يجلس في مكانه منذ ثلاثة آلاف سنة، وهو يخوض المعارك كفارسٍ مقدام، ينتصر لهويته في الحروب، وينهزم مراتٍ عديدة، فليست كل الأوراق رابحة وليست كل الصفحات مزينة بالحبر.
عاصر البطولات جميعها وملوك وحكام الأمصار من مشرق الأرض لمغربها، في رحلة استكشافٍ ممتدة العمر لا تنتهي بوقت.
ثلاثة آلاف سنة وهو يجوب هذه الأرض، يمسه لفح حرارتها وبرد تقلبات فصولها، يعلم عن خفايا الكواكب ومواسم المطر، وسير الفلك، وكيف تطلع الشمس ليجعل منها شالاً ينسدل على هذا الكون.
يصعد الجبال وينزل بطون الأودية، يسامر الليل ويعيش يغني للأقمار ويرتب الأشجار، يهمس للريح، يغرد مع الطير، عاش في عالم الإنسان، أتقن الشعر والخطابة والمقال، ركب الخيل، تعمق في مسالك الروح والعقل والجسد.
ثلاثة آلاف سنة في مكانه، يضرب الرمل ويشرب من الأقداح نخبا يلمُ به روحا تشظت مثل عود تخلت عنه أوراقه، يصلي على سجادة الحب ولا حب،
يستدعي الجان، يراقصهم في ليله، يحدثهم، ينادي باسمائهم يعيش في صوفية الشعور، وغلو العبادة، وتسلبه نزعة الشيطان أن ينقاد أو يقاد.
ثلاثة آلاف سنة يزرع في البحار حقول حلم مالحة لا تثمر، ويحصد مسارب الأنهار في كفه المثقوب، ثم يغرق كحبة رمل لا وجود لها، يعزف على الناي، وتأخذه النوتات الموسيقية مع (اريزو) إلى عالم الخيال واللا نهاية.
يشذب الكلمات، ويقص عن الأحرف ماعلق بها من سخط، يصقلها حتى تستبين حدة أطرافها، ويرى ملامح وجهه في لمعتها، زمن مر من هنا لا لون له ولا طعم .
في مكانه يرسم خطوطا متعرجة وأخرى مستقيمة
على كل منعطف وعند كل نهاية امرأة حسناء، يعاشرهن جميعاً على كف عفريت، منغمسا في (فيلوفوبيا) قاتلة.
في مكانه تُطحن روحة قد اشتعل رأسه شيباً، والنبيذ يقطر من طرف كمه المبتل بدموع كل الحكايات والقصائد المقتولة والمقتلعة من صفحات التاريخ، وأبجديات اللغات المتشعبة في عقله.