قواعد اَلتَّزَلُّف العشر للأندية الأدبية
القاعدة الرابعة – راقب العشري
حدثني مَن ظننتُ حديثه صدقًا عن الكاتب قِرْطَاس، وحرصه على أن يكون رافع الرأس بين الناس، وكيف تبدل الحال وتغير المآل، وقد بدأ بين أهله وجيرانه وقد تغير حاله وَكِسَف باله، نحُل هيكله و بان هزاله، قرأ في النقد والبلاغة بكل همة وشجاعة، دخل كوكب الفلاسفة وصارت أيامه كاسفة، خاض في كتب العقائد فصار مائلاً بين الهرطقة والزندقة وتشعب في الأديان من زمن عبادة الأصنام، بحث في العلوم فخاض في علم الأسقام وتوجس الأوهام، غزا فكره المرض فشكر المولى وما شكا حاشا وكلا ولا أعترض.. بل قرأ الداء والدواء ليبعد عن فكره بشاعة الأهواء، وحين ضاق به ليله وخانه زمانه هرع للأصفهاني ورقص طرباً مع الأغاني ذلك كله حدث وهو منتظر للشيخ مكناس، حتى إذا ما رآه، جرى إليه... بكل ما بقي له من قواه وبكامل عقله وما حواه...
- مرحبا يا شيخ، قد تأخرت في المدد وإنني منتظرا لك أيام كثيرة بلا عدد.
- دعني أسترح... فلقد شق علي الطريق وكما ترى ليس لي رفيق لأنني أقول الحق حقاً ولو كان عنقي تحت السيف، ولا تسألني علاما؟ ولِمَ لا أخشى الملامة؟
شرب الشيخ شربة ماء وتنفس الصعداء ثم التفت لهيئة قِرطاس، متفقدا حاله الحساس. سكت برهة ثم نطق...
- سيأتي يوم عليك على أبواب المكتبة... وما أدراك ما المكتبة! المفترض أن تكون حافظة للكتب أو مخزن للمرتجع من الكتب والدوريات والحق الحق أقول لك يا قرطاس هي جدران من طوب لا تقبل أن تذوب، مكسوة بالإسمنت ومنه تستمد التزمت والعنت، بمحاذاة الجدار ترص الكتب رصاً، صفاً تلو صفا، بنظام ديوي العشري صُنفت وعلي اليمين واليسار مجلدات بالجلد قد غلفت، وعلي مرمى البصر أرفف لِلشِّعْرِ ولو زارها الشعراء لأنشدوا كم:
غادر الشعراء من مترجم... أم هل عرفت الدار بعد توهم! وهي كما يقول كارلوس زافون مقابر للكتب المنسية ولو حصل أن وصلت إليها يداها، لكتب أربعين رواية بدل الرباعية، ولكنها أقدار تتبدل ما بين الليل والنهار.
رفع قرطاس حاجبيه، وشرد عقله من بين عينيه، مكث جسده يرتقب، وللدقائق يحتسب، ينتظر دخوله للمكتبة...
- حين يؤذن لك بالدخول، فاخفض الرأس وأطرد من عينيك النعاس، أخطو بيمينك هكذا يحثك دينك، وامشي الهوينا بين الكتب ففيها تجوس أرواح من كتب، أستشعر ملمس الورق، لكن إياك أن يغريك منظر الورق فتنحني وتشمه فتعطس من الغبار، وتصاب بالدوار، ولا قدر الله تهاجمك حشود العناكب فتنهار، ولسوف تتحرش بك العثة فهي تتكاثر في المكتبات الرثة، وإذا ما تسلق جلدك عنكبوت فأصرعه بضربة منك كيما يموت. وليكن شعارك:
(أصارع الحشرات لإنقاذ المكتبات)
وحين ترى عقرب الكتب فليتك لا تبيده فلولاه لأصبحت الكتب رمادا ولم تذر في المكتبة كرسيا ولا أوتادا، ولو قدر لك أن تقترب من الروايات المخبئة في الجنبات رأيت عجبا، وسمعت كربا، فأنني أسمع صريخ شخوصها بين الحين والحين، وكتابها يحدقون بي نظر العين للعين، تشكو جفوة القراء، وحبرا أُرِيقَ على الورق وكان هباء، أما المخطوطات فعسى أن يحفظها المولى من شر الأرضة البغضة وبراثنها القارضة، ويهيئ لها رجل رشيد يعيد لها مجد تليد.
سكت مكناس عن الكلام المباح، وطلب الترخص في الرواح، وظل قِرطاس في مكانه، يعد ليله وأيامه.