قراءة في “ترانيم من بوح بلقيس” للشاعرة المغربية فاطمة قيسر
قبل أن تجمع الشاعرة قصائدها في ديوان ورقي، كنت اكتشفت قلمها و هواجسها و اشتغالاتها من خلال النشر الرقمي مما جعلني أتعرف إلى انشغالاتها الجمالية و الوجدانية
و الفكرية.
حين الوقوف على ديوانها الماثل بين يديّ الموسوم ب: ترانيم من بوح بلقيس، الصادر في 2017 عن مؤسسة آفاق للدراسات و النشر و الاتصال بمراكش/المغرب، و الواقع في ثمانين صفحة مقسمة بين الإهداء و مقدمة للأستاذة مليكة الجابري، و 44 قصيدة، لابد من تذكير يعيد للشعر تفرده عن النثر من حيث الحميمية ذلك أن الشاعر لا يكتب إلا لغته/لغة نفسه …
قبل الدخول في عالم فاطمة قيسر الشعري لابد من الإشارة و لو من بعيد إلى هواجس الكتابة الأدبية عامة و خاصة تلك التي ينتجها النساء دون تبني نظرية الأدب النسوي إذ أظل على يقيني أن الأدب إنساني لا هو بالذكوري و لا بالنسوي…
هذه الكتابات تكشف اشتغالات الكاتبات على ثيمة العنف المقدس حسب تعبير جيرار روني.
سأحاول في هذه القراءة أن أتناول الأثر من حيث ثنائية الألم و اللذة الفرويدية انطلاقا من العتبات و صولاً إلى المتن، حريصة في ذلك على تجاوز القراءة السيرذاتية التي ينزع نزوعها بعض النقاد حين تناولهم لكتابات النساء.
العنوان: يستوقفنا هذا الاختيار:
ترانيم من بوح بلقيس…
فالترانيم هي جمع ترنيمة و هي كما ورد في معجم المعاني” أنشودة صغيرة… نشيد الكنائس” و هنا لا يخفى على القارئ تلك النزعة إلى الشجن، و إلى الروحانيات، باعتبار أن الإنشاد واحد من أهم تعبيرات المتدينين و هو ارتقاء بالذات من وثنيتها إلى مصاف من التجلي تتوحد فيه الروح بالروح الأعلى…
و لا يمكن بحال أن نتغافل عن تلك النورانية التي تهيمن على أجواء الإنشاد الديني.
و ” من” أداة تفيد التبعيض
أما البوح فهو و كما جاء في المعجم ذاته ” إظهار السر… يعالج الطبيب النفساني مريضه عن طريق البوح الذاتي”.
و بلقيس، لا يخفى علينا أنها مرجعية لبلقيس كما جاءت في التراث الديني صنو الإيمان و الطيبة و الجمال..
و هكذا نلاحظ أن الشاعرة و منذ العنوان تضعنا في حفل سيكولوجي بل و ماوراء سيكولوجي دون ابتذال .
أما العتبة الثانية فهي الغلاف بوجهيه.
الوجه الأول فهو لوحة تمثل قلعة بلقيس و ما يلفت الانتباه هو تلك المرأة التي تجلس معلقة على حافة حرف تسند ظهرها أو تديره لكتلة غلب عليها اللون الغامق، في حين ترتدي هي ثوباً ذهبي اللون عدا الإيشارب الأزرق و الذي يبدو محيطاً برقبتها عائداً إلى الوراء؛ كأنَّ المرأة في مقابلة مع الريح … و بعضٌ أحمر هو على الأرجح لون بنطلون، عادة تلبسه المغربيات تحت الجلباب، إضافة إلى الأصفر الصافي الذي يلون الحذاء المغربي التقليدي (البابوش).
نلاحظ أن المرأة تتوسط فضاءين، الأول خلفها مرصوص رصاً، و الثاني أمامها مفتوح على أفق يبدو حاملاً للأمل و الانقشاع …
أما الوجه الثاني فهو قصيدة بلقيس و كأنها هي قصيدة القصائد في المجموعة الشعرية كلها و لعل الغوص فيها سيفتح مغاليق الديوان تدليلاً.
تتظافر العتبات لتقحم القارئ للأثر في جو طقوسي يبدأ بالإنشاد ،وينتهي بالبوح، ويجبرنا على تلك الرؤية الفرويدية للغوص في مظانِّ النص و أغوار الذات الشاعرة، لا بوصفها ذاتا متفردة، و إنما بوصفها ذاتا متعددة ،تشكل لوحة من لوحات الألم الأنثوي الذي يعمل على مراودة الخارج عن الذات عبر ترنيمة مموسقة و مكتوبة، تبحث عن لذة التشكل خارج الذات، والظهور إلى الآخر و من هنا البوح النسائي كما يراه وجدان الصائغ في شهرزاد و غواية السرد ص 63 ” حيث تبوح الأنثى بكل حروفها المشفرة، فإنها تريد من الرجل الاعتراف بانتمائها إلى مملكته لا فصلها عنه”…
قصيدة يا بلقيس تنفتح على النداء و يهيمن عليها الأسلوب الطلبي ( الأمر( اكشفي/ اقذفي/ سطري/ لملمي/ مرغي/ انصبي/ مشطي/ اقذفي”
و هو دعوة صريحة إلى الثورة و القطع مع الصمت.
و المعروف هو أنَّ الثورة لا تكون إلا رغبة و تمردا و مراودة للذة الانتصار بعد ألم الاستكانة.
فثنائية الألم و اللذة ثيمة هيمنت على نفس القصائد، إذ تعددت التعابير الدالة على وجع الصمت، و فقدان المشاعر، و الصدق ،و وجع الكينونة المسورة .
و هذه الثنائية تكمن أيضا في ألم الكينونة المهشمة بفعل خيارات مجتمع يمارس عنفه على الفرد أولا بوصفه فرداً ،و على الأنثى ثانياً باعتبارها مدعوةً دائماً و أبداً إلى الصمت القسري حين يكون ظهورها عورةً، و صوتها عورة، و نحيبها عورة،
و غناؤها عورة …
أما اللذة فهي لذة البوح و تجاوز المحظور و القفز على الصمت بالصوت و على الغياب القسري بالحضور المؤثث بشتى أوجه الثورة…
و بما أنَّ الألم و اللذة متلازمان كما ينظر فرويد، يبقى الأدب تعبيراً عن ألم الكينونة و لذة الانتصار بالبوح و ربما الخلود.
______________