مرحباً بأصدقاء الأدب والكُتب, هنا ملتقى الأدباء ومجلة الكُتاب العظماء, هنا حيث ننثر من ربيع الكلمات مطراً .. أهلاً بكم
تغافلَ أنه يحملُ في إصبعِه خاتمًا وذهبَ يبحثُ عن غيرها ، نزوةٌ ولا سواها صنعتْ غشاوةً على قلبه الذي عشقها ، تطيبَ بأجمل طيب، تأنَّقَ كما لم يتزين من قبل، نسيَ أنها قالت له بأنك أوسمُ واحدٍ في هذه الأرض، كان متواضعًا وهو يراها الأجمل، كلُّ هذا حدثَ في لحظةِ ضعف، لم يتحركْ فيه ساكنٌ وهي تسأله إلى أين في هذا الليل وبكل هذا العطرِ الفواحِ والأناقةِ التي ذكرتني بأجمل أيامنا؟ كذبَ عليها لأول مرةٍ وهو يغادرُ بسمتها التي غلفَها بعضُ الحزن ؛ لأولِ مرةٍ يشعرُ بمرارةِ حزنها وكأنها تشكُ في تصرفه ، أغلقَ البابَ خلفه كي لايزيدَ تفكيرُه فيها وكلُّ همه أن يعيشَ جوَّ العاطفةِ الجديدة، وصلَ وعلى ملامحِه بعضُ الندم، تبخَّرَ عطرُه واختفتْ رائحتُه ، وضحَ عليه الارتباكُ ولم يحسن حديثَ الغزل؛ فلم يكن في يومٍ من الأيامِ ألعوبةً تعبثُ بها النزوات، استقبلتْه بتعالٍ وقد بانَ حالُها ، جلسَ فلم تعجبْها طريقتُه في الحديث، طلبتْ منه أن يزيلَ الخاتمَ من إصبعه ، تريدُ أن تمحوَ بعضَ ماضيه لتتشبثَ أكثر ، فطنَ إلى نواياها، ارتسمتْ أمامه صورةُ حبيبتِه الأولى التي وضعتْ أوَّلَ خاتمٍ في إصبعه ومعها ابتسامتها الساحرة، رفعَ كفَّه قريبًا من وجهه يتخيلُ الماضي ، نادى باسم زوجته بلا إرادةٍ ثم تركَ المكان للأخرى ، عاد إلى بيتِه برائحةِ العرقِ واللسانِ الذي فقدَ خاصيته، طرقَ البابَ بعد وقتٍ قصيرٍ من مفارقته إياه، استقبلتْه بضحكتها الساحرة ، سألتْه عن سببِ عودتِه ولم يجبها ، طلب منها أن تلبسَ أجملَ ماعندها دون تفسير، سبقَها قبل أن تسأله لماذا؟ اختارَ لها خاتمًا أنيقًا وذهبَ بها لقضاءِ ليلةٍ خارجَ المنزل، قالت له : تصدق!! إن هذه الليلة توافقُ الليلةَ الأولى لزواجنا، تنهدَ وهو يخفي غلطةَ العمر، اختار مكانًا أنيقًا يليقُ بخاتميْن جديدين ، أغمضَ عينيه كي لا تَحضُرَ صورةُ مشهدِ الخديعةِ التي نوى فعلَها ثم فتحَهما وهي تتأملُ ملامحَ وجهِه الذي عرفتْه ، تناولا العشاءَ وكأنهما يلتقيان لأولِ مرة، رفعَ إصبعِه أمامَ وجهِها وفي نفسِه سرٌّ لا يريدُ أن يفصحَ لها به.
كانت النساء في أرضنا يُولدن عظماء، ثم يرحلن بصمت.
بعضهن- في متوسط العمر- تصعقهن دفقة ماء دافئة في شتاء قارس. تنتفض أجسادهن المُتعبة، وترقص آلاف الشياطين داخل شرايينهن، فرحين بزف هذه الأجساد إلى عوالم العدم.
ومنهن من يهرمن وهن في الرابعة عشر من ربيع حياتهن!
أختي مثلا؛ وُلدت يوم اكتمال القمر، فسُميت قمر. كان وجهها دائريا كالبدر في تمامه، مُشرقا وضاءاً.
كانت ترقص على خيوط الفجر، فيرقص كل شيء في المكان. الناس تمشي على وقع رقصاتها. الأمهات تُناغي أطفالها حسب ضحكاتها المتناثرة كل حين في الفضاء.
وبدأت تكبر يوما بعد يوم وفي ليلة زفافها تخشبت!
زفتها الأحبة إلى بيت الأحلام. هناك في ليلة العمر وجدت مسخا ينتظرها؛ فزعت، انتفضت عروقها، جمدت دماؤها وسرعان ما يبس وجهها!
وحين قفز ذاك الهيكل خلفها؛ بقيت ثابتة،حرّكها ،لم تستجب ،سقطت مثل خشبة منخورة.
بنت الجيران حكايتها أغرب. لقد حملت دون رجل!
ووضعته برأس ديك وجسد أرنب. اختبل الملأ في هذه الأرض العجيبة.
لم تُرجم. حُفرت لها حفرة قرب “المزبلة” ؛ وُئدت أمام أعين الناس، صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم!
أما المرأة العجوز ، فهذه قصة مُحيرة!
تقول : أنها خدعت الموت أكثر من مرة بعد أن قتلت سبعة أزواج!
الزوج الأول، جعلها عبدة فرضيت في سبيل حبها. استعبد جسدها أولا ثم بدأ يسرق ضحكاتها. بعد سنة أراد عينيها. أزعجه وجهها البشوش؛ فسجنه في خوذة أسلاك! لعبت به الهواجس، أرجحته فوق حبال الشكوك. طالبها بالخضوع التام؛ فرفضت.
وذات ليلة وجدوه هائما على وجهه ويُقال أن كلبا مسعورا مزقه!
والستة الباقين ؛ منهم من أراد أن يُقامر بها فوق منضدة لعبه، ومنهم من أراد روحها قرينة لروحه، آخر وجدها جسدا يُشبع نهمه ويتفضل به على الآخرين. لكنها تمكّنت من كشفهم في الوقت المناسب.
فهاهو الثاني قد فقد عقله، والثالث بقي بنصف وجه. الرابع انشطر شطرين؛ شطر بساق اصطناعية وشطر برجل مريضة!
الخامس هرب في الثانية الحاسمة؛ حملته كفي عشيقته القوية.
السادس مات حتف أنفه. السابع صُلب ظمآنا قرب النهر.
تجتمع الصبايا لسماع حكاياتها العجيبة وهن يضحكن.
قالت واحدة:
-وهل ماتوا كلهم!
وتبتسم ابتسامة عميقة، لايفقهنها:
-لقد تفرّقوا في الأرض مقهورين، لكني رأيت مصارعهم في الحلم!
ركض الموت خلفها، خاتلها، كمن إليها ولكنها دفعته. هاهي حية بعد كل هذه السنين. لا أحد يعرف عمرها على وجه الدقة. وعندما تُسئل، تقول:
-وُلدت في ليلة النجوم!
يدهش الجميع..
-أية نجوم!
فتضحك ضحكات مُجلجلة،تتردد أصداؤها في الوديان.
تغمض عينيها وتتذكر:
-كانت ليلة غاب عنها القمر، ترك النجوم تُضيء مدة غيابه، فقد كان في عجلة من أمره ولم يعد لعدة ليال!
وتروي الجدات عن امرأة ماتت وعمرها ست سنوات، ثم أتت من جهة الشمالبعد مائة عام!
كل مواليد ذاك اليوم؛ كبروا، تزوجوا، خلّفوا ذرية ثم صاروا جدودا ورأى البعض أحفاده وشاخوا وهرموا ،بقيت واحدة نساها الموت، وأخذها الدهر نديمة، هي وحدها التي نقلت قصة تلك المرأة، لكنها اليوم مزارا في بقعة صغيرة، نُسجت حولها الأعاجيب!
وفي سنة من السنين؛ جاء رجل غريب، بدا أنه من غير هذه الأرض، يحمل معه كتبا ودفاتر.
ساكن أهل هذه الأرض؛ فتّش عن أحوالهم، أخذ يُدون كل كبيرة وصغيرة.
يجلس في الصباح تحت شجرة العوسج الظليلة، يُدخن غليونه وأنامله تخربش حروفا غريبة ،كأنها ذبابة تتحرك فوق الأوراق البيضاء!
في الليل،يغشى مجالسهم،يستمع إلى أحاديثهم، يقرأ لحظات الصمت في وجوههم، يشرب قهوتهم، يضحك معهم، يتحدث بلكنته الغريبة ثم يقبض على غلّته ويمضي.
لكن تلك المرأة وجدت قصتها في أحد دفاتره؛ غضبت. قرب الفجر، تطاير الدخان من داره.
يُقال أنه احترق مع كتبه وقراطيسه.
وهذه القصص ،بضعة أوراق ناجية من تلك المجلدات وصلت إلينا بصدفة عجيبة!
على إحدى الأوراق، خُط إسم مرضوضة!
ولكن لم تذكر قصتها وربما تكون قصتها قد أكلتها النار. وهذه الأوراق ملخبطة، استطعنا استخلاص هذه القصص مع مقارنتها بأقوال المعمرة والبقية لا يُمكن معرفة الحكايات لأنها كلمات متفرقة!
لكن ما أثار دهشتي أنني عندما سألت تلك العجوز عن شخصية “مرضوضة” ؛ تغيّر وجهها، احمرت عيناها، تناولت عصاة طويلة ذات رأس خشن، ضربتني فوق جبهتي، ففرت منها وأنا أفكر في أمرها.
قالت وهي تتأمل قوافل النجوم في ليلة ظلماء :
آه لقلبي.. لأمنياتي التي لفظت أنفاسها في عمق ذاتي.. وآه لحب طفولتي.. وعذب صباي.. وآه من ليال عصفت بسجيتي.. وآه من جميل الروح وعطر أنفاسه يعبق بأجوائي.. ويتهادى على بساط سندسي في أروقة دروبي.
في عتم الليل وسكونه.. في وحدتي وتأملاتي كنت أتوسد السهاد.. وأتعاطى القلق والتوتر.. أتدثر موجات اللوعة.. يتبعثر تفكيري.. وتتبادر إلى ذهني ظلال أمنيات أخالها توقفت وتجمدت على جسور الزمن.
أقصى أمنياتي لقاء ذاك المتوشح بشال حريري ناصع البياض كنقاء السماء
يشاركني معاناتي في دروب رحلاتي.. يفهمني دون شكوي.. يدونني في سجل يومياته.. يسكب على جوارحي شلالات من أمواج العطور يعبق شذاها في خيمة العشق.
يا أمنيتي البيضاء.. منذ عشرات السنين وأنت تندس في رحم الوجود كغيمة تداعب الفجر في طلته.. ياضوء قمر في ليال صافية مبعثرة النجوم تخلو من ضجيج السكون..
أنت يا أحلامي التي أجهضها البعاد والتغافل.. لا تتوارى عني خلف كثافة اللامبالاة في قوقعة الدلال.
تعال وأقبل.. سافر معي في (موكب حب وشغف) في رحلة انتعاش وشوق نرحل بعيدََا عن عيون الدنيا لأي دولة عشق بلا هوية.. وبلا جواز سفر.. نتوارى عن فضول البشر.. نمزق شهادة ميلادنا.. وبعمر جديد نحيا بحبنا في درب الاعمار.. نحمل آلام بعضنا دون مقابل..
ونتلافى كل أخطاء البشر في ظل خيمة وجودنا معََا إلى الأبد!!!
جلست قرب نافذة القطار المتهالك شاردة عبر النافذة ، أصوات كثيرةمتداخلة ، لم يستطع صوت منهم أن ينتزعها من شرودها هذا، غير صوترجل خمسيني جلس فوق المقعد الواقع أمامها قائلا لمن جلس بجواره :
-منذ وقوع النكسة وكل شئ أصبح مر ، المحصول لم يعد كما كان وكأنالأرض نفسها تأن لما حدث ، أمسك الرجل بلفافة تبغ يشعلها قبل أن يجيبهقائلا:
-ليست الأرض فقط هى من توقفت عن حصاد ثمارها ، لي ولد واحد تزوجقبل النكسة بعام ومر عامين وحتى الأن لم ينجب ، أشعر أن الجميع أقسمألا يفرح قبل أن تفرح الأرض برجوعها إلينا
تنهدت وهناك صوت يتردد بين جنبات روحها قائلا:
-إذن النكسة لم تلحق بالأرض فقط ، بل لحقت بحالنا جميعا وكأن هناك شئيخفي يربط بيننا وبين بعضنا البعض ، عادت من شرودها على صوت نكاتوتهكمات ونمنمات تسربت إلي أذنيها ،عادت بعينيها من الطريق الذي كانتتتصفح ملامحه طيلة رحلتها ، وجدته يقف مستند بظهره إلي أحدي المقاعديكتم غضبه ، فهمت دون سؤال أن ما سمعته من نكات كانت تقصده ، زيهالذي أنباء أنه أحد جنود الجيش ، أكد لها أنهم أخرجوا ما بداخلهم منغضب حينما رأوه ، ظلت ناظرة بوجهه الخمري اللون وعينيه السوداء وشعرهالبني الناعم وتلك الغمازتين فوق خديه ، شعرت بألمه من خلال صمته ، وقفالقطار فجأة ليهتز الجميع ، نهض من كانوا يجلسون أمامها مغادرين نظرحوله يبحث عن مقاعد شاغرا ليجلس به ، رأها ناظرة إليه ، فهم أنها تودأن تخبره بأن يجلس ، خطى ناحيتها جالسا أمامها وهو صامت ، تحركالقطار مرة أخري يكمل طريقه ، مرت دقائق قبل أن تتحدث إليه قائلة كمنيحاول أن يخفف عمن أمامه لحظة حزن يحياها:
-لا عليك هم فقط يحاولون أن ينفثوا عن حزنهم ، لا تحزن وأترك الأمر جانبا ، رفع وجهه إليها وقد ارتسمت على ملامحه أبتسامة هادئة قائلا:
-لست غاضبا منهم أنا حزين من أجلهم ، كم وددت أن تذهب أنفاسي ولاأحيا ما حدث ..لكنها إرادة الله ، سوف نعود لنحارب من جديد وسننتصر ، أبتسمت له قائلة:
-مؤكد سننتصر ونعود نحيا من جديد فرحين برجوع أرضنا ورجوع أرواحنا ، فقط أبتسم
وضع يديه تحت ذقنه قائلا:
-صدقينى أنت النسمة الهادئة التى قابلتها منذ أن تركت مكانى هناك فىسيناء وجئت أقضي يومين أجازة مع أسرتي ، أخبريني ما أسمك؟
أحتضنت كتب كانت تمسك بها قائلة:
-فاطمة أسمى فاطمة وأنت ما أسمك؟
أتسعت أبتسامته قائلا:
-أسمك هو نفس أسم أمي وكم أحب هذا الأسم ، ألم أقل لك أنك نسمةهادئة ، أما عن أسمي فهو أحمد ، قطع حديثهم أمرآة تحمل طفلها تودالجلوس بجواره ، أفسح لها مكان بجواره لتجلس به ، أردف قائلا:
– أين تسكنين ؟ مدت أناملها ترفع خصلة من شعرها قد سقطت على عينيهاقائلة:
-أسكن حي الحسين وأنت أين تسكن؟ أتسعت عيناه وهو ينظر خارجالنافذة قائلا:
-أسكن حي السيدة زينب ، وكم جئت إلي حي الحسين أصلي بمسجده ، أنني أعشقه كما أعشق السيدة زينب وكل شبرا بمصر ، لاحت نظرة حزنبعينيها قائلة :
-من منا لا يعشقها ..لكن أخبرني هل تؤدى فترة تجنيدك أم أن عملكبالجيش؟ مد يديه يغلق النافذة التى تُسرب البرد إليهما قائلا:
-أنني أؤدي فترة تجنيدى ، أننى أعمل مهندسا مدنيا و أمارس مهنتيداخل الجيش أيضا ، أبتسمت له قائلة:
-يوفقك الله أنت وجميع من معك ، أبتسم لها بحب قائلا:
-وأنت ماذا تصنعين هنا بالأسماعيلية ؟ مدت إليها يديها بما كانت تمسكهمن كتب قائلة:
-أنني أدرس هناك بكلية الآداب قسم تاريخ ، همس بينه وبين نفسه بصوتمنخفض قائلا:
-تاريخ اليوم هو الخامس عشر من شهر يونيو ١٩٧٣ لن أنسي هذا اليوم ، رفعت حاجب عينيها اليسرى مداعبة إياه قائلة:
-فيما أنت شارد هكذا أيها البطل ؟ خرجت من بين شفتيه أبتسامة ساخرةقائلا:
-بطل ؟ لست بطل بعد يصير هذا اللقب صحيح حينما نحارب وننتصر وقتهافقط ستكونين محقة عندما تنادينى بالبطل ، مدت يديها دون إرادة منهاتربت كفه الأسمر قائلة ومازالت أبتسامتها مرسومة فوق شفاهها قائلة:
-سننتصر ، غدا سننتصر طبيعة تلك الأرض يقول هذا أنه مهما مر عليها منانهزامات وسقطات حتما سننتصر ، أكتفي بأن يبتسم لها قائلا:
-متى تعودين إلى الإسماعيلية ؟
أتسعت عينيها كمن سمع للتو شئ كان ينتظره قائلة:
-نهاية الأسبوع تنتهي عطلتي وأعواد وأنت؟ نظر بساعة معصمه قائلا:
-أنا أيضا سأعود فى نفس موعد عودتك ، علت صافرة القطار يعلن نهايةرحلته ووصوله إلي محطة مصر وقف من بالعربة يغادرونها وظلوا هم حتىغادر الجميع ، نهضا مترجلين هم الأخرين وقف يشد على كفها قائلا:
-سأراك نهاية الأسبوع ، قلبي يحدثني أنني سأراك مرة أخري ، تركت يدهابين راحته قائلة:
-أتمني أن يكتب لنا الله لقاء ثاني ، أراك بخير ، تركته مغادرة المحطة وقفيتبعها بعينيه وما وصلت إلي نهاية طريقها حتى وقفت تنظر إليه لوحت لهبيدها مرسلة أبتسامة تصطحبه ، سقط باقى اليوم سريعا وكلا منهم فى بيتهوسط أهله ..لكن هناك شئ ما ينقصهم ما هو لا أحد يعرف كانت تلك هيأطول إجازة شعروا بها ، تمنوا أن تمضي سريعا ويتقابلا ثانية ، هناك شئربط بينهما ، شئ لا يعرفون ما هو وأن كان كلاهما يشعر به ، لملمت”فاطمة” أشيائها ماضية في طريقها إلي جامعتها قبل أن تنتهى فترةإجازتها ، أوقفتها أمها سائلة إياها :
-ماذا حدث بنيتي ؟ لم أنت مغادرة اليوم ، باقي يومين وتنتهى فترة إجازتك ، توقفت واضعة حقيبة ملابسها بجوارها مجيبة أمها:
-لا شئ يا أمي هناك بحث هام يجب أن أنهيه وأسلمه لرئيس القسم بالكليةولا وقت أمامي ، أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه ، مالت تقبل رأسهومضت فى طريقها ، وصلت إلي محطة القطار وقفت فوق رصيفه ،فجأةأعلنت السماء سقوط أمطارها ، بحثت عن مكان تحتمى به ، خطت لتجلسعلى أحدى المقاعد شاردة فى قطرات المطر هامسة لنفسها:
-كاذبة يا نفسي ، تلك هى المرة الأولى التى تكذبين فيها على أمك ، هل حقاهناك بحث تودين الأنتهاء منه ؟ أم أنك تبحثين هنا عنه ؟ أم أنك أحسستبوحشة غريبة فى غيابه ، فجأة رأت خيال يقف أمامها عادت من شرودهاتنظر إليه ، لتجده هو بابتسامته الصافية وعينيه الدافئتين يقف أمامها، أبتسمت له دون كلام دون سؤال ، ظل كلاهما يحدق بالأخر ، جلس بجوارهاقائلا:
-لم أتيتِ إلى هنا وقررتِ السفر قبل أنتهاء إجازتك؟ نظرت إليه قائلة:
-وأنت ما الذي جعلك تأتي إلى هنا قبل أنتهاء إجازتك؟ نظر باتجاه شريطالقطار شاردا به قائلا:
-لا أعرف حقا ، شئ ما جعلني آتي إلي هنا ، شيء أقوى منى جعلنيأبحث عنك دون أن أعرف السبب ، تلك هى المرة الأولى التي أقطع بهاإجازتي وأعود ، أخذت تعبث بأناملها بما تحمله من كتب دون كلام ، وصوتبداخلها يقول:
-هل هذا هو الحب الذي قرأت عنه كثيرا فى الروايات ؟ هل من الممكن أننحب دون تمهيد أو سابق أنذار ؟ يا الله ما هذا الذى يخترق روحي دونتمهيد ؟ لم هو بالذات ؟ ما سبب تلك السكينة التي أحسها بجواره ، وصلالقطار الذي سيقلهم إلي وجهتهم ، نهضوا معا ، جلسوا بجوار بعضهماالبعض ، شق القطار طريقه ، حاول أن يبدأ الحديث قائلا:
-فاطمة ، هل لي بسؤال؟ بتردد جاوبته قائلة :
-تفضل ، أخذ نفس عميق قائلا:
-سوف أروي لك شئ وعليك أن تسميه لي بأسم محدد ، منذ أن تركتك وأناأشعر أن هناك شئ ما ينقصني ، شئ أنتزع منى وبدونه تائه ضل طريقعودته ، نعم لا أعرفك عن قرب ولم يدم حديثنا طويلا ولم أراك ألا مرة واحدة .. لكن سبحان مؤلف القلوب ، تلك هى المرة الأولى التي أعرف أن هناك مننقابلهم ساعات ويصيرون كل شئ بالنسبة لنا ، أخبريني ماذا تسمي ماحدث؟ أحمرت وجنتيها خجلا ، حاولت أن تجمع الحروف والكلمات قائلة:
-صدقنى أن قلت لك أنه نفس الشئ بالنسبة لي ، ضحك عائدا برأسه للخلفقائلا:
-إذن هذا هو القدر الذى لا نملك حياله شئ ، قد جمعنا الله دون موعد وكأننانصفين نبحث عن بعضنا البعض ، فاطمة لا أعرف ماذا سيحدث فى عودتىتلك ..لكن أعاهدك والله شاهد عليٓ أن عدت بخير لن أعود إلا وأسمك معقودبأسمي ، نظرت إليه بعينين يفيضان شوق وحب وخوف ، مسح على كفهاقائلا:
-لا تخافى أدعي من جمعنا أن اعود إليك سالم مرة أخرى ، وصل القطارنهاية رحلته ترجلا من القطار ويديهم متشابكتين ، سارا سويا حتى وصلتإلي كليتها وقف يودعها ووجه يفيض بشرا قائلا:
-أنتبهي لحالك جيدا ، أنتظرينى مهما تأخرت سأعود إليك ، شدت على كفهكطفل صغير لا يريد أن يترك أمه قائلة:
-ستعود أعلم أن الله لن يرضيه أن يجرح روحي ، تركها ماضيا فى طريقه ، ظلت واقفة تتبعه بنظرها حتى أختفى ، قربت كفها من أنفها تستنشق ريحههامسة :
-اللهم أحفظه كما حفظت سيدنا موسى لأمه ، مرت الأيام سريعا وعادتإلي محطة القطار تنتظره ..لكنه لم يأتي ، أعتصر قلبها خوف عليه ، جلستعلى رصيف المحطة تنظر بوجوه العابرين تبحث عنه وسطهم لكن دون جدوى، سمعت بعض الأحاديث التي تموج بها المحطة تقول :
– أن هناك طوارئ بالجيش وهناك أحاديث عن قيام حرب ، وضعت كفها فوققلبها كمن يخاف أن يترك ضلوعه ويخرج قائلة بصمت:
-كن معهم يا الله وأكتب لهم النصر ، مرت الشهور ولم يراه ولم تعرف عنه أي شئ ، جاء شهر رمضان الكريم كان هو دعوتها التى لا تنساها كل يوم ، على صوت المذياع فجأة يعلن أن جنودنا عبروا القناة ورفعوا علم مصر ، بكت وضحكت فى آن واحد بكت فرحا وخوفا عليه ، ضحكت فرحة بالنصر ، مرتالأيام والجميع يتابع ويدعوا الله أن تعود الأرض وهي تدعوا معهم أن يعودأليها الغائب بخير ، أنتهت الحرب ومرت الأيام ثقيلة عليها ، لم يعد ولم تعرفعنه شئ ، بحثت عنه فى جميع المستشفيات ، سألت عنه كل من رأته عائدمن الحرب لكن لا جديد ، لا جديد يخبرها أنه بخير ، جاء الشتاء من جديد..لكنه جاء أكثر برودة وصقيع لأنه جاء خاليا منه ، جلست بنفس المكان الذيجلسوا به سويا من قبل ، لم تعد ترغب فى فعل أي شئ ، جلست شاردةبعيد ، فجأة رأت شخص يشبهه من بعيد ، تعلقت عينيها به لكنها سرعان ماعادت بهما إلي الأرض أنه شخص كفيف ، مرت لحظات وسمعت صوت دقات عصاه التي يتكئ عليها تقترب منها ، لم ترفع رأسها إليه لم تنظرباتجاهه ، جلس بجوارها ، مرت دقائق تسرب عطره إليها ، عقدت حاجبيهاأستدارت تنظر إليه ، شهقت فجأة ، نزلت دموعها دفعة واحدة ، فشلت أنتنطق بكلمة أو توقف سيل دموعها ، أنه هو أنه “أحمد ” .. لكنه كفيف ، كيفحدث هذا ؟ متى حدث ؟ لهذا غبت عني طيلة هذه الشهور ، أمسكت بكفه ، أنتبه فجأة ، سمع صوتها يئن وهو يناديه ، علم أنها هى ، أنتفض واقفيحاول أن يغادر المكان ، أمسكت بذراعه تستوقفه قائلة:
-أحمد اشتقت إليك كثيرا الآن فقط عادت روحي ، حاول أن يتركها ويمضىلكنها تشبثت به متوسلة إليه آلا يغادر قائلة:
-لم تفعل هذا ؟ ما سبب أبتعادك عنى ؟ انتظرتك وبحثت عنك طويلا ، خرج صوته حزين قائلا:
-ابتعدت عنك لأنك تستحقين من هو أفضل مني ، كيف ستحيين مع إنسانفقد بصره فى حرب، أنا أحبك لهذا فضلت أن أبتعد كى تعيشتي حياتك معمن هو أفضل منى ، ضمته إلي صدرها ، أعتصرته بين ضلوعها ، هو الأخرأطبق ذراعيه عليها ، تنفس بعمق كمن وجد واحة سلام عاش بها ، همست لهقائلة:
-أنا عيناك وبصرك ، أنا عصاك اتكأ علي ولن أدعك ترحل مهما فعلت ، أنامعك مهما حدث ، حينما أحببتك لم احب بك جسد رجل ولا عطر رجل بلأحببت روحك ، أمسكت العصا التى يتكأ عليها ملقية بها بعيد ، واضعة كفهابكفه ممسكة به قائلة:
-هيا نكمل طريقنا معا ، تمسك بيدى جيدا سوف نكمل ما بدأناه سويا أن فقدت كل ما لديك لن تفقدني وسيبقى الحب دوما رأس مالنا .
-تمت بحمد الله-