-في أثر نجيب محفوظ-
رأيتُ كما يرى النائم أمواجًا رمليةً تسير على ظهر اليابسة، مُمْسِكةً بعضها بيد بعض مُكوِّنةً سلسلةً ترابيةً عملاقة. وتحرق القلوب قبل أن تنفذ إلى الأجساد، وتثير الغبارَ الذي يُزكِم الأنوف، وتنثر حبّات الرمال على الوجوه، إلى أن تبلغ سواحل البحار. فعلمتُ أنه البُغْض عندما يحتل القلوب فلا يُبْقِي ولا يذر من خير.
رأيتُ غُرَابًا يقطرُ بَيَاضًا وجمالًا، ويجلس على كرسيٍ مصنوعةٌ أضلاعه من الهواء. ويغرّد بالأهازيج العذبة ﻟﻴﻼً، ويسقي الناسَ من ماء السراب، ويحمل لهم في جناحيه رسائل مكتوبة على ورَقِ الضباب بحبرٍ رماديّ اللون. فعلمتُ أنه الكاذب عندما يرتدي ثوب الصدق.
رأيتُ الشمسَ في كبد السماء تُخرِج من حقيبتها السماوية مظلةً منسوجةً من الغيم الحنون، ثم تفتحها بيديها العملاقة وتضعها على هامتها، خوفًا على نفسها من الاحتراق. فعلمتُ أنها قيمة العطاء النبيلة التي بالغنا فيها جدًا حتى بَكَتْ من التبذير وشكَتْ من التفاخر.
رأيتُ صديقين قبل قرنين من الزمان يجلسان تحت ظلِّ شجرة. ويهمس أحدهما للآخر قائلًا: سوف يكون جسمٌ ضخمٌ يطير في السماء، ويحمل على متنه مئاتٍ من البشر، وينقلهم من قارةٍ إلى أخرى عابرًا فوق المحيطات والجبال والأنهار والصحارى. فولّى الصديق هاربًا من صديقه واصفًا إياه بالجنون، ومُحذّرًا من صداقته وأفكاره. فعلمتُ أنها غربة المبدعين التي يعيشونها عندما يعبرون عن أفكارهم الوليدة، ثم يهرول الناس إليها بجنون عندما يظهر نفعها العظيم.
رأيتُ شخصًا يعيش في كوخٍ متهالك بعيدًا عن المدينة. يمشي وحيدًا كل ليلة إلى رؤوس التلال لمسامرة القمر، فيشكو إليه نفور الكثير من زيارته ومجالسته، رغم أنه يَهَب بلا مقابل ويعطي بلا من، ويملك الكنوز المليئة بالجواهر النادرة واللآلىء الثمينة. فعلمتُ أنه الكتاب الورقي.
رأيتُ غابةً تطير بين أشجارها الأسماك، وتسيل ظِلالُها نهرًا من الضياء، وتمشي على سجّادة عُشْبِها النجوم، وترقص فيها النسائم بلا قدمين. فعلمتُ أنها ثروة الخيال التي يملكها كل عقل ولا يشعر بقيمتها.رأيتُ كل هذا، كما يرى النائم، ولكنني كنتُ يقظًا!