مرحباً بأصدقاء الأدب والكُتب, هنا ملتقى الأدباء ومجلة الكُتاب العظماء, هنا حيث ننثر من ربيع الكلمات مطراً .. أهلاً بكم
ضربتْ كفًّا بكف، اختلطَ العطرُ فاشتعلَ بين ثنايا أصابعِ كفَّيْها، أرادتْ أن تُشعلَ الغيْرةَ عندي كما فعلتْ بريحِ العطر، أعادتْ ضربَ كفٍّ بكف، لم أكترثْ وتجاهلتُها، تنحنحتْ لتجذبني، وضعتْ كفَّها على فمِها، لمعَ مع سطورِ الشمسِ لونُها الذهبي، وضعتُ كفِّي على فمي بلا شعور ، شعرتُ بمرارةٍ تكادُ تحرقُ داخلي، غفلتُ عنها فاختفتْ عن ناظري، بقيَ مقعدُها يحملُ ذكراها، جلتُ ببصري في الجهاتِ الأربعِ ومابينها فلم أرها، وبلا إحساسٍ رفعتُ بصري نحوَ السماء، سألتُ نفسي وهل لها جناحان لتخترقَ الفضاء؟ حاولتُ أن أسلِّي نفسي بمقعدها الذي تركتْه وحيدًا، ما أروعه!! جلستُ مكانها ووضعتُ كفي اليمنى مكان كفها واليسرى مكان اليسرى، أردتُ أن أسلبَ من خشبِ المقعدِ بقايا العطر، شممتُ أصابعَ يدي اليمنى لعلي أجدُ الشذى المعتق، وضعتُ الأخرى بعدها على أنفي، لم أعد أرى شيئًا في الظُلمةِ التي حلَّتْ مع انقضاءِ النهار، جاء الليل، طبقُ السماءِ أسفرَ عن النجومِ والوحشةِ والدهشة، جاءتْ مع الليلِ والعطرُ يسبقها، يشبه الشذى بقايا الريحِ في المقعد، بلا شعورٍ تركتُ لها المقعد، ضربتْ كفًّا على كفٍّ وأوعزتْ إليَّ بأن أبقى، أخذتْ تطوفُ حولي ولها بريقٌ يشبهُ بريقَ النجوم، كان الليلُ حالكَ السوادِ بينما كفاها تضيئان في الظلام، اختلطَ ريحُ العطرِ بالسوادِ الذي أطبقَ على المكان، تمنيتُها ليلةَ عطرٍ لأرى اشتعالَ أصابعِ كفَّيْها في الوحشة.
لَمْ أَكُنْ طِفْلَةً سَعِيْدَةً،فَقَدْجَاءتْ وِلاَدَتِي مُتَعَسِرَةٌ،وَغَادَرَتْ أُمِّي الْحَيَاةَ مَعَ أَوْلِ شَهْقَةٍ لِي،كَبِرْتُ مَنْبَوْذَةً،مُحَاصَرَةً فِي غُرْفَةٍ عَلىَ الْسُّطُوْحِ،طَرِيْدَةَ الْمَكَانِ كَمَا الْذُّبَابَةِ.
تَمَنِيْت أَنْ لِيَّ ذَاكِرَةٌ لأَنْسَى،وَلَكِنْ هَاأَنَا أَتَنَفَسُ الْحَيَاةَ مِنْ جَدِيْدٍ، أَبْحَثُ عَنْ ذَاتِّي الْمَفْقُوْدَةِ دَاخِلَ رُكَامِ إِمْرَأَةٍ تَهَاوَى كُلُّ شيءٍ فِيْهَا وَغَطَاهُ الْسَّخَامُ.
أَصْبَحْتُ هَوَامِشىً فَارِغَةًخَارِجَ حُدُوْدِ زَمَنٍ تَسَرَبَ،وَأَنَامُقَيَدَةٌ خَلْفَ أَسْوَارِ الْخَوْفِ،وَالإِذْلاَلِ بَعْدَ أَنْ جَرَّدَنِي وَالِدِي مِنْ إِنْسَانِيَتِي، وَزَوَّجَنِي،أَوْ بالأَصَحِ بَاعَنِي لِذَلِكَ الْثَرِيُ الْذِّي حَصَى فِي وَجْهِهِ كَوْمَةَ نُقُودٍ.
رَجُلٌ تَخَطَى الْخَمْسِيْنَ،وَطِفْلةِ تَتَعَثَرُ فِي الْسَادِسَةِ عَشْرَةِ هِي أَنَا. أُسِرْتُ دَاخِلَ قَصْرٍ فَخْمٍ مَلِيءٌ بالأَثَاثِ الْفَاخِرِ،وَالْمَلاَبِسِ الْمَارِكَةِ، وَأَدَوَاتِ الْزِّيْنَةِ،وَالْعُطُوْرِ،وَكُلِّ مَا تَشْتَهِيْهِ كُلُّ امْرَأةٍ إِلاَّ أنَا.
إِسْتَنَدْتُ عَلىَ حَائِطِ الْوَقْتِ الْبَطِيءِمُجَرَدُ وِعَاءٍ يُرْكَلُ بَعَدَ الْشَّبْعِ،وَلاَ يَهمُ بِأَيِ شَيءٍ يَرْتَطِمُ.
سِتَةَ عَشْرَ عَامًا تَنَمَلْتْ فِيْهَا مَشَاعِرِي،تَتَغَيَّرُ مِنْ حَوْلِي وُجُوْهُ الْخَادِمَاتِ،وَمُذِيْعُوْ الْتِلْفَازِ نَافِذَتِي الْوَحِيْدَةُ نَحْوَ الْعَالَمِ،وَأَنَا مَحْشُوْرَةٌ بِالْغَضَبِ،والْغُرْبَةِ، وَالْمِزَاجِ الْسَيءِ.
يَسْتَفِزُنِي الْمُذِيْعُ،وَهُوَ يَتَحَدَثُ بِلِسَانِ أَحَدِ الْفَلاَسِفَةِ،وَهُوَيَقُوْلُ: “لاأَحَداً يَسْتَطِيْعُ إِلْزَامَكَ بِطَرِيْقَتِهِ فِي الْحَيَاةِ”،ويَزِيْدُنِي غَيْظَاً نَظَرِيَةُ لُوْكْ عَنِ اتِخَاذِ الْقَرَارَاتِ الْشَخْصِّيَةِ كَمَا يُرِيْدُ الإِنْسَانُ، أَبْحَثُ عَنْ هَذا الْتَصَنِيٰفِ فِي أَجِنْدَتِي الْخَاصَّةِ،لا شَيءَ…
أَتَنَفَسُ تِلْكَ الْحَرِيَةُ،وَالْقَرَارَاتُ فِي ثَوْرَاتٍ عَنِيْفَةٍ.
لَحَظاَتُ غَضَبٍ عَارِمَةٍ تَطَالُ مَاطَالَتْهُ يَدَيَّ بالْتَكْسِيْرِ.
هِسْتِيْريَا لاَ يِمْكِنُ الْسَّيْطَرَةُ عَلِيْهَا حَتَى تَنْهَارُقُوَايَ،وَأَهْدَأُ.
لاَ أَحَداً يَحْتَوِيْنِي سِوَى الْفَرَاغِ، وَنَظَرَاتٍ زَائِغَةٍ فِي عَيْنِي الْخَادِمَةِ الَتِي إِعْتَادَتْ المَشْهَدَ.
فِي السَنَوَاتِ الأَخِيْرَةِ ازْدَادَ هُوَ ضَعْفًا،وازْدَدْتُ أَنَا قُوةً،فَهَجَرَنِي..
وَبَعْدَ غِيَابٍ طَالَ جَاءَ يَجُرًُ جَسَداً هَزِيْلاً شَاحِبًا كَخَيْطِ دُخَانٍ يَتَلاَعَبُ بِهِ الْهَوَاءُ.
اِنْدَفَعَ نَحْوِي،وَلَمْ يَمُدْ يَدَهُ لأُقَبِّلَهَا، أَوْيَفْتَحُ ذِرَاعِيْهِ لِيَحْتَوِيَنِي، قَبَّلَ رَأْسِي،وأَجْلَسَنِي بِجِوَارِهِ فِي لَحْظَةِ ذُهُوْلٍ مِنِي.
أَخْبَرَنِي أَنَّهُ أُصِيْبَ بِجَلْطَةٍ لِلتَوِ تَشَافَى مِنْهَا.
مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ حَقِيْبَةٍ كَانَ يَحَمِلُهَا، فَتَحَهَا:
⁃ اِمْسَكِي هَذَا صَكُّ الْبَيْتِ،وَهَذِه بِطَاقَةُ صَرَافٍ،وَكَشْفُ حِسَابٍ، وَهَذِه اِسْتِمَارَةُ الْسَيَّارَةِ،وَهَذَا هَاتِفُ نَقَالٍ بِشَرِيْحَتِهِ كُلَّهَا بِسْمِكِ.
وَأَمَامَ دَهْشَتِي نَهَضَ بِتَثَاقِلٍ وَوَضَعَ مَفَاتِيْحَ الْمَنْزِلِ عَلىَ الْطَاوِلَةِ،وَمَدَّ يَدَهُ بِوَرَقَةٍ تَعْلُوْهَا رُزْمَةُ نُقُوْدٍ:
⁃وَهَذِه وَرَقةُ طَلاَقِكِ.. سَامِحِيْنِي.. أَنْتِ حُرَةٌ الآنَ..
غَادَرَ قَبْلَ أَنْ أَفِيْقَ مِن الْصَدْمَةِ.
لا أَدْرِي إِنْ كَانَتْ تَهْوِيْمَةُ حُلْمٍ، لَكِنَّهُ وَاقِعٌ.
مَضَتْ أَيَامٌ طَوِيْلَةٌ،وَلَمْ أَجْرُؤْ عَلىَ تَجَاوْزِ عَتَبَةِ الْبَابِ الْمَفْتُوْحِ، تَوَاصَلْتُ مَعَ طَبِيْبَةٍ نَفْسِّيَةٍ،وَبَدَأتُ أَتَعَلَمُ الْحَيَاةَ.
بَحْثْتُ عَنْ أُسْرَتِي الَتِي نَفَتْنِي.. مَاتَ وَالِدِي..وَعُلِّقَتْ عَلىَ بَابِ بِيْتِهِم لَوْحَةٌ كُتِبَ عَلِيْهَا ” لِلْبِيْعِ” اشْتَرِيْتُهُ،وَتَنَفَسْتُ الْرَاحَةَ،وأَنَا أَرَى أَوَلَ طُوْبَةٍ تَسْقُطُ بَعْدَ أَنْ سَلَمْتُهُ لِمُقَاوِلِ الْهَدْمِ..
مَازَالَ فِي عِيْنِيَّ غَبَشٌ،وَفِي رُوْحِي عَتَمَةٌ.
سَوْفَ أَلْحَقُ بالْفَرَاشَاتِ هُنَّاكَ حَيْثُ الْضَوْءِ.
لا أنسى اليوم الذي تذَكَّرتُ فيه الجدَّة فاطمة؛ أنَّني فارغًا من الكيروسين ـ (القاز) ـ وأرسلتني لجارتنا مع حفيدها، لتضع لي القليل منه.. عند وصولنا لبيت الجارة جلسنا في غرفة الضُّيوف ننتظر قدوم السيِّدة.. ثمَّ أخذتني الخادمة وحيداً معها لمكان التعبئة.. ونحن نسير شاهدتُ أقراني فوق مناضد جميلة شامخة في أركان متعددة من المنزل..
أقراني حديثو الصنع.. دهنت زجاجاتهم بألوان زاهية، من النَّوع الذي يعمل بالبطاريَّات.. حين رأيتهم؛ خِفْتُ أن يستهزئ بي أحدهم عندما يراني بعتمة السَّواد الذي يُشمِّع زجاجتي..
وصلنا لمكان التعبئة بسلام خالي من السخرية والاستهزاء.. أمسكت الخادمة بمقبض المفتاح بكلِّ نعومة وأدارته حتى نزعته من مكانه.. وسكبت الكيروسين الصافي اللون الذي أشعرني بالانتعاش.. وبالارتياح.. فهم دومًا يشترون الكيروسين الأصليِّ.. وليس المُقلَّد الذي عادة ما يكون في منزل الجدة فاطمة.
بعدها عدنا.. ووجدنا الجدة في انتظارنا.. تناولتني من حفيدها ووضعتني على طاولة صغيرة بالصالة.. وجلست أمامي تحمل قطعةً من القماش خشن المَلْمَس.. وظلَّت تمسح زجاجتي المُتَّسخة بكل قسوة..
من شدة المسح بين يدي الجدة حزنت كثيراً.. فطارق لم يتركني بصحبة الخادمة ولو للحظة؛ لتقوم بتلميعي بلطف ونعومة كالمرَّة السَّابقة.. وتعذَّر بجدَّته المُتعجِّلة لعودتي لها.
شعور رائع أشعر به وأنا بين يدي الخادمة.. وهي تبعد الزُّجاجة جانباً.. وتضعها على قماش ناعم.. وتأخذني؛ لتفرغ منِّي الوقود القديم أوَّلاً.. ثمَّ تُعيدني، وتبدأ برشِّ محلولٍ أبيض عليَّ.. بعدها تتركني قليلاً.. ثمَّ تعود وتمسح كلَّ جزء مني بعناية فائقة.. وتعيد الزُّجاجة بعد تلميعها برقَّة.. ثم تسحب الشُّعلة بلطف للأعلى قليلاً.. وكأنَّها خُلقَت لترعاني.. لدرجة أشعر وأنا بين يديها أني أعيش في المكان الخطأ.
ولي مع حفيدها طارق مواقف لا تنسى.. فقد اعتاد تفريغ كلَّ ما في داخلي من الوقود صباحاً.. قبل أن تستيقظ جدَّته فاطمة.. ليتمكَّن من الذَّهاب بي لبيت الجيران مُتسلِّلاً عبر مزرعتهم، لقطف بعض ثمار البرتقال.. فهو السَّارق الذي يجهلون هويته.. وأنا الذي أدفع الثَّمن إنابة عنه !.
لازالت الجدَّة تتفحصّ زجاجتي، بعد نفخ الهواء عليها من فمها.. وتبدأ بالمسح.. كم هي سعيدة، سيَّما أنّها تشعر بقليل من الدفء في هذه الليلة.
أمسيتُ أكره الحياة في بيت الجدة فاطمة الفقير.. ففي المساء يتجمَّع الأطفال قبل أن تبدأ الجدَّة بإشعالي لأنير لهم المكان.. وتبدأ المجادلة فيما بينهم عليّ حتَّى يخرج نصف ما في داخلي من الوقود.. ولو سبقتهم الجدة بأخذي؛ سأنْعَمُ بقليل من الهدوء.
في كل مساءً يتجمَّع الأطفال حول مائدة وُضع عليها من بقايا خُبز الصَّباح.. وصحن لبن صغير تُعِدَّه الجدَّة كلَّ ليلة للعشاء من مِعْزَتِها العَرْجاء.. أشعرُ بالأسف أحيانًا.. وبالضجر أحيانًا أخرى.. ينام الجميع.. وأظلُّ أشتعلُ إلى أن تتفحَّم فَتْلَتي المُبلَّلة.. ويزداد اضمحلال زجاجتي.
أشعر أحيانًا وكأنِّي مُدخِّنٌ سِكِّيرٌ.. تسخُن قاعدتي حتَّى أشعر أنِّي لا أكاد أطيق نفسي.. هكذا أعيش مُنفردًا طوال ليالي الشِّتاء الباردة في هذا البيت.
رغم موتي.. لا أنسى الموقف الذي تسبب بموتي.. حين رأى صاحب المزرعة طارقًا؛ لحظة ألقاني على الأرض وفَرَّ هارباً منه.. حينئذ ترجل صاحب المزرعة من عربته.. وانطلق نحوي بغضب.. رفعني فوق رأسه.. ورمى بي بكل ما يملك من قوة خارج مزرعته.. بعد أن بصق على زُجاجتي المسكينة.
قرب المساء وعاد طارق ليتفقَّدني.. فوجدني مرميًّا خارج سور المزرعة.. وقد فارقت زجاجتي الحياة.. شظاياها متناثرة حولي.. حين شاهدني؛ سارع لالتقاطي لكي يعيدني للمنزل خوفًا من جدَّته.. لكن قدمه اليُسرى أصابها جرحٌ غائر جراء دعسه على جزء صغير من زُجاجتي المهشمة.. فجلس بجانبي مُتألِّمًا، والدماء تنزُّ من قدمه.. فقام وحملني هو الآخر ورماني بغضب مسافة أبعد أوصلتني للشارع العام.. لينتهي أمري مهشَّمًا تحت عجلات عربة مرَّت من فوقي مسرعةً.. وكلَّ ما بقي من جسدي كومة حديد مُلتوية تسأل كل ظل يمر من فوقها:
ـ هل افتقدتني الجدة ؟ـ ومن سينير عتمتها وأحفادها بعد اليوم ؟!!.
اعتاد مسعود أن يتجول في أزقة المنامة، خاصة في محيط السوق القديمة، بعيون مثل عيون قط رمادي، كانت تتسلق على المباني القديمة. يتشمم عطر الأزقة الطازجة في أيام الجمع، تبحث عيناه عن التفاصيل الصغيرة هنا وهناك، يمتص تفاصيل البيوت والعمارات القديمة، تُمشّط عيناه الأرصفة، والعتبات، يُصافح الأبواب القديمة، يربت على مقابضها بِحنّية.
ذات صباح وهو في تسكعه اللذيذ، لحظ شيئا جديدا، فقد كانت إحدى غرف العمارة المقابلة لعمارة تاجر البطاطس، كانت مشروخة الجدار، تبين أنه صدع عميق، بعمق إصبعه الصغيرة، هكذا قاسه في خياله، ثم أخذ يفكر في تلك الغرفة، ” ربما يسقط الجدار في أية لحظة، علي أن أتوخى الحيطة والحذر، فالجدران لا تمزح مع الأطفال عادة”. هكذا كان يُحدث نفسه.
في الجمعة الثانية مر على نفس المكان، يبدو أنه يٌحب التجول في هذا الزقاق كثيرا. وجد الغرفة وقد سقط من جدارها بضعة أحجار، تكونت فجوة بحجم دائرة صغيرة، تكفي لأن يدخل فيها بجسمه الصغير، أخذ ينظر إلى داخل الغرفة، تخللت عيناه إلى أكبر قدر من الرؤية الُمتاحة. كانت توجد شرائح كبيرة من الاسفنج الملون والذي تُصنع منه مَراتب الأسّرة، كانت مرصوصة بعضها ببعض، وكانت ألوانها متعددة، لاحت له مثل ألوان الفرح، مثل قوس قزح، واحدة صفراء، تليها زرقاء، و ردية، وخضراء وبصلية، كان يرى الألوان بسنوات عمره الصغيرة، فيؤثث أحلام صباحه بفرحة غامرة، ” آه، لو أظفر بواحدة، لأ خذتها معي لتصبح لي منامة جديدة، أصفها بجوار مرقد أخي القطني وأباهي الجميع بهذه المرتبة الاسفنحية الزاهية”. دوى صوت سقوط بعض الأحجار، عاد سريعا على وقعه إلى واقعه. قفز بسرعة مُبتعدا عن الجدار، وفي ثواني، رأى بأم عينيه زاوية الغرفة وقد تهاوت كالركام فَسّدت الزقاق.
أخذ ينظر إلى الأعلى، أصبحت الغرفة مكشوفة، تَبين أنها مخزن لعشرات المراتب الاسفنحية الملونة، التهب خياله، ” يا الله، كل الألوان موجودة هنا، ولكن كيف يُمكنني أن أصعد إلى الأعلى؟”. كان يفكر في هذه الفتنة التي تكشفت أمامه كفتاة جميلة. ظل يُشاهد المكان ويبحث في رأسه عن حل لهذه الرغبة المشتهاة، رغبة الظفر بواحدة من تلك المراتب.
وهو ينظر بحسرة إلى ألوان المراتب الزاهية، خطر الحل في باله، فتلقفه بسرور،” الحل في السُلّم، سُلّم والدك الخشبي، يمكنك الصعود به إلى الغرفة وتناول حلمك، بكل بساطة، اقبض على حلمك قبل أن يَفرّ”. استبشر بهذه الفكرة، ولكن تَوّلدت صعوبة أخرى، لن يستطيع حمل السلم بمفرده، يحتاج إلى من يساعده، فكر في الأمر، لم يجد غير صديقه سالم، لذلك، عندما رجع إلى البيت أخذ يفكر في مفاتحة صديقه في المساء. بعد صلاة العشاء كان يطرق باب صديقه، ولحسن الحظ، فتح سالم الباب، صافحه، ثم بدأ يقص عليه الموضوع:
_ اسمع ياصديقي، وجدت مغامرة شيقة، وأردت أن أشركك فيها.
برقت عينا سالم:
_ تعرفني، أنا أشتاق للمغامرات مثلك.
_ الموضوع سهل ولكنه ممتع، سوف نحمل السلم الخشبي معا، ونتوجه صباح الجمعة القادمة، إلى حيث نعانق الأحلام الملونة.
لم يفهم سالم حرفا مما قاله صديقه، مغامرة، ثم، صارت أحلام، وهل نحتاج إلى سلم لاصطياد الأحلام؟
_ لم أفهمك ياصديقي.
_لا عليك، سوف ترى بعينك، الغرفة الُمهدّمة، وهناك، ألوان السعادة تنتطرنا.
_ أية ألوان؟ هل هي فزورة، من فزوراتك الأثيرة؟
_ ليست فزورة ولا أحجية، سوف نصعد للغرفة بهذا السلم ونتناول الاسفنح الملون، لي واحدة ولك واحدة، هل فهمت الآن؟
_ يعني نسرق الاسفنج.
_ لا نسرق ولكن الغرفة ستندثر قريبا تحت الركام،يبدو إنها مهجورة وحرام أن نُضيع فرصة كهذه.
_ فعلا حرام، إذن نتوكل على الله.
_ أراك صباح الجمعة.
_ سوف تراني منتظرا أمام داركم.
ودع مسعود صديقه والفرحة تملأ روحه، وبقي يعد الأيام حتى جاء يوم الجمعة. استيقظ مبكرا وعندما أراد الخروج، وجد صديقه في الإنتظار أمام الباب. حمل الإثنان السلم ،مسك مسعود المقدمة، وكان سالم يحمل المؤخرة، ومشيا في الطرق الموصلة لزقاق الحلم، لكن المفاجأة كانت تتربص بفرحتهما. عندما وصلا، كانت الغرفة قد أزيلت تماما، وبقي مكانها فراغ يشى بنقص ما في ذلك المبنى، فرك مسعود عينيه وهو غير مصدق، اسبوع واحد تغير فيه كل شيئ ، بعد أن كاد يمسك بنعومة الاسفنج الملون، وبعد أن فَصّل حلمه على مقاس المرتبة الملونة الزاهية، تفر كل ألوان الفرح دفعة واحدة، ويصبح الحلم الصغير بعيدا كل البعد، هاهو مع صديقه ينظران إلى الفراغ، بالنسبة إلى سالم ربما يكون الأمر مجرد وهم أوكذبة لكن لمسعود، كان الأمر كبيت عنكبوت تمزق بلمسة واحدة.