً أطلق عليه عنوان:(حديث قلب) وذلك في الثمانينات الميلادية.
وحول معنى الإجهاش المنصرف إلى معناه الحقيقي لا المجازي ؛نستأنس هنا بأبيات الشاعر العذري ابن الملوح؛إذ يستهلُّها بقوله:
وَأَجهَشتُ لِلتوبادِ حينَ رَأَيتُهُ
وَهَلَّلَ لِلرَحمَنِ حينَ رَآني !
وَأَذرَيتُ دَمعَ العَينِ لَمّا رَأَيتُهُ
وَنادى بِأَعلى صَوتِهِ وَدَعاني !
فَقُلتُ لَهُ أَينَ الَّذينَ عَهِدتَهُم
حَوالَيكَ في خِصبٍ وَطيبِ زمان؟!
فَقالَ مَضَوا وَاِستودَعوني بِلادَهُم
وَمَن ذا الَّذي يَبقى مَعَ الحَدَثان؟!
إنَّ (إجهاشة) قلب شاعرنا هنا ؛ يستحيل أن تُرى بالعين المجرَّدة كما أسلفت القول؛ولا حتى بالعين المُبصرة عندما تعبُر بها عبوراً فاتراً سريعاً ؛أو تمر بها مروراً
لا أناة فيه؛ولااستشعار(جُوَّاني) لطبيعةِ الغليان النفسي والشجون الثائرة في سماء الشاعر.
إنَّما الذي لايخفى أثره ؛ولايخفت بريقه؛ أن أصداء تلك (الإجهاشة القلبية) مما ينفذ إلى القلوب والأسماع؛ دون عناء ؛من خلال ماحملته التجربة من صدقٍ وحرارة وانفعال.
لاريبَ أن تجربة الشاعر هنا؛تبحر بنا -في ضوء استخدامه عنصر(تراسل الحواس وتبادلها)- بمنأى عن أفق الرؤية البصرية المحدودة؛إلى أفقِ الرؤية القلبية المتسعة؛(وناظر القلب لايخلو من البصر)وفقاً لتعبير الشاعر القديم.
ولعلَّ من أبرز مظاهر تلك (الإجهاشة المؤثرة)؛هذا الجانب الملحوظ الذي أُحبُّ الدندنة في محيطه؛أوعلى هامشه؛وهو:
-أنَّ شاعرنا استطاع التفنن في تعميق تجربته الفنية ؛وتوشيتها ؛بواسطة الإحالة على بعض الطقوس الحالمة؛ مما لها صلةٍ بواقعه المعاش وأحلامه المتطلِّعة؛فهو هنا يرمقها بعينيه وقد استحالت إلى بيادر قاحلة؛خلتْ جنباتها من النضارة والرواء؛وترتب على ذلك الخُواء الكوني أن ذبلتْ أفنانُها الخضراء؛وجفَّت ينابيع أُنسها؛ إلى الحدِّ الذي باتت فيه راضخةً لفعلٍ إقصائي أراد لها الجمود والشحوب؛بمعزل تماماً عن مواطن الفرح ؛والسرور؛والأوقات الصافية المترعة بأحاديث الغرام العذب؛ومذاقات الشهدِ المُصفَّى ؛حيث (الأمل الواهن مُلقَى في أكناف السراب؛وسط هاجرة النهار؛وحيث الليل الجريح ؛والأنجم اليتامى؛والكؤوس النازفة).
تلك المشاهد المتشحة بثياب الأسى؛عزَّ على الفاتنة المدللة (عطر كتاب الشاعر)كما سمَّاها الشاعر ؛أن تعيد إليها هالات الفرح المسلوب؛والبهجة المفتقدة ؛وأن تمنحها إكسير الحياة الهادئة الناعمة؛التي تملكها وحدها؛
وبدلاً من ذلك كله ؛كان سخاؤها عليه ؛وتضامنها معه؛-عكس المُراد؛والمُشتهى والمؤمل-أنْ(منحت العذاب) أضعافاً مضاعفة!
ولمن ياترى منحت (العذاب الصاهر) والشجن المرير ؟!
للشاعر المفتون بها؛المغرم بهواها؛المتفاني في عشقها إلى الأبد؛كما في هذا التصوير الدرامي الآسر:
مَدَدْتُ لِخَمْرِهَا كَأْسِيْ ، أَشَاحَتْ
بِخَدٍّ شَعَّ أَفْقَدَنِيْ صَوَابِيْ !
وأنَّى لهذا العاشق المطعون (بسيف الهجر ) أن يحظى بالوصال المنشود؟!
وطالما أن تلك (الإجهاشة القلبية) خفيَّة وكامنة في مناطق الأعماق المجهولة؛ -إلا على تلك المدللة- ؛فمتى ستخمد نارها المستعرة؟!
——————————–
-بعض ظواهر النص الفنية
-إننا هنا أمام نص رومانسي بامتياز؛احتشدتْ فيه الصور البيانية بقدرٍ عالٍ من الانسيابية؛كقوله:كَعِطْرٍ فِيْ كِتَابِيْ ؛ناحتْ أحرفٌ…الخ
– ألفاظ الشاعر مشحونةٌ بالتوتر والانفعال:مصابي؛عذابي ؛اغترابي؛الخ؛بما يؤكد احتلال التجربة بؤرة اهتمام الشاعر.
-استثمر الشاعر فيه مايُسمَّى(فنَّ التشخيص والتجسيم)؛فضلاً عن استثمار(فن تراسل الحواس) كما في العنوان الذي انطلق منه..
-اعتماد الشاعر الأسلوب الخبري؛ومن شأن ذلك الكشف عن أبعاد التجربة واستقصاء أسرارها العميقة.
-اعتماد (بحر الوافر) وهو بحرٌ سلسٌ طيِّع يستوعب التجارب الغرامية ويتلاءم معها.
وبعد فقد كانت تلك السطور محاولة لتجلية تجربة شاعرنا؛وإبراز بعض مواطن الجمال في أنغامها الحالمة؛إلى حدٍّ ما ؛راجياً أن أكون قد وفقتُ في تلك المهمة؛على أنَّ هناك جوانب فنية أخرى ؛قصر الحديث عنها لضيق الوقت؛
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.

مقاربة سيميائية ألسنية
لنص الشاعر اليمني /محيي الدين جرمة 🙁 الجغرافيا درس مؤلم ).
_________________________
-عرضُ النص:
«الجغرافيا درسٌ مُؤلم»
-0
أغفو متقمصا جفن صخرةٍ
تمر شموس تحت ظلالها والمياه.
أستدرجني كشفق ٍ ما لامسته شفة .
لايد قُبلت قبلتَه.
أنشر عراءاتي فيكِ
أنتظركِ .
تمشين على حواف حُلم ٍ.
لخطواتك نكهة العنب الأسود.
يحدق بنظراتي صوف عظامكِ
كحلاوة الضوء في فمي!
-المقطع رقم9
إن مر يوم ولم أتذكركِ.
تعتذر الجهات للرياح.
شعشعانية الحشائش
وما تلامسه يد الريح
يعتب على الريح :
إن تركتني شارداً وبعيدا.
نحوكِ أصوبني.
كأزهاركِ
تغني
فضاء
يدي .
-المقطع رقم8
اشتكيت مرة ً قسوة أبي
لصخرة قرب بيتنا.
-المقطع رقم7
لايثنيكَ صمتٌ.
عدا صخور تلوح بيد البحر!
-المقطع رقم6
في جنوب الجراحات
عصفورة تتورد
داخل الصمت.
شوك الأسئلة يوخز رياحاً.
نوارس تنفذ
من تحت غلاف الرمل.
البلاد نحرٌ من ظلال ترتجف
تتقلب كأعواد ذرةٍ
تجلب دوارا.ً!
عند الإفراط بأكلها.
تحت مديات من سموم.
يحدق رماد الأمل.
لوحة لماء فنان.
وجه حي.
بورتريه لحُلم.
تيمات تشاهدنا
في دواليب
من زجاج شفاف
لجناح متحف الكائنات.
الجغرافيا درس مؤلم.
“هل انتهى كل شيء”؟
ربما.
قبل
أ
ن /
بعد
ما/
ككل
شيء ٍ
في
الأشياء.
_________________________
-القراءة النقدية:
أطلعت في مجلة ( كيكا ) kikah الصادرة عن لندن المهتمة بالأدب العالمي ،على هذا النص الذي يعدُّ من أرقى النصوص في شاعريته ورؤياه ، حيث ينمُّ عن رؤيا عميقة، وتمكن من القدرة على خلق الجمال الفني في عناصره وفضاءاته المفتوحة بلا حدود ، وتحمله رؤى تأويلية غير محدودة ، وخضوعه لقراءات وإسقاطات نقدية متعددة المناهج والرؤى. -الشاعر محيي جرمة :
هذا الشاعر يمني الأصل والنشأة غني عن التعريف له مشاركات أدبية ونقدية في اليمن وخارجه ، حازت تجربته على تقديرات بحصول أعماله على أبرز الجوائز العربية في الشعر ، هذا الشاعر الرؤيوي الذي ابتدأ بكتابة القصيدة العمودية مرورا بالقصائد الرومانسية والتفعيلة وصولا إلى قصيدة النثر وقصيدة الومضة ، وما يخص قصيدة النثر، له بعض القصائد مكتوبة بامتياز ، ويمتلك خيالا خصبا ورؤيا عميقة ، وروح شاعرية جميلة ،
لا يسعى إلى تلميع ذاته ، يكتب الشعر من أجل الشعر ، هذا الشاعر المسكون بالإنسان ، ينزوي وحيداً حاملاً هم المجتمع على أكتافه ، يسعى جاهداً أن يرى وطنه خاصة والوطن العربي عامة في أرقى سلم الحداثة والتنوير والتطور والارتقاء ..
_________________________
-رؤيا عامة حول النص :
ونحن نلم خيوط الرؤيا نحاول الاقتراب من كنه النص وعالمه ، من زوايا متعددة ، زاوية الذات ، زاوية الموضوع ، زاوية الرؤيا ذاتها ، زاوية الاستطيقا ، ليبدو النص واضح المعالم ، كيف بك أن تلحق بشاعر وكلماته تسافر مع الريح تحملك من فضاء إلى فضاء، ومن رؤيا إلى رؤيا ، هذا الشاعر الذي يتحد بالأشياء حد التماهي ، في رؤيا عميقة وحميمة للأشياء ،تجسد فلسفة التاو المنتشرة ، إنها فلسفة حميمة في علاقتها بالوجود ، وعناصره ، نلمس روح الشاعر في كل سطر وكل عبارة ، شاعر يلتف بالأرض وصخورها ومياهها وجغرافيتها وبحارها وأشجارها … ويرتقي بروحه في سلم السماء حيث الفضاء والشمس والروح والنور والضوء والإشراق …وغيرها من المفردات العلوية ، وحين نعتمد على الكلمات المفتاحية التي تجسد محور النص ورؤياه ننطلق من عبارتين : عبارة العنوان ( الجغرافيا درس مؤلم ) ،وعبارة ( البلاد نحر من ظلال ترتجف ، تنقلب كأعواد ذرة )
تلك العبارات تجسد محور دوران النص ورؤياه حول وطن الشاعر المرتجف ” كأعواد ذرة ” على حد تعبيره ، هذا الوطن الذي يعيش التمزق والشتات في ظل الصراعات السياسية والطائفية التي تنهش الوطن من كل زاوية ، فيبقى الشاعر يصدح بصوته ولا مجيب ، فينزوي مثخناً بجراحه وحيداً يحمل همّ وطن على ظهره …
_________________________
-سيميائية العنوان :
إن العنوان بوابة النص للدخول إلى عوالمه ، واستشراف خباياه بصورة مصغرة تبدو مرئية من بوابته الصغيرة ، وكلما حاولنا أن نتأمل هذا العنوان نجده يفتح أمامنا أكثر من تأويل فكلمة جغرافيا تدل على بلد محدود المعالم واقع في نطاق مكاني معين ، وهي كذلك تدل على التمزق والتجزؤ، وحين نقترب من هذا البلد الذي قصده الشاعر، ونتفحص مكانته بين البلدان الأخرى ، يجعلنا نستكشف مكنون الشاعر حين يحملنا إلى مواطن رؤياه العميقة التي يرى من خلالها بلده ( اليمن ) هذا البلد الذي يعيش بين زوايا الصراع ،هذا البلد الذي يتمزق كل يوم تحت معاول الساسة والمستبدين، تلك المعاول التي تنهش الوطن من كل ناحية وكل ضربة تقع على هذا البلد هي بالأصل تقع على عاتق الشاعر الذي يحمل همّ هذا البلد على أكتافه.
وحين نرى هذه المعاول تتهاوى فوق رأس الشاعر ندرك حينها معنى قوله : ( الجغرافيا درس مؤلم ) ،ذلك هو الألم الحقيقي حين تحمل هم وطن على ظهرك … حين تحمل هم أمة بكاملها، بهذه الهمة يبدو الشاعر كنصف نبي أثقلته هموم مجتمعه . إن موضوع الجغرافيا هو موضوع مكان ، ونجد هذا المكان يختلط بـ ” أنا ” الشاعر وكينونته، فنستشف العلاقة الحميمة بين المكان والشاعر ، بين الأرض والإنسان ، علاقة الجزء بالكل والابن بالأم ، هذه العلاقة الحميمة المتماسكة نرى بها أن كل ألم يصيب الوطن والبلد هو بالضرورة يصيب هذا الإنسان والشاعر خاصة ، وحصر الألم في درس الجغرافيا دون غيره يعكس تماهي الشاعر بجغرافيته وحدوده ، حيث تغيب الأنا في الموضوع ولا يبقى لها علاقة سوى الألم الذي يربطه بهذه الجغرافيا ، ويعمّق الشاعر معنى الألم حين يرتبط بالدرس حيث يتحول هذا البلد إلى مصنع آلام وأحزان ومعاناة تتكرر معنا في كل يوم ؛ أي مع كل نفس نتنفسه نستقبل ألما بعد آخر إلى ما لا نهاية . إن الشاعر يجسد ثنائية الواقع والمتخيل في كل أجزاء النص ابتداء بالعنوان ومرورا بكل مقطع فهو حين يهبط إلى الواقع المشترك يحاول ينقل الآخر المتلقي إلى عالمه العميق الذي يراه هو ، ذلك العالم الفني الذي بناه برؤيته الشاعرية الخاصة ، فكلمتا ” الجغرافيا درس” في العنوان غير شاعرية، أي ليست من عالم الشاعر وحين تتضام مع كلمة ” مؤلم ” يختلف مدلول التركيب، وتتغير العلاقة فيغدو العنوان محركا من الداخل، حيث إن كلمة “مؤلم ” قد أشعت في العنوان بتضامها مع الكلمات السابقة ، ذلك أن الشعر طاقة مولدة من تضام الكلمات وعلاقاتها !
فهو أشبه بشرارة اللهب المنقدحة من اصطدام حجر بحجر ، وهنا يبدو شاعرنا ذا قدرة فنية وشاعرية كبيرة في الاقتراب من روح القارئ وأخذه إلى عالمه الخاص لمشاركته رؤياه .
_________________________
-الرؤيا والجمال في النص :
“أغفو متقمصاً جفن صخرة ” هذه الصورة السريالية هي محاولة للهروب من الواقع البائس وخلق عالم سحري صلب ليقف عليه أمام عواصف الفناء ، فالصخرة رمز للصلابة والقوة ، والتحمل ، وذلك التقمص لجفن الصخرة يمنح الشاعر قوةً للمواجهة والثبات للاستمرار في الحياة ، ونجد ذلك حين تمر شموس الإشراق والفكر والتجديد والمحبة والعرفان التي ينتظرها الشاعر حين تمر تحت ظلال صخرته ، ويضفي صورة الحياة بمرور المياه ، فالماء رمز للحياة والخصوبة ومحاولة لبث الحياة وبعثها في الواقع الأليم .
إن محاولة خلق عالم حي مشرق مفعم بالجمال هو محاولة لأخذ المتلقي إلى عالمه الذي يراه وحين يؤمن هذا المتلقي بأفكار الشاعر ورؤاه يستطيع حينها أن يعيش الواقع الجميل . وحين ننطلق مع الشاعر نجده في المقطع الأول ينشطر إلى ذات وموضوع ، ذات متوهجة تقود الموقف ، وموضوع يحاول اللحاق بها ويستدرجها ” استدرجني كشفقٍ ما لامسته شفة ” إن هذه الذات التي يحاول أن يستدرجها هي في الحقيقة الإنسان الآخر الذي اتحد به الشاعر وهو ذلك المخاطب الذي يحاول أن يستدرجه إلى عالمه الخاص فإذا هو كشفق يقترب من نهايته في الأفق يقترب من الموت والفناء تحت أمواج الظلام .
إن ذلك الآخر التائه والواقف على مشارف النهاية هو ذلك الإنسان اليمني ابن وطن الشاعر الذي فقد الحب والحنان في ظل الظروف القاسية ” لا يد قبلت قبلته “. وينفتح الشاعر بقلبه ورؤاه لهذا الوطن حين يقول : “أنشر عراءاتي فيك” ؛ إنها محاولات متكررة في نشر الشاعر فضاءاته المفتوحة لهذا الوطن ، فقلبه يتسع للجميع ، وينتظر قدوم الوعي لتغيير الرؤى العتيقة ” أنتظرك ” ولكن صورة الخوف تتوقد في ذهن الشاعر حين تغدو بلده محاصرة تحت كلاليب الرؤى الضيقة الحاقدة ، فتغدو طموحاته معلقة على مشارف حلم لم يتحقق بعد .
ونجد الصور الشعرية تتلاحق في ثنايا النص مضيئة بروح الشاعر وإبداعه المتوهج ، فالخطوات لها نكهة العنب الأسود إنها مسكرة في إقبالها ، وتصوير الخطوات بأن لها نكهة يعتمد على تراسل الحواس الذي شاع عند الرمزيين ، إنها حالة نشوة وسكر تختلط فيها الأشياء ، فما تراه بعينك تشمه بأنفك ، الكل يتحد عبر المعنى هذه الرؤيا الصوفية العميقة التي يتحد فيها أجزاء العالم في وحدة كلية غير قابلة للانفصال وهي ما يعبر عنه ابن عربي بعالم الأنفاس ، حيث تغدو الفواصل مجرد وهم في رؤية الأشياء ، ويتجسد المعنى أكثر حين يغدو للضوء حلاوة في الفم ” كحلاوة الضوء في فمي ” فالضوء المشاهد بالعين يغدو هنا محسوسا بالذوق عبر الفم الذي يجسد حلاوته ، ذلك الضوء المشرق هو ضوء الوعي والعلم وضوء النور الروحي المشع بالمحبة في الارتقاء بالإنسان والمجتمع . ويصحو الشاعر من هذه السكرة التي حاول أن يستدرج بها الآخر حين يغدو الوطن مشرقا ومفعما بالمحبة والوعي والسلام ، فيتوجه مرة أخرى إلى مخاطبة ” الوطن ” المعبر عنه بضمير المخاطبة على شاكلة قوله :
* 9 إن مر يوم ولم أتذكركِ. تعتذر الجهات للرياح. شعشعانية الحشائش وما تلامسه يد الريح يعتب على الريح : أن تركتني شاردا وبعيدا. نحوكِ أصوبني. كأزهاركِ تغني فضاء يدي . اليمن هي تلك الحبيبة التي لا تفارق ذكر الشاعر وهي التي يعيش من أجلها بجسده وروحه وفكره وقلمه ، إن لم تمر على ذكراه يوم فالجهات تغدو بلا رياح مبشرة بالخير ؛ لأن صوت الشاعر هو صوت الخير في الأوطان ، وحين نلجأ إلى التـأويل نقترب من الرؤيا العميقة للنص فالرياح رمز للتغير ورمز لصوت الشاعر ولكل قلم ثائر ، إن الرياح في معناها تحمل مدلولا خصبا ، فهي في الثقافة الدينية وفي القرآن خاصة مبشرة بالخيرات وهي لواقح للأشجار من أجل الثمار ، وفي قول الشاعر : ” تعتذر الجهات للرياح ” نجد روح الشعر والفن تتوهج في المقطع فقد أنسن الشاعر الجهات وشخصها فكل شيء مصبوغ بالحياة ومفعم بالحركة وكل شيء مرآة لروح الشاعر الشفافة المشرقة ، فالعبارة السابقة مليئة بالإيحاءات الرمزية الخصبة المفتوحة على تأويلات متعددة ، إن هذه الجهات الأربع هي بوابة الدخول إلى فكر الإنسان ، فمنها يدخل داعي الشيطان وداعي الملك من أجل التربع على مملكة الإنسان ، وما صوت الشاعر إلا ثورة للتغيير ومحاولة للدخول إلى تغيير الوعي السائد ؛ ذلك الوعي الذي يتسم بالكراهية والفوضى والنظرة الدغمائية للأشياء ، وتلك الأصوات الواعية التي هي صورة من صور الرياح في عالم المعنى بمثابة محاولة لزعزعة الأفكار وغرس رؤى جديدة ومشرقة ، تلك هي الرؤيا العميقة في سبب جمع الشاعر بين ذكراه لليمن المعبر عنها بضمير المخاطبة واقترانها بالرياح وجهاتها . وفي المقطع الذي يقول : “اشتكيت مرةً قسوة أبي لصخرة قرب بيتنا ” ففي هذا المقطع الصغير تتجلى شعرية عميقة وكثيفة ، فمن هذا الأب الذي يشكو قسوته إلى الصخرة ؟ أليست الأبوة رمزا للقوة المتسيدة والسائدة في البلد ، تلك القوة القاسية التي لا تقود الأمور بزمام الحكمة والرحمة ؟!
* والشاعر حين يشكو تلك القسوة إلى الصخرة ، يشير بأن الصخرة أرق من المشاعر القاسية لبني الإنسان ، فهي تسمع لك دون كلل وملل ، هذه هي الصخرة التي يتهمها الناس بالقسوة ، لكن شاعرنا يستبطن معناها وجوهرها الداخلي ويعبر من السطح إلى العمق ليرى الأشياء بحقيقتها ، فإذا به يتواصل مع الصخرة بتواصل حميم ويجدها تسمع له شكواه ومعاناته دون ملل ولا كلل ، إنها أسمى المعاني التي يفتقدها بنو الإنسان ، فمن الذي سيظل يهبك ذاته دون أن يضيق منك وأنت تتحدث معه في كل وقت ،والشاعر وحده من يكتشف جواهر الأشياء بحدسه ، أليس للشاعر رؤيا عميقة غير الرؤية السطحية التي عند الناس ؟!
* تلك هي مهمة الشاعر في الكشف عن جوهر الأشياء وعمقها الداخلي . وفي قوله : لا يثنيك صمت ، عدا صخور تلوح بيد البحر ” هنا يلتحم الشاعر بالأشياء ويعكس عليها إحساسه ، فالصخور تحمل معاني عميقة في امتزاجها بالبحر هذه الصخور الصامتة ذائبة فيك ومصغية لك ، كل شيء يبدو مختلفا عند الشاعر ، إنها ليست فيها من الأنانية شيء .
* حين تقف مع الصخرة وتتأملها وتتحاور معها بصمت تكتشف أن للأشياء جوهرا حيا عميقا هذه هي رؤيا الشاعر البصير ورؤيا المتصوف الخبير بأسرار الروح وحياة الموجودات ، حتى الذي نتوهم أنه جماد فهو عند الشاعر والمتصوف له حياة خاصة وكينونة لا ندركها إلا حين نقترب من جوهرها ، وهذه المسألة ذوقية تأملية لمن وقف معها لا تتأتى لأي شخص ، ويلفتنا كثيرا قول الشاعر: ” عدا صخور تلوح بيد البحر” ما العلاقة بين يد البحر والصخور ؟ إن البحر رمز للمدى الذي لا ينتهي ، رمز للأبدية ، وتلك الصخور تغدو بإشاراتها متلبسة بتلك اليد البحرية الأبدية ، إن هذا البحر الذي يتحدث عنه الشاعر ليس البحر الخارجي الذي نراه بل بحر آخر كلي عميق ، بحر الوحدة الكلية للأشياء ؛ إنه بحر الوجود الذي تستند إليه الموجودات . ينطلق الخيال الشعري في المقطع السادس من الواقع إلى بناء العالم الداخلي للشاعر ورؤياه للأشياء ، فيحملنا إلى مشاهدة الأشياء المعنوية مجسدة ، فإذا بالجراحات متعددة الجهات لها الشمال والجنوب والغرب والشرق ، وفي زاوية هذه الجراحات التي لا تنتهي يغدو الشاعر السجين الذي هو أشبه بعصفورة تتورد داخل قفص الصمت ، إنها صورة جمالية لا أبدع منها وخيال وقاد في خلق الجمال ، وفي هذه الحالة العصيبة من الصمت تبدو الأسئلة كشوك في وخزها تلك الأسئلة التي لا يجد لها الشاعر حلا ، فتبدو كالنوارس ، فكلمة نوارس معناها شوك القتاد ، ولها مدلول آخر بمعنى الطيور البحرية التي تنتمي إلى النورسيات ، وهنا لها المدلول الأول وهو الشوك التي تظهر من تحت غلاف الرمل على شاكلة قوله : 6ــ البلاد نحر من ظلال ترتجف تتقلب كأعواد ذرةٍ تجلب دوارا.ً عند الإفراط بأكلها. تحت مديات من سموم. يحدق رماد الأمل. لوحة لماء فنان. ونشير هنا إلى ترتيب الشاعر المقاطع بالعد التنازلي من الأكبر إلى الأقل ، هذا الترتيب له دلالته عند الشاعر وهو دلالة التراجع لهذا الوطن (اليمن ) الذي يتراجع إلى الوراء مع مرور الوقت ، ويمكن أن نعطي النص أكثر من قراءات لفراغاته وسواده وبياضه …كل ذلك يجسد إشعاع النص وامتلاءه برؤى مفتوحة لا تحصر . تلك هي مجمل المقاربة المختصرة لهذا النص الذي لا ينتهي تأويله هذا النص الذي يتمدد معنا كلما حاولنا الوقوف معه والإمساك به .

اضاءات وتأملات نقدية في قصيدة
بقلم / محمد سلطان الأمير
العِيد والغِياب
*كُـلُّ المَـوَاعيدِ خانَـتْـها المَواعيدُ*
*سِيَّانَ إنْ غِبْتَ أو وَافَيْتَ ياعيدُ*
*تَقَـطَّعَتْ بَينَنا الأَسْبابُ وافْتَرَقَتْ*
*دُرُوبُـنا، وَاسْـتَـوَتْ أيَّـامُنا السُّودُ*
*شَطَّتْ بِنا الدَّارُ، أَنْسَـتْنا ملامِحَنا*
*حَتَّى اغْترَبْنا وأَدْمى خَطْونَا الْبِيدُ*
*وَمَضَّـنا البُـعدُ وَجْـداً ما نُغَـالِـبُهُ*
*زَفِـيْـرُهُ الآه تَـكْـوِي والتّـناهِـيْـدُ*
*كيفَ افْترقْنا وَهَـمْسُ الحُبِّ يجمَعُنا*
*ومـا التَـقَيْـنا، وحَـبْـلُ الـودِّ مَـمْـدُودُ*
*ولَـوَّعَـتْـنا لَـيَـالٍ صَـفْـوُهـا كَـدَرٌ*
*أَدنَى تَـبَارِيْـحِـها هَـمٌّ وَتَـسْـهِيْدُ*
*تشِـيحُ عَـنَّا أمَـانِـيْ الحُـبِّ لَاهِـيَةً*
*وتصْطَفِينا على البَلْوى المَوَاجِيدُ*
*ياعِيدُ أيْـنَ التي كانَتْ إذا خَـطَـرَتْ*
*يَخْـتَـالُ بَـدرٌ، وتَـنـسَـابُ المَـوَاعِـيْدُ*
*تِلْكَ التي تَمْـنَـحُ الأعـيادَ بَهْـجَـتَها*
*أو رُبَّـمـا أَنَّـها كـانَـتْ هِـيَ الـعِـيْـدُ*
*مَـا بَـالُـها نَسِـيْتْ لَمْ تُهْـدِنا قَـمَـراً*
*في لَيْلَةِ العيدِ، هل يَحلُو لَنا عِيدُ*
🍃 *محمد النعمي* 🍃
*بيش*
👏👏👏👏👏👏👏👏👏👏👏👏👏👏👏👏👏
لموسمِ العيد المجيد نكهته الخاصة؛ ورونقه الروحاني الذي لاينفصل عليه؛وكلٌّ منا يراه من مرصده الخاص تبعاً لأحواله النفسية والاجتماعية وتقديراته الذَّاتية.
ولما كان الشعراء أكثر النَّاس اتصالاً بالمشاهد الكونية؛ وأكثر الناس تفاعلاً معها وشعوراً بها وتغلغلاً في بواطنها ؛فإنَّ نظراتهم لمشهد العيد ومراسيمه وطقوسه ؛تسترعي الانتباه؛ذلك لأنَّهم يرون مالايراه عامَّة النَّاس؛وإن بصائرهم المشحوذة ؛لتستطيع التقاط المشاهد الدقيقة ؛وتسليط الضوء عليها بجلاء ؛من خلال تلك الحساسية المرهفة التي أودعها الله بين جوانحهم.
ولقد أطلَّ علينا شاعرنا الكبير الأستاذ الرائد النعمي بأنغام قصيدته المرنانة في موسم العيد؛فأشجانا بمعانيها الوجدانية ؛وأسرنا بانسيابية لغتها المحكمة ؛ بعيداً عن ضجيج قصيدة المتنبي المشهورة؛وطنطنتها.
ولا غرابة أن يشعل في أعماقنا نيران الحنين؛ ولواعج الشوق المرير؛ فمن وراء عدسته الشعرية لانستجلي سوى الصدق الفني؛والشفافية الآسرة؛والروح الرفافة رفيف الفراشات في الحقول الخضراء.
إنَّها قصيدةٌ جزلة رقراقة؛ أنغامها تسري في الآفاق دون عناء ؛سريان المسافر في الليلة القمراء
فماذا عسى أن أقول أمام المواعيد الخائنة؟!
ماذا أقول وقد بدت (لغة التعميم) هنا حاسمة لامجال لنقضها أو العبوس في وجهها؟
وإذا تساوى حضور العيد وغيابه -وهو الواقع الذي نلمسه جميعاً- ؛فأين هالات الفرح المنشود؟!
وإذا اتسعت مساحات الأيام السود؛ فماذا سيبقى من فراغٍ للأيام البيض؟!
وإذا تباعدت ديار الأحباب ؛وخلت القلوب عن تلك الروابط الحميمة؛والعلاقات الإنسانية الدافئة؛ فمتى تعود إلى بساتين الأُلفة والمحبة؟!
لقد طرق شاعرنا سلسلة من العذابات؛وترجم لنا ألواناً من الآلام التي تصحبنا بكرةً وعشيَّا؛وجاءت انطلاقته الذاتية الصِّرفة؛ متطابقة مع النظرة العامَّة المجتمعية؛ومتعانقة مع شجوننا المحتدمة(فالهَـمٌّ وَالتَـسْـهِيْدُ) يترصدان بنا في كل مسلك؛والاغتراب صار زاداً يومياً؛ نلمحه حتى في الأشياء البسيطة ؛والأمنيات التي ضربنا الخيام حولها؛وعكفنا في محاريبها؛ ووقفنا نناشدها أن يلين لنا جماحها؛ألفيناها تلهو بنا ؛وتعبث برغباتنا؛وتلقي بها في مهبّ الريح ؛وكأني بصوت شاعرنا يعانق صوت جورج جرداق
في قوله:«سوف تلهو بنا الحياة وتسخر».!
لقد بدت تساؤلات شاعرنا كالأجرام السماوية الناريَّة ؛أقضت مضجعه طويلاً؛وأقلقته تداعياتُ السواد الجاثم الذي غلَّف الكون بأسره؛ولنا أن نصغي إلى هذا البوح:
ياعِيدُ أيْـنَ التي كانَتْ إذا خَـطَـرَتْ*
*يَخْـتَـالُ بَـدرٌ، وتَـنـسَـابُ المَـوَاعِـيْدُ*
*تِلْكَ التي تَمْـنَـحُ الأعـيادَ بَهْـجَـتَها*
*أو رُبَّـمـا أَنَّـها كـانَـتْ هِـيَ الـعِـيْـدُ*
*مَـا بَـالُـها نَسِـيْتْ لَمْ تُهْـدِنا قَـمَـراً*
*في لَيْلَةِ العيدِ، هل يَحلُو لَنا عِيدُ؟!
إنَّها تساؤلات شاعرٍ ؛احترقتْ أعصابه في أتون الانتظار؛
إذ كلُّ شيء من حوله ساكنٌ لاحراك به؛وكلُّ المؤشرات لاتنبئ بانقضاء أمد الغياب الطويل.!
وباختصار فإن معادلة (العيد والغياب)عنوان النص
تشكلت حقيقتها؛وتبلورت عناصرها في سياق هذا النص الرومانسي الشجي.🌷
أيها الشاعر الرائد لاعدمنا أنغامك المرنانة؛ ولا أخيلتك الوثابة؛ولا إبداعاتك السلسة ومذاقاتها الأصيلة.
ولايسعني في ختام هذه الدندنة إلا مشاطرتك أشجانك المتدفقة؛مستعيراً من شاعر النيل قوله:
إِنّي كَهَمِّكَ في الصَبابَةِ لَم أَزَل
أَلهو وَأَرتَجِلُ القَريضَ وَأَعشَقُ
طاب بك الشعر أبامازن وكل عام وأنت ومن تحب على ظهر البسيطة بخير وعافية وسرور دائمٍ مستديم
🌷🌷🌷🌷

ثنائية الألم واللذة..
قراءة في “ترانيم من بوح بلقيس” للشاعرة المغربية فاطمة قيسر
قبل أن تجمع الشاعرة قصائدها في ديوان ورقي، كنت اكتشفت قلمها و هواجسها و اشتغالاتها من خلال النشر الرقمي مما جعلني أتعرف إلى انشغالاتها الجمالية و الوجدانية
و الفكرية.
حين الوقوف على ديوانها الماثل بين يديّ الموسوم ب: ترانيم من بوح بلقيس، الصادر في 2017 عن مؤسسة آفاق للدراسات و النشر و الاتصال بمراكش/المغرب، و الواقع في ثمانين صفحة مقسمة بين الإهداء و مقدمة للأستاذة مليكة الجابري، و 44 قصيدة، لابد من تذكير يعيد للشعر تفرده عن النثر من حيث الحميمية ذلك أن الشاعر لا يكتب إلا لغته/لغة نفسه …
قبل الدخول في عالم فاطمة قيسر الشعري لابد من الإشارة و لو من بعيد إلى هواجس الكتابة الأدبية عامة و خاصة تلك التي ينتجها النساء دون تبني نظرية الأدب النسوي إذ أظل على يقيني أن الأدب إنساني لا هو بالذكوري و لا بالنسوي…
هذه الكتابات تكشف اشتغالات الكاتبات على ثيمة العنف المقدس حسب تعبير جيرار روني.
سأحاول في هذه القراءة أن أتناول الأثر من حيث ثنائية الألم و اللذة الفرويدية انطلاقا من العتبات و صولاً إلى المتن، حريصة في ذلك على تجاوز القراءة السيرذاتية التي ينزع نزوعها بعض النقاد حين تناولهم لكتابات النساء.
العنوان: يستوقفنا هذا الاختيار:
ترانيم من بوح بلقيس…
فالترانيم هي جمع ترنيمة و هي كما ورد في معجم المعاني” أنشودة صغيرة… نشيد الكنائس” و هنا لا يخفى على القارئ تلك النزعة إلى الشجن، و إلى الروحانيات، باعتبار أن الإنشاد واحد من أهم تعبيرات المتدينين و هو ارتقاء بالذات من وثنيتها إلى مصاف من التجلي تتوحد فيه الروح بالروح الأعلى…
و لا يمكن بحال أن نتغافل عن تلك النورانية التي تهيمن على أجواء الإنشاد الديني.
و ” من” أداة تفيد التبعيض
أما البوح فهو و كما جاء في المعجم ذاته ” إظهار السر… يعالج الطبيب النفساني مريضه عن طريق البوح الذاتي”.
و بلقيس، لا يخفى علينا أنها مرجعية لبلقيس كما جاءت في التراث الديني صنو الإيمان و الطيبة و الجمال..
و هكذا نلاحظ أن الشاعرة و منذ العنوان تضعنا في حفل سيكولوجي بل و ماوراء سيكولوجي دون ابتذال .
أما العتبة الثانية فهي الغلاف بوجهيه.
الوجه الأول فهو لوحة تمثل قلعة بلقيس و ما يلفت الانتباه هو تلك المرأة التي تجلس معلقة على حافة حرف تسند ظهرها أو تديره لكتلة غلب عليها اللون الغامق، في حين ترتدي هي ثوباً ذهبي اللون عدا الإيشارب الأزرق و الذي يبدو محيطاً برقبتها عائداً إلى الوراء؛ كأنَّ المرأة في مقابلة مع الريح … و بعضٌ أحمر هو على الأرجح لون بنطلون، عادة تلبسه المغربيات تحت الجلباب، إضافة إلى الأصفر الصافي الذي يلون الحذاء المغربي التقليدي (البابوش).
نلاحظ أن المرأة تتوسط فضاءين، الأول خلفها مرصوص رصاً، و الثاني أمامها مفتوح على أفق يبدو حاملاً للأمل و الانقشاع …
أما الوجه الثاني فهو قصيدة بلقيس و كأنها هي قصيدة القصائد في المجموعة الشعرية كلها و لعل الغوص فيها سيفتح مغاليق الديوان تدليلاً.
تتظافر العتبات لتقحم القارئ للأثر في جو طقوسي يبدأ بالإنشاد ،وينتهي بالبوح، ويجبرنا على تلك الرؤية الفرويدية للغوص في مظانِّ النص و أغوار الذات الشاعرة، لا بوصفها ذاتا متفردة، و إنما بوصفها ذاتا متعددة ،تشكل لوحة من لوحات الألم الأنثوي الذي يعمل على مراودة الخارج عن الذات عبر ترنيمة مموسقة و مكتوبة، تبحث عن لذة التشكل خارج الذات، والظهور إلى الآخر و من هنا البوح النسائي كما يراه وجدان الصائغ في شهرزاد و غواية السرد ص 63 ” حيث تبوح الأنثى بكل حروفها المشفرة، فإنها تريد من الرجل الاعتراف بانتمائها إلى مملكته لا فصلها عنه”…
قصيدة يا بلقيس تنفتح على النداء و يهيمن عليها الأسلوب الطلبي ( الأمر( اكشفي/ اقذفي/ سطري/ لملمي/ مرغي/ انصبي/ مشطي/ اقذفي”
و هو دعوة صريحة إلى الثورة و القطع مع الصمت.
و المعروف هو أنَّ الثورة لا تكون إلا رغبة و تمردا و مراودة للذة الانتصار بعد ألم الاستكانة.
فثنائية الألم و اللذة ثيمة هيمنت على نفس القصائد، إذ تعددت التعابير الدالة على وجع الصمت، و فقدان المشاعر، و الصدق ،و وجع الكينونة المسورة .
و هذه الثنائية تكمن أيضا في ألم الكينونة المهشمة بفعل خيارات مجتمع يمارس عنفه على الفرد أولا بوصفه فرداً ،و على الأنثى ثانياً باعتبارها مدعوةً دائماً و أبداً إلى الصمت القسري حين يكون ظهورها عورةً، و صوتها عورة، و نحيبها عورة،
و غناؤها عورة …
أما اللذة فهي لذة البوح و تجاوز المحظور و القفز على الصمت بالصوت و على الغياب القسري بالحضور المؤثث بشتى أوجه الثورة…
و بما أنَّ الألم و اللذة متلازمان كما ينظر فرويد، يبقى الأدب تعبيراً عن ألم الكينونة و لذة الانتصار بالبوح و ربما الخلود.
______________

” أصفر بلون اليانسون ”
قرعت النافذة بقوة، ولكن الممرضة أشارت إلي بيد مفتوحة واليد الأخرى بثلاثة أصابع، لم أفهم ما ترمي إليه، فرفعت عينة البول فجاءت إلي غاضبة وقالت:
الدوام الساعة الثامنة، فقلت لها استلمي مني العينة فقط فقالت: آسفة وأغلقت النافذة وأدارت ظهرها ومضت.
بقيت في حيرة من أمري فالساعة الآن تشير إلى السابعة تماما، فقلت في نفسي سوف أذهب إلى عملي وأقوم بإثبات الحضور ومن ثم أعود لأسلم العينة.
عندما هممت بالخروج رأيت الطبيب يدخل من الباب فقلت الحمدلله سيساعدني في استلام العينة، فسلمت عليه وقلت له عندي عينة وأريد تسليمها للمختبر، فقال لي: سلمها للممرضة فقلت له هي موجودة بالداخل ولكنها ترفض استلامها قبل الثامنة، فهز رأسه ودخل وأغلق الباب.
ذهبت إلى عملي والعينة في يدي ممسكا بها كمن يمسك عصفورا يخشى عليه من الهرب.
أسبوع مضى أحاول أن أجمع عينة البول من صغيرتي ذات العشرة أشهر. في كل ساعة أرخي حفاظتها كي أحاول جمع تلك العينة بدون جدوى. أترقب نزول بولها بعد كل شربة حليب. تمضي الأيام والساعات أفشل في جمع تلك العينة كمن يحاول اصطياد سمكة بيده. لم تفلح محاولاتي إلا بعد أن تركتها تلهو بدون حفاظة، وبعد أن أغرقتها بسوائل حتى كادت تتقيأ بها. أمطَرت المكان كحمل صغير، أخذت أركض خلفها وبيدي علبة العينة، نسيت أن أفتحها، تعثرت وأنا أركض خلفها وهي تهرب مني وتضحك وكأننا في حوض صابون زلق عصي على الإمساك.
بعد أن أمسكت بها وضعت العينة على نهاية الاندلاق، حصلت على قطرتين ربما لا تكفي لتحليلها، ولكن عزمت على تسليمها مهما كلف الأمر.
في يوم حار ورطب دخلت على مديري وأنا أحمل العينة فانتفض غاضبا، فشرحت له الوضع، وخشيت إن تركتها خارجا أن تفسد وتضيع محاولاتي سدى. أمرني بالخروج سريعا لتسليم العينة، وكل من رآني من زملائي في العمل أخذ يضحك علي حتى أن بعضهم دعا لي بسخرية بأن تكون النتيجة إيجابية ويتم لي الحمل بتوأم.
بقي من الوقت خمسة وأربعون دقيقة على وقت تسليم العينة، ذهبت إلى الفوال، وضعت العينة على الطاولة وطلبت طبقا من الفول مغطى بالسمن البلدي. حدّق فيّ العامل ثم حدّق في العينة ومضى.
بعد برهة وضع طبق الفول والسمن الأصفر يتماوج فوقه، بعض الحاضرين كان ينظر إليّ بقرف واشمئزاز، وبعضهم مرّ بجواري وهو يقول: الله يشفيك، ولكني تظاهرت باللامبالاة وأكملت فطوري.
خرجت من الفوال، والوقت يتمطى بارتياح كأنه يعاند المضي قدما. بقيتْ نصف ساعة والجو حار ومشمس. رفعت العينة في وجهة الشمس وكأني أعاين ماسة ثمينة. حاولت وضعها في جيبي برفق ولكن خشيت أن تندلق وتُكر السُبحة في محاولة الحصول على عينة جديدة، غطيتها بيدي وذهبت إلى مقهى شعبي كي أبدد ما بقي من الوقت. طلبت كوب ينسون كي يهدأ من روعي، وبعد أن وضعه النادل على الطاولة، تحيرت كيف أشرب. وضعت العينة على الأرض ولكن خشيت أن أركلها بدون شعور. وضعتها بجانبي ولكنها لم تكن ثابتة. وضعتها على الكرسي المقابل فخشيت أن يسحب أحدهم الكرسي وتسقط العينة. أخيرا وضعتها بحزم أمامي على الطاولة، تأملتها جيداً فكان لونها أشبه بلون الينسون. بعد أن أنهيت الكوب على مهل خرجت متوجها إلى المستوصف. وصلت بتوقيت الثامنة تماما، ولكن المكان كان يعج بالمرضى. توجهت إلى المختبر، طرقت الباب ولكن لم يجبني أحد. فتحت الباب فوجدت الممرضة تسحب عينة دم من أحدهم فقلت لها لدي عينة أود تسليمها فقالت انتظر دورك، فقلت لها أريد تسليم العينة فقط وأمضي، فردت عليّ بغضب انتظر بالدور.
خرجت إلى غرفة الانتظار فكان هناك خمسة مرضى أمامي، تنهدت بحسرة وجلست. بعد مضي ساعة من الزمن نادت عليّ الممرضة وقالت: ما عندك فقلت: عندي هذه العينة لصغيرتي أود تسليمها فقط فقالت: اذهب إلى الاستقبال وأحضر لي كشف مدون عليه اسم المريض وبياناته، فقلت: أنا مستعجل وأريد تسليم العينة فقط. فقالت: لا أستطيع استلامها من غير كشف مدون عليه بيانات المريض وإلا ضاعت العينة. ذهبت إلى استقبال المرضى وكان الطابور طويلا وقفت في الطابور قرابة النصف ساعة، وحين وصلت إلى الموظف طلب مني هوية المريض فقلت هي ابنتي وأنا أحفظ جميع بياناتها، ولقد كانت الأسبوع الماضي لدى الطبيب المعالج وبياناتها موجودة في الحاسوب لديك! فرد عليّ متأسفا بأنه لا يستطيع طباعة الكشف من دون الهوية. بعد أن يئست من النقاش معه انسحبت من الطابور وذهبت إلى المنزل وأحضرت الهوية، وعدت مسرعا. ذهبت إليه مباشرة كي أخبره بأني أحضرت الهوية، ولكنه طلب مني الوقوف مرة أخرى في الطابور وكان الطابور مضاعفا هذه المرة، وقفت في آخر الصف بحسرة وأنا أقبض على العينة في يد، وعلى الهوية في يدٍ أخرى.
بعد مضي ساعة من الزمن حصلت على الكشف وذهبت إلى المختبر مباشرة. طرقت الباب خرجت إليّ الممرضة وطلبت مني الانتظار بالدور. انتظرت حتى جاء دوري. لم تستلم العينة مني ولكنها أخذت الكشف وقامت بتعبئة البيانات على ملصق ثم طلبت مني بأن أضع الملصق على العينة ثم أضعها في صندوق مخصص جُمعت فيه عينات كثيرة. حاولت أن أضع الملصق على العينة ولكنها فرطت من يدي ووقعت على الأرض واندلق السائل منها. تجمدت مكاني كمن دلق عليه ماء باردا. نظرت إلي الممرضة وقالت ببرود خذ عينة جديدة وآتي بها غدا فالوقت شارف على الزوال ولا نستقبل عندها.
خرجت وأنا في نصف وعيي مشدوها. لسعتني الشمس بحرارتها وأنا ممسك بعينة فارغة. رفعتها عاليا، تذكرت السمن والينسون وصفرة الشمس التي كانت تشبه العينة، كانت تدخل خيوطها في العينة وتخرج فارغة تماما مثل ما انتهى يومي.
السبت 7 ابريل 2023م

تأملاتٌ استقرائية في قصيدة (( طَــلاقُ الــحُـــبِّ )) للشاعر :موسى الشافعي..
——————-
-عرض النصّ:
سُـكــونٌ كَـالـمَـقـابِـرِ لا يُــطَــاقُ
غَـرامٌ لا يَـكُـونُ بــهِ الــتِـصَــاقُ !!
فـلـثْــمُ تَـرائـبٍ و شـمِـيـمُ صــدْرٍ
بِـشَـرْعِ الـعـاشِـقِـيـن هو الصّـدَاقُ !!
وَ مَــا أشـهـى الـهَـوى إنْ ضـمّ روحـاً
لــرُوحٍ ثُـمَّ لَـفّـهُـمَـا الــعِـنَـــاقُ !!
سـتَـمْـسَـحُ قُـبْلَـتَـانِ و دِفءُ حضْـنٍ
مِـنَ الأوجَـاعِ مـا طـعِـمُـوا وذاقُــوا !!
ثَـــلاثٌ إنْ ظَــفِــرْتُ بِـهِـنَّ مِـمَّــنْ
هَـوَتْـهُ الـروحُ عَـذَّبـَهـا الـفِــرَاقُ !!
تَـأمُّــلُ عَــارِضَـيْـنِ و شَـمُّ جِـيــدٍ
وَ لَـثْـمٌ مِنهُ تَـنْـتَـفِـضُ الحِـقَـاقُ !!
وَ إنْ أنَـاْ لَـمْ أَذُقْ خَـمْــرَ الـثّـنَــايَـا
فَـقَـدْ ضَـيَّـعْـتُ أنْـفَـسََ مـا يُـذَاقُ !!
حَــرامٌ أنْ أُضَـيِّــعَ مِـنْـكِ حَــظِّــي
مِـنَ الـلّــذَّاتِ أيَّـتُـهَــا الــعَـنَــاقُ !!
طقوسٌ غرامية
وَ أعْـظَــمُ حُـرْمَـةً و أشَــدُّ وَطْــئـاً
دَمُ الـيَـمَـنِ الــسَّـعِـيـدَةِ إِذْ يُــرَاقُ !!
وَصَـرْخَـةُ سُـورِيَـا وبُـكَـاءُ حَـيْـفَـا
يُـحَـشْـرِجُ في الصُّدورِ لَهُ اخْتِـناقُ !!
وَلُـبْـنَـانُ الـعُـرُوبَـةِ مَـحْـضُ جُـرْحٍ
يَـطُــوفُ بِـنَـا لَـهُ قَــدَمٌ و سَــاقُ !!
َو فـي الـسّـودَانِ شَـيْـطَـانٌ يُـغَــنِّــي
لِـيَـرْقُـصَ فِـي شَـوارِعِها الشِّـقَـاقُ !!
تُـحَـاوِلُ مِـصْـرُ نُـصْـرَتَـهَـا وَ لَـكِـنْ
مُـعَــاقٌ قَــامَ يُــسْـنِـدُهُ مُــعَــاقُ !!
إذَا الـعَـرَبِـيُّ لَـمْ يَـنْـضُـجْ صَـغِـيـراً
فَـكَـيْـفَ تَـعُـودُ لِـلْـعَـرَبِ الـعِـرَاقُ !!
تمزق الوطن العربي
دَعِـيـنِـي مِـنْ هَــواكِ فَـإنَّ قَـلْـبِــي
إلـى الـعَـلْـيَـاءِ سَـــارَ بـهِ بُـــراقُ !!
ألَـسْـنَا خَيْرَ مَـنْ رَكَـبَ المَـطَـايَـا ؟؟
لَـنَـا الخَـيْـلُ الـمُـبَـرِّزُ و الـعـتَـاقُ !!
بِـكُـلِّ مَـنَـاكِـبِ الـدُّنْـيَـا مَـشَـيْـنَــا
لَـنَـا فِـي كُــلِّ مُـعْـتَـرَكٍ سِـبَــاقُ !!
فَـكَـيْـفَ تُـذِيـلُـنَـا شَـفَـةٌ و كَــأسٌ
وَتَـسْرِقُ مَجْـدَنا الـنُّـجْـلُ الـرِّقَـاقُ !!
إلماحة مُجملَة
جِـنَـانُ الـوِدِّ يَـأْكُـلُـهَـا الــتَّـلاحِــي
ونَـارْ الـبَـيْـنِ يَـقّدَحُهَـا الـشِّـقَـاقُ !!
لَـنَـا أعْــدَاءُ قَـدْ ظَـهَــرُوا و بَـانُــوا
مِـنَ الـبَـغْـضَـاءِ كَـأسُـهُـمُ دِهَــاقُ !!
وَ فَـوْقَ الـبـشْـرَةِ الـسّـمْــرَاءِ يَـبْـدُو
جَـلِـيّـاً حِـينَ يَـنْـتَـشِـرُ الـبُـهَـاقُ !!
هَــدَانَـا خُـبْـثُ أنْـفُـسِـهِـمْ إلَـيْـهِـمْ
كَمَا يَـهْـدِي إلى الـمَعْـنَى الـسِّـيَـاقُ !!
سُـكَــارَى كُـلَّـمَـا وَجَــدُوا سَـبِـيـلاً
إلـى إطْــفَـاءِ جُـذْوَتِـنَـا أفَـاقُـــوا !!
يَـسُـوقُـونَ الـشَّـبَـابَ إلى الـمَـخَـازِي
كَمَا تُـسْـتَـاقُ لِـلْـعَـطَـنِِ الـنِّـيَـاقُ !!
فَـكَـيْـفَ سَـنَـسْـتَــرِدُّ زِمَـامَ مَـجْــدٍ
وَ نَـحْـنُ لِـمَـا أُرِيــدَ لَـنـا نُـسَــاقُ !!
إذا يَـبِــسَ الـتُّـقَـى بِـفِـنَـاءِ قَـلْــبٍ
وَ أمْـطَـرَهُ الـهَـوَى نَـبَـتَ الـنِّـفَـاقُ !!
عُـــرُوبَـتُـنَـا تَـئِـنُّ أنِـيـنَ ثَـكْـلَـى
مَـواجِـعُـهَا العَـظِـيـمَـةُ لا تُـطَـاقُ !!
إذَا ادّكَـرْتْ (بَـنِي الـعَـبَّاسِ) أغْـضَـتْ
ولِـلـذِّكْـرَى بِـعَـبْـرَتِـهَا اخْـتِـنَـاقُ !!
خُــيُـولُ ( بَـنِـي أُمَـيَّـةَ) كُــلَّ يَــومٍ
لَـهَـا مِنْ مِـلْـحِ أعْـيُـنِـهَـا انْـطِـلاقُ !!
تُـنَـادِي عَـمْـرَو و الـقَـعْـقَـاعَ هَـدْراً
و يَـأْســاً أنْ يُـجَـاوِبَـهَــا الـرِّفَــاقُ !!
تُــؤَمِّــلُ.. إنّـمَـا عَـبَـثـاً… كَـكَـهْــلٍ
إلى زَهْـرِ الـشَّـبَــابِ بـهِ اشْـتِـيَـاقُ !!
عَـلـى أنِّـي و إِنْ دَجَــتِ الـلّــيَـالِــي
وَ بَـدْرُ الـتَّــمِّ خَـاتَـلَـهُ الـمُـحَـاقُ !!
عَـلَــى أمَـــلٍ بِــأنَّ الــصُّــبْــحَ آتٍ
كَـغُــرَّةِ مَـنْ تحِـبُّ لَـهُ ائْــتِــلاقُ !!
فَـمَـهْـمَا اشْـتَـدَّ بِـابْـنِ المَاءِ ضِـيـقٌ
وَ ضَـاقَ عَلَيْـِه بِـالـكَـدَرِ الـخِـنَاقُ !!
سَـتَـبـقَى فُـرْجَـةٌ لِـلـسّـعْـدِ مِـنْهَـا
بِـحَــوْلِ اللهِ يَـتَّـسِــعُ الـنِّـطَــاقُ !!
فـبَـعْــدَ الـعُــسْـرِ قَـالَ اللهُ يُـسْــرٌ
وَ بَـعْـدَ ضَـرَاوَةِ الــجَـدَلِ الـوِفَــاقُ !!
وَ لَـوْلا الـلـيْـلُ مَـا بَـزَغَـتْ نُـجُــومٌ
ولَـوْلا الـكُُـفْـرُ مَا فُـضِـحَ الـنِّـفَـاقُ !!
و مَــا لِـلْـعُـودِ مِـنْ عَـبَـقٍ و نَــفْــحٍ
إذآ لَـمْ يُـبْــدِ جَـوْهَـرَهُ احْــتِـرَاقُ !!
إذَا اعْــتَـصَـمَ امْــرُؤٌ بِـاللّــهِ لانَــتْ
لَـهُ الأَرْضُـونُ وَ الـسَّـبْـعُ الـطِّـبَـاقُ !!
وَ مَـنْ لـمْ يَــتَّـعِــظْ بِـالـدَّهْـرِ غِــرٌ
مِـنَ الأَيَّـــامِ لَـيْـسَ لَــهُ خَــــلَاقُ !!
سَـأَلْـتَـزِمُ الرَّجَـا و الـصَّـبْـرَ حَـتَّـى
يُــنَــادَى أنْ إلـى اللـَّـهِ الـمَـسَــاقُ !!
وَ مَــا لِـيَ و الـغَـرَامِ فَـلَـيْسَ بَـيْـنِـي
وَ بَـيْـنَ ذَوِيـهِ فِـي الـدُنْـيَا اتِّـفَـاقُ !!
وإنْ خَـنَـعَـتْ لِـذُلِّ الـحُـبِّ نَـفْـسِـي
فَــأيْـسَــرُ مَــا يُــعَـالِـجُــهَـا الـطَّـلاقُ !!
—————————–
-عنوان النص وإشعاعاته الفنية:
لامناص لأي قراءة نقدية في المقام الأول ؛من أن تكون انطلاقتها المشروعة السائغة من استقراء العنوان البرّاق الذي ارتضاه الشاعر؛وأودع فيه-بطريقةٍ مكثفة- معانيه النفسية الغزيرة؛ولواعجه المؤرقة المتدسسة في أعماقه..
وإذا كانت واجهات البنايات العمرانية ؛علاماتٍ فارقة يستدلّ بها مرتادوها إلى الدخول إلى أعماقها ؛فإنَّ عنوان النص هو حجر الأساس الذي يقوم عليه معمار القصيدة؛ومن ومضاته الأولى يستدل المتلقي على العديد من أسرار النص الذي يصافحه ؛ويهمُّ باستقرائه؛في وقفاته التالية.
و عنوان قصيدةشاعرنا :(طلاق الحب) -من الناحية الشكلية- عبارةٌ عن تركيب إضافي (مضاف ومضاف إليه)؛ارتآه الشاعر واستحسنه ؛وفقاً للحركة الديناميكية الناجمة عن طبيعة العلاقة المتنافرة؛والجو المشحون بين دلالتي: “طلاق”و”الحب”؛كما أنَّ الشاعر رأى فيه مدخلاً ينفذ بواسطته المتلقي؛إلى المضامين التعبيرية التي سيقرع بها الأسماع ؛ويقدح بها الأذهان..
وعند علماء اللغة فإنّ المضاف هنا اكتسب خاصية التعريف ؛بعد أن كان مجرد نكرة مبهمة..
وبالعودة إلى معاجم اللغة لاكتشاف مدلولات هذا التركيب على نحوٍ أدقّ ؛يتجلى لنا أنَّ
أكثر المعاني المنبثقة عن لفظة (طلاق ) ؛وإليها تنصرف الأذهان تندرج تحت قضية “إزالة مشروعية عقد النكاح بين الزوجين”؛ومايترتب عليه من انفصالهما التام عن المعيشة معاً تحت سقف واحد؛وإلغاء مبادئ الشراكة التي ألّفت بينهما ؛فيما سبق من مراحل زمنية؛ومن هنا أصبحت اللفظة مصطلحاً موائماً لتلك الأجدات..
على أنَّ هناك عبارات شتَّى تجري في فلك مصطلح(الطلاق)؛كقولهم:
“طلَق المسجونُ”: أي تحرَّرَ من قيد ما كان مفروضاّ عليه؛وكقولهم:
طلَق يدَه بالخير: أي بسَطها للعطاء والبذل…الخ
وإجمالاً لما سبق ؛فإنَّ ما تشع به تلك اللفظة من إيحاءات ؛إنما تندرج في معاني الافتراق والاختلاف وفقدان اللُّحمة المشتركة بين الطرفين..
وتأتي لفظة (الحب) -سلطان المشاعر والعواطف -جليةً واضحة للعيان؛مؤتلقة في النواظر والأسماع ؛إلَّا أنّ الحب هنا بهالاته النورانية الملتحمة به؛وصفاته القُدسية ؛يشهد أحداثاّ دراماتيكية عاصفة ؛أذاقته ألوان الهزيمة ؛حتى ألجأته إلى أن ينأى بجانبه؛وأن يتنازل عن عرشه المطهَّم؛وأن تتضاءل قيمته الوجودية؛ليستحيل بعد ذلك كائناً منبوذاً محتقراً ؛أشبه مايكون بسقط المتاع..
وفي هذا السياق الناعم المخملي نستأنس بقول كاتبٍ قديم:
« الحبُّ أصعبُ ما رُكِبَ، وأسْكَرُ ما شُرب، وأقطعُ ما لُقي، وأحلى ما اشْتُهي، وأوجعُ مابُطن؛وأشهى ماعُلن».
من هذه الجولة العنوانية الخاطفة؛يمكن لنا أن نستخلص
أنَّ الحب -في نظر الشاعر -فقد جدواه ومصداقيته؛ وخسر رونقه الذي اتشح به؛وتأثيره المستمد من تفاعله مع بني الإنسان؛فوق أنَّه سُلبت منه الرهافة المقترنة به في ماضي الزمان؛فأصبح أقرب مايكون إلى مأساةِ المرأة المطلّقة ؛أو المسرّحة تسريحاً لاإحسان فيه؛ولالطافة تعتريه؛وأصبحت لغته الناعمة ؛ساذجة فجة لابريق لها؛ولاقدرة لها على رسم معالم الوفاق بين أصحاب الهمِّ الواحد.
على أنَّ هناك تأويلات أخرى؛تصبُّ في النهر ذاته ؛وهو نهر لم يعد صافياً .
ومن هنا فنحن على أعتابٍ غليانٍ شعري ؛حشد الشاعر فيه طاقته الفنية؛وأشهر حججه الدامغة؛وبراهينه النافذة؛على ماسنرى في أبيات النص .
—————————–
-الجو العام للنص:
يفتتح الشاعر نصَّه مشيراً إلى السكون المطبق الذي يلفُّ الكون بأسره ؛ويحيط به إحاطة السوار بالمعصم ؛وهو سكونٌ رأى فيه الشاعر صمت المقابر الموحش؛ تشبيه المعنوي بالحسِّي”.
وفي الإطار نفسه -لافاصل بين الأمرين-هناك غرامٌ يسبح في فضاء العدم ؛غرامٌ جائع يفتقر إلى طقوسه المتعارف عليها في قواميس العاشقين ؛من لثم وعناق وقبلات حارّة؛باعتبارها الأثمان المادية المعبرة عن مصداقيته وقيمته المعنوية.
بتلك الطقوس الحلوة يبلغ الهوى الوجداني قمة صفائه ؛وذروة احتوائه؛
إذ لا أجمل من روحين ؛ضمهما الهوى الوجداني على ضفاف الحياة ؛وكان العناق المبرأ من الخداع غلافاً لهما ؛
في مواجهة طاحونة الحياة؛وتحدياتها المحدقة.
إن تلك الحرارة الوجدانية التي يتقاسمانها؛ وتداعياتها الحميمة من قبلات وأحضان دافئة ؛تعدُّ بمثابة الإكسير الذي به تتداوى الأوجاع ؛وتلتئم الجراحات..
وهكذا يمضي الشاعر في حديثه الغرامي السائغ العذب المنصب على الشمولية ؛لاعلى الخصوصية؛راسماً نموذجاً إنسانياً فريداً من نوعه؛ في ضوء تصوراته الشفافة المتوخية بناء صرح العلاقات الصادقة بين المحبين على الوجه الأكمل والأتمّ .
حتى إذا انتقل إلى الحديث عن ذاته الهائمة ؛وأزمته الخانقة؛وجراحاته الملتهبة؛تغيرت النبرة قليلاً؛وتغير المسارالكلّي بعدها ؛ووجدنا أنفسنا أمام انتفاضة عارمة أفضت بنا إلى الخروج من توطئةٍ وجدانية واضحة المعالم ؛إلى مواجهة سلسلة من الخيبات المعاصرة؛يستهلها بقوله:-
وَ إنْ أنَـاْ لَـمْ أَذُقْ خَـمْــرَ الـثّـنَــايَـا
فَـقَـدْ ضَـيَّـعْـتُ أنْـفَـسََ مـا يُـذَاقُ !!
من نافذة هذا البيت القائم على نفي الهناءة وحلاوة الطقس الأنيس ؛واللذّة الحسية ؛ وإثبات الضياع الذي حال دون نيل مطلبه العزيز ؛منسوباً إلى الذات في (ضيعتُ)؛ ومؤكَّداً بأداة التحقيق (قد) ؛نذلف إلى معاينةخارطة الأقطار العربية؛
(اليمن-سوريا-لبنان-مصر -السودان- العراق)؛ وهي خارطةٌ داميةٌ تكسوها الأردية الشاحبة من كلّ زاوية من زواياها.
لغةُ الشاعر التصويرية الوصفية -إذن-تتجه بنا صوب الأوطان المتشظية ؛الأوطان التي أرهقتها المؤامرات وأثخنتها النزاعات؛وعطلت نهضتها الانقسامات ؛والصراعات الغائمة؛واستشرت في ربوعها ملامح
الخزي ؛والعنف ؛والتخلف ؛فإذا بها تعود القهقرى ؛وإذا بينها وبين الحضارة العالمية سنين ضوئية لاعداد لها..
لقد رصدت عدسة الشاعر سلسلة من الأزمات والانكسارات؛مستمداً ذلك كله
من مرآة الخذلان العربي ؛والتشرذم السائد ؛الناتج عن ضياع البوصلة ؛فتبين له أن كلّ قُطرٍ منها؛أصابته الأحداث الجِسام دون هوادة ؛وساقته القرارات العمياء إلى حافة الفناء.
دماءٌ تراق عبثاً؛ جراحات تتفاقم على مرأى ومسمع من العالم ؛مناوشات غوغائية ؛مطامع استعلائية هدفها الهيمنة ؛صراخات تدوي في الآفاق فتبتلعها آذان الصخر الأصمّ ؛وشيطان احترف الغناء مؤخراً في السودان ؛ومشاهد أخرى دراماتيكية يندى لها الجبين ؛وترفضها المبادئ المثلى..
لقد سار الشاعر بقلبه المشرئب إلى المطامح العُليا ممتطياً بُراق شعره الجامح ؛سيراً حثيثاً إلى التحديق في حاضرنا الأصم الأبكم بعين البصير الواعي المسكون بهموم أمته وهي تنحدر إلى الهاوية السحيقة؛ورأى بعين الحكيم النابه جراحات الوطن العربي الكبير المتسعة وشجونها المترامية.
وإنها لجراحات دامية لمن ألقى السمع؛ جراحات لايهدأ أُوارها ؛أساسها حالاتُ التشرذم والانقسام والعزائم الخائرة..
في هذا الجو الصاخب المتوتر المشحون ؛أرسل شاعرنا الصداح أنغامه المرنانة ؛في إطار أسئلته المنصهرة في بوتقة آلامه ؛يحدوه في ذلك إيمانٌ مكين ؛وقلبٌ يحلم بانتظارِ غدٍ قادمٍ لامحالة؛ تفيق فيه الأمة من سباتها الطويل.
وفي إطار تشخيصاته البارعة للواقع الهزيل ؛واجهتنا مجموعة من الإحالات والإشارات إلى مواطن العز والشجاعة المغيبة؛و مواطن الذل والهوان المستبسلة في نخر جسد الأمة.
إن معطيات تجربة شاعرنا إنما هي انعكاس لواقع منتكس؛هيضت أجنحته الرفافة؛وتكسرت على شاطئ الأحلام والأمنيات..
لم تغب عن بوصلة شاعرنا الدقيقة صفحات الأمجاد التاريخية الخالدة في ضمير الزمن ..
وهي صفحات مضيئة ؛لم نقدرها حقَّ قدرها؛ ولم نستوعب ما اشتملت عليه من مآثر وبطولات؛فتركناها نهب الضياع ؛والجمود المطبق؛وأسدلنا عليها ستائر النسيان الصفيقة؛فتولدت أشكالٌ من الخزي والرضوح والانقياد الأعمى ؛وقديماً قالت العرب: «لافرق بين إنسانٍ يُقاد وبهيمة تنقاد».
غابت الشجاعة والبسالة والتضحية والقيم الجوهرية؛وغاب نضج العربي؛فضاعت الأوطان؛وظلَّ الأعداء من حولنا يتفننون في صناعة المصائد والأفخاخ..
فهم في مرآة الشاعر:
سكارى كلما وجدوا سبيلاً
إلى إطفاء جذوتنا أفاقوا!
يسوقون الشباب إلى المخازي
كما تستاق للعطن النياق!
وفوق ذلك العناء المستفحل ؛والعنت الذي نتجرعه ؛مازالت الصورة العامة قاتمة متجهمة في مشهد العروبة المغلوبة على أمرها ؛كما في هذا التصوير المؤلم:
عروبتنا تئنُّ أنين ثكلى
مواجعها العظيمة لاتطاق..
إنَّ “وراء الليلة السوداء فجر أبيض ” ؛ آتٍ لامحالة ؛لكنَّ مأتاهُ المفعم بالنصر ؛مشروطٌ بالعودة إلى ذي الجلال والإكرام؛والإنابة الصادقه إلى ركنه الذي لايُضام ؛والاعتصام الجمعي بحبله المتين؛والمُضي على نهجه القويم ؛كما في هذا التقرير:
إذا اعتصم امرؤ بالله لانت
له الأرضون والسبع الطباق!!
الحاضر المتأزم المتردي؛والأمس الساطع المُغيَّب ؛يتشكلان في لوحة شاعرنا على هذا النحو:
-الحاضر المتهالك :أبطاله الأعداء النفعيين المتآمرين على طمس هوية الأمة؛والاستئثار بثروات أوطانها.
-الأمس المصاب بالعقم: أبطاله من بني جلدتنا؛ أغلقوا منافذ التفكير؛واستسلموا للتبعية ؛والركض وراء الشهوات الرخيصة.
لقد بدت عاطفة شاعرنا نهراً من اللهب المتفجر؛وهو يرصد هذا الواقع المرير الذي يشهده الشعراء النابهون من أمثاله؛وعلى الرغم من الكهرباء السارية في تفاصيل النص؛الناتجة عن طغيان الانفعال ؛إلاَّ أن شاعرنا ظلَّ كالطود الأشمّ ؛قابضاً على عناصره الفنية ؛من أن تنزلق بها الخُطى في الخطابية والمباشرة..
——————————-
-بعض سمات النص ؛وظواهره الفنية؛بإيجاز:
-تنطوي تجربة الشاعر الحماسية هنا على ألم عميق؛وقلق مؤرق؛وتشي عاطفته المتقدة بسخط عارم؛تجاه الأوضاع المتردية؛والتبعية العمياء؛والإحساس المرير باستعصاء الحلول؛
في ظل هيمنة المصالح الشخصية؛فضلاً عن التبلّد المخيف الذي ران على حاضر الأمة؛والهوان الذي أنشب أظفاره في جسدها المريض؛وألقى بها في مؤخرة الأمم المتحضرة.
-تسلسل الأفكار بانسيابية تامة ؛وخلوها من التصنع أو الافتعال؛وتوشُّحها بالعديد من الصور الفنية البارعة؛كما في قوله؛على سبيل التمثيل لا الحصر:
يَـسُـوقُـونَ الـشَّـبَـابَ إلى الـمَـخَـازِي
كَمَا تُـسْـتَـاقُ لِـلْـعَـطَـنِِ الـنِّـيَـاقُ !!
-المراوحة بين الأسلوب (الخبري؛والإنشائي) ؛واتساع مساحة الخبري منهماً؛تبعاً للمشاعر المحتدمة في قلب الشاعر؛واستحضاراً لمطالب الشعوب المغلوبة؛وحلمها المتعثر في العيش بسلام.
-اعتماد الشاعر أسلوب (الالتفات)؛من خلال انتقال الشاعر من دائرة الهم الذاتي الفردي ؛إلى الاندماج مع صوت الجماعة ؛والامتزاج التام بشجونها ؛كما في قوله المتسم بطابعه الذاتي:
دَعِـيـنِـي مِـنْ هَــواكِ فَـإنَّ قَـلْـبِــي
إلـى الـعَـلْـيَـاءِ سَـــارَ بـهِ بُـــراقُ !!
وانتقاله إلى صوت الجماعة:
ألَـسْـنَا خَيْرَ مَـنْ رَكَـبَ المَـطَـايَـا ؟؟
لَـنَـا الخَـيْـلُ الـمُـبَـرِّزُ و الـعـتَـاقُ !!
-التفصيل بعد الإجمال كما في قوله:«
ثَـــلاثٌ إنْ ظَــفِــرْتُ بِـهِـنَّ…».
-استلهام بعض الأمجاد العربية القديمة؛والقيم العربية الأصيلة ؛والتنويه بأبطالها الصناديد من أمثال:بني العباس،وبني أمية،والقعقاع.
-حفاوة الشاعر بفن الحكمة -على نطاقٍ واسع- كما في قوله؛ على سبيل التمثيل :
إذا يَـبِــسَ الـتُّـقَـى بِـفِـنَـاءِ قَـلْــبٍ
وَ أمْـطَـرَهُ الـهَـوَى نَـبَـتَ الـنِّـفَـاقُ !!
وَ مَـنْ لـمْ يَــتَّـعِــظْ بِـالـدَّهْـرِ غِــرٌ
مِـنَ الأَيَّـــامِ لَـيْـسَ لَــهُ خَــــلَاقُ !!
إذَا اعْــتَـصَـمَ امْــرُؤٌ بِـاللّــهِ لانَــتْ
لَـهُ الأَرْضُـونُ وَ الـسَّـبْـعُ الـطِّـبَـاقُ !!
-استثمار الشاعر فن الاقتباس وتصرفه فيه كما في قوله:(ألَـسْـنَا خَيْرَ مَـنْ رَكَـبَ المَـطَـايَـا )؟؟ ؛إلى جانب اهتمامه بتوظيف الكناية كما في قوله:”ابن الماء”؛الرامز للإنسان؛وغيرها من الفنون الجمالية.
-بزوغ روح الأمل عند الشاعر على الرغم من قتامة المشاهد المحيطة به؛كما في قوله:
عَـلَــى أمَـــلٍ بِــأنَّ الــصُّــبْــحَ آتٍ
كَـغُــرَّةِ مَـنْ تحِـبُّ لَـهُ ائْــتِــلاقُ !!
وهذا الجانب يؤكد دور الشاعر الإنسان؛في غرس الآمال الزاهية ؛مهما عظمت الشدائد والمحن ؛حيث يحوّل العلّة المستشريةإلى صحّة وعافية؛والجدبَ المستفحل إلى خِصْبٍ ونضارةٍ تهفو إليها القلوب.
وهناك جوانب فنية أخرى ؛مما يطول الحديث عنها ؛كالتشخيص ؛والمفردات الموحية ؛وما إلى ذلك من سمات.
——————————-
«كلُّنا مشفقٌ على أوطانه».!!
لاريب أنَّ شاعرنا استطاع أن يبحر بنا في قضية وجودية مشهودة ؛ملتحفاً روح العربي المخلص لدينه و لأمته ولأوطانه العربية المترامية الطريف ؛ومجنداً قلمه لإيقاظ الهمم المترهلة؛والنهوض بها من التردِّي في غياهب الذلّ والهوان؛فإذا أردنا تصنيف النص حسب موضوعات الشعر المتعارف عليها ؛وجدناه أميلَ إلى الشعر الوطني المتجاوز نطاق الإقليمية؛إلى الآفاق الرحبة.
حشد شاعرنا طاقته -كما أسلفتُ القول-من منطلق ولائه الشديد لالوطنه العزيز عليه وعلينا جميعاً فحسب ؛بل للأوطان العربية قاطبة.
ولاريب أيضاً أن تلك العثرات التي ألمح عليها شاعرنا سبق أنْ مسَّتها أوتار الشعراء الغيارى قديماً وحديثاً ؛وطالما بُحَّت حناجرهم وهم يلهجون : «أما لهذا الليل الداكن الطويل من آخر؟!»؛مما دفع شاعر العربية في عصره (المتنبي) إلى القول :« مالجرحٍ بميت إيلام» .
وهاهو الشاعر المصري أحمد محرم رحمه الله يعزف على الوتر ذاته في قصيدة له أطلق عليها : «متى ينهض الشرق»؛إذ ورد فيها قوله:-
فيا لهف قلبي لمجدٍ مضى
ويا شوق نفسي إلى عودته!
ويا لهف آبائنا الأولين
على الشرق إن ظلَّ في نكبته!
همُ غادروه كروضٍ أريضٍ
تتوق النفوس إلى نضرته!
ونحن تركناه للعادياتِ
ولم نرعَ ما ضاع من حرمته!
فأذهبنَ ما كان من حسنه
وأفنينَ ما كان من بهجته!
وكذلك سار شاعر مكة الفيلسوف :محمد حسن فقي ؛رحمه الله ؛في إحدى قصائده؛عبر لغةٍ مصطبغة بقدرٍ من الأسى الطافح:-
تفكرتُ في يومي القميء مطأطئاً
إلى الأرض ؛لاسعْياً أطاق ولاقصدا
وفي الأمس ما أقواه يوماً مُدويّاً
بنى بالدم الزاكي لأبنائه مجدا!
بينما يلمُع الشاعر العراقي الراحل محمد مهدي البصير في قصيدة له أطلق عليها «ضيعة الوجدان»؛إلى الذين أسلموا الغربَ مقادتهم ؛ورأوا في حضارتهم النموذج الأمثل على هذا النحو:
أبت الحياة فحاربتْ أوطانها
فئةٌ تهدد بالخطوب كيانها
ورأتْ بأن الغرب مُلِّك أمرها
فتطامنتْ تلقي إليه عنانها!
ماذا الذي باعت به أخلاقها
ولحفظ ماذا ضيعت وجدانها؟!
ألدرهمٍ وأمامها الوطن الذي
في الصدق يغنيها ويرفع شأنها!
ليس المُحاربُ للبلاد عدوَّها
لكنَّ من قد أنجبته فخانها!
ومن هنا فإنَّ إسهامات الشعراء الأفذاذ؛
في التصدي لألاعيب الغرب وغطرسته المكشوفة؛والتنديد بالأعداء في الداخل والخارج ؛احتلت ركناً ركيناً في سجلات الشعر العربي على مدار الزمن.
——————————-
-نهايةُ المطاف:
وبعد:فقد كانت الرحلة مع نص شاعرنا شائقة على طول الخط؛وملهمة في نفس الوقت؛ولعل مبعث ذلك تلك التركيبة الشعرية السحرية التي يمتاز بها ؛في الغوص على المعاني؛وإحياء ماكان منها بالياً وعتيقاً ؛وتهذيبه الواضح لنصه المكتنز بالانفعالات الحادّة؛قبل أن يقذف به إلى عالم القرَّاء ؛ولم يبق لي سوى أن أشيد بموقفه الإنساني البارز في هذا النص؛ورسالته الفنية المتساوقة مع المنطق العقلاني السليم ؛وروحه المتطلعة الهفهافة إلى مستقبل مزدهر يخلو من النزاعات المفتعلة؛والأطماع الذاتية؛إلى مستقبل أنقى من اللؤلؤ؛يسود فيه السلام ؛والقيم الإسلاميةالنبيلة ؛أقطار العالم بأسره ؛ووقتذاك تسترد الأوطان عافيتها؛وتستعيد مكانتها الراسخة في ضمير الزمن..

✍️قراءة نقدية في نص الشاعر:علي هتان :(وهمان)-
————————
عرضُ النص:
وهمان فيَّ تنازعا كأس الهُدى
وخواطِرٌ حارتْ فلم تمدُدْ يدا!
وخُطىً تُفَرِّقها الدروبُ وصورتي
ظلٌّ بذاكرةِ الفرارِ تمردا!
شمسي بأحداق المجاز لمحتها
وقصيدتي نجم يلوّحُ في المدى!
ألقيتُ في جُبِّ الفراغ بِمُهجتي
وقبستُ من خبرِ الوشايةِ مبتدا!
وجلستُ في غار القصيدة عابداً
متخيّلا وحياً وضيّعني الهدى!
خانت فصولُ المرسلاتِ مواسمي
ومضيتُ مُتّقدا أخاصِرُ موقدا!
حُلُمي بناشئة الغيابِ مُخضّبٌ
متوسّدٌ عزماً ونبضاً موصدا!
من سُكّرِ الأحلام أصنعُ كعكةً
والموتُ توتَتَهُ تُؤثثُ مرقَدا!
طرفي على جَفنِ الرقادِ مُسهَّدٌ
ورؤاهُ حالمةٌ تُحاذِرُ مرصَدا!
————————-
-القراءة النقدية:
(لا بدّ من متبقّ)؛هذا مثل شائع لدى البريطانيين ؛والمقصود أنه لابد من وجود بعض الأشياء التي تُترك ؛أو لم يتم الانتباه لها.
وفي موسم حصاد نبات الذرة بمنطقة جازان ؛هناك ما يسمى (الصَّريب)؛وهي لغة أحسبها فصيحة من (صرب) بمعنى جمع؛والصريب هو عملية قطف وجمع عذوق الذرة (السنابل) ؛وتتم على ثلاث مراحل ؛ الأولى :تسمى (الندب) وبها يتم قطف وجمع السنابل الكبيرة.
يليها (الصريب) حيث يتم قطف بقية السنابل الظاهرة للعيان.
والمرحلة الثالثة تسمى (القشيش)؛وهي عملية بحث وتفتيش دقيقة؛ لقطف ما تبقى من سنابل صغيرة مستترة بين حُزم الذرة…
من هذه المقدمة الملتوية ؛ أريد أن أقول إنّه على الرغم من أنَّ الأستاذ (المطهري) قد أحاط في نقده وقراءته وتحليله للنص بجميع الجوانب ؛ولم يترك لنا شيئاً لنقطفه ؛إلا أنني عملت بالمثل الانجليزي ؛وها أنا (أتقشش) في زوايا النص ؛لعلي أظفر ببعض السنابل المندسة بين صفوف الحروف والكلمات…
هذا النص كما يبدو خُلق بلا عنوان محدد؛وفق النسخة التي وجدتها في (معزوفات مخملية) ؛مقرونة بقراءة الأديب الناقد (المطهري)؛وقد أسماه (وهمان فيّ تنازعا) ..
-مطلع القصيدة:
وهمان فيَّ تنازعا كأسَ الهدى
وخواطرٌ حارتْ فلم تمدد يدا
وخطىً تفرّقها الدروبُ وصورتي
ظلٌّ بذاكرة الفرار تمرَّدا!
غالباً فإنَّ القارىء وهو يستعرض القصيدة ؛ويقلِّب حروفهاوكلماتها ؛ويعرضها على قائمة أغراض الشعر وموضوعاته ؛ تتكون لديه حقيقة مباشرة عن الغرض الشعري الذي تندرج تحته القصيدة؛لكن هذا النص يتأبى أن يخضع لأغراض الشعر المعروفة…!
ومثل هذا البناء الخاص الذي تتقدم فيه وحدة الصورة ؛وتكامل المعنى ؛يحمل في باطنه منطقه الخاص ؛وهدفه الخاص ؛ويُظهر نفسه كمجموعة رسومات على جدران الذات ؛كتلك الموجودة في كهوف المعابد ؛والمقابر الفرعونية (قبل اكتشاف الكتابة) ؛لتحكي لنا في مجموعها قصةً محسوسة قصيرة لحياةٍ طويلة بكامل أبعادها وزواياها.
لهذا كان دخول الشاعر قوياً ومتجلياً ؛تجلي القمر للرائي ؛والصورة مكتملة ؛والتفاصيل الداخلية مكشوفة للعيان شفافيةً وجمالاً…
هذا الدخول القوي والمباشر ؛يدل على ملكة أدبية راسخة ؛وتجربة شعرية ثرية ؛ونضج عقلي متمكن ؛وشخصية تتسم بالثقة بالنفس.
والمباشرة هنا ليست عيباً أسلوبياً؛ ولكنها ميزة تدل على وضوح الرؤية ؛وتكامل الصورة في المخيلة ؛وسيطرة العقل على مجريات التفكير والشعور.
والنص في مجمله محكومٌ عقلا ؛ً فكرةً ومضموناً؛والخيال فيه يأتي خادماً لجمال العرض ؛وحسن السبك ؛وروعة الصنعة الشعرية ؛فالشاعر عندما يقول :
(وهمان فيّ تنازعا كأس الهدى
وخواطرٌ حارت فلم تمدد يدا ..)
إنما ينطلق منطلقا إخباريا عقليا ؛
لا وصفيا ؛ولا وجدانيا ؛فهو لا يعبر عن معاناة ؛أو انفعالات ؛بقدر ما يتحدث عن تجربة حياتية فكرية مفعمة بالوهم ؛والشك ؛والتنازع ؛والصراع وانعدام اليقين.
وقد يقصد الشاعر (بالوهمين) اعتقادين ؛ أوظنَّين؛ أو طريقين؛وحالة الظن والوهم والشك ؛قد تعرض لكل عقل مفكر ؛كالصراع بين الهدى والضلال؛أو الخير والشر في الذات البشرية ؛أو بين كأس الهدى ؛والخواطر الحائرة حسب كلام الشاعر ، لكنَّ ثنائية الخير والشر واضحةٌ؛ لا تدخل في باب التوهم والظن ؛ وإنما مثل هذا التعقيد المفضي الى التوهم والشك ؛إنما يحصل في الصراع والتنازع ضمن مفهوم الخيرية حين تلتبس الرؤية ؛وتزدوج المعايير والقيم ؛ولعل تلك مقاصد الشاعر ..
… في ظل تعمد الشاعر عدم ضبط النص بالشكل لتحديد مسار القراءة للنص وتحديد معالمه اللفظيه فالصورة المباشرة التي تتبادر الى الذهن من الوهلة الأولى وفق السياق الطبيعي للكلام إنما تعبر عن وهمين في ذات الشاعر يتنازعان كأس الهدى ، وعلى هذا الفهم تكون ( كأس ) مفعولا به ورمزا دالّا على معتقدات الشاعر ، وفي هذه اللوحة تبقى حقيقة الوهمين وما هيتهما مجهولة ومتروكة لخيال القراء ..، لكن النص يخبرنا ايضا عن تنازع هذين الوهمين ، فاذا كان هناك وهمان في ذات واحدة يتنازعان كأسا واحدة ففي هذه الحالة تنتفي الثنائية وعلاقات الصراع والتضاد داخل الذات . وانما التنازع بمعنى التخاصم والتجاذب بما في ذلك من جدليَة حادة وتمزيق للذات واقلاق لاستقراها لا يحصل إلّا بين الأضداد ..، لهذا اجد أن هذه القراءة مضطربة وتفتقر الى الإبانة وتخل بقوة مضمون الفكرة والغرض الشعري .
والذي أراه أن النص يتحدث عن وهمين في داخل الشاعر يتنازعان ذاته ؛
هما ( كأس الهدى والخواطر الحائرة )؛ والتنازع هنا قد يأتي بمعنى الخصومة بما فيها من جدليّة حادة ؛وتمزيق للذات ؛أو بمعنى التجاذب السجالي ؛بما في ذلك من التذبذب والمسايرة ؛أو بمعنى التعاطي والتشارك ؛بما في ذلك من الشعور بالرضى والإنسجام الداخلي ؛وغلبة المعتاد والمألوف.
وعلى هذا الفهم تكون (كأس الهدى ) دالّة على المعتقد أو المعرفة المرتبطة بالهدى أو ( بالدين )؛بينما تدل الخواطر على معتقد مغاير ؛أو معرفة مختلفة ومتضادة مع المعرفة الأولى؛وكلاهما في محل الشك والتوهّم ..
فمعنى الوهم في قواميس اللغة : هو :مايقع في الخاطر من تصور وخيال ؛وهو الشك والاعتقاد الخاطىء الذي لا دليل عليه؛كما يأتي الوهم بمعنى الطريق ؛وفي كل الأحوال فنحن والشاعر أمام حالتين من الوهم (وهمان ) في ذات واحدة ؛يحكمها كما يخبرنا الشاعر صراعٌ مسالم حضاريّ ومنضبط ؛( فلم تمدد يدا ) .. إلّا أنَّ لها انعكاساتها المشتتة لمسيرة الشاعر ؛وثبات الصورة ؛وتفرق الخطوات في الدروب .
(وهمان فيّ تنازعا ): اعترافٌ يمثل زبدة القول ؛وخلاصة القصة ؛منهيا ً بذلك كل التفاصيل القديمة التي لم تكتب ؛والمرافعات التي لن تذكر ؛والتبريرات التي لا تجدي.
وكل ما تلا ذلك الاعتراف ؛ليس إلا القرائن والشواهد المؤكدة للحكمة الناصعة ؛والمعرفة العالية التي انتهى اليها الشاعر ؛والتي أنتجتْ هذا النص البديع…
من سُكر الأحلام أصنع كعكةً
والموت توتته تؤثث مرقدا!
طرفي على جفن الرقاد مسهد
ورؤاه حالمة تحاذر مرصدا
هكذا ختم الشاعر النص راسماً صورة حزائنيّة ممهورة بحكمة السنين ؛ومتنبئابنهاية المطاف لرحلة العمر ؛حين نستغرق في التفكير الحالم ؛ولذّة الأمنيات ؛ في حين يتربص بنا الأجل على طرق آمالنا العريضة….
لقد أعجبني كلامٌ للكاتبة الأمريكية (إيدا لوشان) تقول فيه : «في مرحلة الأربعين يعرف الإنسان عن نفسه ؛وعما يريده في الحياة ؛ أكثر مما عرفه طوال حياته؛وفي أشد لحظات الإحساس بالحزن والهزيمة يدرك أن ما يمرُّ به ليس إلا مزيداً من الوعي ؛ومزيداً من اكتشاف معنى أن تكون إنساناً ؛وتلك هي روعة أزمة منتصف العمر»
أحياناً – حينما يكون النصُّ شفافاً -يشغلك صاحب النص ؛بقدر ما يشغلك النص ؛إذ يتخيَّل لك أنَّه يطلُّ بظلاله ما بين أحرف وسطور الكلمات.
فهل يمكن القول إنَّ النص إنَّما يعبر عن حالة من حالات أزمة منتصف العمر؟
ربما هذا قد يكون عنواناً جميلاً آخر لهذا النص الجميل … والسلام …