لَمْ أَكُنْ طِفْلَةً سَعِيْدَةً،فَقَدْجَاءتْ وِلاَدَتِي مُتَعَسِرَةٌ،وَغَادَرَتْ أُمِّي الْحَيَاةَ مَعَ أَوْلِ شَهْقَةٍ لِي،كَبِرْتُ مَنْبَوْذَةً،مُحَاصَرَةً فِي غُرْفَةٍ عَلىَ الْسُّطُوْحِ،طَرِيْدَةَ الْمَكَانِ كَمَا الْذُّبَابَةِ.
تَمَنِيْت أَنْ لِيَّ ذَاكِرَةٌ لأَنْسَى،وَلَكِنْ هَاأَنَا أَتَنَفَسُ الْحَيَاةَ مِنْ جَدِيْدٍ، أَبْحَثُ عَنْ ذَاتِّي الْمَفْقُوْدَةِ دَاخِلَ رُكَامِ إِمْرَأَةٍ تَهَاوَى كُلُّ شيءٍ فِيْهَا وَغَطَاهُ الْسَّخَامُ.
أَصْبَحْتُ هَوَامِشىً فَارِغَةًخَارِجَ حُدُوْدِ زَمَنٍ تَسَرَبَ،وَأَنَامُقَيَدَةٌ خَلْفَ أَسْوَارِ الْخَوْفِ،وَالإِذْلاَلِ بَعْدَ أَنْ جَرَّدَنِي وَالِدِي مِنْ إِنْسَانِيَتِي، وَزَوَّجَنِي،أَوْ بالأَصَحِ بَاعَنِي لِذَلِكَ الْثَرِيُ الْذِّي حَصَى فِي وَجْهِهِ كَوْمَةَ نُقُودٍ.
رَجُلٌ تَخَطَى الْخَمْسِيْنَ،وَطِفْلةِ تَتَعَثَرُ فِي الْسَادِسَةِ عَشْرَةِ هِي أَنَا. أُسِرْتُ دَاخِلَ قَصْرٍ فَخْمٍ مَلِيءٌ بالأَثَاثِ الْفَاخِرِ،وَالْمَلاَبِسِ الْمَارِكَةِ، وَأَدَوَاتِ الْزِّيْنَةِ،وَالْعُطُوْرِ،وَكُلِّ مَا تَشْتَهِيْهِ كُلُّ امْرَأةٍ إِلاَّ أنَا.
إِسْتَنَدْتُ عَلىَ حَائِطِ الْوَقْتِ الْبَطِيءِمُجَرَدُ وِعَاءٍ يُرْكَلُ بَعَدَ الْشَّبْعِ،وَلاَ يَهمُ بِأَيِ شَيءٍ يَرْتَطِمُ.
سِتَةَ عَشْرَ عَامًا تَنَمَلْتْ فِيْهَا مَشَاعِرِي،تَتَغَيَّرُ مِنْ حَوْلِي وُجُوْهُ الْخَادِمَاتِ،وَمُذِيْعُوْ الْتِلْفَازِ نَافِذَتِي الْوَحِيْدَةُ نَحْوَ الْعَالَمِ،وَأَنَا مَحْشُوْرَةٌ بِالْغَضَبِ،والْغُرْبَةِ، وَالْمِزَاجِ الْسَيءِ.
يَسْتَفِزُنِي الْمُذِيْعُ،وَهُوَ يَتَحَدَثُ بِلِسَانِ أَحَدِ الْفَلاَسِفَةِ،وَهُوَيَقُوْلُ: "لاأَحَداً يَسْتَطِيْعُ إِلْزَامَكَ بِطَرِيْقَتِهِ فِي الْحَيَاةِ"،ويَزِيْدُنِي غَيْظَاً نَظَرِيَةُ لُوْكْ عَنِ اتِخَاذِ الْقَرَارَاتِ الْشَخْصِّيَةِ كَمَا يُرِيْدُ الإِنْسَانُ، أَبْحَثُ عَنْ هَذا الْتَصَنِيٰفِ فِي أَجِنْدَتِي الْخَاصَّةِ،لا شَيءَ...
أَتَنَفَسُ تِلْكَ الْحَرِيَةُ،وَالْقَرَارَاتُ فِي ثَوْرَاتٍ عَنِيْفَةٍ.
لَحَظاَتُ غَضَبٍ عَارِمَةٍ تَطَالُ مَاطَالَتْهُ يَدَيَّ بالْتَكْسِيْرِ.
هِسْتِيْريَا لاَ يِمْكِنُ الْسَّيْطَرَةُ عَلِيْهَا حَتَى تَنْهَارُقُوَايَ،وَأَهْدَأُ.
لاَ أَحَداً يَحْتَوِيْنِي سِوَى الْفَرَاغِ، وَنَظَرَاتٍ زَائِغَةٍ فِي عَيْنِي الْخَادِمَةِ الَتِي إِعْتَادَتْ المَشْهَدَ.
فِي السَنَوَاتِ الأَخِيْرَةِ ازْدَادَ هُوَ ضَعْفًا،وازْدَدْتُ أَنَا قُوةً،فَهَجَرَنِي..
وَبَعْدَ غِيَابٍ طَالَ جَاءَ يَجُرًُ جَسَداً هَزِيْلاً شَاحِبًا كَخَيْطِ دُخَانٍ يَتَلاَعَبُ بِهِ الْهَوَاءُ.
اِنْدَفَعَ نَحْوِي،وَلَمْ يَمُدْ يَدَهُ لأُقَبِّلَهَا، أَوْيَفْتَحُ ذِرَاعِيْهِ لِيَحْتَوِيَنِي، قَبَّلَ رَأْسِي،وأَجْلَسَنِي بِجِوَارِهِ فِي لَحْظَةِ ذُهُوْلٍ مِنِي.
أَخْبَرَنِي أَنَّهُ أُصِيْبَ بِجَلْطَةٍ لِلتَوِ تَشَافَى مِنْهَا.
مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ حَقِيْبَةٍ كَانَ يَحَمِلُهَا، فَتَحَهَا:
⁃ اِمْسَكِي هَذَا صَكُّ الْبَيْتِ،وَهَذِه بِطَاقَةُ صَرَافٍ،وَكَشْفُ حِسَابٍ، وَهَذِه اِسْتِمَارَةُ الْسَيَّارَةِ،وَهَذَا هَاتِفُ نَقَالٍ بِشَرِيْحَتِهِ كُلَّهَا بِسْمِكِ.
وَأَمَامَ دَهْشَتِي نَهَضَ بِتَثَاقِلٍ وَوَضَعَ مَفَاتِيْحَ الْمَنْزِلِ عَلىَ الْطَاوِلَةِ،وَمَدَّ يَدَهُ بِوَرَقَةٍ تَعْلُوْهَا رُزْمَةُ نُقُوْدٍ:
⁃وَهَذِه وَرَقةُ طَلاَقِكِ.. سَامِحِيْنِي.. أَنْتِ حُرَةٌ الآنَ..
غَادَرَ قَبْلَ أَنْ أَفِيْقَ مِن الْصَدْمَةِ.
لا أَدْرِي إِنْ كَانَتْ تَهْوِيْمَةُ حُلْمٍ، لَكِنَّهُ وَاقِعٌ.
مَضَتْ أَيَامٌ طَوِيْلَةٌ،وَلَمْ أَجْرُؤْ عَلىَ تَجَاوْزِ عَتَبَةِ الْبَابِ الْمَفْتُوْحِ، تَوَاصَلْتُ مَعَ طَبِيْبَةٍ نَفْسِّيَةٍ،وَبَدَأتُ أَتَعَلَمُ الْحَيَاةَ.
بَحْثْتُ عَنْ أُسْرَتِي الَتِي نَفَتْنِي.. مَاتَ وَالِدِي..وَعُلِّقَتْ عَلىَ بَابِ بِيْتِهِم لَوْحَةٌ كُتِبَ عَلِيْهَا " لِلْبِيْعِ" اشْتَرِيْتُهُ،وَتَنَفَسْتُ الْرَاحَةَ،وأَنَا أَرَى أَوَلَ طُوْبَةٍ تَسْقُطُ بَعْدَ أَنْ سَلَمْتُهُ لِمُقَاوِلِ الْهَدْمِ..
مَازَالَ فِي عِيْنِيَّ غَبَشٌ،وَفِي رُوْحِي عَتَمَةٌ.
سَوْفَ أَلْحَقُ بالْفَرَاشَاتِ هُنَّاكَ حَيْثُ الْضَوْءِ.